রহমান ও শয়তান
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
জনগুলি
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الثنوية الكونية
2 - المفهوم الديني للتاريخ
3 - فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور الثنوية الكونية
4 - ميلاد الشيطان
5 - الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق
6 - على هامش التوراة
7 - يهوه: شيطان الغنوصية
অজানা পৃষ্ঠা
8 - الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
9 - الكاثارية
10 - أمير هذا العالم
11 - الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
الخاتمة
قائمة المصادر والمراجع
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الثنوية الكونية
অজানা পৃষ্ঠা
2 - المفهوم الديني للتاريخ
3 - فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور الثنوية الكونية
4 - ميلاد الشيطان
5 - الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق
6 - على هامش التوراة
7 - يهوه: شيطان الغنوصية
8 - الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
9 - الكاثارية
10 - أمير هذا العالم
11 - الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
অজানা পৃষ্ঠা
الخاتمة
قائمة المصادر والمراجع
الرحمن والشيطان
الرحمن والشيطان
الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
অজানা পৃষ্ঠা
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب ، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
অজানা পৃষ্ঠা
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
অজানা পৃষ্ঠা
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
إن مفهوم التوحيد الذي صاغته الديانات المشرقية بشكل خاص في سياق الألف الأول قبل الميلاد، يترافق مع صعوبة ذات طبيعة فكرية وعاطفية في آن معا، ذلك إن الإيمان بإله واحد هو علة الوجود، والمتحكم بجميع مظاهره، يجعل مشكلة وجود الشر في العالم بدون حل ابتداء؛ فلقد كان من السهل تعليل الشر في المعتقدات الوثنية التعددية بأنه نتاج تناقض أهواء الآلهة ومقاصدها، أو بأنه نتيجة طبيعية لوجود آلهة خيرة وأخرى شريرة. أما في معتقد التوحيد الذي يترافق مع تصور لله على أنه كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الحضور، وعلى أنه منبع العدل والخير، فإن تعليل الشر يغدو بمثابة المهمة الأولى والملحة المطروحة أمام أي معتقد توحيدي، كما أن طريقته في الإجابة عن أسئلة مثل: كيف ينشأ الشر عن الخير؟ أو لماذا يسمح الخير المحض بوجود الشر؟ هي التي تحدد موقع هذا المعتقد من المعتقدات التوحيدية الأخرى، وترسم تصوره الخاص لبنية الحقيقة، ولعلاقة الله بالكون وبالإنسان.
ولقد حلت معتقدات التوحيد هذه الصعوبة على أربعة أوجه، يصر الحل الأول على مفهوم صارم للتوحيد يستبعد أية قوة ما ورائية حرة ومسئولة وتنشط في استقلال عن الله، يمكن أن ينسب إليها وجود الشر، وينجم عن ذلك بشكل منطقي في أن ينسب الشر إلى الله مثلما ينسب الخير إليه، فهو صانع الخير والشر أيضا، يسيرهما وفق خطة خفية عن أفهام البشر، وهذا هو حل المعتقد التوراتي، الذي يعبر عنه النبي إشعيا كأوضح ما يكون في قوله على لسان يهوه: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا الرب صانع كل هذا» (إشعيا، 45: 6-7). وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التوحيد التوراتي لم يصل مرتبة التوحيد العالمي الشمولي، بل بقي ضمن مفهوم «وحدانية العبادة»، أي عبادة إله قومي واحد مع عدم إنكار وجود آلهة الشعوب الأخرى.
يجعل الحل الثاني من الله كيانا مفارقا يسمو فوق الخير والشر، ولكنه رغم سموه يقف إلى جانب الخير ويدعمه في مقابل الشر. ولقد ظهر الخير والشر إلى الوجود نتيجة خيار بدئي حر، عندما صدر عن الواحد الأزلي روحان توءمان اختار أحدهما الخير واختار الآخر الشر، ودخلا في تنافس وصراع. وهذا هو حل المعتقد الزرادشتي.
অজানা পৃষ্ঠা
يتصور الحل الثالث وجود أصلين أزليين لا أصلا واحدا، وهما الله والمادة. فالله روح بحت ونور صرف، والمادة كثافة مطبقة وظلمة دامسة، ولشدة كثافة الظلمة في أسفل طبقاتها فقد تحولت إلى مادة، يتجاور عالم الظلمة وعالم النور منذ الأزل ويواجه كل منهما الآخر بصفحته، وفيما عدا ذلك لا حدود للنور من أعلاه، ولا من يمنته ولا من ميسرته، ولا حدود للظلمة أيضا من تحتها ولا من يمنتها ولا من يسرتها، ثم إن المادة أنجبت الشيطان الذي ليس أزليا في عينه رغم أن عناصره أزلية، وقد تولد الشيطان عن ظلمة كما تتولد العفونة من الأجزاء الرطبة، وتولدت أفلاك القوى الملائكية عن الله مثلما تشعل الشموع من مشعل متقد. وهذا هو حل المعتقد المانوي.
يؤكد الحل الرابع على الأصل الواحد للوجود، وعلى وحدانية الله وخيره وعدله، إلا أنه يعزو الشر إلى شخصية ما ورائية كبرى ذات أصل سماوي، تنشط في استقلال عن الله، وهذه الشخصية ليست أزلية بل مخلوقة من قبل الله الذي أعطاها الحرية منذ البدء، فقامت، وبكل وعي وحرية، برفض التبعية لخالقها والاستقلال عنه، ولما كانت غير قادرة على ممارسة دور الإله نفسه فقد قررت أن تلعب دور المعارض والمناقض لإرادته، وتعمل على إفساد خلق الله، لا سيما الإنسان الذي هو مركز الخليقة وسيد الأرض. وهكذا ظهر الشيطان وظهر الشر إلى الوجود وتأصل فيه منذ الأيام الأولى للتكوين. وهذا هو حل المعتقدين المسيحي والإسلامي.
أما لماذا سمح الله بظهور الشر على هذا النحو، فإن جواب الحل الرابع هو أن الله لم يسمح بظهور الشر بل سمح بالحرية، وليس الشر إلا ناتجا من نواتج الحرية. فالله ليس مسئولا عن الشر، وهو سيقاومه ويأتي به وبأصله إلى نهاية محتومة في لحظة مقررة من صيرورة الزمن. لقد كان الله قادرا على محق الشيطان لحظة عصيانه، ولكنه آثر الإبقاء على مبدأ الحرية الذي استنه لخلقه، وتركزت خطته في مقاومة الشيطان على الإنسان الذي أعطاه العقل والحرية أيضا، وعليه أن يستخدمها في محاربة الشر وعدم الإذعان لسلطته. إن دراما صراع الخير والشر عبر زمن البشرية، قوامها مواجهة بين حرية بدئية تحولت إلى جبرية أحادية عندما تبنى الشيطان الشر خيارا واحدا أبديا، وبين حرية ما زالت تنطوي على جوهر الخيار، وهي حرية الإنسان. قد يخطئ الإنسان ولكن خطأه لا يتحول إلى خيار نهائي وانحياز إلى معسكر الشيطان، ومن خلال جدلية هذه الحرية المفتوحة على كل الاحتمالات عليه أن يصل في النهاية إلى خيار وحيد ومطلق، بمعونة الله ونعمته.
وبذلك يتخذ معتقد التوحيد طابعا ثنويا على هذه الدرجة من الجذرية أو تلك، تتراوح بين ثنوية مطلقة تعتقد بقيام أصلين للوجود لا أصل واحد، وثنوية أخلاقية يقتصر فيها تناقض الرحمن والشيطان على المجال الأخلاقي والمجتمع الإنساني من دون بقية مظاهر الوجود. هذه المعتقدات سوف تكون موضع بحثنا فيما يأتي من فصول هذا الكتاب، فلقد وجدنا أنها تشكل مجموعة متميزة من تاريخ الدين الإنساني، قاسمها المشترك فكرة الشيطان التي ظهرت لأول مرة في تعاليم زرادشت (حوالي مطلع الألف الأول قبل الميلاد)، ثم تابعت ظهوراتها بتنويعات ومضامين مختلفة خلال أكثر من ألف عام تلت، ودخلت في صميم معتقدات يدين بها اليوم أكثر من نصف سكان المعمورة.
ونحن عندما نتحدث هنا عن الشيطان، وهو مفهوم متأخر نسبيا في تاريخ الدين، فإننا نميز بينه وبين الكائنات الما ورائية الشريرة التي لم يخل منها معتقد ديني قط. فالشيطان ليس كائنا شريرا بل هو المبدأ الكوني للشر، والمصدر الما ورائي الذي يصدر عنه كل شر معاين وجزئي وملموس، إنه يشغل مكان المركز في المعتقدات الثنوية، لا من حيث مكانته النسبية أمام الله، وإنما من حيث تأثيره على المجتمع الإنساني وصيرورة التاريخ، فالتاريخ يستهل بسقوط الإنسان الأول من الفردوس ، وينتهي بيوم الحساب الأخير، وليس الزمن الفاصل بين البداية والنهاية إلا عصر اختبار للإنسانية في مواجهة قوى الشر.
رغم أن المبدأ الكوني للشر سيكون في بؤرة هذه الدراسة، إلا أن مجال البحث سوف يتسع ليشمل ما يمكن أن ندعوه بلاهوت التاريخ، أي الاعتقاد بأن صيرورة الزمن الدنيوي وفعالية الإنسان فيه هما ناتج لتدخل المشيئة الإلهية وتكشف عن القصد الإلهي في عالم البشر والطبيعة والمادة، وبذلك يتحول تقصينا لفكرة الشيطان في معتقد ما إلى تقص أشمل، يطال جوهر هذا المعتقد في مسائل الخلق والتكوين ومراحل الزمن التالية وصولا إلى اليوم الآخر وانقضاء الدهر، فالحياة الثانية: أي تقص لمفهوم ذلك المعتقد عن التاريخ، بداياته وأواسطه ونهاياته، وطبيعة فهمه لله والعالم والإنسان، وللعلاقة بين أركان هذا الثالوث الذي تدور حوله كل الأيديولوجيات الدينية، فبدون الشيطان الذي شبك الشر إلى نسيج العالم الحسن والطيب لم يكن ثمة تاريخ، وبدون ما تلا ظهور الشيطان من صراع بين الخير والشر لم يكن ثمة صيرورة تدفع عجلة الزمن إلى غايته الأخيرة المتمثلة في القضاء على الشر واستعادة خلق الله حسنا وطيبا كما كان عند البدايات.
سوف نخصص الفصل الأول والثاني لتقديم شروحات حول المصطلحات الواردة في عنوان الكتاب، فنعرف بمصطلح الثنوية الكونية في الفصل الأول، وبلاهوت التاريخ أو المفهوم الديني للتاريخ في الفصل الثاني، في الفصل الثالث نتقصى الأصول البعيدة لمفهوم الثنوية الكونية وبذور فكرة الشيطان، والتي وجدناها في الديانة المصرية القديمة وضمن العبادة الأوزيرية بشكل خاص. في الفصل الرابع ندرس الديانة الزرادشتية التي أسست للاهوت الشيطان ولاهوت التاريخ. في بقية الفصول نتابع دراسة الديانات التوحيدية المشرقية، فنستجلي في معتقداتها مفهوم التوحيد وظلاله الثنوية، ومنعكس ذلك على مفهومها للتاريخ بشكل رئيسي. كما سنتوقف عند تيارات روحية ذات صلة بموضوعنا مثل الغنوصية، والأسفار التوراتية المخفية (أو غير القانونية) التي أحدثت ثورة صامتة ضمن الفكر التوراتي الرسمي، ومهدت الطريق أمام المسيحية.
أما بخصوص المنهج، فقد حاولت قدر الإمكان التزام فينومينولوجيا الدين، وهو منهج ظاهراتي وصفي يعتمد وصف الظاهرة الدينية المعنية، وسبر معناها من داخلها، بمعزل عن الأفكار والمواقف الشخصية المسبقة. فالباحث الفينومينولوجي لا يصدر في دراسته عن موقف بعينه، ولا يتعدى وصف ما يتبدى له إلى إصدار حكم قيمة عليه، إنه أقرب إلى المشاهد المتفحص منه إلى القاضي الذي يجد من واجبه التوصل إلى قرار بخصوص ما هو حسن وما هو رديء، استنادا إلى لائحة تشريعية بعينها،
1
إضافة إلى ذلك، فقد عمدت إلى معالجة الموضوعات وترتيب أفكارها داخليا بطريقة تسهل مقارنة بعضها ببعض، رغم أني لم ألجأ إلى المنهج المقارن إلا في الحدود الدنيا وفيما يتعلق ببعض التفاصيل، ولسوف يجد القارئ نفسه في النهاية أمام حصيلة تسلم نفسها للمقارنة دون جهد.
অজানা পৃষ্ঠা
أخيرا، لا بد من بوح شخصي بخصوص دوافع هذه الدراسة وبواعثها، ولماذا الشيطان في هذا الأوان!
في هذه الفترة القاتمة من زمن الإنسان، أن يبدو الشيطان وقد أمسك بزمام العالم، وأن ينمو الشر مثل الفطر في كل تربة وأرض، نحن أحوج ما نكون إلى تقصي طبيعة الشر على كل مستوى، ولعل الابتداء بالرمزية الدينية (وهي اختصاصي على كل حال) تكون فاتحة لمثل هذا التقصي الضروري في أعماق النفس وفي الآفاق، علنا نمسك ببعض الخيوط التي تتحكم بالمستقبل المجهول، الذي تلوح لنا سنواته القريبة المقبلة وكأنها ترف فوق هاوية الجحيم.
حمص
كانون الثاني (يناير)، 2000م
الفصل الأول
الثنوية الكونية
الثنوية الكونية هي معتقد تم تطويره في ارتباط مع معتقد التوحيد، وذلك في المنطقة المشرقية
1
فيما بين أوائل الألف الأول قبل الميلاد وأواسط الألف الأول بعد الميلاد، وقد نشأ معتقد التوحيد عن معتقد «وحدانية العبادة» السابق عليه، والذي يقوم على عبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة التي لا ينكر وجودها. كما نشأت وحدانية العبادة بدورها عن الوثنية التعددية التي تقوم على عبادة مجمع للآلهة مؤلف من مراتبية هرمية للقوى الإلهية، تقدم لها جميعا فروض العبادة، كل بما يناسب مقامه وأهمية القوة الطبيعانية التي يمثلها بالنسبة إلى حياة الجماعة.
يمكن تعريف الثنوية الكونية بأنها المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم والإنسانية نحو نهاية محتومة عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة قبل أن يعدو الشر على الخير، والثانية هي مرحلة امتزاج الخير بالشر، والثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيا على قوى الشر لكي يعود العالم طيبا ونقيا وكاملا كما كان، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني.
অজানা পৃষ্ঠা
وبشكل عام يمكن تقسيم المعتقدات الثنوية من حيث شكلها ومضمونها إلى ثلاث فئات هي: (1) الثنوية المطلقة. (2) الثنوية الجذرية. (3) الثنوية المعتدلة.
تقول الثنوية المطلقة بوجود مبدأين أو أصلين أزليين مستقلين ومتعارضين، لكل منهما عالمه وسلطانه المطلق على ذلك العالم. فعالم للروح وللنور الأزلي، وعالم للمادة وللظلمة الأزلية، ولم يدخل هذان العالمان في صلة مباشرة مع بعضهما إلا عندما عدت الظلمة على النور ودخلت في نسيجه، فكان لا بد من الفصل بينهما مجددا، وهذا هو معتقد المانوية. أما الثنوية الجذرية فتقول بوجود مبدأين متساويين في القيمة النسبية وفي علاقتهما بالوجود، ولكن هذان المبدآن ليسا أزليين بل حادثين ومتولدين عن الإله الأزلي الواحد القديم، وهما في حالة صراع دائم منذ صدورهما، وهذا هو معتقد الزرادشتية. وأما الثنوية المعتدلة فتقول بمبدأ واحد وأصل واحد قديم وأزلي هو إله الأنوار الأعلى، ثم إن هذا الإله الأعلى قد خلق إلها أدنى منه مرتبة قام بدوره بخلق العالم المادي. فالمادة شر بطبيعتها، ولا يمكن للإله الواحد الخير أن يخلق الشر أو يكون مسئولا عن وجوده، وهذا هو أساس المعتقدات الغنوصية على تعدد فرقها واختلاف مذاهبها.
ويشكل المعتقدان المسيحي والإسلامي ثنوية خاصة بهما يمكن أن ندعوها بالثنوية الأخلاقية. ذلك أن التناقض بين الله والشيطان لا يطال كل مظاهر الوجود، وإنما يقتصر على الإنسان والمجتمعات الإنسانية، والشيطان لا سلطة فعلية له إلا على النفس الإنسانية يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله. فالثنوية هنا شكلية لا أساسية، ونحن نطلقها استنادا إلى أن الإنسان هو بؤرة خلق الله، وأن العالم قد خلق من أجله، فهو خليفة الله على الأرض وسيدها. من هنا فإن سلطة الشيطان على الإنسان هي نوع من المشاركة في السلطة على العالم، خصوصا في المعتقد المسيحي، حيث نجد إنجيل يوحنا يدعو الشيطان برئيس هذا العالم (يوحنا، 12: 31) ويدعوه بولس الرسول بإله هذا الدهر (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، 4: 4).
ولكي يتضح لنا مفهوم الثنوية بشكل أفضل، لا بد من التمييز بينه وبين مفهوم القطبية الذي لا يتضمن معنى الصراع بقدر ما يتضمن معنى التكامل والتعاون.
فالقطبية هي معتقد يقول بوجود ثنائية أصلية قوامها قطبان متعارضان ومتناقضان في كل شيء، ولكنهما في الوقت نفسه متعاونان ولا قيام لأحدهما بدون الآخر، وعن تناقضهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود المادي والحيوي وبهما تستمر. إن النموذج الأكمل عن معتقد القطبية هو التاوية الصينية التي وضع أسسها الفكرية المعلم لاو تسو في القرن السادس قبل الميلاد. يقول لاو تسو في الكتاب الوحيد المعزو إليه، بوجود مبدأ أزلي قديم يدعى بالتاو، والتاو ليس شخصية إلهية بل هو القاع الكلي للوجود، والحقيقة المطلقة التي يقوم بها كل نسبي، وطبيعة عمله هي أقرب إلى مفهوم القوانين الطبيعية في العلوم الحديثة، والتي تفعل دونما قصد منها أو إرادة عن هذا المبدأ الكلي صدرت قوتان مجردتان، هما قوة ال «يانغ» الموجبة وقوة ال «ين» السالبة، وبدوران هاتين القوتين على بعضهما نشأت «الآلاف المؤلفة» من كل شيء، على حد تعبير المعلم. تمثل قوة اليانغ باللون الأبيض الذي يرمز إلى النور، وقوة الين باللون الأسود الذي يرمز إلى الظلام، ولكن النور والظلام هنا لا يحملان أية دلالة قيمية أو أخلاقية، ولا فضل لواحدهما على الآخر. وبالتالي فإن أحدهما لا يسعى إلى التغلب على الآخر أو إقصائه، لأن مثل هذه الغلبة تعود بالكون إلى حالة ما قبل الوجود، وأفضل ما يوصف به هذان القطبان هو تشبيههما بقطبي المغناطيس.
في الديانات التقليدية للشرق القديم نجد أشكالا من المعتقدات الثنائية التي تنتمي إلى القطبية لا إلى الثنوية، وذلك رغم عنصر الصراع الشكلي بين طرفي هذه الثنائية، والذي هو ناتج من نواتج القص الميثولوجي، ونموذج هذه الثنائيات عبادات الخصب الكنعانية التي مثلت الخصب والجفاف في شخصيتين إلهيتين هما بعل وموت، فالإله بعل هو المتحكم بأسباب الخصب والحياة، والإله موت هو المتحكم بأسباب الجفاف والموت. وتصور الأسطورة الأوغاريتية هذين الإلهين في حالة صراع دائم لا يحسم لصالح واحد منهما، فكلما سقط بعل صريعا بعث بعد فترة إلى الحياة ودعا موت إلى النزال، وكلما وقع موت صريعا قام إلى جولة ثانية وتحدى بعل. فالإلهان والحالة هذه هما ترميز على مستوى الأسطورة لواقع حياة الطبيعة وتناوب الفصول ودورات الخصب والجفاف، وما الصراع الشكلي بينهما إلا من قبيل تناوب قوتي اليانغ والين في التاوية، فهما قطبان في ثنائية طبيعانية لا طرفان في ثنوية كونية، رغم الطابع شبه الكوني لصراعهما، والأهم من ذلك فإن تناقض هذين القطبين لا ينطوي على دلالة أخلاقية، لأن موت ليس مبدأ للشر الأخلاقي ولا حتى كائنا شريرا، والإله بعل ليس مبدأ للخير الأخلاقي، كما أنه ليس لتناقضهما وصراعهما أي أثر على النفس الإنسانية ولا على الأخلاق الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن الإلهين يتمتعان بالمكانة ذاتها في البانثيون الأوغاريتي، وتقدم إليهما فروض العبادة على قدم المساواة.
على أن الإلهين بعل وموت، وأضرابهما في ميثولوجيات الثقافات الأخرى، يمثلان ما يمكن أن ندعوه بالخير الطبيعاني والشر الطبيعاني، فإذا كان الخير هو كل ما يؤدي إلى الصحة والسعادة والحياة، والشر هو كل ما يسبب الألم والشقاء والموت، فإن الآثار الخيرة أو الشريرة قد تكون من مصدر طبيعاني أو من مصدر إنساني، فالفيضانات المدمرة والزلازل والبراكين والأعاصير هي شرور طبيعانية، وأما القتل العمد والاغتصاب والسرقة والظلم والكذب فشرور أخلاقية تنجم عن العلاقات الاجتماعية، وبتعبير آخر فإن الشر الطبيعاني ينجم عن ظواهر فيزيائية بينما ينجم الشر الأخلاقي عن نقائص إنسانية. وبما أن الفكر الميثولوجي يرى في أحداث الطبيعة انعكاسا لعواطف وإرادات إلهية، فقد نسب الخير والشر على مستوى الطبيعة إلى هذا الإله أو ذاك، ولم يعقد صلة بين هذا النوع من الخير والشر والنوع الآخر المنسوب إلى عواطف وإرادات الذوات الإنسانية الواعية. فحركة الطبيعة وما وراءها من فعاليات إلهية، لا تحمل في حد ذاتها أية قيمة أخلاقية، رغم آثارها السلبية أو الإيجابية على عالم البشر. إن صانع الشر على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة حافزا للشر على مستوى الحياة الإنسانية، كما أن صانع الخير على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة راعيا للخير وباعثا له في النفس الإنسانية، لهذا كله فقد بقيت الأخلاق في المعتقدات القديمة شأنا اجتماعيا تحكمه قوانين المجتمعات الداخلية، ولم تتصل بالدين إلا في فترات متأخرة نسبيا من تاريخ الدين، وخصوصا مع ظهور المعتقدات الثنوية التي طابقت بين الخير الطبيعاني والخير الأخلاقي وأرجعتهما إلى مصدر واحد، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالشر الطبيعاني والشر الأخلاقي.
إلا أن المعتقدات الثنوية تختلف في موقفها من هذه المسألة، فالثنوية الزرادشتية تعزو كل شر طبيعاني وأخلاقي إلى الشيطان، وكل خير طبيعاني وأخلاقي إلى الله. والثنوية الغنوصية ترى أن العالم كله شر لأنه ينتمي إلى المادة، وما الخير إلا المعرفة التي تعين الروح الإنسانية على التعرف على أصلها النوراني الأعلى، وبذلك يتم خلاصها واتصالها بأصلها مجددا، وهنا لا تكتسب الأخلاق والسلوك القويم في الحياة أية قيمة خلاصية مباشرة، ولكنها تهيئ النفس في التناسخات المقبلة إلى المعرفة المخلصة. فإذا جئنا إلى الثنوية الأخلاقية وجدناها تعزو الشر والخير الطبيعانيين إلى الله، لأن الشيطان لا يملك سلطانا على مظاهر الكون والطبيعة، وليس ما يبدو من شر على المستوى الطبيعاني إلا تعبيرا عن غضب الله وعقابه، وكذلك ما يبدو من خير، فهو رضى من الله ونعمة على عباده، فالخير والشر الطبيعانيان هما أداتان في يد الخالق يستخدمهما وفق قصد إلهي قد يبدو للناس وقد يخفى عليهم.
لقد صاغت الثنوية عددا من المفاهيم الميتافيزيكية حول طبيعة الألوهة، وأصل العالم، ومبدأ الشر، وصراع القوتين، والمخلص المنتظر، ونهاية الدهر والحياة الأخرى. ولكن هذه التصورات كلها في اعتقادنا تخدم في النهاية مفهوما فلسفيا «وجوديا» يدور حول حرية الفرد في الاختيار: اختيار ما هو عليه واختيار مصيره، وحرية الإنسانية في رسم مستقبلها الذي يسير في خط صاعد أبدا نحو الكمال، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لا يخضع لجبرية الطبيعة، ولا تنجم أفعاله بالضرورة عن حتمية السبب والنتيجة مما يسود في عالم المادة، ذلك أن روحه هي قبس من عالم الروح الأسمى وعالم الحرية الإلهية، وليس شقاؤه في التاريخ إلا اختبارا لصلابة هذه الروح وامتحانا لجدارتها بالحرية ولقدرتها على التغلب على جبرية المادة، ولسوف تسوغ النتائج التي ستنجلي عنها نهاية الزمن كل بؤس التاريخ ووطأته.
الفصل الثاني
অজানা পৃষ্ঠা
المفهوم الديني للتاريخ
إن ثنائية الفكر الديني والفكر العلماني
1
هي ثنائية حديثة نسبيا، ولا تعود في أصولها إلى ما قبل عصر النهضة الأوروبية، ولعل أفضل طريقة لتعريف أحدهما وفهمه هي مقابلته بالآخر وتوصيف الفروق الجذرية بينهما.
ينظر الفكر الديني إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، على أنه مؤلف من مستويين: الأول مادي متبد في كل ما حولنا من مظاهر حية وجامدة، والثاني غيبي يقع وراء المادة وتبدياتها المتنوعة. الأول حادث ومتغير وقابل للفناء، والثاني قديم وثابت وأزلي. الأول واقع في إسار الزمن والتاريخ، والثاني يقع وراء الزمن والتاريخ ولكنه يتدخل فيهما ويحقق مقاصده من خلالهما. ويستتبع ذلك أن معنى تاريخ الكون والإنسان يكمن خارج هذا التاريخ لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ مسير من قبل قدرة علوية توجهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنا وبادية لها آنا آخر.
أما الفكر العلماني فينظر إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، في مستوى واحد هو المستوى المادي المتبدي، فالمادة قائمة بذاتها، أزلية بطبيعتها، وتعمل وفق قوانينها الخاصة، وهذه القوانين كانت قادرة منذ البدء على تشكيل الكون والوصول به إلى صورته الحالية، وعلى توليد الحياة التي توجت بالإنسان وبالوعي الإنساني صانع الحضارة. أي إن الفكر العلماني قد أحل قوانين التطور وأفعال الإنسان، باعتبارها محركا للتاريخ، محل مشيئة وأفعال الألوهة، مستبعدا بذلك وجود غائية أو معنى خارج جدلية التاريخ نفسه.
ينطلق الفكر الديني في تصوره للبدايات من اللحظة التي خرجت عندها الألوهة من كمونها وتجلت في الزمان وفي المكان الدنيويين، مبتدئة فعالياتها في الأزمنة الميثولوجية الأولى، أزمنة الخلق والتكوين، عندما أطلقت الزمان ومدت المكان وتواشجت مع تاريخ الكون وتاريخ الإنسان. فهنا تتحول الألوهة من مفهوم نظري إلى مفهوم عملي، وتتجلى في شخصية ذات إرادة وقصد وفعل، وفي إله يعلن عن نفسه في سياق زمني تاريخي، مبتدئا تاريخا مقدسا يشتمل على فعاليات الألوهة ومنعكساتها في العالم وفي المجتمع الإنساني. وهنالك ثلاثة أنماط لصيرورة هذا التاريخ المقدس في الفكر الديني للثقافات العليا: النمط الأول هو التاريخ المفتوح، حيث يسير الزمان من لحظة البدايات نحو مستقبل مفتوح بلا نهاية. والنمط الثاني هو التاريخ الدوري المتناوب حيث يسير الزمان في دارات مغلقة يتبع بعض بعضا إلى ما لا نهاية، ومع اكتمال كل دارة ينهار الكون القديم ليبتدئ كون جديد مع انطلاق الدارة الثانية. والنمط الثالث هو التاريخ الدينامي الذي يتطور بشكل خطي منذ لحظة الخلق، عبر عدد من المراحل إلى لحظة النهاية حيث ينتهي التاريخ وتنفتح الأبدية، ويتم تحويل العالم القديم، بعد عملية تطهير شاملة إلى حالة من الكمال تليق بخلق الله. هنا تنتهي ثنائيات المقدس والدنيوي، والله والعالم، والروح والمادة، والغيبي والمنظور، والخير والشر، وتذوب أطرافها في وحدة لا ازدواجية فيها إلى الأبد.
يتصل بهذه المفاهيم الثلاثة للتاريخ الديني في الثقافات العليا، ثلاثة أشكال اعتقادية في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم وهي: المعتقد الربوبي، والمعتقد الحلولي «وحدة الوجود»، والمعتقد الألوهي. سوف نتوقف قليلا عند هذه الأشكال الاعتقادية الرئيسية قبل الانتقال إلى شرح المفاهيم الثلاثة للتاريخ. (1) المعتقد الربوبي
يقوم المعتقد الربوبي في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم على الفصل التام بين الألوهة وخلقها، واعتبارهما من طبيعتين مختلفتين لا اتصال بينهما رغم أن واحدهما هو نتاج الآخر. رغم أن الإله (أو الآلهة) قد خلق العالم بجميع مظاهره المادية والحيوية والروحية، إلا أنه مستقل عنه ومفارق له على كل صعيد. ورغم أنه قد أسس، في الزمان الأولي، لجميع أسباب الحضارة الإنسانية ولجميع المؤسسات الاجتماعية الكفيلة بوضع الإنسان على سكة التاريخ، إلا أنه لا يتدخل في مسار هذا التاريخ بشكل منهجي، وليس لديه خطة توجهه وفق مقاصد معينة ونحو أهداف بعيدة مرسومة. كما أنه لا يؤسس لصلة وحي دائم بينه وبين خلقه. قد تتدخل القدرة الإلهية في بعض الأحداث الجسام، أو تعلن عن حضورها في العالم من خلال الكوارث الطبيعانية كالطوفان المدمر أو الأعاصير التي تخرب ما بناه الإنسان، إلا أن مثل هذا التدخل عرضي ولا يسير على خطة محكمة مسبقة. يضاف إلى ذلك أن سلسلة التدخلات لا تنتظم في تتابع يفصح عن رابطة بينها، ولا تنم عن تكشف تدريجي لمقاصد محددة.
وينجم عن مفارقة الألوهة واستقلالها عن خلقها عدم اتصافها بالعدالة، وبالتالي عدم ممارسة هذه العدالة على الأرض وبين الناس، من هنا فإن أعمال الفرد في الحياة الدنيا لا تلقى مكافأة أو عقابا في الحياة الثانية، ولا وجود لبعث أو حساب أو لعالم آخر أفضل من الأول، فالآلهة وحدها هي الخالدة، أما مصير البشر فإلى موت يتبعه وجود شبحي في العالم الأسفل المظلم، الذي تئول إليه كل الأرواح بعد مفارقة أجسادها. إن الخط الصارم الحاد الذي يفصله عن عالم الألوهة يجعل الإنسان أسير شرطه الأرضي، ولا يعطيه أي أمل بتدخل الآلهة من أجل خلاصه وتحويل وجوده إلى مستوى أعلى قريب من وجودها، ناهيك عن انعدام أي فكرة عن تحويل العالم المادي بأكمله إلى حالة أسمى وأرقى من الوجود، من هنا تقوم العلاقة الطقسية بين الإنسان والألوهة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال بين العالمين المتمايزين، فمن خلال الطقس، وخصوصا طقس الذبائح والقرابين، يعمل الإنسان على استرضاء القوى العلوية وحثها على تحقيق أغراضه الدنيوية، واتقاء غضبها غير المفهوم أو المسوغ من وجهة نظره. أما الأخلاق فشأن دنيوي تنظمه الجماعة ولا علاقة له بالآلهة التي لا تتصف بالخير ولا تأبه لتحقيقه بين الناس. (2) المعتقد الحلولي
অজানা পৃষ্ঠা
2
يقف المعتقد الحلولي، أو معتقد وحدة الوجود، على الطرف النقيض من المعتقد الربوبي، ويتميز عنه بتقديمه إرضاء أكثر للنزوع الديني في النفس الإنسانية، لأنه مفهوم صوفي عن العلاقة بين الإله والإنسان يذيب الفوارق بينهما ويجمعها في واحد، فهما من طبيعة واحدة، وما الروح الفردية إلا قبس من روح الله الكلية رغم حجاب الجهل الذي يستر عنها هذه الحقيقة في الحياة الدنيا. وبالمقابل فإن الله ليس شخصية محددة مفارقة للعالم وتمارس تأثيرها عليه عن بعد، بل هو الحقيقة الكلية التي تتمظهر في العالم وتختفي وراءه في آن معا، فكما يظهر الماء تحت أشكال وأسماء متعددة، منها البخار والغيم والجليد والثلج والبرد بينما هو في حقيقة الأمر واحد، كذلك تتحول الألوهة إلى ما لا يحصى من الظواهر المادية والنفوس الحية، مع بقائها في جوهرها واحدة غير مجزأة، وكما صدرت هذه الأجزاء عن الحقيقة الواحدة فإنها تعود إليها وتذوب فيها كما تذوب الأنهار في لجة الغمر العظيم.
إن عدم اتخاذ الألوهة في المعتقد الحلولي قناع إله مشخص يدخل الإنسان معه في علاقة ثنائية من أي نوع، يقود إلى إحلال العرفان الداخلي محل الطقوس والعبادات، حيث العبادة معرفة والطقس انكفاء نحو الداخل في محاولة لتلمس الألوهة في أعماق الذات الفردية، وعندما تفلح النفس، التي تعاين نفسها كذرة مستقلة، في إدراك وهم استقلالها وحقيقة تطابقها مع النفس الكلية، تكون قد حققت الانعتاق وتهيأت للالتحاق بالمطلق العظيم الذي منه قد نشأت. فالخلاص والحالة هذه لا يتم بتدخل قوة علوية مفارقة ولا بنعمة ومنة منها، بل بالكدح الداخلي الذي يؤدي إلى استنارة النفس الغافية.
كما ينجم عن لا شخصانية الألوهة ارتفاعها فوق الخير والشر بمفهومهما الاجتماعي، فالإله ليس الخير المحض ولا يتسم سلوكه بالخير ولا بالشر، من هنا فإن مفهوم العدالة الإلهية غائب عن معتقد الحلول ويجري العقاب والثواب بشكل أوتوماتيكي في الحياة من خلال مبدأ كوني يدعى بمبدأ الكارما، أي: الفعل وجزاؤه، في أبسط أشكاله، ينطوي مبدأ الكارما على أن الوضع الحالي للفرد محكوم بأعماله التي بذلها في حياته السابقة، كما أن أعماله في حياته الراهنة سوف تقرر وضعه في التناسخات المقبلة التي سوف تتتالى إلى ما لا نهاية إذا لم تحقق النفس عرفانها الداخلي وتصل إلى الاستنارة التي تحررها من دورة الميلاد والموت، ورغم أن الأعمال الصالحة هي التي تؤهل صاحبها لتجسد أفضل وأرقى في الحياة التالية، إلا أن هذه الأعمال لا توصل في حد ذاتها إلى التحرر، بل تهيئ النفس لمراحل أعلى وأعلى من العرفان، حتى يحين موعد الإفلات من العالم والالتحاق بالأبدية.
وكما أن الأرواح الفردية أسيرة لدورة التناسخ الحيوية، فإن الكون بكامله أسير أيضا لدورة تناسخ عظمى، كلما ولد كون شاخ وآل إلى الفناء في مياه المطلق العظيم، ليعقبه كون جديد آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، وبذلك ينعدم التاريخ ويدور الزمن على نفسه دونما هدف أو غاية. (3) المعتقد الألوهي
يقع المعتقد الألوهي في نقطة الوسط بين المعتقد الربوبي والمعتقد الحلولي، الإله مفارق للعالم من جهة ومتصل به كل الاتصال من جهة ثانية، ذلك أن الحاجات الروحية الدفينة عند الإنسان تتطلب الإحساس بألوهة مشخصة يمكن الدخول معها في علاقة ثنائية، سواء أكانت علاقة الأب بالابن، أو علاقة المحب بالمحبوب أو علاقة السيد بالعبد، وهذه الألوهة رغم مفارقتها واختلافها من حيث الطبيعة مع العالم، إلا أنها حاضرة فيه على الدوام، في كل هبة ريح وفي تفتح كل زهرة وفي تنفس كل كائن حي. يقول محي الدين بن عربي: «وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، ويرون أيضا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق.»
3
وأيضا: «فالحق خلاق على الدوام، والعالم مفتقر إليه على الدوام افتقارا ذاتيا.»
4
إن الله في حالة انغماس دائم بمسائل العالم ويبذل عناية لا تني من أجل تطويره في الزمن، وفي التاريخ، نحو غاية منظورة ومشتركة بينه وبين خلقه، رغم كونه خارج التاريخ، فمن خلال فعاليات الآلهة في الزمن وفي التاريخ تتخذ الألوهة وجه الإله المشخص، ومن خلال محافظتها على موقعها المفارق خارج التاريخ تحافظ الألوهة على طبيعتها الغفلة غير المشخصة مما تؤمن به عقيدة الحلول.
অজানা পৃষ্ঠা
يستدعي اتصال الله بالعالم تحويل مفهوم العدالة الأوتوماتيكي الذي يعمل من خلال مبدأ الكارما في المعتقد الحلولي، إلى صفة من صفات الله، فالله عادل، وكما تتجلى عدالته على المستوى الكوني في النظام المتوازن الدقيق الذي يحكم عالم المادة والطبيعة، كذلك تتجلى في النظام الأخلاقي الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات، هذه العدالة هي أهم التجليات العملية لصفة الخير عند الله، فالله خير، بل هو الخير المطلق على ما تنص عليه الآية الكريمة من القرآن:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
وتؤدي عدالة الله وخيره إلى مطلبه الأساسي من الناس الالتزام بحياة أخلاقية قوامها المحبة والعمل الصالح يبذله الإنسان تجاه أخيه. قال يسوع: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبا الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... إن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك ... سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ... لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك أيضا.» (متى: 5) كما أن مطلب الحياة الأخلاقية الناشئ عن خير الله وعدله، يستدعي بدوره الثواب والعقاب سواء عند نهاية حياة الفرد أم مع نهاية الزمن والبعث العام والحساب الأخير.
وبذلك تقوم الصلة بين الله والناس في المعتقد الألوهي، على ثلاثة عناصر هي الإيمان والأخلاق والعبادات. كما أن العبادات وما يتصل بها من طقوس ليست وسيلة لاتقاء غضب السماء أو نيل مكاسب دنيوية منها، أو لحاجة الألوهة إليها، كما هو الحال في المعتقد الربوبي، لأن «الله غني عن العالمين» وعدالته الثابتة لا تحرفها عن مسارها طقوس شكلية، بل إن العبادات والشعائر هي وسيلة اتصال دائم، وتلمس للحضور الإلهي في العالم، ورغم أهمية هذه العناصر الثلاثة مجتمعة على طبيعة الصلة بين الله وخلقه، وأثرها على خلاص الإنسان، إلا أن الخلاص في النهاية يبقى رهنا بالنعمة الإلهية والمنة العلوية، فالله يمن على العالم بالخلاص وهو ملتزم به.
ننتقل الآن إلى معالجة الرؤية الدينية للتاريخ في صلتها بالأنماط الاعتقادية للثقافات العليا، من خلال ثلاثة نماذج رئيسية. (4) المعتقد الربوبي والتاريخ المفتوح (4-1) بلاد الرافدين نموذجا
تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث تستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة: المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شئون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البشر المفتوح على اللانهاية.
يرسم لنا مطلع أسطورة التكوين البابلية صورة شديدة التأثير عن مرحلة السرمدية الساكنة. قبل ظهور المكان وانطلاق الزمان، كانت دارة الألوهة المنغلقة على نفسها تنطوي على ثلاثة جواهر مائية غير متمايزة هي: تعامة الأم وآبسو الأب وممو الابن، وعلى حد تعبير النص:
عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض،
لم يكن سوى آبسو وممو وتعامة
অজানা পৃষ্ঠা
يمزجون أمواههم معا.
وهنا يقول الكاهن البابلي برغوشا الذي ألف كتابا باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد عن تاريخ البابلين ومعتقداتهم، إن تعامة هي الماء المالح وآبسو هو الماء الحلو، ولكنه يصمت عن ممو، الذي نرجح مع بعض الباحثين الآخرين أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ونلاحظ هنا أن في اختيار النص للماء كجوهر لهذه الآلهة البدئية، توكيدا على الحالة العمائية والشواشية السابقة على الكون المنظم، فالماء هو أكثر العناصر تمثيلا لما لا شكل له ولا نظام، إنه اللاشكل واللانظام بكل امتياز، والهيولى السابقة على ظهور التحديدات والتقسيمات والأبعاد التي تميز الكون. وهكذا تقوم ثنائية: كون-عماء، أو كوزموس-كايوس بالمصطلح الإغريقي عند جذور الزمن، وتستمر عبر تاريخ الكون اللاحق في الفكر الميثولوجي الذي يتصور قوى العماء والفوضى في حالة تأهب دائم للانقضاض على الكون والعودة به إلى المحيط المائي الشواشي الذي نشأ عنه.
بعد ذلك تبدأ إرهاصات الزمن عندما أنجب الآلهة الثلاثة الجيل الأول من الآلهة، وأنجب هذا الجيل بدوره الجيل الثاني، الذي خرج منه الإله مردوخ فقاد الصراع ضد الآلهة البدئية وقهرها، ومن جسد الأم الأولى تعامة صنع السماء والأرض وبقية مظاهر الكون، ثم التفت بعد ذلك إلى تنظيم العالم والحياة الطبيعية، فخلق الغيوم وحملها بالمطر، وفجر عيون الماء وملأ الآبار، وأنبت من الأرض عشبا وشجرا، وأوكل إله الشمس بالأيام ففصل بين تخوم الليل وتخوم النهار، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل وجعله حلية له وزينة، ثم توج فعالياته المبدعة هذه بخلق الإنسان.
تتابع بقية أساطير التكوين والأصول البابلية إعطاءنا مزيدا من التفاصيل عن مرحلة الأصول، فلقد ابتدر الآلهة في هذه المرحلة كل أصول التحضر على الأرض، فصنعوا القنوات والسدود، وأجروا المياه في السواقي والأنهار، ورووا الأرض وحولوها إلى مراع وحقول للقمح ومساكب للبستنة، وعمدوا إلى تربية الماشية وحلبوها فصنعوا اللبن والزبدة والجبن، وابتكروا الفأس والمعول وقوالب الآجر فاستخدموها في بناء المدن والمعابد الأولى، وعندما أسلموا ذلك كله للإنسان فيما بعد، عملوا على تأصيل مؤسساته الاجتماعية مثل الأسرة والكهنوت والملوكية، وباختصار فإن الإله لا الإنسان هو صانع الحضارة على الأرض.
وكان الآلهة في زمن الأصول هذا يكدون ويعملون من أجل تحصيل قوتهم، حتى بلغ بهم التعب والإرهاق حدا لا يحتمل، فتنادوا إلى خلق الإنسان ليحمل عنهم عبء العمل ويركنوا هم للراحة. ولدينا عدة نصوص تروي عن خلق الإنسان من أجل خدمة الآلهة. نقرأ في نص سومري أن الآلهة في بداية عهدهم لم يعرفوا أكل الخبز ولا لبس الثياب، بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم مثل الحيوانات، ويشربون الماء من الينابيع والجداول، ثم أوكلوا بعد ذلك مهمة تأمين الغذاء لهم إلى الإله لهار وأخته أشنان، فكان لهار يكثر المواشي ومنتجاتها على الأرض، وأشنان تزيد في غلال الأرض ومحاصيلها، ولكن منتجات هذين الإلهين لم تسد جوع الآلهة، فعمدوا إلى خلق الإنسان ليكفيهم غائلة الجوع والعطش.
5
ولدينا نص بابلي يحكي باختصار شديد عن قصة التكوين وزمن الأصول وخلق الإنسان وهذه قراءته: «بعد أن أخرجت الأرض وشكلت، وحددت مصائر الأرض والسماء، واستقرت شطآن دجلة والفرات، عندها جلس الآلهة الكبار آنو وإنليل وإيا وبقية الآلهة المبجلين، جلسوا جميعا في مجمعهم المقدس واستعادوا ما قاموا به من أعمال، فقال إنليل: أما وقد حددنا مصائر الأرض والسماء، وجرت القنوات في مجاريها وتوضعت الخنادق، واستقرت شطآن دجلة والفرات. ماذا بقي علينا أن نفعل؟ ماذا نستطيع بعد أن نخلق؟ فأجاب الحضور من الآلهة المبجلين، بقسميهما الأنوناكي والإيجيجي، أجابوا إنليل قائلين: لنذبح بعض آلهة اللامجا، ومن دمائهم فلنخلق الإنسان ونوكله بخدمة الآلهة على مر الأزمان، سنضع في يده السلة والمعول، فيبني للآلهة العظام هياكل مقدسة تليق بهم، سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة ويخرج من جوفها الخيرات، جاعلا حقول الأنوناكي تنتج غلالا وفيرة، سينضح الماء العذب ويحتفل بأعياد الآلهة ... إلخ.»
6
وفي ملحمة أتراحاسيس البابلية يتخذ تذمر الآلهة من العمل شكل تمرد وعصيان على الآلهة الكبرى السبعة التي كانت تفرض الكدح على البقية، وتلزم مساكنها في دعة وراحة بال، نقرأ في مطلع النص: «حملوا العبء، عانوا المشقة. تعب الآلهة عظيم، العمل ثقيل، الشقاء شديد. آلهة الأنوناكي العظيمة السبعة، كانت تحمل آلهة الإيجيجي العمل، القنوات حفروا، لاستمرار حياة الأرض، الأنهار حفروا، لاستمرار حياة الأرض، حفروا نهر دجلة، ثم حفروا نهر الفرات، فجروا الينابيع من العمق، لاستمرار حياة البلاد، تحملوا العمل ليل نهار، أحصوا سنوات التعب فزادت عن أربعين عاما، صاحوا من الحفرة: الآن أعلنوا الحرب. لنمزج الحقد بالمعركة ... صبوا على أدواتهم نارا وعلى رفوشهم، سلالهم رموها إلى إله النار، وساروا نحو باب البطل إنليل، حاصروا البيت والإله لم يعلم.»
7
অজানা পৃষ্ঠা
عندما وصل الخبر إلى إنليل، أمر بإغلاق الأبواب والاستعداد للدفاع عن قصره، ثم عقد اجتماعا للآلهة العليا تدارسوا خلاله الأمر، وأوفدوا الإله نسكو لمعرفة دوافع المتمردين وتحديد المسئول عن الشغب، فخاطبهم نسكو قائلا: «أرسلني أبوكم آنو، ومشيركم البطل إنليل ، وحاجبكم ننورتا وكبيركم إنوجي . من الذي يحرض على المعركة؟ من يثير العدوان؟ ومن أشعل الحرب؟ أجابوه: جميعنا أعلن الحرب، كل الآلهة أعلنت الحرب؛ لبثنا طويلا في الحفرة، العناء الشديد قتلنا، شاق عملنا وعظيم كربنا، والكل، كل الآلهة أيدتنا»، نقل نسكو إلى إنليل ما دار بينه وبين المتمردين، فتأثر إنليل حتى دمعت عيناه، ثم تداول مع بقية الآلهة العظمى في كيفية إنصاف الآلهة المكدودة، وقرروا في النهاية خلق الإنسان ليحرر الآلهة من العمل ويخدمهم، فخلق الإنسان من طين معجون بدم إله قتيل قدم لهذه الغاية، وقامت بهذه المهمة الإلهة مامي، ربة الولادة الملقبة بسيدة الآلهة، بالتعاون مع إنكي إله الماء.
وفي المقطع الخاص بخلق الإنسان في الإينوما إيليش، يزف مردوخ للآلهة خبر بنائه لمدينة بابل ولمعبدها الكبير الذي سيكون معدا لهم: «سيكون مفتوحا لاستقبالكم وبه تبيتون، أو تهبطون من السماء للاجتماع، سأدعو اسمه بابل، أي بيت الآلهة الكبرى، وسينهض لبنائه أمهر البنائين ... لما انتهى آباؤه من سماع كلامه، توجهوا بالسؤال لبكرهم مردوخ: بعد كل ما صنعت يداك، لمن ستوكل سلطانك؟ فوق الأرض التي ابتكرتها يداك لمن ستوكل حكمك؟ لسماعه حديث الآلهة حفزه قلبه لخلق مبدع، فأسر للآلهة بما يعتمل في نفسه وأطلعهم على ما عقد عليه العزم: سأخلق دماء وعظاما، منها سأشكل الإنسان لالو. نعم، سوف أخلق لالو الإنسان وسنفرض عليه خدمة الآلهة فيخلدون إلى الراحة، قال إيا مبديا رأيه: ليقوموا بتسليم أحدهم فيقتل ومنه تصنع الإنسان، ليجتمع كبار الآلهة هنا ويسلموا إلينا الإله المذنب من أجل راحة الباقين. قام مردوخ بدعوة الآلهة الكبار وقال لهم: أريد منكم قول الصدق وقسمي لكم ضمان، من الذي خلق النزاع؟ من دفع تعامة وحرض على القتال؟ سلموا لي من خلق النزاع ليلقى جزاه وتخلدون إلى الراحة. فأجابه الآلهة: إنه كينغو الذي خلق النزاع ودفع تعامة وحرض على القتال، ثم قيدوه ووضعوه أمام إيا، أنزلوا به العقاب، قطعوا شرايين دمائه، ومن دمائه جرى خلق البشر، ففرض إيا عليهم العمل وحرر الآلهة.»
8
على هذا النحو ينتهي زمن الأصول ويبدأ زمن الإنسان، وعلى هذا النحو ترسم الأسطورة الرافدينية أصل الإنسان وتحدد علاقته بعالم الآلهة ودوره في الحياة، لقد خلق منذ البداية لغرض واحد هو خدمة الآلهة ورفع عبء العمل عنها، والعلاقة بين الطرفين كانت وتبقى أبدا علاقة السيد بالعبد، الآلهة خالدة، وأما الإنسان ففان، والخط الفاصل بين العالمين حاد وحاسم، لا يعطي أملا للإنسان حتى بمجرد التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي، والالتحاق بالعوالم القدسية بعد فناء جسده وانتهاء كدحه على الأرض، أو بتبديل عالمه وتحويله إلى عالم أفضل، ولذا فإن أفضل ما يصبو إليه هو اللذائذ الحياتية الصغيرة، خلال عمر قصير ينتهي به إلى العالم الأسفل. وهذا ما عبر عنه نص ملحمة جلجامش من خلال حديث فتاة الحان التي قالت لجلجامش الباحث عن الخلود: «إلى أين تمضي يا جلجامش؟ وإلى أين تسعى بك القدم؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، لأن الآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيبا وحبست في أيديها الحياة. وأما أنت يا جلجامش فاملأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك، اجعل من كل يوم عيدا، وارقص لاهيا في الليل والنهار، اخطر بثياب نظيفة زاهية، اغسل رأسك واستحم بالمياه، دلل صغيرك الذي يمسك بيدك، أسعد زوجك بين أحضانك، هذا هو نصيب البشر.»
9
في ظل مثل هذه العلاقة، تبقى الرابطة الوحيدة بين الأرض والسماء هي رابطة الشعائر والطقوس، فالآلهة لا تتصف بالعدالة ولا بالخير، وكل ما تسعى إليه هو عبادة الإنسان وقرابينه التي يقدمها إليها، ومن خلال الشعائر والقرابين يستطيع استمالتها وحثها على اتخاذ مواقف إيجابية منه. نقرأ في ملحمة أتراحاسيس البابلية أن القحط قد حل في البلاد حتى عم الجوع وهلك الناس، فالتمس الحكيم أتراحاسيس وجه ربه إيا، الذي نصحه بتقديم القرابين وفروض العبادة لأداد إله المطر وحده، من دون بقية الآلهة، عله يخجل من هدية الإنسان: «لا تخشوا آلهتكم، لا تصلوا لعشتاركم، فقط التمسوا باب أداد، أحضروا الخبز أمامه، عسى أن يمطر الندى خلسة في المساء ليحمل الحقل الحبوب.» نقل أتراحاسيس نصيحة إيا إلى قومه فعملوا بها: «بنوا بيتا للإله إيا، أحضروا الخبز أمامه، أسعده قربان الدقيق، خجل من الهدية فكف يده، في الصباح أرسل ضبابا وخلسة في المساء أمطر الندى، خلسة حمل الحقل الحبوب، غادرهم القحط وعادوا إلى أعمالهم.»
10
ومع ذلك فإن خدمة الآلهة والضراعة إليها في كل حين وتقديم القرابين لا تؤدي بالضرورة إلى حصول الإنسان على بغيته منها، لأن مشيئتها خافية على البشر، قد ترفع بواحد من الناس إلى أرفع مقام وتهوي بالآخر إلى الحضيض دونما سبب واضح. نقرأ في نص بابلي معروف بعنوان «صلاة إلى جميع الآلهة» ضراعة لإنسان متألم غضبت عليه الآلهة وتسببت في مرضه بغير جريرة أو ذنب، ولذا فإنه يعترف هنا بذنوب لم يرتكبها: «ليهدأ قلب إلهي الغاضب علي، وليرض عني الإله الذي أعرف والإله الذي لا أعرف. بجهل مني أكلت طعاما حرمه إلهي، بجهل مني وطئت مكانا حرمته إلهتي. يا ربي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة، ويا ربتي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة. إني جاهل حقا بما اقترفته من ذنوب وإني جاهل حقا بما ارتكبته من معاص، ولكن الإله نظر إلي بقلب غاضب، وإلهتي في غضبها تسببت في مرضي. الإنسان مخلوق قاصر التفكير، لا يدري متى يجني حسنة ولا متى يصنع إثما.»
11
ومن نص بابلي طويل معروف بعنوان «سأثني على درب الحكمة» أقتطف هذه السطور: «رفعت دعائي إلى إلهي فأشاح بوجهه عني، صليت إلى إلهتي فلم تلتفت بوجهها إلي. لقد صرت كمن لم يقدم لإلهه قربانا، وصرت كمن لم يشكر إلهته عند كل طعام، صرت كمن فقد صوابه ونسي ربه، وكمن حلف قسما عظما بإلهه كاذبا. ولكن ما يبدو للإنسان حسنا قد يكون في عين إلهه رديئا، وهل يعرف أحد مشيئة الآلهة في السماء؟ هل يعرف أحد خطط الآلهة على الأرض؟»
অজানা পৃষ্ঠা
12
والآلهة الرافدينية تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور الإنسان التنبؤ بردود أفعالها لأنها لا تلتزم القواعد الأخلاقية ولا تجعل من سلوكها قدوة في هذا المجال لبني البشر، وغالبا ما اتسمت مواقفها بالفطرية ورد الفعل الآني والبعد عن الإحساس بالمسئولية ، ففي أسطورة الطوفان البابلية يقرر مجمع الآلهة تدمير شوريباك وبقية المدن الإنسانية الأولى بغير سبب أو جريرة. نقرأ في مطلع القصة كما وردت في ملحمة جلجامش: «قال أوتنابشتيم لجلجامش: سأكشف لك أمرا كان مخبوءا، وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة، شوريباك مدينة أنت تعرفها، لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانا، كان بينهم آنو أبوهم، وإنليل مستشارهم، وننورتا ممثلهم، وإينوجي وزيرهم، وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرا أيضا.» وفي النص السومري المعروف بعنوان «هلاك مدينة أور» يتخذ مجمع الآلهة برئاسة إنليل قرارا بتدمير مدينة أور وإهلاك أهلها، قدرا من السماء وأمرا مقضيا، يبتدئ النص ببكائية للإلهة ننجال إلهة مدينة أور تندب فيها مدينتها، ثم نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن أور وتستعطف مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم «... ثم توجهت بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه، بينما كان آلهة الأنوناكي جلوسا يتعاهدون. جرجرت قدمي، فتحت ذراعي، ذرفت الدموع أمام الإله آن، بكيت بحرقة أمام الإله إنليل، قلت لهما: عسى أور لا تدمر، عسى مدينتي أور لا تدمر قلت لهما. ولكن آن لم يعط دعائي أذنا، وإنليل لم يثلج صدري بكلمة، بل أصدرا الأمر بهلاك المدينة، أصدرا الأمر بهلاك أور، وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.»
13
ويتضح موقف الألوهة المتناقض والمتناوس بين الخير والشر، بشكل خاص في شخصية وأفعال الإله إنليل رئيس البانثيون الرافديني، ففي ملحمة أتراحاسيس، وبعد خلق الإنسان لخدمة الآلهة، يتكاثر البشر وتكثر ضوضاؤهم التي تقض مضجع إنليل وتحرمه الرقاد، فيضع خطة شريرة لإنقاص عددهم حتى يخلد إلى الراحة: «لم يمض ألف ومئتا عام، توسعت الأرض كثر الناس، الأرض تخور كثور هائج، اضطرب الآلهة من ضجيجهم. إنليل سمع ضوضاءهم، قال للآلهة الكبرى: ضجة البشر ثقلت علي، من ضجتهم أفتقد الرقاد، اقطعوا المئونة عن الناس، لجوعهم ليقل الزرع، ليكف الإله أداد مطره عنهم، عسى ألا يخرج فيض من الأعماق. لتعصف الرياح، ولتجف الأرض، ليقلل الحقل غلته، لتحجب نيسابا إلهة الغلال والمحاصيل صدرها الخصب، عسى ألا يصل الفرح إليهم. يا ليتني أخرب الأرض.» قام الآلهة بتنفيذ أوامر إنكي، لم ينزل المطر من الأعلى ولم يفض ماء الينابيع من الأسفل، أغلق رحم الأرض، يبس الزرع والحقول السود ابيضت، الأرض الواسعة ملئت ملحا ومرض الطاعون تفشى، ثم يتابع النص: «سنة واحدة أكلوا العشب، سنة ثانية علتهم الحكة، في السنة الثالثة تغيرت هيئاتهم من الجوع، عاشوا الحياة في عذاب، خضراء بدت وجوههم، بانحناء يمشون في الشار، أكتافهم العريضة ضاقت، أرجلهم الطويلة قصرت.»
14
وعندما لم تنفع كل هذه الأساليب في إنقاص عدد الناس قرر إنليل إرسال طوفان عظيم يفنيهم عن آخرهم، وأقنع مجمع الآلهة بالموافقة على القرار، عدا الإله إنكي الذي نقل الخبر إلى حكيم القوم أتراحاسيس وأمره ببناء سفينة وفق مخطط معين، ليحمل عليها أهله وما يستطيع إنقاذه من حيوان البر وطير السماء، من أجل استمرار الحياة الجديدة بعد الطوفان.
ومع ذلك فإن الجانب الخير في شخصية إنليل يطغى على جوانبه الغضوبة المدمرة، في أحيان كثيرة، نقرأ هذه المنتخبات من ترتيلة سومرية طويلة في مدح الإله: «لولا إنليل الجبل العظيم، لم تبن المدن ولا القرى، ولم يفض البحر بكنوزه الوفيرة، ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب، ولم تصنع طيور الجو أعشاشها. لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة في السماء أفواهها، ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب، ولم تطلع الحشائش والأعشاب بهية في الوادي، ولم تحمل الأشجار في البساتين ثمرها. لولا إنليل الجبل العظيم لم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل، ولم يكن لغنمة أن تنجب حملها في الحظيرة. إن أعمالك البارعة تثير الروع، ومراميها عصية كخيط متشابك لا يمكن فكه.»
15
إن عدم توصل الألوهة إلى حسم مسألة الخير والشر في شخصيتها وسلوكها، ينعكس على علاقتها بعالم الإنسان والمجتمعات البشرية، فالآلهة الرافدينية لم تكن أخلاقية من جهة ولم تستن لعبادها شرائع أخلاقية يتبعونها، بل لقد ترك المجتمع الرافديني يسير شئونه الاجتماعية بنفسه، ويتعامل أفراده وفق اللوائح الأخلاقية المتعارف عليها والمؤسسة منذ القدم، وقد كان حكماء المجتمع يعيدون صقل هذه اللوائح والتذكير بها في كل مناسبة، وهذا ما تطلعنا عليه نصوص الحكم والوصايا التي وصلنا منها العديد، وأهم ما يميز نصوص الحكمة الرافدينية أنها لم تكن تجري على لسان كهان مرسومين ينطقونها وحيا من السماء، بل على لسان حكماء صالحين خبروا الحياة وأفادوا من عبرها، وعرفوا مسالك الحق والباطل، ولم يكن لينتقص من قيمة لوائح الأخلاق الاجتماعية ووصايا حكماء الحياة الدنيا كون هذه اللوائح والوصايا ذات طبيعة دنيوية لا سماوية، وأن مؤيداتها تأتي من ضمير الجماعة لا من مشيئة الآلهة. لا أدل على ذلك مما نلمسه من الحساسية الخلقية العالية للإنسان الرافديني وسيادة القانون الأخلاقي الوضعي على علاقات الأفراد والجماعات، يضاف إلى ذلك ما نشأ من تشريعات زمنية رافدينية راقية منذ أواخر العصر السومري، بنيت على القانون الأخلاقي القديم وزادت في تشعيبه ووسعت من مجالاته. ولقد استمر الفصل بين الدين والأخلاق منذ البدايات الأولى للحضارة الرافدينية وحتى نهايتها، وبقي السلوك الديني للأفراد وسلوكهم الأخلاقي بمثابة خطين متوازيين لا يتداخلان ولا يلتقيان. تشترك الحضارة الرافدينية في هذه النظرة إلى الأخلاق مع الحضارة الإغريقية، وبقية الحضارات التي تقوم معتقداتها الدينية على المفهوم الربوبي، وتنظر إلى التاريخ باعتباره سيالة مفتوحة على اللانهاية، وذلك على عكس حضارات أخرى طورت تدريجيا مفهوما دينيا للأخلاق، مثل الحضارة المصرية التي سنقف مطولا عند معتقداتها الدينية في فصل قادم.
ويتصل بمفهوم الخير عند الآلهة مفهوم العدالة، فإذا كانت الآلهة لا تقيم وزنا للخير في سلوكها مع الإنسان، ولا تطلب منه بذل الخير كعنصر لازم في العلاقة بينهما، فإنها بالتالي ليست معنية بالخير يبذله الفرد تجاه أخيه ومجتمعه أو بالشر يفعله بهم، طالما أنه ملتزم بالصيغة الطقسية الشعائرية التي من خلالها وحدها يتم الجمع بين الإنسان وإلهه، كما أنها ليست معنية بثواب الإنسان وعقابه على أعماله، وفق مرجعية أخلاقية سماوية، ناهيك عن عنايتها بخلاصه إلى عالم آخر يعوضه عن بؤس التاريخ وشقائه، وبما أنه لا يوجد إلا هذا العالم، وما من خطة هناك لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى عالم أسمى وأرقى، فإن تاريخ الإنسان مفتوح ودونما نهاية منظورة، أما تاريخ الفرد فمغلق حيث ينتقل بعد الموت وشقاء الحياة إلى عالم الظلمات السفلي حيث تعيش الأرواح وجودا شبحيا ظليا لا معنى له ولا نكهة، لا فرق في ذلك بين أمير وفقير وبين من قدم حسنة ومن قدم سيئة، رغم أن اتباع طقوس الدفن الصحيحة وتقديم القرابين الدورية عند القبور لراحة أرواح الموتى قد تخفف من معاناتها هناك. نقرأ في أكثر من نص بابلي عن أحوال العالم الأسفل وأهله، ومنها ما تنقله لنا ملحمة جلجامش على لسان إنكيدو الذي يحتضر على فراش الموت ويرى أحوال ذلك العالم بأحلامه، لقد جاءه قابض الأرواح واقتاده إلى هناك: «ظهر أمامي رجل معتم الوجه، وجهه كوجه طائر الزو ومخالبه كمخالب العقاب، أمسك بخصلات شعري فتمكن مني، قام بتحويل شكلي فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور، غاص بي وقادني إلى بيت الظلام مسكن الإلهة إرجالا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها، إلى درب لا يرجع بصاحبه من حيث أتي، إلى مكان لا يرى أهله نورا وفي الظلمة يعمهون، التراب طعام لهم والطين معاش، لباسهم كالطير أجنحة من ريش، وفي بيت التراب حيث دخلت رأيت الملوك وقد نزعت تيجانها، تلك التيجان التي حكمت البلاد ومنذ القدم ...»
অজানা পৃষ্ঠা
16
وهنا أريد التوقف قليلا عند مقطع من ملحمة جلجامش جرى تفسيره أحيانا على أنه يقدم دليلا على وجود مفهوم كوني للشر في الدين الرافديني، أو على الأقل وجود بذور لمثل هذه الفكرة بشكلها الجنيني، فعندما كان جلجامش يتشاور مع صديقه إنكيدو في موضوع رحلة غابة الأرز يقول له: «في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب. هيا أنا وأنت نقتله، هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.» وقبل أن يشرع في رحلته يزور أمه ننسون راجيا بركتها: «إلى اليوم الذي به أعود، إلى أن أصل غابة الأرز، إلى أن أقتل حواوا الرهيب فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه الإله شمش، صلي من أجلي إلى شمش.»
استنادا إلى هذين المقطعين، وما تلاهما من مشاهد مغامرة غابة الأرز التي انتهت بقتل حواوا الوحش الرهيب حارس الغابة، يرى بعض المفسرين في حواوا رمزا لمبدأ الشر المجرد وفي الإله شمش رمزا لمبدأ الخير المجرد، وهذا في واقع الأمر بعيد كل البعد عن العقلية الدينية والفلسفية البابلية التي لم تتوصل إلى مثل هذا التجريد قط، ودليلنا على ذلك هو المدلول الحرفي الدقيق لكلمة «الشر» الواردة هنا وهي بالأكادية «ميما-ليمنو». فالكلمة تشير إلى كل ما هو مؤلم ومؤذ وغير موات لحياة وسعادة الإنسان، ولا يوجد ما يدل على استخدامها للدلالة على الشر الأخلاقي.
17
نقرأ على سبيل المثال في نص تعويذة بابلية مخصصة لاستنهاض أرواح الأسلاف من أجل شفاء المريض: «أقف اليوم في حضرة جلجامش وشمش: احكما في قضيتي، أصدرا قرارا بحقي، انزعا ما في لحمي وعظمي من ميما - ليمنو.»
18
وفي تعويذة أخرى تستنهض روح جلجامش باعتباره أحد الأسلاف العظام الصالحين: «لقد تمكن في المرض، فاحكم في قضيتي، إني أركع أمامك، فأصدر قرارا بحقي، انزع المرض من جسدي خذ عني الميما-ليمنو الذي يهدد حياتي، خذ عني المرض الذي يعشعش في لحمي وعظمي وأوصالي.»
19
إن الشر المقصود في هاتين التعويذتين هو الألم والمرض، ومرتل التعويذة يستنهض روح جلجامش الذي أجهز على واحد من ممثلي هذا النوع من الشر الذي يكرهه شمش على حد تعبير نص الملحمة، وهو النوع الذي وصفناه في موضع سابق بالشر الطبيعاني تمييزا له عن الشر بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي.
وكان لمثل هذا الشر الطبيعاني ممثلون يجسدونه في مجمع الآلهة الرافدينية، فإلى جانب آلهة البانثيون الرئيسية التي تميز سلوكها بالتناقض حيال الخير والشر، فإننا نجد آلهة أخرى موكلة بشئون الشر الطبيعاني وخصوصا ما تعلق منه بحياة الإنسان من ألم ومرض وموت، وهذه الآلهة تنتمي إلى قوى الظلام والعالم الأسفل، فهناك إريشكيجال ربة العالم الأسفل التي تعمل على ملء مملكتها من الناس أجمعين، وزوجها نرجال الذي كان يرسل عفاريت الظلام لتجوس في الأرض وتؤذي الناس خلال الليل، ونرجال هذا هو مظهر من مظاهر الإله شمش، الذي يغيب في باطن الأرض جهة المغرب ليسير في العالم الأسفل نحو المشرق فيطلع في اليوم الثاني. إنه الشمس السوداء في مقابل الشمس المنيرة البيضاء، ويمثل الجانب الأشأم من فعاليات إله الشمس حيث يتسبب بالحروب والخراب والطوفانات والأوبئة، وهناك نمتار رسول إريشكيجال وصلة الوصل بينها وبين آلهة العالم الأعلى، وكان يلعب دور ملاك الموت قابض الأرواح، يعاونه في ذلك سبعة عفاريت تحف به في غدوه ورواحه. وهناك إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة التي تحصد الناس بالآلاف، يصعد من العالم الأسفل وهو يجر وراءه ستين مرضا وعلة يطلقها على من يشاء من الناس. وهناك ليليث شيطانة القفار الجميلة التي تمثلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة عارية لها جناحان ومخالب الطير الكاسر، وكانت تخطف الأطفال الرضع عن صدر أمهاتهم. إن هذه الكائنات الما ورائية المرعبة ليست كائنات أخلاقية انحازت إلى جانب الشر عن خيار ووعي، بل هي تجسيد على المستوى الميثولوجي لوجود الشرور الطبيعانية في معزل عن الحكم القيمي الأخلاقي، وضمن عقيدة دينية لم تتوصل إلى مفهوم للخير والشر باعتبارهما مبدأين كونيين مجردين.
অজানা পৃষ্ঠা
خلاصة
لقد قاد هذا التصور الديني للعلاقة بين أركان الثالوث الأساسي في الوجود وهي: الإله - الكون - الإنسان، إلى تصور للزمن على أنه سيالة متدفقة أبدا من لحظ الخلق وحتى آفاق غير منظورة في الأبدية، وإلى تصور لتاريخ الإنسان على أنه سلسلة من الأحداث المتكررة المتشابهة التي تتتابع في حركة خطية، لا تنبئ عن معنى ولا تهدف إلى غاية. سيبقى هنالك بشر طالما بقي هنالك آلهة، وسيبقى هؤلاء البشر أسرى الشرط الأولي الذي أحاط بخلقهم. جيل يمضي وجيل يأتي، والشمس تشرق كل يوم وتسرع إلى مغربها، على حد قول كاتب سفر الجامعة في التوراة، والذي يعبر أبلغ تعبير عن مفهوم الربوبية والتاريخ المفتوح: «الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة ... من كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، ليس تحت الشمس من جديد. إن وجد شيء جديد يقال عندها: انظر هذا جديد، ولكنه منذ زمان كان، في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين، والآخرون أيضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين من بعدهم ... وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السماوات، هو عناء رديء جعلها لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح» (سفر الجامعة: 1).
روح البشرية خالدة، على ما يفيدنا به نص ملحمة أتراحاسيس، لأن البشر والآلهة طرفان في معادلة واحدة. نقرأ في مشهد خلق الإنسان: «لتمزج الإلهة ننتو الطين، ليجتمع الإله والإنسان معا في الطين، لنسمع الطبل إلى آخر الأيام، ولتكن الروح البشرية من جسد الإله، ولتعلمه أن الحياة أضحت رمزه، ولتكن الروح البشرية خالدة في الاجتماع، آلهة الأنوناكي مقررو المصائر، أجابوا نعم. في اليوم السابع، وفي اليوم الخامس عشر من الشهر، جهزوا مكانا طهورا، ذبحوا الإله دي-إبلا في اجتماعهم، وبلحمه ودمائه عجنت ننتو الطين، لآخر الأيام سمعوا الطبل، وجدت الروح البشرية من جسد الإله، وعلمته أن الحياة أضحت رمزه، وجدت الروح البشرية إلى الأبد.»
20
ولكن الخلود المعني هنا ليس خلود النفس الفردية بل خلود الجنس البشري مما يقتضيه مفهوم التاريخ المفتوح. أما الأفراد فيسيرون نحو نهاية محتومة في العالم الأسفل، بعد حياة قصيرة يجزون خلالها على خدمتهم للآلهة، ثوابا أم عقابا، بطريقة مادية بحتة، فتطول بهم الأيام ويجنون الثروة ونعمة الصحة والبنين وما إلى ذلك، أو يبلون بالآلام والأمراض والموت المبكر، فلا بعث ولا نشور وما من حياة ثانية ترتقي بالفرد إلى وجود يسمو على وجوده السابق، وحتى العدالة الأرضية مشكوك بتحقيقها، فقد ترى من خدم الآلهة بكل إخلاص تقصر به الأيام بعد مرض وألم وفقر، ومن أدار ظهره للآلهة يمتد به العمر ويزداد صحة ووفرة وغنى. وعلى حد قول كاتب سفر الجامعة: «وأيضا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور، قلت في قلبي: الله يمتحن البشر ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم؛ لأن ما يحدث للبهيمة يحدث لبني البشر، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل. ليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما. من يعلم، روح البشر هل تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل تنزل إلى أسفل الأرض؟ حادثة واحدة للصديق وللشرير، للصالح وللطاهر وللنجس، للذابح وللذي لا يذبح، الخاطئ كالصالح، الحالف كالذي يخاف الحلف ... الكلب الحي خير من الأسد الميت، لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الموتى لا يعلمون شيئا وليس لهم أجر بعد، لأن ذكرهم قد نسي، ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان، ولا نصيب لهم بعد إلى الأبد في كل ما عمل تحت الشمس ... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها» (الجامعة، 3: 16-22، و9: 2-9).
وأخيرا، فإن افتقاد المعنى في المفهوم الرافديني للتاريخ، قد جعله بعيدا عن تلمس مفهوم عام عن «الإنسانية» و«المجتمع الإنساني»، وعن فهم قوانين تطور هذا المجتمع وارتقائه نحو تحقيق غاية ما، وحتى في العبادات التموزية التي طورت تدريجيا مفهوما للخلاص الروحي نحو عالم أفضل، فإن المخلص الإلهي بقي مخلصا فرديا، وبقيت عملية التحرر والخلاص مرتبطة بالطقس السحري الذي يوحد العابد بإلهه، أكثر من ارتباطها بمفهوم مجرد عن الخير والشر، ودور الإنسانية الإيجابي في تاريخها الخاص وتاريخ العالم. كما أن غياب المعنى عن مفهوم التاريخ المفتوح، وغياب فكرة العدالة الإلهية، وفكرة النعمة الإلهية التي تحرر الإنسان من شرطه الأرضي دون قيد أو شرط، من شأنها مجتمعة أن تجعل التساؤل حول الحرية والجبرية أمرا لا معنى له، لأن كل عمل للإنسان، سواء بذل عن حرية أم عن جبرية، لن تكون له أية قيمة خلاصية، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الكون. (5) الحلولية والمفهوم الدوري للتاريخ (5-1) الهندوسية نموذجا
تطالع الهندوسية دارسها لأول وهلة بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة، كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها، عصيا عن الانتظام في مجمع واحد يضم شتاتها، ولعل السبب كامن وراء ذلك التاريخ الطويل من التطور البطيء الذي تجره وراءها هذه الديانة التي تعود بأصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المعتقدات ما تلبث حتى تنتظم أمام الدارس الصبور تحت عدد قليل من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الما ورائية. أما حشد الآلهة فلا يلبث حتى تظهر حقيقته النسبية عندما تبدو نصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقيين، وتسفر عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح والدورة الكونية الأزلية.
إن ما يميز المعتقد الهندوسي «أو المعتقدات الهندوسية» عن المعتقد الشرقي الأوسطي، هو بالدرجة الأولى لا مركزية فكرة الله؛ فالهندوسية تبدي تحررا واضحا من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أو عدمه، أو على تعدد الآلهة أو التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يعد مؤمنا وملتزما بدينه، سواء آمن بإله واحد أم بآلهة متعددة، أم لم يؤمن بالآلهة طرا، لأن هذه المسألة لم تكن أبدا بمثابة حجر زاوية للديانة الهندوسية. وفي المقابل، فإن الطوائف الهندوسية تشترك بعدد من الأفكار والمعتقدات الأساسية التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يليه معتقد الكارما الذي يرتبط به أشد الارتباط، والكارما تعني في الأصل الفعل، ولكنها في السياق الأيديولوجي المعني هنا، تعني الفعل وجزاؤه ثوابا كان أم عقابا، على أن ما يميز فكرة الثواب والعقاب في الهندوسية عن نظيرتها في الديانات الشرقية الأوسطية، هو أن الجزاء غير مفروض من قبل شخصية إلهية تتصف بالعدل، بل يتم بشكل أوتوماتيكي من خلال قانون الكارما الكوني، وهو قانون غفل غير مشخص وغير متصل بواحد من الشخصيات الإلهية. فما تراكمه الروح من كارما في تجسدها الحالي سوف يؤثر على سلسلة تناسخاتها التالية ، مثلما أن وضعها الحالي محكوم بكارما التناسخات الماضيات، وهكذا تتابع الروح الفردية تجسداتها في دورة سبية أزلية لا تنتهي تدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكمله، كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة في إتيان الفعل «كارما»، والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشد غاية أو تسعى إلى هدف، ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة ممكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي، إلا أن الطوائف الهندية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها.
من هنا يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة، أي سنة الكون الأبدية، والكلمة تستخدم بمعنيين، فهي تدل من جهة على مجمل الكتابات المقدسة وشروحاتها، ومن جهة أخرى على القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برمته. وبالمعنى الثاني فإن سنة الكون تتطابق مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي الذي تجعل منه العلوم حقلا لدراستها، ولكن مع فارق هام، وهو أن هذا القانون الطبيعي بالنسبة للهندوسي لا يقوم بذاته، وإنما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عرض متغير، ويدعى براهمن: القاع التحتي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه الناس والآلهة ومظاهر الوجود طرا. ولبراهمن نفس تدعى أتمان وهي منبثة في جميع الكائنات الحية من آلهة وبشر، وفي كل ما يدب على الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء. فالنفوس رغم تجزئتها الظاهرية وتباينها هي في حقيقة الأمر نفس واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحررة المنعتقة لتذوب فيها.
وبهذا يتحصل لدينا سبعة مفاهيم أساسية تشكل أساس العقيدة الهندوسية وهي: (1)
অজানা পৃষ্ঠা
سمسارا:
الدورة السببية الكبرى، والعالم الذي تتناسخ فيه أرواح الكائنات الحية وأرواح الآلهة. (2)
كارما:
الفعل وتبعاته الأخلاقية. (3)
دهارما:
السنة الكونية. (4)
موكشا:
الانعتاق من الدورة السببية . (5)
براهمان:
الثابت الأبدي والقاع الكلي للوجود. (6)
অজানা পৃষ্ঠা
أتمان:
النفس الكلية في تجزئها ووحدتها. (7)
مايا:
والكلمة في الأصل تعني الوهم أو الظواهر الخادعة.
تقوم فكرة المايا أساسا من أجل الربط بين الواحد غير المتجزئ والكثرة التي صدرت عنه، لأن الواحد لا يمكن أن يكون سبب الكثرة، ولابد أن هذه الكثرة من عناصر الطبيعة هي وهم يمت إلى عالم الظواهر والخداع، وما دامت الروح تعيش في إسار دورة السببية «سمسارا» فإنها واقعة تحت سلطة المايا، تعاين الكثرة والتنوع، كثرة الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية. أما عندما تفلح في الانعتاق، فإن الوهم الكبير ينجلي، ويبدو لها كل شيء متوحدا في المطلق العظيم، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرد والاستقلال. وأما الإله المشخص الذي عرفته النفوس خلال دهور دوراتها في السمسارا، فيبدو لها على حقيقته: براهمان الأزلي الحق، بعد أن كان براهمان + مايا، مثلما كانت النفوس الحية أيضا نفسا + مايا، وهنا يتحقق التطابق في الهوية بين النفس أتمان والمطلق براهمان. إن ما يحقق للنفس هذا النوع من الانعتاق النهائي هو انكشاف بصيرتها الداخلية على حقيقة أن هذا العالم المتكثر هو واحد في جوهره، وإن كل ما في الوجود هو براهمان.
على أن الفهم الواضح للمعتقدات الهندوسية لن يتحصل لنا إلا إذا تابعنا الكيفية التي تطورت بها هذه المعتقدات خلال تاريخ الهندوسية الطويل، والذي يبتدئ مع دخول الأقوام المدعوة بالهندو-آرية إلى شبه القارة الهندية. (5-2) التطور التاريخي
ديانة الفيدا
حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، غزت شبه القارة الهندية جماعات محاربة من الشعوب المعروفة تاريخيا باسم الهندو-آرية، والتي كانت تنساح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية نحو مناطق غرب آسيا وأوروبا منذ مطالع الألف الثاني قبل الميلاد. احتل الآريون أولا وادي نهر الأندوز «السند» في شمال غرب الهند، حيث دمروا حضارة عريقة تشبه حضارة وادي الرافدين، ثم تابعوا بعد ذلك تقدمهم ببطء إلى حوض الغانج، ولم يصلوا إلى الجنوب إلا بعد منقلب الألف الأول قبل الميلاد، وقد حمل هؤلاء الآريون إلى الهند الديانة المعروفة بالفيدية، نسبة إلى الفيدا، وهي مجموعة أشعار تحتوي على أناشيد دينية تم تأليفها بعد استقرار الآريين، وعلى امتداد فترة لا بأس بها من الزمن، باللغة السنسكريتية، وهي لغة قريبة من اللغة التي تكلمها وكتب بها الفرع الآخر من الهندو-آريين الذين دخلوا إيران في الوقت نفسه تقريبا.
والفيدية هي ديانة طقسية تقوم على معتقد ربوبي شبيه بمعتقد وادي الرافدين. ففي الأناشيد الفيدية التي كانت تتلى في الاحتفالات الدينية، كان الشعراء في ذلك العصر يسألون الآلهة أن تمنح عبادها قطعانا كثيرة من الماشية، وثروة وحياة مديدة مقابل ما يقدمونه إليها من قرابين، وكانت خدمة الآلهة وتقديم القرابين إليها هي العنصر الحاسم في تقرير مصير الروح وحياة ما بعد الموت. أما الأخلاق فكانت شأنا دنيويا تنظمه الأعراف والعادات القبلية المؤسسة منذ القدم، ولم يكن لأولئك الآريين في بداية عهدهم معابد ولا بقع مقدسة معينة لأداء الطقوس، بل كانوا يقيمون شعائرهم في الهواء الطلق وعلى أرض يمهدونها لهذه الغاية، ويجهزونها بمذبح وبموقد نار لإحراق الأضاحي، وكان القربان يتألف في العادة من منتجات حيوانية مثل الزبدة والجبن، ومن الحبوب، ومن عدد من الحيوانات تذبح تباعا هي التيس والخروف والثور والحصان، وفي نهاية الطقس الذي غالبا ما يدوم يوما كاملا، يؤتى بشراب السوما المخدر فيسكب منه أمام الآلهة ويتم تناوله من قبل المشتركين بالطقس ليحملهم إلى السماء في زيارة خاطفة.
وقد اتسعت أسفار الفيدا حتى شملت أربع مجموعات ضخمة من الأناشيد والتراتيل والصيغ السحرية، التي كانت تتداول شفاهة حتى وقت متأخر من الألف الأول قبل الميلاد، وهذه المجموعات هي: رج فيدا، ساما فيدا، ياجور فيدا، أثار فيدا. وكلمة الفيدا هنا تعني المعرفة المقدسة، وهي من نفس الجذر الإنكليزي
অজানা পৃষ্ঠা