রহমান ও শয়তান
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
জনগুলি
الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
تحولت الغنوصية على يد ماني إلى دين مؤسساتي ذي عقيدة متماسكة واضحة المعالم، استقت من التيارات الدينية السائدة في عصرها وأثرت فيما تلاها. تقوم هذه العقيدة على مفهوم دينامي للتاريخ ينطلق، كما في الزرادشتية، من وجود مبدأين كونيين متصارعين، يقود صراعهما حركة التاريخ إلى نهاية محتومة. فمنذ الأزل كان النور وكان الظلام، عالمان منفصلان ومستقلان ولكنهما متجاوران ، وكان جوهر النور هو الحكمة وجوهر الظلام هو الجهل. وهذه هي المرحلة الأولى الكاملة من مراحل التاريخ، أو العصر الذهبي. ثم إن الظلام قد عدا على النور، فتقدم النور لصده وإرجاعه، فاختلطت عناصر النور بعناصر الظلمة وراحا يتصارعان، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل التاريخ، مرحلة يوم الناس هذا. ولكن النور سوف يفلح في تخليص نفسه من الظلام خلال المرحلة الثالثة المقبلة، التي ستنتهي لا باستقلال النور عن الظلام فقط، بل بالقضاء عليه وتأسيس ملكوت النور النهائي. في هذه المعركة الدائرة الآن، يشارك الجنس البشري بكل قوته، سلاحه في ذلك العرفان الذي يحرر المبدأ النوراني الحبيس في الجسد المادي المظلم. وإلى أن يحين اليوم الأخير، فإن الأرواح العارفة التي اكتشفت طبيعتها كقبس من النور الأعلى، سوف تنضم إلى عالمها الذي نشأت عنه، بينما تبقى الأرواح الجاهلة في إسار دورة الميلاد والموت، وتتناسخ في أجساد جديدة ضمن هذا العالم المظلم.
وهكذا تستبدل المانوية المفهوم الزرادشتي عن تاريخ دينامي يشارك فيه الإنسان من خلال الإيمان والأخلاق، بمفهومها عن تاريخ يشارك فيه الإنسان من خلال العرفان.
من بين جميع الفرق الغنوصية، كانت المانوية الأوسع انتشارا والأكثر دواما، فلقد انتشرت شرقا وغربا انطلاقا من بابل الموطن الرئيسي لمعلمها، وعاشت فترة زمنية مديدة تقدر بأكثر من عشرة قرون، لا كمعتقد طائفي مقتصر على جماعة بعينها، بل كدين عالمي ومعتقد شمولي يتوجه إلى جميع بني البشر. وبذلك تقف المانوية في صف الديانات العالمية الكبرى في تاريخ الدين، مثل الإسلام والمسيحية والبوذية. إلى جانب جاذبية المعتقد المانوي واحتوائه على عناصر شتى من كل المعتقدات الأقدم منها والمعاصرة له، فإن انتشار المانوية يمكن أن يعزى إلى ثلاثة عناصر رئيسية: أولها النشاط التبشيري المحموم الذي مارسه ماني شخصيا في كل بقعة من بقاع المشرق، وتابعه بعد ذلك حواريوه. وثانيهما التنظيم المؤسساتي الدقيق للكنيسة المانوية التي كانت تتألف من مبشرين منذورين لمهامهم، وكهنة متفرغين ضمن سلسلة مراتبية مرسومة بدقة، ونخبة دينية تشبه فئة الرهبان البوذية، وعامة المؤمنين الذين يقدمون الدعم المالي والمعنوي للأجهزة الفعالة في المؤسسة الدينية. وثالثهما اعتماد ماني على الكتب الدينية التي تؤسس للعقيدة وتحفظها. فلقد كانت المانوية ديانة كتاب شأنها في ذلك شأن اليهودية والمسيحية والبوذية، وعمل ماني منذ البداية على وضع كتبه بنفسه وخطها بقلمه، ثم حرص على نسخها وتداولها وحفظها في حالة جيدة، سواء من خلال المواد المستخدمة أم من خلال تقنيات الإنتاج العالية.
ورغم ما لحق بالمؤلفات المانوية من إتلاف متعمد على يد الخصوم خلال حملات الاضطهاد المتكررة والمتلاحقة، إلا أن عددا لا بأس به من المخطوطات المانوية الأصلية قد اكتشفت سليمة في القرن العشرين، ومكتوبة بعدد من اللغات منها الإيرانية والتركية القديمة والصينية والقبطية واليونانية. وقد مكنتنا هذه المخطوطات من إجراء التقاطعات بين المصادر الأصلية، والمصادر غير المباشرة التي كان الباحثون حتى وقت قريب يعتمدون عليها وحدها. من أهم المصادر غير المباشرة ما كتبه القديس أوغسطين (حوالي عام 400م)، الذي كان مانويا متحمسا قبل أن يتحول إلى المسيحية، وما كتبه أفرايم السرياني (حوالي عام 370م)، وتيودور بن قوينا (حوالي عام 790م)، وما كتبه المؤلفون العرب من أمثال ابن النديم (القرن العاشر م)، والبيروني (القرن الحادي عشر م)، والشهرستاني (القرن الثاني عشر م).
1 (1) ماني
ينتمي ماني إلى أسرة إيرانية عاشت قرب مدينة طيسفون بمنطقة بابل، وكانت طيسفون في ذلك الوقت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ومقرا لملوك الأسرة البارثية ثم الساسانية من بعدها. جاء أبوه من منطقة همذان وتزوج من المدعوة مريم، وهي سليلة أسرة نبيلة تتصل بأواصر القربي بالأسرة البارثية الحاكمة، ثم أقام الزوجان في بلدة مردينيوس في منطقة بابل، وهناك ولد ماني وأمضى طفولته ومراهقته. وقد أكدت إشارات ماني المتفرقة هذه الرواية، ومنها قوله: «إني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل» وأيضا: «أنا النطاسي الذي جاء من أرض بابل.» وتعبير النطاسي هنا يدل على المهارات الطبية العالية التي تمتع بها ماني، فقد كان نطاسيا ماهرا قادرا على شفاء الأمراض المستعصية. يرجح الباحثون أن الاسم «ماني» هو من أصل سامي لا من أصل إيراني ، أما الاسم «مانيخيوس» الذي عرف به المعلم لدى اليونان، فهو تحوير للقبه الآرامي «ماني-حياه» أي ماني الحي. ومن ألقابه الأخرى الآرامية «مار-ماني» أي السيد ماني، ومنه جاء اسمه بالصينية «مور-موني».
ولد ماني عام 216م، وتربى على ملة أبيه، وهي طائفة غنوصية معمدانية يدعوها ابن النديم في كتابه الفهرست بالمغتسلة، وذلك نسبة إلى طقوس التعميد بالماء التي كانت تمارسها. وكان المغتسلة يلتزمون سلوكا طهوريا بالغ الصرامة، إذ كانوا يمتنعون عن أكل اللحم وشرب الخمر ويفرضون على الممارسة الجنسية قيودا شديدة. إضافة إلى هذه الخلفية الغنوصية التي اكتسبها ماني من طائفته هذه، ومن الطوائف الغنوصية الأخرى الناشطة في منطقته مثل المندائية والمرقيونية والديصانية، فقد اكتسب ماني الكثير من البيئة الثقافية البابلية التي كانت منفتحة على شتى التيارات الدينية والفلسفية، وتلاقت عندها الأفكار المسيحية واليهودية والزرادشتية والهيلنيستية والهندية والصينية، إضافة إلى الثقافة الكلدانية المحلية التي تختصر التركة القديمة لبلاد الرافدين بأكملها. وهذا ما جعل من ديانته نموذجا عن الديانة التوفيقية، التي تحتوي على الموروث بكل زخمه وتنوعه، وتتجاوزه بطريقة مبدعة تعبر عن عبقرية صاحبها وقوة شخصيته وتفوق تفكيره.
عندما بلغ ماني الثانية عشرة من عمره هبط عليه الوحي (على ما يقول) من السماء عن طريق كائن نوراني يدعوه ب «التوم»،
2
অজানা পৃষ্ঠা