الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الثنوية الكونية
2 - المفهوم الديني للتاريخ
3 - فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور الثنوية الكونية
4 - ميلاد الشيطان
5 - الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق
6 - على هامش التوراة
7 - يهوه: شيطان الغنوصية
8 - الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
9 - الكاثارية
10 - أمير هذا العالم
11 - الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
الخاتمة
قائمة المصادر والمراجع
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - الثنوية الكونية
2 - المفهوم الديني للتاريخ
3 - فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور الثنوية الكونية
4 - ميلاد الشيطان
5 - الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق
6 - على هامش التوراة
7 - يهوه: شيطان الغنوصية
8 - الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
9 - الكاثارية
10 - أمير هذا العالم
11 - الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
الخاتمة
قائمة المصادر والمراجع
الرحمن والشيطان
الرحمن والشيطان
الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب ، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
إن مفهوم التوحيد الذي صاغته الديانات المشرقية بشكل خاص في سياق الألف الأول قبل الميلاد، يترافق مع صعوبة ذات طبيعة فكرية وعاطفية في آن معا، ذلك إن الإيمان بإله واحد هو علة الوجود، والمتحكم بجميع مظاهره، يجعل مشكلة وجود الشر في العالم بدون حل ابتداء؛ فلقد كان من السهل تعليل الشر في المعتقدات الوثنية التعددية بأنه نتاج تناقض أهواء الآلهة ومقاصدها، أو بأنه نتيجة طبيعية لوجود آلهة خيرة وأخرى شريرة. أما في معتقد التوحيد الذي يترافق مع تصور لله على أنه كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الحضور، وعلى أنه منبع العدل والخير، فإن تعليل الشر يغدو بمثابة المهمة الأولى والملحة المطروحة أمام أي معتقد توحيدي، كما أن طريقته في الإجابة عن أسئلة مثل: كيف ينشأ الشر عن الخير؟ أو لماذا يسمح الخير المحض بوجود الشر؟ هي التي تحدد موقع هذا المعتقد من المعتقدات التوحيدية الأخرى، وترسم تصوره الخاص لبنية الحقيقة، ولعلاقة الله بالكون وبالإنسان.
ولقد حلت معتقدات التوحيد هذه الصعوبة على أربعة أوجه، يصر الحل الأول على مفهوم صارم للتوحيد يستبعد أية قوة ما ورائية حرة ومسئولة وتنشط في استقلال عن الله، يمكن أن ينسب إليها وجود الشر، وينجم عن ذلك بشكل منطقي في أن ينسب الشر إلى الله مثلما ينسب الخير إليه، فهو صانع الخير والشر أيضا، يسيرهما وفق خطة خفية عن أفهام البشر، وهذا هو حل المعتقد التوراتي، الذي يعبر عنه النبي إشعيا كأوضح ما يكون في قوله على لسان يهوه: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا الرب صانع كل هذا» (إشعيا، 45: 6-7). وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التوحيد التوراتي لم يصل مرتبة التوحيد العالمي الشمولي، بل بقي ضمن مفهوم «وحدانية العبادة»، أي عبادة إله قومي واحد مع عدم إنكار وجود آلهة الشعوب الأخرى.
يجعل الحل الثاني من الله كيانا مفارقا يسمو فوق الخير والشر، ولكنه رغم سموه يقف إلى جانب الخير ويدعمه في مقابل الشر. ولقد ظهر الخير والشر إلى الوجود نتيجة خيار بدئي حر، عندما صدر عن الواحد الأزلي روحان توءمان اختار أحدهما الخير واختار الآخر الشر، ودخلا في تنافس وصراع. وهذا هو حل المعتقد الزرادشتي.
يتصور الحل الثالث وجود أصلين أزليين لا أصلا واحدا، وهما الله والمادة. فالله روح بحت ونور صرف، والمادة كثافة مطبقة وظلمة دامسة، ولشدة كثافة الظلمة في أسفل طبقاتها فقد تحولت إلى مادة، يتجاور عالم الظلمة وعالم النور منذ الأزل ويواجه كل منهما الآخر بصفحته، وفيما عدا ذلك لا حدود للنور من أعلاه، ولا من يمنته ولا من ميسرته، ولا حدود للظلمة أيضا من تحتها ولا من يمنتها ولا من يسرتها، ثم إن المادة أنجبت الشيطان الذي ليس أزليا في عينه رغم أن عناصره أزلية، وقد تولد الشيطان عن ظلمة كما تتولد العفونة من الأجزاء الرطبة، وتولدت أفلاك القوى الملائكية عن الله مثلما تشعل الشموع من مشعل متقد. وهذا هو حل المعتقد المانوي.
يؤكد الحل الرابع على الأصل الواحد للوجود، وعلى وحدانية الله وخيره وعدله، إلا أنه يعزو الشر إلى شخصية ما ورائية كبرى ذات أصل سماوي، تنشط في استقلال عن الله، وهذه الشخصية ليست أزلية بل مخلوقة من قبل الله الذي أعطاها الحرية منذ البدء، فقامت، وبكل وعي وحرية، برفض التبعية لخالقها والاستقلال عنه، ولما كانت غير قادرة على ممارسة دور الإله نفسه فقد قررت أن تلعب دور المعارض والمناقض لإرادته، وتعمل على إفساد خلق الله، لا سيما الإنسان الذي هو مركز الخليقة وسيد الأرض. وهكذا ظهر الشيطان وظهر الشر إلى الوجود وتأصل فيه منذ الأيام الأولى للتكوين. وهذا هو حل المعتقدين المسيحي والإسلامي.
أما لماذا سمح الله بظهور الشر على هذا النحو، فإن جواب الحل الرابع هو أن الله لم يسمح بظهور الشر بل سمح بالحرية، وليس الشر إلا ناتجا من نواتج الحرية. فالله ليس مسئولا عن الشر، وهو سيقاومه ويأتي به وبأصله إلى نهاية محتومة في لحظة مقررة من صيرورة الزمن. لقد كان الله قادرا على محق الشيطان لحظة عصيانه، ولكنه آثر الإبقاء على مبدأ الحرية الذي استنه لخلقه، وتركزت خطته في مقاومة الشيطان على الإنسان الذي أعطاه العقل والحرية أيضا، وعليه أن يستخدمها في محاربة الشر وعدم الإذعان لسلطته. إن دراما صراع الخير والشر عبر زمن البشرية، قوامها مواجهة بين حرية بدئية تحولت إلى جبرية أحادية عندما تبنى الشيطان الشر خيارا واحدا أبديا، وبين حرية ما زالت تنطوي على جوهر الخيار، وهي حرية الإنسان. قد يخطئ الإنسان ولكن خطأه لا يتحول إلى خيار نهائي وانحياز إلى معسكر الشيطان، ومن خلال جدلية هذه الحرية المفتوحة على كل الاحتمالات عليه أن يصل في النهاية إلى خيار وحيد ومطلق، بمعونة الله ونعمته.
وبذلك يتخذ معتقد التوحيد طابعا ثنويا على هذه الدرجة من الجذرية أو تلك، تتراوح بين ثنوية مطلقة تعتقد بقيام أصلين للوجود لا أصل واحد، وثنوية أخلاقية يقتصر فيها تناقض الرحمن والشيطان على المجال الأخلاقي والمجتمع الإنساني من دون بقية مظاهر الوجود. هذه المعتقدات سوف تكون موضع بحثنا فيما يأتي من فصول هذا الكتاب، فلقد وجدنا أنها تشكل مجموعة متميزة من تاريخ الدين الإنساني، قاسمها المشترك فكرة الشيطان التي ظهرت لأول مرة في تعاليم زرادشت (حوالي مطلع الألف الأول قبل الميلاد)، ثم تابعت ظهوراتها بتنويعات ومضامين مختلفة خلال أكثر من ألف عام تلت، ودخلت في صميم معتقدات يدين بها اليوم أكثر من نصف سكان المعمورة.
ونحن عندما نتحدث هنا عن الشيطان، وهو مفهوم متأخر نسبيا في تاريخ الدين، فإننا نميز بينه وبين الكائنات الما ورائية الشريرة التي لم يخل منها معتقد ديني قط. فالشيطان ليس كائنا شريرا بل هو المبدأ الكوني للشر، والمصدر الما ورائي الذي يصدر عنه كل شر معاين وجزئي وملموس، إنه يشغل مكان المركز في المعتقدات الثنوية، لا من حيث مكانته النسبية أمام الله، وإنما من حيث تأثيره على المجتمع الإنساني وصيرورة التاريخ، فالتاريخ يستهل بسقوط الإنسان الأول من الفردوس ، وينتهي بيوم الحساب الأخير، وليس الزمن الفاصل بين البداية والنهاية إلا عصر اختبار للإنسانية في مواجهة قوى الشر.
رغم أن المبدأ الكوني للشر سيكون في بؤرة هذه الدراسة، إلا أن مجال البحث سوف يتسع ليشمل ما يمكن أن ندعوه بلاهوت التاريخ، أي الاعتقاد بأن صيرورة الزمن الدنيوي وفعالية الإنسان فيه هما ناتج لتدخل المشيئة الإلهية وتكشف عن القصد الإلهي في عالم البشر والطبيعة والمادة، وبذلك يتحول تقصينا لفكرة الشيطان في معتقد ما إلى تقص أشمل، يطال جوهر هذا المعتقد في مسائل الخلق والتكوين ومراحل الزمن التالية وصولا إلى اليوم الآخر وانقضاء الدهر، فالحياة الثانية: أي تقص لمفهوم ذلك المعتقد عن التاريخ، بداياته وأواسطه ونهاياته، وطبيعة فهمه لله والعالم والإنسان، وللعلاقة بين أركان هذا الثالوث الذي تدور حوله كل الأيديولوجيات الدينية، فبدون الشيطان الذي شبك الشر إلى نسيج العالم الحسن والطيب لم يكن ثمة تاريخ، وبدون ما تلا ظهور الشيطان من صراع بين الخير والشر لم يكن ثمة صيرورة تدفع عجلة الزمن إلى غايته الأخيرة المتمثلة في القضاء على الشر واستعادة خلق الله حسنا وطيبا كما كان عند البدايات.
سوف نخصص الفصل الأول والثاني لتقديم شروحات حول المصطلحات الواردة في عنوان الكتاب، فنعرف بمصطلح الثنوية الكونية في الفصل الأول، وبلاهوت التاريخ أو المفهوم الديني للتاريخ في الفصل الثاني، في الفصل الثالث نتقصى الأصول البعيدة لمفهوم الثنوية الكونية وبذور فكرة الشيطان، والتي وجدناها في الديانة المصرية القديمة وضمن العبادة الأوزيرية بشكل خاص. في الفصل الرابع ندرس الديانة الزرادشتية التي أسست للاهوت الشيطان ولاهوت التاريخ. في بقية الفصول نتابع دراسة الديانات التوحيدية المشرقية، فنستجلي في معتقداتها مفهوم التوحيد وظلاله الثنوية، ومنعكس ذلك على مفهومها للتاريخ بشكل رئيسي. كما سنتوقف عند تيارات روحية ذات صلة بموضوعنا مثل الغنوصية، والأسفار التوراتية المخفية (أو غير القانونية) التي أحدثت ثورة صامتة ضمن الفكر التوراتي الرسمي، ومهدت الطريق أمام المسيحية.
أما بخصوص المنهج، فقد حاولت قدر الإمكان التزام فينومينولوجيا الدين، وهو منهج ظاهراتي وصفي يعتمد وصف الظاهرة الدينية المعنية، وسبر معناها من داخلها، بمعزل عن الأفكار والمواقف الشخصية المسبقة. فالباحث الفينومينولوجي لا يصدر في دراسته عن موقف بعينه، ولا يتعدى وصف ما يتبدى له إلى إصدار حكم قيمة عليه، إنه أقرب إلى المشاهد المتفحص منه إلى القاضي الذي يجد من واجبه التوصل إلى قرار بخصوص ما هو حسن وما هو رديء، استنادا إلى لائحة تشريعية بعينها،
1
إضافة إلى ذلك، فقد عمدت إلى معالجة الموضوعات وترتيب أفكارها داخليا بطريقة تسهل مقارنة بعضها ببعض، رغم أني لم ألجأ إلى المنهج المقارن إلا في الحدود الدنيا وفيما يتعلق ببعض التفاصيل، ولسوف يجد القارئ نفسه في النهاية أمام حصيلة تسلم نفسها للمقارنة دون جهد.
أخيرا، لا بد من بوح شخصي بخصوص دوافع هذه الدراسة وبواعثها، ولماذا الشيطان في هذا الأوان!
في هذه الفترة القاتمة من زمن الإنسان، أن يبدو الشيطان وقد أمسك بزمام العالم، وأن ينمو الشر مثل الفطر في كل تربة وأرض، نحن أحوج ما نكون إلى تقصي طبيعة الشر على كل مستوى، ولعل الابتداء بالرمزية الدينية (وهي اختصاصي على كل حال) تكون فاتحة لمثل هذا التقصي الضروري في أعماق النفس وفي الآفاق، علنا نمسك ببعض الخيوط التي تتحكم بالمستقبل المجهول، الذي تلوح لنا سنواته القريبة المقبلة وكأنها ترف فوق هاوية الجحيم.
حمص
كانون الثاني (يناير)، 2000م
الفصل الأول
الثنوية الكونية
الثنوية الكونية هي معتقد تم تطويره في ارتباط مع معتقد التوحيد، وذلك في المنطقة المشرقية
1
فيما بين أوائل الألف الأول قبل الميلاد وأواسط الألف الأول بعد الميلاد، وقد نشأ معتقد التوحيد عن معتقد «وحدانية العبادة» السابق عليه، والذي يقوم على عبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة التي لا ينكر وجودها. كما نشأت وحدانية العبادة بدورها عن الوثنية التعددية التي تقوم على عبادة مجمع للآلهة مؤلف من مراتبية هرمية للقوى الإلهية، تقدم لها جميعا فروض العبادة، كل بما يناسب مقامه وأهمية القوة الطبيعانية التي يمثلها بالنسبة إلى حياة الجماعة.
يمكن تعريف الثنوية الكونية بأنها المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم والإنسانية نحو نهاية محتومة عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة قبل أن يعدو الشر على الخير، والثانية هي مرحلة امتزاج الخير بالشر، والثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيا على قوى الشر لكي يعود العالم طيبا ونقيا وكاملا كما كان، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني.
وبشكل عام يمكن تقسيم المعتقدات الثنوية من حيث شكلها ومضمونها إلى ثلاث فئات هي: (1) الثنوية المطلقة. (2) الثنوية الجذرية. (3) الثنوية المعتدلة.
تقول الثنوية المطلقة بوجود مبدأين أو أصلين أزليين مستقلين ومتعارضين، لكل منهما عالمه وسلطانه المطلق على ذلك العالم. فعالم للروح وللنور الأزلي، وعالم للمادة وللظلمة الأزلية، ولم يدخل هذان العالمان في صلة مباشرة مع بعضهما إلا عندما عدت الظلمة على النور ودخلت في نسيجه، فكان لا بد من الفصل بينهما مجددا، وهذا هو معتقد المانوية. أما الثنوية الجذرية فتقول بوجود مبدأين متساويين في القيمة النسبية وفي علاقتهما بالوجود، ولكن هذان المبدآن ليسا أزليين بل حادثين ومتولدين عن الإله الأزلي الواحد القديم، وهما في حالة صراع دائم منذ صدورهما، وهذا هو معتقد الزرادشتية. وأما الثنوية المعتدلة فتقول بمبدأ واحد وأصل واحد قديم وأزلي هو إله الأنوار الأعلى، ثم إن هذا الإله الأعلى قد خلق إلها أدنى منه مرتبة قام بدوره بخلق العالم المادي. فالمادة شر بطبيعتها، ولا يمكن للإله الواحد الخير أن يخلق الشر أو يكون مسئولا عن وجوده، وهذا هو أساس المعتقدات الغنوصية على تعدد فرقها واختلاف مذاهبها.
ويشكل المعتقدان المسيحي والإسلامي ثنوية خاصة بهما يمكن أن ندعوها بالثنوية الأخلاقية. ذلك أن التناقض بين الله والشيطان لا يطال كل مظاهر الوجود، وإنما يقتصر على الإنسان والمجتمعات الإنسانية، والشيطان لا سلطة فعلية له إلا على النفس الإنسانية يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله. فالثنوية هنا شكلية لا أساسية، ونحن نطلقها استنادا إلى أن الإنسان هو بؤرة خلق الله، وأن العالم قد خلق من أجله، فهو خليفة الله على الأرض وسيدها. من هنا فإن سلطة الشيطان على الإنسان هي نوع من المشاركة في السلطة على العالم، خصوصا في المعتقد المسيحي، حيث نجد إنجيل يوحنا يدعو الشيطان برئيس هذا العالم (يوحنا، 12: 31) ويدعوه بولس الرسول بإله هذا الدهر (الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة، 4: 4).
ولكي يتضح لنا مفهوم الثنوية بشكل أفضل، لا بد من التمييز بينه وبين مفهوم القطبية الذي لا يتضمن معنى الصراع بقدر ما يتضمن معنى التكامل والتعاون.
فالقطبية هي معتقد يقول بوجود ثنائية أصلية قوامها قطبان متعارضان ومتناقضان في كل شيء، ولكنهما في الوقت نفسه متعاونان ولا قيام لأحدهما بدون الآخر، وعن تناقضهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود المادي والحيوي وبهما تستمر. إن النموذج الأكمل عن معتقد القطبية هو التاوية الصينية التي وضع أسسها الفكرية المعلم لاو تسو في القرن السادس قبل الميلاد. يقول لاو تسو في الكتاب الوحيد المعزو إليه، بوجود مبدأ أزلي قديم يدعى بالتاو، والتاو ليس شخصية إلهية بل هو القاع الكلي للوجود، والحقيقة المطلقة التي يقوم بها كل نسبي، وطبيعة عمله هي أقرب إلى مفهوم القوانين الطبيعية في العلوم الحديثة، والتي تفعل دونما قصد منها أو إرادة عن هذا المبدأ الكلي صدرت قوتان مجردتان، هما قوة ال «يانغ» الموجبة وقوة ال «ين» السالبة، وبدوران هاتين القوتين على بعضهما نشأت «الآلاف المؤلفة» من كل شيء، على حد تعبير المعلم. تمثل قوة اليانغ باللون الأبيض الذي يرمز إلى النور، وقوة الين باللون الأسود الذي يرمز إلى الظلام، ولكن النور والظلام هنا لا يحملان أية دلالة قيمية أو أخلاقية، ولا فضل لواحدهما على الآخر. وبالتالي فإن أحدهما لا يسعى إلى التغلب على الآخر أو إقصائه، لأن مثل هذه الغلبة تعود بالكون إلى حالة ما قبل الوجود، وأفضل ما يوصف به هذان القطبان هو تشبيههما بقطبي المغناطيس.
في الديانات التقليدية للشرق القديم نجد أشكالا من المعتقدات الثنائية التي تنتمي إلى القطبية لا إلى الثنوية، وذلك رغم عنصر الصراع الشكلي بين طرفي هذه الثنائية، والذي هو ناتج من نواتج القص الميثولوجي، ونموذج هذه الثنائيات عبادات الخصب الكنعانية التي مثلت الخصب والجفاف في شخصيتين إلهيتين هما بعل وموت، فالإله بعل هو المتحكم بأسباب الخصب والحياة، والإله موت هو المتحكم بأسباب الجفاف والموت. وتصور الأسطورة الأوغاريتية هذين الإلهين في حالة صراع دائم لا يحسم لصالح واحد منهما، فكلما سقط بعل صريعا بعث بعد فترة إلى الحياة ودعا موت إلى النزال، وكلما وقع موت صريعا قام إلى جولة ثانية وتحدى بعل. فالإلهان والحالة هذه هما ترميز على مستوى الأسطورة لواقع حياة الطبيعة وتناوب الفصول ودورات الخصب والجفاف، وما الصراع الشكلي بينهما إلا من قبيل تناوب قوتي اليانغ والين في التاوية، فهما قطبان في ثنائية طبيعانية لا طرفان في ثنوية كونية، رغم الطابع شبه الكوني لصراعهما، والأهم من ذلك فإن تناقض هذين القطبين لا ينطوي على دلالة أخلاقية، لأن موت ليس مبدأ للشر الأخلاقي ولا حتى كائنا شريرا، والإله بعل ليس مبدأ للخير الأخلاقي، كما أنه ليس لتناقضهما وصراعهما أي أثر على النفس الإنسانية ولا على الأخلاق الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن الإلهين يتمتعان بالمكانة ذاتها في البانثيون الأوغاريتي، وتقدم إليهما فروض العبادة على قدم المساواة.
على أن الإلهين بعل وموت، وأضرابهما في ميثولوجيات الثقافات الأخرى، يمثلان ما يمكن أن ندعوه بالخير الطبيعاني والشر الطبيعاني، فإذا كان الخير هو كل ما يؤدي إلى الصحة والسعادة والحياة، والشر هو كل ما يسبب الألم والشقاء والموت، فإن الآثار الخيرة أو الشريرة قد تكون من مصدر طبيعاني أو من مصدر إنساني، فالفيضانات المدمرة والزلازل والبراكين والأعاصير هي شرور طبيعانية، وأما القتل العمد والاغتصاب والسرقة والظلم والكذب فشرور أخلاقية تنجم عن العلاقات الاجتماعية، وبتعبير آخر فإن الشر الطبيعاني ينجم عن ظواهر فيزيائية بينما ينجم الشر الأخلاقي عن نقائص إنسانية. وبما أن الفكر الميثولوجي يرى في أحداث الطبيعة انعكاسا لعواطف وإرادات إلهية، فقد نسب الخير والشر على مستوى الطبيعة إلى هذا الإله أو ذاك، ولم يعقد صلة بين هذا النوع من الخير والشر والنوع الآخر المنسوب إلى عواطف وإرادات الذوات الإنسانية الواعية. فحركة الطبيعة وما وراءها من فعاليات إلهية، لا تحمل في حد ذاتها أية قيمة أخلاقية، رغم آثارها السلبية أو الإيجابية على عالم البشر. إن صانع الشر على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة حافزا للشر على مستوى الحياة الإنسانية، كما أن صانع الخير على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة راعيا للخير وباعثا له في النفس الإنسانية، لهذا كله فقد بقيت الأخلاق في المعتقدات القديمة شأنا اجتماعيا تحكمه قوانين المجتمعات الداخلية، ولم تتصل بالدين إلا في فترات متأخرة نسبيا من تاريخ الدين، وخصوصا مع ظهور المعتقدات الثنوية التي طابقت بين الخير الطبيعاني والخير الأخلاقي وأرجعتهما إلى مصدر واحد، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالشر الطبيعاني والشر الأخلاقي.
إلا أن المعتقدات الثنوية تختلف في موقفها من هذه المسألة، فالثنوية الزرادشتية تعزو كل شر طبيعاني وأخلاقي إلى الشيطان، وكل خير طبيعاني وأخلاقي إلى الله. والثنوية الغنوصية ترى أن العالم كله شر لأنه ينتمي إلى المادة، وما الخير إلا المعرفة التي تعين الروح الإنسانية على التعرف على أصلها النوراني الأعلى، وبذلك يتم خلاصها واتصالها بأصلها مجددا، وهنا لا تكتسب الأخلاق والسلوك القويم في الحياة أية قيمة خلاصية مباشرة، ولكنها تهيئ النفس في التناسخات المقبلة إلى المعرفة المخلصة. فإذا جئنا إلى الثنوية الأخلاقية وجدناها تعزو الشر والخير الطبيعانيين إلى الله، لأن الشيطان لا يملك سلطانا على مظاهر الكون والطبيعة، وليس ما يبدو من شر على المستوى الطبيعاني إلا تعبيرا عن غضب الله وعقابه، وكذلك ما يبدو من خير، فهو رضى من الله ونعمة على عباده، فالخير والشر الطبيعانيان هما أداتان في يد الخالق يستخدمهما وفق قصد إلهي قد يبدو للناس وقد يخفى عليهم.
لقد صاغت الثنوية عددا من المفاهيم الميتافيزيكية حول طبيعة الألوهة، وأصل العالم، ومبدأ الشر، وصراع القوتين، والمخلص المنتظر، ونهاية الدهر والحياة الأخرى. ولكن هذه التصورات كلها في اعتقادنا تخدم في النهاية مفهوما فلسفيا «وجوديا» يدور حول حرية الفرد في الاختيار: اختيار ما هو عليه واختيار مصيره، وحرية الإنسانية في رسم مستقبلها الذي يسير في خط صاعد أبدا نحو الكمال، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لا يخضع لجبرية الطبيعة، ولا تنجم أفعاله بالضرورة عن حتمية السبب والنتيجة مما يسود في عالم المادة، ذلك أن روحه هي قبس من عالم الروح الأسمى وعالم الحرية الإلهية، وليس شقاؤه في التاريخ إلا اختبارا لصلابة هذه الروح وامتحانا لجدارتها بالحرية ولقدرتها على التغلب على جبرية المادة، ولسوف تسوغ النتائج التي ستنجلي عنها نهاية الزمن كل بؤس التاريخ ووطأته.
الفصل الثاني
المفهوم الديني للتاريخ
إن ثنائية الفكر الديني والفكر العلماني
1
هي ثنائية حديثة نسبيا، ولا تعود في أصولها إلى ما قبل عصر النهضة الأوروبية، ولعل أفضل طريقة لتعريف أحدهما وفهمه هي مقابلته بالآخر وتوصيف الفروق الجذرية بينهما.
ينظر الفكر الديني إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، على أنه مؤلف من مستويين: الأول مادي متبد في كل ما حولنا من مظاهر حية وجامدة، والثاني غيبي يقع وراء المادة وتبدياتها المتنوعة. الأول حادث ومتغير وقابل للفناء، والثاني قديم وثابت وأزلي. الأول واقع في إسار الزمن والتاريخ، والثاني يقع وراء الزمن والتاريخ ولكنه يتدخل فيهما ويحقق مقاصده من خلالهما. ويستتبع ذلك أن معنى تاريخ الكون والإنسان يكمن خارج هذا التاريخ لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ مسير من قبل قدرة علوية توجهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنا وبادية لها آنا آخر.
أما الفكر العلماني فينظر إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، في مستوى واحد هو المستوى المادي المتبدي، فالمادة قائمة بذاتها، أزلية بطبيعتها، وتعمل وفق قوانينها الخاصة، وهذه القوانين كانت قادرة منذ البدء على تشكيل الكون والوصول به إلى صورته الحالية، وعلى توليد الحياة التي توجت بالإنسان وبالوعي الإنساني صانع الحضارة. أي إن الفكر العلماني قد أحل قوانين التطور وأفعال الإنسان، باعتبارها محركا للتاريخ، محل مشيئة وأفعال الألوهة، مستبعدا بذلك وجود غائية أو معنى خارج جدلية التاريخ نفسه.
ينطلق الفكر الديني في تصوره للبدايات من اللحظة التي خرجت عندها الألوهة من كمونها وتجلت في الزمان وفي المكان الدنيويين، مبتدئة فعالياتها في الأزمنة الميثولوجية الأولى، أزمنة الخلق والتكوين، عندما أطلقت الزمان ومدت المكان وتواشجت مع تاريخ الكون وتاريخ الإنسان. فهنا تتحول الألوهة من مفهوم نظري إلى مفهوم عملي، وتتجلى في شخصية ذات إرادة وقصد وفعل، وفي إله يعلن عن نفسه في سياق زمني تاريخي، مبتدئا تاريخا مقدسا يشتمل على فعاليات الألوهة ومنعكساتها في العالم وفي المجتمع الإنساني. وهنالك ثلاثة أنماط لصيرورة هذا التاريخ المقدس في الفكر الديني للثقافات العليا: النمط الأول هو التاريخ المفتوح، حيث يسير الزمان من لحظة البدايات نحو مستقبل مفتوح بلا نهاية. والنمط الثاني هو التاريخ الدوري المتناوب حيث يسير الزمان في دارات مغلقة يتبع بعض بعضا إلى ما لا نهاية، ومع اكتمال كل دارة ينهار الكون القديم ليبتدئ كون جديد مع انطلاق الدارة الثانية. والنمط الثالث هو التاريخ الدينامي الذي يتطور بشكل خطي منذ لحظة الخلق، عبر عدد من المراحل إلى لحظة النهاية حيث ينتهي التاريخ وتنفتح الأبدية، ويتم تحويل العالم القديم، بعد عملية تطهير شاملة إلى حالة من الكمال تليق بخلق الله. هنا تنتهي ثنائيات المقدس والدنيوي، والله والعالم، والروح والمادة، والغيبي والمنظور، والخير والشر، وتذوب أطرافها في وحدة لا ازدواجية فيها إلى الأبد.
يتصل بهذه المفاهيم الثلاثة للتاريخ الديني في الثقافات العليا، ثلاثة أشكال اعتقادية في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم وهي: المعتقد الربوبي، والمعتقد الحلولي «وحدة الوجود»، والمعتقد الألوهي. سوف نتوقف قليلا عند هذه الأشكال الاعتقادية الرئيسية قبل الانتقال إلى شرح المفاهيم الثلاثة للتاريخ. (1) المعتقد الربوبي
يقوم المعتقد الربوبي في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم على الفصل التام بين الألوهة وخلقها، واعتبارهما من طبيعتين مختلفتين لا اتصال بينهما رغم أن واحدهما هو نتاج الآخر. رغم أن الإله (أو الآلهة) قد خلق العالم بجميع مظاهره المادية والحيوية والروحية، إلا أنه مستقل عنه ومفارق له على كل صعيد. ورغم أنه قد أسس، في الزمان الأولي، لجميع أسباب الحضارة الإنسانية ولجميع المؤسسات الاجتماعية الكفيلة بوضع الإنسان على سكة التاريخ، إلا أنه لا يتدخل في مسار هذا التاريخ بشكل منهجي، وليس لديه خطة توجهه وفق مقاصد معينة ونحو أهداف بعيدة مرسومة. كما أنه لا يؤسس لصلة وحي دائم بينه وبين خلقه. قد تتدخل القدرة الإلهية في بعض الأحداث الجسام، أو تعلن عن حضورها في العالم من خلال الكوارث الطبيعانية كالطوفان المدمر أو الأعاصير التي تخرب ما بناه الإنسان، إلا أن مثل هذا التدخل عرضي ولا يسير على خطة محكمة مسبقة. يضاف إلى ذلك أن سلسلة التدخلات لا تنتظم في تتابع يفصح عن رابطة بينها، ولا تنم عن تكشف تدريجي لمقاصد محددة.
وينجم عن مفارقة الألوهة واستقلالها عن خلقها عدم اتصافها بالعدالة، وبالتالي عدم ممارسة هذه العدالة على الأرض وبين الناس، من هنا فإن أعمال الفرد في الحياة الدنيا لا تلقى مكافأة أو عقابا في الحياة الثانية، ولا وجود لبعث أو حساب أو لعالم آخر أفضل من الأول، فالآلهة وحدها هي الخالدة، أما مصير البشر فإلى موت يتبعه وجود شبحي في العالم الأسفل المظلم، الذي تئول إليه كل الأرواح بعد مفارقة أجسادها. إن الخط الصارم الحاد الذي يفصله عن عالم الألوهة يجعل الإنسان أسير شرطه الأرضي، ولا يعطيه أي أمل بتدخل الآلهة من أجل خلاصه وتحويل وجوده إلى مستوى أعلى قريب من وجودها، ناهيك عن انعدام أي فكرة عن تحويل العالم المادي بأكمله إلى حالة أسمى وأرقى من الوجود، من هنا تقوم العلاقة الطقسية بين الإنسان والألوهة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال بين العالمين المتمايزين، فمن خلال الطقس، وخصوصا طقس الذبائح والقرابين، يعمل الإنسان على استرضاء القوى العلوية وحثها على تحقيق أغراضه الدنيوية، واتقاء غضبها غير المفهوم أو المسوغ من وجهة نظره. أما الأخلاق فشأن دنيوي تنظمه الجماعة ولا علاقة له بالآلهة التي لا تتصف بالخير ولا تأبه لتحقيقه بين الناس. (2) المعتقد الحلولي
2
يقف المعتقد الحلولي، أو معتقد وحدة الوجود، على الطرف النقيض من المعتقد الربوبي، ويتميز عنه بتقديمه إرضاء أكثر للنزوع الديني في النفس الإنسانية، لأنه مفهوم صوفي عن العلاقة بين الإله والإنسان يذيب الفوارق بينهما ويجمعها في واحد، فهما من طبيعة واحدة، وما الروح الفردية إلا قبس من روح الله الكلية رغم حجاب الجهل الذي يستر عنها هذه الحقيقة في الحياة الدنيا. وبالمقابل فإن الله ليس شخصية محددة مفارقة للعالم وتمارس تأثيرها عليه عن بعد، بل هو الحقيقة الكلية التي تتمظهر في العالم وتختفي وراءه في آن معا، فكما يظهر الماء تحت أشكال وأسماء متعددة، منها البخار والغيم والجليد والثلج والبرد بينما هو في حقيقة الأمر واحد، كذلك تتحول الألوهة إلى ما لا يحصى من الظواهر المادية والنفوس الحية، مع بقائها في جوهرها واحدة غير مجزأة، وكما صدرت هذه الأجزاء عن الحقيقة الواحدة فإنها تعود إليها وتذوب فيها كما تذوب الأنهار في لجة الغمر العظيم.
إن عدم اتخاذ الألوهة في المعتقد الحلولي قناع إله مشخص يدخل الإنسان معه في علاقة ثنائية من أي نوع، يقود إلى إحلال العرفان الداخلي محل الطقوس والعبادات، حيث العبادة معرفة والطقس انكفاء نحو الداخل في محاولة لتلمس الألوهة في أعماق الذات الفردية، وعندما تفلح النفس، التي تعاين نفسها كذرة مستقلة، في إدراك وهم استقلالها وحقيقة تطابقها مع النفس الكلية، تكون قد حققت الانعتاق وتهيأت للالتحاق بالمطلق العظيم الذي منه قد نشأت. فالخلاص والحالة هذه لا يتم بتدخل قوة علوية مفارقة ولا بنعمة ومنة منها، بل بالكدح الداخلي الذي يؤدي إلى استنارة النفس الغافية.
كما ينجم عن لا شخصانية الألوهة ارتفاعها فوق الخير والشر بمفهومهما الاجتماعي، فالإله ليس الخير المحض ولا يتسم سلوكه بالخير ولا بالشر، من هنا فإن مفهوم العدالة الإلهية غائب عن معتقد الحلول ويجري العقاب والثواب بشكل أوتوماتيكي في الحياة من خلال مبدأ كوني يدعى بمبدأ الكارما، أي: الفعل وجزاؤه، في أبسط أشكاله، ينطوي مبدأ الكارما على أن الوضع الحالي للفرد محكوم بأعماله التي بذلها في حياته السابقة، كما أن أعماله في حياته الراهنة سوف تقرر وضعه في التناسخات المقبلة التي سوف تتتالى إلى ما لا نهاية إذا لم تحقق النفس عرفانها الداخلي وتصل إلى الاستنارة التي تحررها من دورة الميلاد والموت، ورغم أن الأعمال الصالحة هي التي تؤهل صاحبها لتجسد أفضل وأرقى في الحياة التالية، إلا أن هذه الأعمال لا توصل في حد ذاتها إلى التحرر، بل تهيئ النفس لمراحل أعلى وأعلى من العرفان، حتى يحين موعد الإفلات من العالم والالتحاق بالأبدية.
وكما أن الأرواح الفردية أسيرة لدورة التناسخ الحيوية، فإن الكون بكامله أسير أيضا لدورة تناسخ عظمى، كلما ولد كون شاخ وآل إلى الفناء في مياه المطلق العظيم، ليعقبه كون جديد آخر وهكذا إلى ما لا نهاية، وبذلك ينعدم التاريخ ويدور الزمن على نفسه دونما هدف أو غاية. (3) المعتقد الألوهي
يقع المعتقد الألوهي في نقطة الوسط بين المعتقد الربوبي والمعتقد الحلولي، الإله مفارق للعالم من جهة ومتصل به كل الاتصال من جهة ثانية، ذلك أن الحاجات الروحية الدفينة عند الإنسان تتطلب الإحساس بألوهة مشخصة يمكن الدخول معها في علاقة ثنائية، سواء أكانت علاقة الأب بالابن، أو علاقة المحب بالمحبوب أو علاقة السيد بالعبد، وهذه الألوهة رغم مفارقتها واختلافها من حيث الطبيعة مع العالم، إلا أنها حاضرة فيه على الدوام، في كل هبة ريح وفي تفتح كل زهرة وفي تنفس كل كائن حي. يقول محي الدين بن عربي: «وأما أهل الكشف فإنهم يرون أن الله يتجلى في كل نفس ولا يكرر التجلي، ويرون أيضا أن كل تجل يعطي خلقا جديدا ويذهب بخلق.»
3
وأيضا: «فالحق خلاق على الدوام، والعالم مفتقر إليه على الدوام افتقارا ذاتيا.»
4
إن الله في حالة انغماس دائم بمسائل العالم ويبذل عناية لا تني من أجل تطويره في الزمن، وفي التاريخ، نحو غاية منظورة ومشتركة بينه وبين خلقه، رغم كونه خارج التاريخ، فمن خلال فعاليات الآلهة في الزمن وفي التاريخ تتخذ الألوهة وجه الإله المشخص، ومن خلال محافظتها على موقعها المفارق خارج التاريخ تحافظ الألوهة على طبيعتها الغفلة غير المشخصة مما تؤمن به عقيدة الحلول.
يستدعي اتصال الله بالعالم تحويل مفهوم العدالة الأوتوماتيكي الذي يعمل من خلال مبدأ الكارما في المعتقد الحلولي، إلى صفة من صفات الله، فالله عادل، وكما تتجلى عدالته على المستوى الكوني في النظام المتوازن الدقيق الذي يحكم عالم المادة والطبيعة، كذلك تتجلى في النظام الأخلاقي الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات، هذه العدالة هي أهم التجليات العملية لصفة الخير عند الله، فالله خير، بل هو الخير المطلق على ما تنص عليه الآية الكريمة من القرآن:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
وتؤدي عدالة الله وخيره إلى مطلبه الأساسي من الناس الالتزام بحياة أخلاقية قوامها المحبة والعمل الصالح يبذله الإنسان تجاه أخيه. قال يسوع: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبا الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... إن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك ... سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ... لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك أيضا.» (متى: 5) كما أن مطلب الحياة الأخلاقية الناشئ عن خير الله وعدله، يستدعي بدوره الثواب والعقاب سواء عند نهاية حياة الفرد أم مع نهاية الزمن والبعث العام والحساب الأخير.
وبذلك تقوم الصلة بين الله والناس في المعتقد الألوهي، على ثلاثة عناصر هي الإيمان والأخلاق والعبادات. كما أن العبادات وما يتصل بها من طقوس ليست وسيلة لاتقاء غضب السماء أو نيل مكاسب دنيوية منها، أو لحاجة الألوهة إليها، كما هو الحال في المعتقد الربوبي، لأن «الله غني عن العالمين» وعدالته الثابتة لا تحرفها عن مسارها طقوس شكلية، بل إن العبادات والشعائر هي وسيلة اتصال دائم، وتلمس للحضور الإلهي في العالم، ورغم أهمية هذه العناصر الثلاثة مجتمعة على طبيعة الصلة بين الله وخلقه، وأثرها على خلاص الإنسان، إلا أن الخلاص في النهاية يبقى رهنا بالنعمة الإلهية والمنة العلوية، فالله يمن على العالم بالخلاص وهو ملتزم به.
ننتقل الآن إلى معالجة الرؤية الدينية للتاريخ في صلتها بالأنماط الاعتقادية للثقافات العليا، من خلال ثلاثة نماذج رئيسية. (4) المعتقد الربوبي والتاريخ المفتوح (4-1) بلاد الرافدين نموذجا
تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث تستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة: المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شئون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البشر المفتوح على اللانهاية.
يرسم لنا مطلع أسطورة التكوين البابلية صورة شديدة التأثير عن مرحلة السرمدية الساكنة. قبل ظهور المكان وانطلاق الزمان، كانت دارة الألوهة المنغلقة على نفسها تنطوي على ثلاثة جواهر مائية غير متمايزة هي: تعامة الأم وآبسو الأب وممو الابن، وعلى حد تعبير النص:
عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض،
لم يكن سوى آبسو وممو وتعامة
يمزجون أمواههم معا.
وهنا يقول الكاهن البابلي برغوشا الذي ألف كتابا باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد عن تاريخ البابلين ومعتقداتهم، إن تعامة هي الماء المالح وآبسو هو الماء الحلو، ولكنه يصمت عن ممو، الذي نرجح مع بعض الباحثين الآخرين أن يكون الضباب المنتشر فوقهما. ونلاحظ هنا أن في اختيار النص للماء كجوهر لهذه الآلهة البدئية، توكيدا على الحالة العمائية والشواشية السابقة على الكون المنظم، فالماء هو أكثر العناصر تمثيلا لما لا شكل له ولا نظام، إنه اللاشكل واللانظام بكل امتياز، والهيولى السابقة على ظهور التحديدات والتقسيمات والأبعاد التي تميز الكون. وهكذا تقوم ثنائية: كون-عماء، أو كوزموس-كايوس بالمصطلح الإغريقي عند جذور الزمن، وتستمر عبر تاريخ الكون اللاحق في الفكر الميثولوجي الذي يتصور قوى العماء والفوضى في حالة تأهب دائم للانقضاض على الكون والعودة به إلى المحيط المائي الشواشي الذي نشأ عنه.
بعد ذلك تبدأ إرهاصات الزمن عندما أنجب الآلهة الثلاثة الجيل الأول من الآلهة، وأنجب هذا الجيل بدوره الجيل الثاني، الذي خرج منه الإله مردوخ فقاد الصراع ضد الآلهة البدئية وقهرها، ومن جسد الأم الأولى تعامة صنع السماء والأرض وبقية مظاهر الكون، ثم التفت بعد ذلك إلى تنظيم العالم والحياة الطبيعية، فخلق الغيوم وحملها بالمطر، وفجر عيون الماء وملأ الآبار، وأنبت من الأرض عشبا وشجرا، وأوكل إله الشمس بالأيام ففصل بين تخوم الليل وتخوم النهار، وأخرج القمر فسطع بنوره وأوكله بالليل وجعله حلية له وزينة، ثم توج فعالياته المبدعة هذه بخلق الإنسان.
تتابع بقية أساطير التكوين والأصول البابلية إعطاءنا مزيدا من التفاصيل عن مرحلة الأصول، فلقد ابتدر الآلهة في هذه المرحلة كل أصول التحضر على الأرض، فصنعوا القنوات والسدود، وأجروا المياه في السواقي والأنهار، ورووا الأرض وحولوها إلى مراع وحقول للقمح ومساكب للبستنة، وعمدوا إلى تربية الماشية وحلبوها فصنعوا اللبن والزبدة والجبن، وابتكروا الفأس والمعول وقوالب الآجر فاستخدموها في بناء المدن والمعابد الأولى، وعندما أسلموا ذلك كله للإنسان فيما بعد، عملوا على تأصيل مؤسساته الاجتماعية مثل الأسرة والكهنوت والملوكية، وباختصار فإن الإله لا الإنسان هو صانع الحضارة على الأرض.
وكان الآلهة في زمن الأصول هذا يكدون ويعملون من أجل تحصيل قوتهم، حتى بلغ بهم التعب والإرهاق حدا لا يحتمل، فتنادوا إلى خلق الإنسان ليحمل عنهم عبء العمل ويركنوا هم للراحة. ولدينا عدة نصوص تروي عن خلق الإنسان من أجل خدمة الآلهة. نقرأ في نص سومري أن الآلهة في بداية عهدهم لم يعرفوا أكل الخبز ولا لبس الثياب، بل كانوا يأكلون النباتات بأفواههم مثل الحيوانات، ويشربون الماء من الينابيع والجداول، ثم أوكلوا بعد ذلك مهمة تأمين الغذاء لهم إلى الإله لهار وأخته أشنان، فكان لهار يكثر المواشي ومنتجاتها على الأرض، وأشنان تزيد في غلال الأرض ومحاصيلها، ولكن منتجات هذين الإلهين لم تسد جوع الآلهة، فعمدوا إلى خلق الإنسان ليكفيهم غائلة الجوع والعطش.
5
ولدينا نص بابلي يحكي باختصار شديد عن قصة التكوين وزمن الأصول وخلق الإنسان وهذه قراءته: «بعد أن أخرجت الأرض وشكلت، وحددت مصائر الأرض والسماء، واستقرت شطآن دجلة والفرات، عندها جلس الآلهة الكبار آنو وإنليل وإيا وبقية الآلهة المبجلين، جلسوا جميعا في مجمعهم المقدس واستعادوا ما قاموا به من أعمال، فقال إنليل: أما وقد حددنا مصائر الأرض والسماء، وجرت القنوات في مجاريها وتوضعت الخنادق، واستقرت شطآن دجلة والفرات. ماذا بقي علينا أن نفعل؟ ماذا نستطيع بعد أن نخلق؟ فأجاب الحضور من الآلهة المبجلين، بقسميهما الأنوناكي والإيجيجي، أجابوا إنليل قائلين: لنذبح بعض آلهة اللامجا، ومن دمائهم فلنخلق الإنسان ونوكله بخدمة الآلهة على مر الأزمان، سنضع في يده السلة والمعول، فيبني للآلهة العظام هياكل مقدسة تليق بهم، سيسقي الأرض بأقاليمها الأربعة ويخرج من جوفها الخيرات، جاعلا حقول الأنوناكي تنتج غلالا وفيرة، سينضح الماء العذب ويحتفل بأعياد الآلهة ... إلخ.»
6
وفي ملحمة أتراحاسيس البابلية يتخذ تذمر الآلهة من العمل شكل تمرد وعصيان على الآلهة الكبرى السبعة التي كانت تفرض الكدح على البقية، وتلزم مساكنها في دعة وراحة بال، نقرأ في مطلع النص: «حملوا العبء، عانوا المشقة. تعب الآلهة عظيم، العمل ثقيل، الشقاء شديد. آلهة الأنوناكي العظيمة السبعة، كانت تحمل آلهة الإيجيجي العمل، القنوات حفروا، لاستمرار حياة الأرض، الأنهار حفروا، لاستمرار حياة الأرض، حفروا نهر دجلة، ثم حفروا نهر الفرات، فجروا الينابيع من العمق، لاستمرار حياة البلاد، تحملوا العمل ليل نهار، أحصوا سنوات التعب فزادت عن أربعين عاما، صاحوا من الحفرة: الآن أعلنوا الحرب. لنمزج الحقد بالمعركة ... صبوا على أدواتهم نارا وعلى رفوشهم، سلالهم رموها إلى إله النار، وساروا نحو باب البطل إنليل، حاصروا البيت والإله لم يعلم.»
7
عندما وصل الخبر إلى إنليل، أمر بإغلاق الأبواب والاستعداد للدفاع عن قصره، ثم عقد اجتماعا للآلهة العليا تدارسوا خلاله الأمر، وأوفدوا الإله نسكو لمعرفة دوافع المتمردين وتحديد المسئول عن الشغب، فخاطبهم نسكو قائلا: «أرسلني أبوكم آنو، ومشيركم البطل إنليل ، وحاجبكم ننورتا وكبيركم إنوجي . من الذي يحرض على المعركة؟ من يثير العدوان؟ ومن أشعل الحرب؟ أجابوه: جميعنا أعلن الحرب، كل الآلهة أعلنت الحرب؛ لبثنا طويلا في الحفرة، العناء الشديد قتلنا، شاق عملنا وعظيم كربنا، والكل، كل الآلهة أيدتنا»، نقل نسكو إلى إنليل ما دار بينه وبين المتمردين، فتأثر إنليل حتى دمعت عيناه، ثم تداول مع بقية الآلهة العظمى في كيفية إنصاف الآلهة المكدودة، وقرروا في النهاية خلق الإنسان ليحرر الآلهة من العمل ويخدمهم، فخلق الإنسان من طين معجون بدم إله قتيل قدم لهذه الغاية، وقامت بهذه المهمة الإلهة مامي، ربة الولادة الملقبة بسيدة الآلهة، بالتعاون مع إنكي إله الماء.
وفي المقطع الخاص بخلق الإنسان في الإينوما إيليش، يزف مردوخ للآلهة خبر بنائه لمدينة بابل ولمعبدها الكبير الذي سيكون معدا لهم: «سيكون مفتوحا لاستقبالكم وبه تبيتون، أو تهبطون من السماء للاجتماع، سأدعو اسمه بابل، أي بيت الآلهة الكبرى، وسينهض لبنائه أمهر البنائين ... لما انتهى آباؤه من سماع كلامه، توجهوا بالسؤال لبكرهم مردوخ: بعد كل ما صنعت يداك، لمن ستوكل سلطانك؟ فوق الأرض التي ابتكرتها يداك لمن ستوكل حكمك؟ لسماعه حديث الآلهة حفزه قلبه لخلق مبدع، فأسر للآلهة بما يعتمل في نفسه وأطلعهم على ما عقد عليه العزم: سأخلق دماء وعظاما، منها سأشكل الإنسان لالو. نعم، سوف أخلق لالو الإنسان وسنفرض عليه خدمة الآلهة فيخلدون إلى الراحة، قال إيا مبديا رأيه: ليقوموا بتسليم أحدهم فيقتل ومنه تصنع الإنسان، ليجتمع كبار الآلهة هنا ويسلموا إلينا الإله المذنب من أجل راحة الباقين. قام مردوخ بدعوة الآلهة الكبار وقال لهم: أريد منكم قول الصدق وقسمي لكم ضمان، من الذي خلق النزاع؟ من دفع تعامة وحرض على القتال؟ سلموا لي من خلق النزاع ليلقى جزاه وتخلدون إلى الراحة. فأجابه الآلهة: إنه كينغو الذي خلق النزاع ودفع تعامة وحرض على القتال، ثم قيدوه ووضعوه أمام إيا، أنزلوا به العقاب، قطعوا شرايين دمائه، ومن دمائه جرى خلق البشر، ففرض إيا عليهم العمل وحرر الآلهة.»
8
على هذا النحو ينتهي زمن الأصول ويبدأ زمن الإنسان، وعلى هذا النحو ترسم الأسطورة الرافدينية أصل الإنسان وتحدد علاقته بعالم الآلهة ودوره في الحياة، لقد خلق منذ البداية لغرض واحد هو خدمة الآلهة ورفع عبء العمل عنها، والعلاقة بين الطرفين كانت وتبقى أبدا علاقة السيد بالعبد، الآلهة خالدة، وأما الإنسان ففان، والخط الفاصل بين العالمين حاد وحاسم، لا يعطي أملا للإنسان حتى بمجرد التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي، والالتحاق بالعوالم القدسية بعد فناء جسده وانتهاء كدحه على الأرض، أو بتبديل عالمه وتحويله إلى عالم أفضل، ولذا فإن أفضل ما يصبو إليه هو اللذائذ الحياتية الصغيرة، خلال عمر قصير ينتهي به إلى العالم الأسفل. وهذا ما عبر عنه نص ملحمة جلجامش من خلال حديث فتاة الحان التي قالت لجلجامش الباحث عن الخلود: «إلى أين تمضي يا جلجامش؟ وإلى أين تسعى بك القدم؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، لأن الآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيبا وحبست في أيديها الحياة. وأما أنت يا جلجامش فاملأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك، اجعل من كل يوم عيدا، وارقص لاهيا في الليل والنهار، اخطر بثياب نظيفة زاهية، اغسل رأسك واستحم بالمياه، دلل صغيرك الذي يمسك بيدك، أسعد زوجك بين أحضانك، هذا هو نصيب البشر.»
9
في ظل مثل هذه العلاقة، تبقى الرابطة الوحيدة بين الأرض والسماء هي رابطة الشعائر والطقوس، فالآلهة لا تتصف بالعدالة ولا بالخير، وكل ما تسعى إليه هو عبادة الإنسان وقرابينه التي يقدمها إليها، ومن خلال الشعائر والقرابين يستطيع استمالتها وحثها على اتخاذ مواقف إيجابية منه. نقرأ في ملحمة أتراحاسيس البابلية أن القحط قد حل في البلاد حتى عم الجوع وهلك الناس، فالتمس الحكيم أتراحاسيس وجه ربه إيا، الذي نصحه بتقديم القرابين وفروض العبادة لأداد إله المطر وحده، من دون بقية الآلهة، عله يخجل من هدية الإنسان: «لا تخشوا آلهتكم، لا تصلوا لعشتاركم، فقط التمسوا باب أداد، أحضروا الخبز أمامه، عسى أن يمطر الندى خلسة في المساء ليحمل الحقل الحبوب.» نقل أتراحاسيس نصيحة إيا إلى قومه فعملوا بها: «بنوا بيتا للإله إيا، أحضروا الخبز أمامه، أسعده قربان الدقيق، خجل من الهدية فكف يده، في الصباح أرسل ضبابا وخلسة في المساء أمطر الندى، خلسة حمل الحقل الحبوب، غادرهم القحط وعادوا إلى أعمالهم.»
10
ومع ذلك فإن خدمة الآلهة والضراعة إليها في كل حين وتقديم القرابين لا تؤدي بالضرورة إلى حصول الإنسان على بغيته منها، لأن مشيئتها خافية على البشر، قد ترفع بواحد من الناس إلى أرفع مقام وتهوي بالآخر إلى الحضيض دونما سبب واضح. نقرأ في نص بابلي معروف بعنوان «صلاة إلى جميع الآلهة» ضراعة لإنسان متألم غضبت عليه الآلهة وتسببت في مرضه بغير جريرة أو ذنب، ولذا فإنه يعترف هنا بذنوب لم يرتكبها: «ليهدأ قلب إلهي الغاضب علي، وليرض عني الإله الذي أعرف والإله الذي لا أعرف. بجهل مني أكلت طعاما حرمه إلهي، بجهل مني وطئت مكانا حرمته إلهتي. يا ربي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة، ويا ربتي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة. إني جاهل حقا بما اقترفته من ذنوب وإني جاهل حقا بما ارتكبته من معاص، ولكن الإله نظر إلي بقلب غاضب، وإلهتي في غضبها تسببت في مرضي. الإنسان مخلوق قاصر التفكير، لا يدري متى يجني حسنة ولا متى يصنع إثما.»
11
ومن نص بابلي طويل معروف بعنوان «سأثني على درب الحكمة» أقتطف هذه السطور: «رفعت دعائي إلى إلهي فأشاح بوجهه عني، صليت إلى إلهتي فلم تلتفت بوجهها إلي. لقد صرت كمن لم يقدم لإلهه قربانا، وصرت كمن لم يشكر إلهته عند كل طعام، صرت كمن فقد صوابه ونسي ربه، وكمن حلف قسما عظما بإلهه كاذبا. ولكن ما يبدو للإنسان حسنا قد يكون في عين إلهه رديئا، وهل يعرف أحد مشيئة الآلهة في السماء؟ هل يعرف أحد خطط الآلهة على الأرض؟»
12
والآلهة الرافدينية تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور الإنسان التنبؤ بردود أفعالها لأنها لا تلتزم القواعد الأخلاقية ولا تجعل من سلوكها قدوة في هذا المجال لبني البشر، وغالبا ما اتسمت مواقفها بالفطرية ورد الفعل الآني والبعد عن الإحساس بالمسئولية ، ففي أسطورة الطوفان البابلية يقرر مجمع الآلهة تدمير شوريباك وبقية المدن الإنسانية الأولى بغير سبب أو جريرة. نقرأ في مطلع القصة كما وردت في ملحمة جلجامش: «قال أوتنابشتيم لجلجامش: سأكشف لك أمرا كان مخبوءا، وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة، شوريباك مدينة أنت تعرفها، لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانا، كان بينهم آنو أبوهم، وإنليل مستشارهم، وننورتا ممثلهم، وإينوجي وزيرهم، وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرا أيضا.» وفي النص السومري المعروف بعنوان «هلاك مدينة أور» يتخذ مجمع الآلهة برئاسة إنليل قرارا بتدمير مدينة أور وإهلاك أهلها، قدرا من السماء وأمرا مقضيا، يبتدئ النص ببكائية للإلهة ننجال إلهة مدينة أور تندب فيها مدينتها، ثم نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن أور وتستعطف مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم «... ثم توجهت بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه، بينما كان آلهة الأنوناكي جلوسا يتعاهدون. جرجرت قدمي، فتحت ذراعي، ذرفت الدموع أمام الإله آن، بكيت بحرقة أمام الإله إنليل، قلت لهما: عسى أور لا تدمر، عسى مدينتي أور لا تدمر قلت لهما. ولكن آن لم يعط دعائي أذنا، وإنليل لم يثلج صدري بكلمة، بل أصدرا الأمر بهلاك المدينة، أصدرا الأمر بهلاك أور، وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.»
13
ويتضح موقف الألوهة المتناقض والمتناوس بين الخير والشر، بشكل خاص في شخصية وأفعال الإله إنليل رئيس البانثيون الرافديني، ففي ملحمة أتراحاسيس، وبعد خلق الإنسان لخدمة الآلهة، يتكاثر البشر وتكثر ضوضاؤهم التي تقض مضجع إنليل وتحرمه الرقاد، فيضع خطة شريرة لإنقاص عددهم حتى يخلد إلى الراحة: «لم يمض ألف ومئتا عام، توسعت الأرض كثر الناس، الأرض تخور كثور هائج، اضطرب الآلهة من ضجيجهم. إنليل سمع ضوضاءهم، قال للآلهة الكبرى: ضجة البشر ثقلت علي، من ضجتهم أفتقد الرقاد، اقطعوا المئونة عن الناس، لجوعهم ليقل الزرع، ليكف الإله أداد مطره عنهم، عسى ألا يخرج فيض من الأعماق. لتعصف الرياح، ولتجف الأرض، ليقلل الحقل غلته، لتحجب نيسابا إلهة الغلال والمحاصيل صدرها الخصب، عسى ألا يصل الفرح إليهم. يا ليتني أخرب الأرض.» قام الآلهة بتنفيذ أوامر إنكي، لم ينزل المطر من الأعلى ولم يفض ماء الينابيع من الأسفل، أغلق رحم الأرض، يبس الزرع والحقول السود ابيضت، الأرض الواسعة ملئت ملحا ومرض الطاعون تفشى، ثم يتابع النص: «سنة واحدة أكلوا العشب، سنة ثانية علتهم الحكة، في السنة الثالثة تغيرت هيئاتهم من الجوع، عاشوا الحياة في عذاب، خضراء بدت وجوههم، بانحناء يمشون في الشار، أكتافهم العريضة ضاقت، أرجلهم الطويلة قصرت.»
14
وعندما لم تنفع كل هذه الأساليب في إنقاص عدد الناس قرر إنليل إرسال طوفان عظيم يفنيهم عن آخرهم، وأقنع مجمع الآلهة بالموافقة على القرار، عدا الإله إنكي الذي نقل الخبر إلى حكيم القوم أتراحاسيس وأمره ببناء سفينة وفق مخطط معين، ليحمل عليها أهله وما يستطيع إنقاذه من حيوان البر وطير السماء، من أجل استمرار الحياة الجديدة بعد الطوفان.
ومع ذلك فإن الجانب الخير في شخصية إنليل يطغى على جوانبه الغضوبة المدمرة، في أحيان كثيرة، نقرأ هذه المنتخبات من ترتيلة سومرية طويلة في مدح الإله: «لولا إنليل الجبل العظيم، لم تبن المدن ولا القرى، ولم يفض البحر بكنوزه الوفيرة، ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب، ولم تصنع طيور الجو أعشاشها. لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة في السماء أفواهها، ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب، ولم تطلع الحشائش والأعشاب بهية في الوادي، ولم تحمل الأشجار في البساتين ثمرها. لولا إنليل الجبل العظيم لم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل، ولم يكن لغنمة أن تنجب حملها في الحظيرة. إن أعمالك البارعة تثير الروع، ومراميها عصية كخيط متشابك لا يمكن فكه.»
15
إن عدم توصل الألوهة إلى حسم مسألة الخير والشر في شخصيتها وسلوكها، ينعكس على علاقتها بعالم الإنسان والمجتمعات البشرية، فالآلهة الرافدينية لم تكن أخلاقية من جهة ولم تستن لعبادها شرائع أخلاقية يتبعونها، بل لقد ترك المجتمع الرافديني يسير شئونه الاجتماعية بنفسه، ويتعامل أفراده وفق اللوائح الأخلاقية المتعارف عليها والمؤسسة منذ القدم، وقد كان حكماء المجتمع يعيدون صقل هذه اللوائح والتذكير بها في كل مناسبة، وهذا ما تطلعنا عليه نصوص الحكم والوصايا التي وصلنا منها العديد، وأهم ما يميز نصوص الحكمة الرافدينية أنها لم تكن تجري على لسان كهان مرسومين ينطقونها وحيا من السماء، بل على لسان حكماء صالحين خبروا الحياة وأفادوا من عبرها، وعرفوا مسالك الحق والباطل، ولم يكن لينتقص من قيمة لوائح الأخلاق الاجتماعية ووصايا حكماء الحياة الدنيا كون هذه اللوائح والوصايا ذات طبيعة دنيوية لا سماوية، وأن مؤيداتها تأتي من ضمير الجماعة لا من مشيئة الآلهة. لا أدل على ذلك مما نلمسه من الحساسية الخلقية العالية للإنسان الرافديني وسيادة القانون الأخلاقي الوضعي على علاقات الأفراد والجماعات، يضاف إلى ذلك ما نشأ من تشريعات زمنية رافدينية راقية منذ أواخر العصر السومري، بنيت على القانون الأخلاقي القديم وزادت في تشعيبه ووسعت من مجالاته. ولقد استمر الفصل بين الدين والأخلاق منذ البدايات الأولى للحضارة الرافدينية وحتى نهايتها، وبقي السلوك الديني للأفراد وسلوكهم الأخلاقي بمثابة خطين متوازيين لا يتداخلان ولا يلتقيان. تشترك الحضارة الرافدينية في هذه النظرة إلى الأخلاق مع الحضارة الإغريقية، وبقية الحضارات التي تقوم معتقداتها الدينية على المفهوم الربوبي، وتنظر إلى التاريخ باعتباره سيالة مفتوحة على اللانهاية، وذلك على عكس حضارات أخرى طورت تدريجيا مفهوما دينيا للأخلاق، مثل الحضارة المصرية التي سنقف مطولا عند معتقداتها الدينية في فصل قادم.
ويتصل بمفهوم الخير عند الآلهة مفهوم العدالة، فإذا كانت الآلهة لا تقيم وزنا للخير في سلوكها مع الإنسان، ولا تطلب منه بذل الخير كعنصر لازم في العلاقة بينهما، فإنها بالتالي ليست معنية بالخير يبذله الفرد تجاه أخيه ومجتمعه أو بالشر يفعله بهم، طالما أنه ملتزم بالصيغة الطقسية الشعائرية التي من خلالها وحدها يتم الجمع بين الإنسان وإلهه، كما أنها ليست معنية بثواب الإنسان وعقابه على أعماله، وفق مرجعية أخلاقية سماوية، ناهيك عن عنايتها بخلاصه إلى عالم آخر يعوضه عن بؤس التاريخ وشقائه، وبما أنه لا يوجد إلا هذا العالم، وما من خطة هناك لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى عالم أسمى وأرقى، فإن تاريخ الإنسان مفتوح ودونما نهاية منظورة، أما تاريخ الفرد فمغلق حيث ينتقل بعد الموت وشقاء الحياة إلى عالم الظلمات السفلي حيث تعيش الأرواح وجودا شبحيا ظليا لا معنى له ولا نكهة، لا فرق في ذلك بين أمير وفقير وبين من قدم حسنة ومن قدم سيئة، رغم أن اتباع طقوس الدفن الصحيحة وتقديم القرابين الدورية عند القبور لراحة أرواح الموتى قد تخفف من معاناتها هناك. نقرأ في أكثر من نص بابلي عن أحوال العالم الأسفل وأهله، ومنها ما تنقله لنا ملحمة جلجامش على لسان إنكيدو الذي يحتضر على فراش الموت ويرى أحوال ذلك العالم بأحلامه، لقد جاءه قابض الأرواح واقتاده إلى هناك: «ظهر أمامي رجل معتم الوجه، وجهه كوجه طائر الزو ومخالبه كمخالب العقاب، أمسك بخصلات شعري فتمكن مني، قام بتحويل شكلي فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور، غاص بي وقادني إلى بيت الظلام مسكن الإلهة إرجالا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها، إلى درب لا يرجع بصاحبه من حيث أتي، إلى مكان لا يرى أهله نورا وفي الظلمة يعمهون، التراب طعام لهم والطين معاش، لباسهم كالطير أجنحة من ريش، وفي بيت التراب حيث دخلت رأيت الملوك وقد نزعت تيجانها، تلك التيجان التي حكمت البلاد ومنذ القدم ...»
16
وهنا أريد التوقف قليلا عند مقطع من ملحمة جلجامش جرى تفسيره أحيانا على أنه يقدم دليلا على وجود مفهوم كوني للشر في الدين الرافديني، أو على الأقل وجود بذور لمثل هذه الفكرة بشكلها الجنيني، فعندما كان جلجامش يتشاور مع صديقه إنكيدو في موضوع رحلة غابة الأرز يقول له: «في الغابة هناك يعيش حواوا الرهيب. هيا أنا وأنت نقتله، هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.» وقبل أن يشرع في رحلته يزور أمه ننسون راجيا بركتها: «إلى اليوم الذي به أعود، إلى أن أصل غابة الأرز، إلى أن أقتل حواوا الرهيب فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه الإله شمش، صلي من أجلي إلى شمش.»
استنادا إلى هذين المقطعين، وما تلاهما من مشاهد مغامرة غابة الأرز التي انتهت بقتل حواوا الوحش الرهيب حارس الغابة، يرى بعض المفسرين في حواوا رمزا لمبدأ الشر المجرد وفي الإله شمش رمزا لمبدأ الخير المجرد، وهذا في واقع الأمر بعيد كل البعد عن العقلية الدينية والفلسفية البابلية التي لم تتوصل إلى مثل هذا التجريد قط، ودليلنا على ذلك هو المدلول الحرفي الدقيق لكلمة «الشر» الواردة هنا وهي بالأكادية «ميما-ليمنو». فالكلمة تشير إلى كل ما هو مؤلم ومؤذ وغير موات لحياة وسعادة الإنسان، ولا يوجد ما يدل على استخدامها للدلالة على الشر الأخلاقي.
17
نقرأ على سبيل المثال في نص تعويذة بابلية مخصصة لاستنهاض أرواح الأسلاف من أجل شفاء المريض: «أقف اليوم في حضرة جلجامش وشمش: احكما في قضيتي، أصدرا قرارا بحقي، انزعا ما في لحمي وعظمي من ميما - ليمنو.»
18
وفي تعويذة أخرى تستنهض روح جلجامش باعتباره أحد الأسلاف العظام الصالحين: «لقد تمكن في المرض، فاحكم في قضيتي، إني أركع أمامك، فأصدر قرارا بحقي، انزع المرض من جسدي خذ عني الميما-ليمنو الذي يهدد حياتي، خذ عني المرض الذي يعشعش في لحمي وعظمي وأوصالي.»
19
إن الشر المقصود في هاتين التعويذتين هو الألم والمرض، ومرتل التعويذة يستنهض روح جلجامش الذي أجهز على واحد من ممثلي هذا النوع من الشر الذي يكرهه شمش على حد تعبير نص الملحمة، وهو النوع الذي وصفناه في موضع سابق بالشر الطبيعاني تمييزا له عن الشر بالمعنى الأخلاقي الاجتماعي.
وكان لمثل هذا الشر الطبيعاني ممثلون يجسدونه في مجمع الآلهة الرافدينية، فإلى جانب آلهة البانثيون الرئيسية التي تميز سلوكها بالتناقض حيال الخير والشر، فإننا نجد آلهة أخرى موكلة بشئون الشر الطبيعاني وخصوصا ما تعلق منه بحياة الإنسان من ألم ومرض وموت، وهذه الآلهة تنتمي إلى قوى الظلام والعالم الأسفل، فهناك إريشكيجال ربة العالم الأسفل التي تعمل على ملء مملكتها من الناس أجمعين، وزوجها نرجال الذي كان يرسل عفاريت الظلام لتجوس في الأرض وتؤذي الناس خلال الليل، ونرجال هذا هو مظهر من مظاهر الإله شمش، الذي يغيب في باطن الأرض جهة المغرب ليسير في العالم الأسفل نحو المشرق فيطلع في اليوم الثاني. إنه الشمس السوداء في مقابل الشمس المنيرة البيضاء، ويمثل الجانب الأشأم من فعاليات إله الشمس حيث يتسبب بالحروب والخراب والطوفانات والأوبئة، وهناك نمتار رسول إريشكيجال وصلة الوصل بينها وبين آلهة العالم الأعلى، وكان يلعب دور ملاك الموت قابض الأرواح، يعاونه في ذلك سبعة عفاريت تحف به في غدوه ورواحه. وهناك إيرا إله الطاعون والأوبئة الفتاكة التي تحصد الناس بالآلاف، يصعد من العالم الأسفل وهو يجر وراءه ستين مرضا وعلة يطلقها على من يشاء من الناس. وهناك ليليث شيطانة القفار الجميلة التي تمثلها الأعمال الفنية على هيئة امرأة عارية لها جناحان ومخالب الطير الكاسر، وكانت تخطف الأطفال الرضع عن صدر أمهاتهم. إن هذه الكائنات الما ورائية المرعبة ليست كائنات أخلاقية انحازت إلى جانب الشر عن خيار ووعي، بل هي تجسيد على المستوى الميثولوجي لوجود الشرور الطبيعانية في معزل عن الحكم القيمي الأخلاقي، وضمن عقيدة دينية لم تتوصل إلى مفهوم للخير والشر باعتبارهما مبدأين كونيين مجردين.
خلاصة
لقد قاد هذا التصور الديني للعلاقة بين أركان الثالوث الأساسي في الوجود وهي: الإله - الكون - الإنسان، إلى تصور للزمن على أنه سيالة متدفقة أبدا من لحظ الخلق وحتى آفاق غير منظورة في الأبدية، وإلى تصور لتاريخ الإنسان على أنه سلسلة من الأحداث المتكررة المتشابهة التي تتتابع في حركة خطية، لا تنبئ عن معنى ولا تهدف إلى غاية. سيبقى هنالك بشر طالما بقي هنالك آلهة، وسيبقى هؤلاء البشر أسرى الشرط الأولي الذي أحاط بخلقهم. جيل يمضي وجيل يأتي، والشمس تشرق كل يوم وتسرع إلى مغربها، على حد قول كاتب سفر الجامعة في التوراة، والذي يعبر أبلغ تعبير عن مفهوم الربوبية والتاريخ المفتوح: «الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة ... من كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، ليس تحت الشمس من جديد. إن وجد شيء جديد يقال عندها: انظر هذا جديد، ولكنه منذ زمان كان، في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين، والآخرون أيضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين من بعدهم ... وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السماوات، هو عناء رديء جعلها لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح» (سفر الجامعة: 1).
روح البشرية خالدة، على ما يفيدنا به نص ملحمة أتراحاسيس، لأن البشر والآلهة طرفان في معادلة واحدة. نقرأ في مشهد خلق الإنسان: «لتمزج الإلهة ننتو الطين، ليجتمع الإله والإنسان معا في الطين، لنسمع الطبل إلى آخر الأيام، ولتكن الروح البشرية من جسد الإله، ولتعلمه أن الحياة أضحت رمزه، ولتكن الروح البشرية خالدة في الاجتماع، آلهة الأنوناكي مقررو المصائر، أجابوا نعم. في اليوم السابع، وفي اليوم الخامس عشر من الشهر، جهزوا مكانا طهورا، ذبحوا الإله دي-إبلا في اجتماعهم، وبلحمه ودمائه عجنت ننتو الطين، لآخر الأيام سمعوا الطبل، وجدت الروح البشرية من جسد الإله، وعلمته أن الحياة أضحت رمزه، وجدت الروح البشرية إلى الأبد.»
20
ولكن الخلود المعني هنا ليس خلود النفس الفردية بل خلود الجنس البشري مما يقتضيه مفهوم التاريخ المفتوح. أما الأفراد فيسيرون نحو نهاية محتومة في العالم الأسفل، بعد حياة قصيرة يجزون خلالها على خدمتهم للآلهة، ثوابا أم عقابا، بطريقة مادية بحتة، فتطول بهم الأيام ويجنون الثروة ونعمة الصحة والبنين وما إلى ذلك، أو يبلون بالآلام والأمراض والموت المبكر، فلا بعث ولا نشور وما من حياة ثانية ترتقي بالفرد إلى وجود يسمو على وجوده السابق، وحتى العدالة الأرضية مشكوك بتحقيقها، فقد ترى من خدم الآلهة بكل إخلاص تقصر به الأيام بعد مرض وألم وفقر، ومن أدار ظهره للآلهة يمتد به العمر ويزداد صحة ووفرة وغنى. وعلى حد قول كاتب سفر الجامعة: «وأيضا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور، قلت في قلبي: الله يمتحن البشر ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم؛ لأن ما يحدث للبهيمة يحدث لبني البشر، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل. ليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما. من يعلم، روح البشر هل تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل تنزل إلى أسفل الأرض؟ حادثة واحدة للصديق وللشرير، للصالح وللطاهر وللنجس، للذابح وللذي لا يذبح، الخاطئ كالصالح، الحالف كالذي يخاف الحلف ... الكلب الحي خير من الأسد الميت، لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الموتى لا يعلمون شيئا وليس لهم أجر بعد، لأن ذكرهم قد نسي، ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان، ولا نصيب لهم بعد إلى الأبد في كل ما عمل تحت الشمس ... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها» (الجامعة، 3: 16-22، و9: 2-9).
وأخيرا، فإن افتقاد المعنى في المفهوم الرافديني للتاريخ، قد جعله بعيدا عن تلمس مفهوم عام عن «الإنسانية» و«المجتمع الإنساني»، وعن فهم قوانين تطور هذا المجتمع وارتقائه نحو تحقيق غاية ما، وحتى في العبادات التموزية التي طورت تدريجيا مفهوما للخلاص الروحي نحو عالم أفضل، فإن المخلص الإلهي بقي مخلصا فرديا، وبقيت عملية التحرر والخلاص مرتبطة بالطقس السحري الذي يوحد العابد بإلهه، أكثر من ارتباطها بمفهوم مجرد عن الخير والشر، ودور الإنسانية الإيجابي في تاريخها الخاص وتاريخ العالم. كما أن غياب المعنى عن مفهوم التاريخ المفتوح، وغياب فكرة العدالة الإلهية، وفكرة النعمة الإلهية التي تحرر الإنسان من شرطه الأرضي دون قيد أو شرط، من شأنها مجتمعة أن تجعل التساؤل حول الحرية والجبرية أمرا لا معنى له، لأن كل عمل للإنسان، سواء بذل عن حرية أم عن جبرية، لن تكون له أية قيمة خلاصية، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الكون. (5) الحلولية والمفهوم الدوري للتاريخ (5-1) الهندوسية نموذجا
تطالع الهندوسية دارسها لأول وهلة بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة، كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها، عصيا عن الانتظام في مجمع واحد يضم شتاتها، ولعل السبب كامن وراء ذلك التاريخ الطويل من التطور البطيء الذي تجره وراءها هذه الديانة التي تعود بأصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المعتقدات ما تلبث حتى تنتظم أمام الدارس الصبور تحت عدد قليل من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الما ورائية. أما حشد الآلهة فلا يلبث حتى تظهر حقيقته النسبية عندما تبدو نصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقيين، وتسفر عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح والدورة الكونية الأزلية.
إن ما يميز المعتقد الهندوسي «أو المعتقدات الهندوسية» عن المعتقد الشرقي الأوسطي، هو بالدرجة الأولى لا مركزية فكرة الله؛ فالهندوسية تبدي تحررا واضحا من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أو عدمه، أو على تعدد الآلهة أو التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يعد مؤمنا وملتزما بدينه، سواء آمن بإله واحد أم بآلهة متعددة، أم لم يؤمن بالآلهة طرا، لأن هذه المسألة لم تكن أبدا بمثابة حجر زاوية للديانة الهندوسية. وفي المقابل، فإن الطوائف الهندوسية تشترك بعدد من الأفكار والمعتقدات الأساسية التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يليه معتقد الكارما الذي يرتبط به أشد الارتباط، والكارما تعني في الأصل الفعل، ولكنها في السياق الأيديولوجي المعني هنا، تعني الفعل وجزاؤه ثوابا كان أم عقابا، على أن ما يميز فكرة الثواب والعقاب في الهندوسية عن نظيرتها في الديانات الشرقية الأوسطية، هو أن الجزاء غير مفروض من قبل شخصية إلهية تتصف بالعدل، بل يتم بشكل أوتوماتيكي من خلال قانون الكارما الكوني، وهو قانون غفل غير مشخص وغير متصل بواحد من الشخصيات الإلهية. فما تراكمه الروح من كارما في تجسدها الحالي سوف يؤثر على سلسلة تناسخاتها التالية ، مثلما أن وضعها الحالي محكوم بكارما التناسخات الماضيات، وهكذا تتابع الروح الفردية تجسداتها في دورة سبية أزلية لا تنتهي تدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكمله، كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة في إتيان الفعل «كارما»، والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشد غاية أو تسعى إلى هدف، ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة ممكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي، إلا أن الطوائف الهندية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها.
من هنا يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة، أي سنة الكون الأبدية، والكلمة تستخدم بمعنيين، فهي تدل من جهة على مجمل الكتابات المقدسة وشروحاتها، ومن جهة أخرى على القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برمته. وبالمعنى الثاني فإن سنة الكون تتطابق مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي الذي تجعل منه العلوم حقلا لدراستها، ولكن مع فارق هام، وهو أن هذا القانون الطبيعي بالنسبة للهندوسي لا يقوم بذاته، وإنما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عرض متغير، ويدعى براهمن: القاع التحتي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه الناس والآلهة ومظاهر الوجود طرا. ولبراهمن نفس تدعى أتمان وهي منبثة في جميع الكائنات الحية من آلهة وبشر، وفي كل ما يدب على الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء. فالنفوس رغم تجزئتها الظاهرية وتباينها هي في حقيقة الأمر نفس واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحررة المنعتقة لتذوب فيها.
وبهذا يتحصل لدينا سبعة مفاهيم أساسية تشكل أساس العقيدة الهندوسية وهي: (1)
سمسارا:
الدورة السببية الكبرى، والعالم الذي تتناسخ فيه أرواح الكائنات الحية وأرواح الآلهة. (2)
كارما:
الفعل وتبعاته الأخلاقية. (3)
دهارما:
السنة الكونية. (4)
موكشا:
الانعتاق من الدورة السببية . (5)
براهمان:
الثابت الأبدي والقاع الكلي للوجود. (6)
أتمان:
النفس الكلية في تجزئها ووحدتها. (7)
مايا:
والكلمة في الأصل تعني الوهم أو الظواهر الخادعة.
تقوم فكرة المايا أساسا من أجل الربط بين الواحد غير المتجزئ والكثرة التي صدرت عنه، لأن الواحد لا يمكن أن يكون سبب الكثرة، ولابد أن هذه الكثرة من عناصر الطبيعة هي وهم يمت إلى عالم الظواهر والخداع، وما دامت الروح تعيش في إسار دورة السببية «سمسارا» فإنها واقعة تحت سلطة المايا، تعاين الكثرة والتنوع، كثرة الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية. أما عندما تفلح في الانعتاق، فإن الوهم الكبير ينجلي، ويبدو لها كل شيء متوحدا في المطلق العظيم، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرد والاستقلال. وأما الإله المشخص الذي عرفته النفوس خلال دهور دوراتها في السمسارا، فيبدو لها على حقيقته: براهمان الأزلي الحق، بعد أن كان براهمان + مايا، مثلما كانت النفوس الحية أيضا نفسا + مايا، وهنا يتحقق التطابق في الهوية بين النفس أتمان والمطلق براهمان. إن ما يحقق للنفس هذا النوع من الانعتاق النهائي هو انكشاف بصيرتها الداخلية على حقيقة أن هذا العالم المتكثر هو واحد في جوهره، وإن كل ما في الوجود هو براهمان.
على أن الفهم الواضح للمعتقدات الهندوسية لن يتحصل لنا إلا إذا تابعنا الكيفية التي تطورت بها هذه المعتقدات خلال تاريخ الهندوسية الطويل، والذي يبتدئ مع دخول الأقوام المدعوة بالهندو-آرية إلى شبه القارة الهندية. (5-2) التطور التاريخي
ديانة الفيدا
حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، غزت شبه القارة الهندية جماعات محاربة من الشعوب المعروفة تاريخيا باسم الهندو-آرية، والتي كانت تنساح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية نحو مناطق غرب آسيا وأوروبا منذ مطالع الألف الثاني قبل الميلاد. احتل الآريون أولا وادي نهر الأندوز «السند» في شمال غرب الهند، حيث دمروا حضارة عريقة تشبه حضارة وادي الرافدين، ثم تابعوا بعد ذلك تقدمهم ببطء إلى حوض الغانج، ولم يصلوا إلى الجنوب إلا بعد منقلب الألف الأول قبل الميلاد، وقد حمل هؤلاء الآريون إلى الهند الديانة المعروفة بالفيدية، نسبة إلى الفيدا، وهي مجموعة أشعار تحتوي على أناشيد دينية تم تأليفها بعد استقرار الآريين، وعلى امتداد فترة لا بأس بها من الزمن، باللغة السنسكريتية، وهي لغة قريبة من اللغة التي تكلمها وكتب بها الفرع الآخر من الهندو-آريين الذين دخلوا إيران في الوقت نفسه تقريبا.
والفيدية هي ديانة طقسية تقوم على معتقد ربوبي شبيه بمعتقد وادي الرافدين. ففي الأناشيد الفيدية التي كانت تتلى في الاحتفالات الدينية، كان الشعراء في ذلك العصر يسألون الآلهة أن تمنح عبادها قطعانا كثيرة من الماشية، وثروة وحياة مديدة مقابل ما يقدمونه إليها من قرابين، وكانت خدمة الآلهة وتقديم القرابين إليها هي العنصر الحاسم في تقرير مصير الروح وحياة ما بعد الموت. أما الأخلاق فكانت شأنا دنيويا تنظمه الأعراف والعادات القبلية المؤسسة منذ القدم، ولم يكن لأولئك الآريين في بداية عهدهم معابد ولا بقع مقدسة معينة لأداء الطقوس، بل كانوا يقيمون شعائرهم في الهواء الطلق وعلى أرض يمهدونها لهذه الغاية، ويجهزونها بمذبح وبموقد نار لإحراق الأضاحي، وكان القربان يتألف في العادة من منتجات حيوانية مثل الزبدة والجبن، ومن الحبوب، ومن عدد من الحيوانات تذبح تباعا هي التيس والخروف والثور والحصان، وفي نهاية الطقس الذي غالبا ما يدوم يوما كاملا، يؤتى بشراب السوما المخدر فيسكب منه أمام الآلهة ويتم تناوله من قبل المشتركين بالطقس ليحملهم إلى السماء في زيارة خاطفة.
وقد اتسعت أسفار الفيدا حتى شملت أربع مجموعات ضخمة من الأناشيد والتراتيل والصيغ السحرية، التي كانت تتداول شفاهة حتى وقت متأخر من الألف الأول قبل الميلاد، وهذه المجموعات هي: رج فيدا، ساما فيدا، ياجور فيدا، أثار فيدا. وكلمة الفيدا هنا تعني المعرفة المقدسة، وهي من نفس الجذر الإنكليزي
Wise, Wisdom
واللاتيني
Video ، والألماني
Wissen . وجميعها تؤدي معنى المعرفة أو الحكمة، ورغم كل التطورات التي طرأت على الهندوسية وأشكالها اللاحقة، فقد بقيت قداسة هذه الأسفار فوق كل مساءلة، وبقي الاعتراف بها كمصدر للعقيدة هو الفاصل بين المذاهب القويمة والمذاهب الهرطقية.
على أن معتقد الفيدا ما لبث حتى أفسح المجال لمعتقد جديد هو المعتقد البراهماني، الذي حول معه معتقد الربوبية تدريجيا إلى معتقد حلولي صوفي، وذلك بتأثير طبقة البراهمانيين «أو البراهمة»، وهم فئة من الكهان كانت تشرف في الماضي على طقوس القرابين، ثم أخذت تدريجيا بتكوين مفهوم عن الألوهة مختلف تماما، والنظر إلى الآلهة الفيدية، التي كانت آلهة لمظاهر الطبيعة المختلفة، باعتبارها وجوها لحقيقة كلانية واحدة هي براهمن: المطلق غير المشخص، والقدرة الشمولية التي تسند مظاهر الكون المتبدية. وقد تطور الفكر البراهماني عبر الأسفار المعروفة بالبراهمانات، وهي تعليقات وشروح على الفيدا، بلغت ذروة نضجها في مجموعة الأوبانيشاد التي شكلت قمة من قمم التأمل الحكموي العالمي، وقد تم تأليف البراهمانات والأوبانيشادات خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد.
البراهمانية
من خلال تفرغهم الشامل للشئون الدينية، وإشرافهم على أداء الطقوس المعقدة المصحوبة بأناشيد الفيدا، طور البراهمانيون مفاهيمهم النظرية الفلسفية عن معنى الطقس وغايته، والقوة الخافية التي تمنحه الفعل والتأثير. فالتضحية ليست قربانا يقدم للآلهة مع الصلاة والشكر، بمقدار ما هي عمل سحري يضع تحت تصرفهم القوة فوق الطبيعانية السارية في الكون برمته، والتي ينبغي على الآلهة أنفسهم أن يقدموا لها فروض الطاعة، هذه القوة فوق الطبيعانية التي تجعل السحر فعالا وممكنا هي براهمن، وكلمة براهمن في الأصل تشير إلى الصيغة السحرية المستخدمة لاستنهاض «القوة» ودفعها إلى تفعيل الأداء السحري، ثم تحولت لتصبح دلالة على القوة الخافية نفسها، وشيئا شيئا أخذت الآلهة الفيدية القديمة تفقد شخصيتها لتغدو رموزا طقسية لا أكثر، فبدلا من التأثير على «القوة» من خلال الصيغ السحرية، صار سعي البراهماني يتجه نحو التوحد مع تلك القوة القدسية الشمولية السارية في الكون، وذلك عن طريق رياضات روحية معينة واحتساء شراب السوما، مما يوصل إلى الوجد والإحساس بالتماهي مع «القوة» واكتساب قوى فوق طبيعانية، وهم في سعيهم هذا لم يظهروا أي اهتمام بتطوير الديانة الشعبية، ولم يهتموا قط بالأخلاق، لأن التفكير بالكون عندهم لا يمكن أن يقود إلى استخلاص أخلاقيات معينة، والاتحاد بالسرمدي هو عمل روحاني بحت لا علاقة له بالسلوك اليومي. من هنا كان كهنوتهم وقدرتهم الكهنوتية، لا الدين بمعناه الأوسع والأشمل، هما اللذان يشكلان موضوع تأملاتهم، فقد كان جهدهم موجها لأن ينفذوا أكثر فأكثر إلى سر الطبيعة عن طريق الممارسات الطقسية، ويتحدون به في الوجد، وهذا الاتحاد الذي يعيشه البراهماني في نوبات الوجد هو مقدمة للاتحاد النهائي مع عالم الألوهة بعد الممات، وهو بشكل ما وقف على طبقة البراهمانيين دون غيرهم من الطبقات.
مع نشوء البراهمانية بدأ أيضا نظام الطبقات الهندوسي بالترسخ في حياة الهند الدينية والاجتماعية، فقد انقسم المجتمع إلى أربع شرائح متمايزة ومستقلة، الأولى شريحة الكشاتريا وهم النبلاء، والثانية البراهمانيون من رجال الدين، والثالثة الفايسيا وهم عامة الآريين من مزارعين وحرفيين، والرابعة الشودرا أو الخدم وهم السكان الأصليون من ذوي البشرة الداكنة، ورغم أن اختلاط الطبقات الثلاثة الأولى كان يخضع لعدد من القواعد الصارمة، إلا أن الحد الفاصل بين طبقات الآريين هذه والطبقة الرابعة المؤلفة من السكان الأصليين كان صارما جدا، ومع الزمن نشأت طبقة خامسة هي طبقة المنبوذين التي اعتبرت نجسة وخارج إطار الحياة الاجتماعية كلية. ورغم أن نظام الطبقات الاجتماعية هذا قد صمم في البداية للحفاظ على نقاء عرق الشريحة الحاكمة، إلا أنه قد أعطي بعدا دينيا فيما بعد، عندما تبنت البراهمانية معتقد التناسخ ومعتقد الكارما، مما سنتعرض له في حينه بعد قليل.
كانت أسفار الأوبانيشاد قمة إنجاز البراهمانية، ورغم أن الأوبانيشاد جاء نتيجة طبيعية لجدلية الفكر البراهماني وممارساته الطقسية، إلا أنه قد عمل على إحداث تغييرات عميقة في البراهمانية، تجلت في انقلابين رئيسيين على صعيد الفكر والممارسة، الأول عزوف البراهمانيين عن الطقوس الشكلانية الخارجية واستبدال الطقوس الداخلية بها، والثاني اعتراف البراهمانيين لبقية الطبقات بإمكانية الانعتاق من العالم والاتحاد ببراهمن، تنطوي الطقوس الداخلية على عدد من الممارسات الجسدية والرياضات الذهنية، فإلى جانب النسك والتقشف وإنكار متع الدنيا والعزوف عن أي نشاط عملي سيئا كان أم صالحا، هنالك عدد من الرياضات الذهنية التي تقوم على التأمل الباطني الهادف إلى التواصل مع منبع الحقيقة والتطابق معه.
رغم أن الأوبانيشادات «فصول أو أسفار الأوبانيشاد» تختلف في تصورها للحقيقة المطلقة التي يدعونها براهمن، إلا أن الاختلافات هي من قبيل تنوع أساليب التعبير، والميل أحيانا إلى استخدام المجازات اللغوية. فبعض الأوبانيشادات تنظر إلى براهمن على أن الحقيقة الكلانية الخافية غير المشخصة، والتي لا يمكن تصورها تحت أي شكل أو صفة وخصيصة، فهو المطلق بكل امتياز، عنه نشأت الأكوان والحيوات وإليه تعود. وبعض الأوبانيشادات ينظر إلى براهمن كإله مشخص كلي القدرة والمعرفة والحضور، وكحاكم للعالم ومدبر لشئونه. هذا التناقض المتبدي على مستوى التعبير بين الألوهة غير المشخصة والألوهة المشخصة، يجد تفسيره في أوبانيشادات أخرى توحد بين وجهي الألوهة المختلفين ظاهرا والمتحدين ضمنا، فتتحدث عن براهمن في حالين، حال الخفاء وحال التجلي. فلقد أطلق براهمن الخافي نحو الخارج قوته الخلاقة الكامنة فتشكلت منها بيضة ذهبية طفت على سطح مياه السرمدية عند فجر الخليفة، ومن هذه البيضة خرج الإله الخالق برهما (لاحظ الفرق بين الاسمين: برهما وبراهمان) الذي خلق كل شيء بواسطة المايا، أي القوة الخلاقة للإله براهمان. هذا الوجه الخالق للمطلق هو الرب الذي يتوجه إليه الناس بالعبادة والصلوات، وهو بوابة عبور الوعي الإنساني نحو المطلق السرمدي الساكن.
وكما أن براهمان الخافي هو القاع التحتي لكل مظاهر العالم الموضوعي، فإنه في الوقت ذاته القاع التحتي لكل ما يجري على النطاق الذاتي من وعي وإحساس وتفكير، إنه أتمان، جوهر النفس في تمايزها عن الجسد. نقرأ في مقطع أحد الأوبانيشادات: «هو الذي يقيم في الأرض وفي المياه وفي النار وفي الجو وفي الرياح وفي السماء وفي الجهات الأربع ... هو الذي يقيم في كل الأشياء ومع ذلك هو غيرها، هو الذي يدبر كل شيء من الداخل، هو النفس، يقيم في الأنفاس وفي الكلام وفي العين وفي الأذن ... هو الرائي الذي لا يرى، والسامع لا يسمع، والمفكر الذي لا يفكر به، والفاهم الذي لا يفهم، هو نفسك: أتمان.» في هذا المقطع وأمثاله، يؤكد الأوبانيشاد على أن جوهر الفرد وروح العالم هما شيء واحد، وهذا ما تعبر عنه الجملة الشهيرة الواردة في شاندوجيا أوبانيشاد: «هو أنت.» أي أن النفس الفردية هي من ذات طبيعة النفس الكلية، وأن الحقيقة العليا هي براهمن-أتمان، الذاتي والموضوعي في واحد، وعندما تعرف النفس الفردية من خلال حدسها الخلاق تطابقها مع براهمن تصل حالة السعادة الأرضية الكاملة، وتفلح في الانعتاق والاتحاد مع براهمان بعد الممات.
لم يعلم البراهمانيون في البداية سوى أن النفوس التي هي من طبيعة واحدة، ترجع إلى مصدرها بعد حياة واحدة في الجسد وفي العالم المادي، ولكن مذهب التناسخ بدأ يفرض نفسه على البراهمانية بقوة منذ عصر الأوبانيشاد، وذلك بتأثير معتقدات سكان الهند الأصليين التي بقيت حية رغم تأثرها بديانة الفاتحين. يقول مذهب التناسخ بوجود جواهر فردية مستقلة هي الأرواح، وهذه الأرواح تحل في أجساد حية لتعيش دورة في عالم السمسارا، وتراكم سلسلة من الكارما التي من شأنها تحديد طبيعة تناسخها أو تناسخاتها المقبلة، والكارما هي كل الأعمال والأفكار والأقوال، منظورا إليها بمعيار أخلاقي، والتي ستجد ثوابها وعقابها في التجسد المقبل، فالكارما الحسنة سوف تقود الروح إلى تجسد أعلى، أما الكارما السيئة فسوف تقود إلى تجسد أدنى، قد يصل حد التجسد في حيوانات أو حشرات. وتدوم دورة التناسخ هذه إلى ما لا نهاية، إذا لم تستطع الروح شق طريقها بثبات في طريق صاعد أبدا نحو تجسدات أفضل فأفضل، حتى تفلح أخيرا في الانعتاق من الدورة السببية. وهنا قام الفكر الديني الهندوسي بعقد الصلة بين نظام الطبقات الاجتماعي وقانون الكارما، ووجد التفاوت الاجتماعي واللامساواة في النظام الطبقي تفسيره البسيط. فإذا كان البراهماني يتمتع بكل ما تقدمه له طبقته من مزايا، والشودرا يعاني من كل الشروط الحياتية البائسة المحيطة بطبقة الخدم، فلأن كلا منهما قد قدم في حياته الماضية ما أهله لهذه الحياة الحالية. وبالطبع فإن أية محاولة لإزالة الفوارق بين الطبقات هو عمل يرقى إلى مستوى الهرطقة لأنه يعاكس القانون الكوني للسبب والنتيجة.
على أن البراهمانية بقيت أمينة لموقفها السابق من الأخلاق رغم تبنيها لعقيدة التناسخ، فالسلوك الأخلاقي في حد ذاته لا يوصل إلى الانعتاق، بل يؤهل صاحبه إلى تجسد أفضل. لقد كان على البراهماني الصالح أن يلتزم بالقواعد الأخلاقية الخاصة بطبقته، ولكن سلوكه الأخلاقي هذا وقف على الشطر الأول من حياته، وهي الفترة التي يمارس خلالها حياته الاجتماعية كاملة فيتزوج وينجب الأولاد ويساهم في كل نشاط إيجابي تتطلبه حياة الجماعة. أما في الشطر الثاني من حياته، فإن البراهماني ينسحب من العالم ويهجر أسرته التي لم تعد بحاجة إليه، فيذهب إلى الغابة ليعيش حياة الزهد والتنسك والتأمل، تاركا العالم بخيره وشره معا، مبتدئا رحلته الداخلية العرفانية التي يأمل منها أن تقوده إلى الانعتاق. نقرأ في أحد الأوبانيشادات: «إن الخالد ليس لديه خوف مما ارتكبه من شر ولا أمل فيما فعله من خير، لا الخير ولا الشر يتحكمان به، وإنما هو الذي يسيطر عليهما كليهما، لا شيء مما فعله ولا شيء مما أهمل فعله يمكن أن يكون له أهمية عنده.» وفي أوبانيشاد آخر نجد أن الأرواح بعد مغادرتها أجسادها تصعد إلى القمر وتقيم فيه ردحا قصيرا، ثم يتابع بعضها سيره نحو السماء، وبعضها الآخر يعود إلى الأرض مع الأمطار. يمتلئ القمر بحلول هذه الأرواح فيتزايد وعند مغادرتها يتناقص، ولكل قادم جديد يتقدم القمر بالسؤال: من أنت؟ فإذا أجابه أنا أنت «وهي الصيغة التي تدل على وصوله إلى العرفان الداخلي الحقيقي بالتوحد مع براهمان» تركه يمر، ومن لم يحر جوابا عاد إلى الأرض ليولد من جديد في جسد ما بحسب ما قدمته يداه وما حقق من معرفة، أي إن كل ما يمكن للعمل الصالح أن يفيد به صاحبه هو إتاحة الفرصة أمامه للتجسد في صورة إنسانية تعطيه فرصة جديدة لمعرفة نفسه ومعرفة ربه.
ولقد أدى تلاؤم البراهمانية مع عقيدة التناسخ والكارما إلى تشكيل المذهب البراهماني المتأخر، الذي حاول التوفيق بين جوهر البراهمانية وعقيدة التناسخ القائمة على الأخلاق، وتجد هذه الصياغة التوفيقية شكلها الأكثر وضوحا في مذهب الفيدانتا. يقول مذهب الفيدانتا بوجود حقيقتين، الأولى ظاهرية وهي ذات رتبة دنيا، والثانية باطنية وهي ذات رتبة عليا. بموجب الحقيقة ذات الرتبة العليا يستطيع الفرد تحقيق الاتحاد مع النفس الكلية عن طريق العرفان الداخلي، وبموجب الحقيقة ذات الرتبة الدنيا يستطيع أولئك الذين لا يعرفون براهمان تحقيق الخلاص عن طريق التعبد للإله المشخص الخالق، وإنجاز واجباتهم على أتمها. لقد أدرك أصحاب هذه البراهمانية المتأخرة أن صوفية الاتحاد مع براهمان هي أمر مختلف تماما عن مذهب التناسخ ذي القاعدة الأخلاقية، ففضلوا تركهما متعايشين جنبا إلى جنب من خلال مذهب الحقيقتين. ولقد قاوم المعلم شنكارا، وهو أهم معلمي الفيدانتا، بعناد فكرة أن الانعتاق مرتبط بالموقف الأخلاقي للإنسان، وكان يردد بإلحاح أن الأخلاق ليست إلا محركا للحقيقة الظاهرية، ولم يجد لها إلا مكانة ثانوية في السعي الحقيقي إلى الاتحاد المباشر ببراهمان.
إلى جانب معتقد التناسخ والكارما فقد تبنت البراهمانية معتقد الدمار الدوري للعالم وإعادة خلقه مجددا، ففي الزمن الخطي الذي يتقدم دوما نحو الأمام منطويا على تاريخ للكون وللإنسان مفتوحا على اللانهاية، مما آمنت به الديانة الفيدية والبراهمانية المبكرة، صار لدى البراهمانية في عصر الأوبانيشاد تصور دائري للزمن وللتاريخ، فالزمن يدور على نفسه دورة كاملة لينتهي إلى حيث ابتدأ، وبعد هدأة في حضن مياه السرمدية ينطلق إلى دورة تالية، وهكذا إلى ما لا نهاية. الزمن لا بداية له ولا نهاية، والعالم لم يخلق مرة واحدة في زمن معين، ولن يئول إلى فناء تام، وبذلك تتسع دورة السمسارا التي تتناسخ فيها الأرواح لتشمل العالم بأسره، حيث كل شيء آيل إلى الدمار وكل شيء معد للميلاد الجديد. وللزمن في دورانه على نفسه دورتان، الأولى تدعى ماها-يوغا وهي الدورة الصغرى، والثانية تدعى كالبا وهي الدورة الكبرى، تسير الدورة الصغرى ماها-يوغا عبر أربعة عصور تتدرج من الكمال التام في العصر الذهبي إلى الفساد التام في العصر المظلم، وعدد سنواتها 4320000 سنة. أما الدورة الكبرى كالبا فتتألف من ألف دورة صغرى، وتشكل يوما واحدا من أيام برهما. في نهاية كل كالبا، وفي آخر لحظة من غسق يوم برهما، تنشطر الأكوان وتتهاوى عائدة إلى الماهية القدسية التي نشأت عنها، ويهدأ إيقاع الزمن في ليل برهما الطويل. وفي أول لحظة من فجر اليوم التالي، يولد الإله الخالق برهما مرة أخرى من أعماق المطلق براهمان ليقوم بخلق كون آخر يدخل في كالبا جديدة. وهنا تعود الأرواح التي بقيت غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات في الليل، فتنتبه من غفلتها وتحمل كل واحدة منها أعمالها لتدخل في دورة تناسخ جديدة تمتد مليارات السنين قبل أن تهجع مع هجعة الكون في آخر الكالبا ... وهكذا إلى ما لا نهاية. وقد استمر هذا المعتقد في جميع أشكال الهندوسية اللاحقة.
الهندوسية الكلاسيكية
تقوم الهندوسية الكلاسيكية، التي بدأت بالتشكل منذ القرون الأولى للميلاد، على معتقد الألوهية ولكن دون تخل تام عن معتقد وحدة الوجود، لأنها نشأت وتطورت تحت نفوذ الفكر البراهماني المتأخر. فخلال الفترة ما بين 200 و700 ميلادية، عندما دخلت الحضارة الهندية عصرها الذهبي برعاية الإمبراطور غوبتا وخلفائه، ظهر معلمون روحيون ينتمون إلى الفكر البراهماني، ولكنهم في الوقت نفسه راغبون في سد حاجة السواد الأعظم من الناس إلى إله مشخص قريب يمكن محبته وعبادته والدخول في علاقة شخصية معه. وقد حصلت النقلة الحاسمة بين البراهمانية المتأخرة والهندوسية الكلاسيكية، عندما صاغ أولئك المعلمون الروحيون عقيدة تقول بأن المطلق غير المشخص براهمان يتجلى في العالم من خلال ثلاث ألوهات تمثل الوظائف الإلهية الثلاثة، وهي: برهما الخالق، وفيشنو الحافظ، وشيفا المدمر. وبذلك نشأت عبادات محلية تدور حول واحد أو أكثر من هذه الآلهة الثلاثة.
إن براهمان حاضر في العالم من خلال إله مشخص يدبره ويسيره ويهتم بشئون خلقه، ويؤمن لهم سبل الانعتاق والخلاص. وهنا تحل محبة الإنسان للإله والإخلاص له محل الكدح الروحي الذي يقوم على العرفان، وتحل الأعمال وتأدية الواجبات على أتمها محل الممارسات الزهدية والتقشفية. إن محبة الإله والاستسلام الكامل له، تقود إلى اتحاد محبة معه لا إلى اتحاد عرفان، وبذلك تستطيع الشرائح الشعبية الواسعة التي ليس بمقدورها الدخول في اتحاد عرفان مع المطلق أن تتخذ إلى الله طريقا أقل مشقة وأقرب إلى مقدرتها الذهنية وطاقتها على الكدح الروحي، وهذا الطريق لا ينكر طريق العرفان بل يعتبره طريقا أعلى وأنبل لمن يستطيع السير فيه.
في عبادة الإله شيفا، يتبدى المعتقد الهندوسي في أوضح أشكاله الألوهية، فالعلاقة بين الله وخلقه هي علاقة محبة، وكل عمل من أعماله يصدر عن اهتمام بمخلوقاته. الوجود كله مؤلف من الله ورعيته (= الأرواح) والأصفاد، وهذه الأصفاد ثلاثة: (1) عالم الظواهر (= مايا) وهو عالم أزلي أبدي لا بداية له ولا نهاية. (2) الكارما وهي الفعل وثماره مما تراكمه الأرواح خلال تجسداتها في عالم الظواهر. (3) التجزئة وهي التي تجعل الروح منغلقة على نفسها ومنفصلة عن الله. في حالتها الدنيا تكون الروح جوهرا فرديا بلا شكل ولا وعي ولا حركة، وغير قابلة للفناء في الوقت ذاته، ثم تصير الروح إلى المرحلة الوسيطة عندما تحل في جسد وتتحول إلى ذات واعية نشطة تتحرك في عالم الظواهر المادية وتراكم الكارما الخاصة بها، وبذلك تصير أسيرة الأصفاد الثلاثة. وهذه الحالة الواعية في الأصفاد الثلاثة هي التي تهيئها للانعتاق وتجمعها إلى الله، وهي المرحلة الثالثة. غير أن الروح المنعتقة لا تذوب في الله، كما هو الحال في التصوف البراهماني، وإنما تنضم إليه مع بقائها واعية لوجودها ووجوده رغم أنها صارت إلى طبيعة أقرب إلى طبيعته.
ولقد شابه موقف الهندوسية الكلاسيكية من الأخلاق، في بداية عهدها، موقف البراهمانية. فمحبة الله هي محبة شخصية موجهة من الفرد إلى الخالق، ولا تتسع بالضرورة لتشمل محبة الآخرين. والأعمال التي يتوجب على المؤمن إتيانها لم تكن تتجاوز الواجبات التي يحددها انتماؤه لطبقة معينة والالتزام بأخلاقياتها الرسمية، ولم يكن هذا الموقف من الأخلاق ليعني بأية حال من الأحوال أن الهندوسي ليس معنيا بمحبة جاره والسلوك بشكل أخلاقي كامل، بل إن السلوك الأخلاقي يجب ألا يبذل استجلابا لمكافأة ما إلهية كانت أم اجتماعية، وأن يكون حرا من أي قيد أو شرط. على أن الهندوسية الكلاسيكية ما لبثت حتى سارت بمعتقدها إلى نتيجته المنطقية، وتحول الإله من كائن فوق الخير والشر إلى كائن أخلاقي، ودخلت الأخلاق في صلب السلوك الديني. فإذا كان الإله أخلاقيا فإنه يحض على مكارم الأخلاق ثم يجزي بها.
على أن الأخلاق الهندوسية بقيت أسيرة معتقد جبري يحرمها من جوهرها كسلوك حر ومسئول. فلقد طورت الهندوسية الكلاسيكية اعتقادا بجبرية شمولية تطال الكائنات الحية مثلما تطال الكون بأكمله. إن الفعل الذي يقوم به الفرد، وما ينجم عنه من كارما، ليس إلا جزءا من كارما الكون بأسره، وكارما الكون هي جزء من كارما الله، فالله في حالة فعل دائم مثلما هو في حالة سكون دائم أيضا، وكارما الله تتم في الزمن، فالزمن يتطابق مع القدر، والله يتحكم بالقدر، والإنسان في حالة عجز تام أمام القدر، ويستتبع ذلك أن الإنسان ليس هو فاعل الخير والشر لأنه ليس كائنا مستقلا، بل الله هو الذي ينجز الخير والشر على يديه، ومع ذلك فإن على الإنسان أن يفعل دوما ما هو صالح في عينيه ثم لا يلتفت إلى نتيجة أو منفعة منه، وأن يمارس كل نشاط بدافع من حبه الله واستسلام كامل لما يتمه الله على يديه. هذا هو مضمون الحرية الإنسانية.
تظهر هذه الأفكار بكل قوة ووضوح في ملحمة الماهبهارتا، التي تعادل مكانتها في الهندوسية الكلاسيكية مكانة الأوبانيشاد في البراهمانية. ففي مشهد تجلي الإله كريشنا للبطل أرجونا قبل المعركة الحاسمة، يطلب الإله من أرجونا ألا يتردد في قتال أبناء عمومته في الفريق الخصم، لأن على البطل أن يفهم أنه ليس هو الذي يقتل وإنما ينجز عملا أراده الله. ومن خطاب كريشنا لأرجونا نقرأ هذه المقتطفات: «إن على الإنسان ألا يتهرب من عمل فرضه عليه منبته الطبقي، حتى لو كان فيه ما يسوء؛ فكل المشروعات مصحوبة بأمور سيئة مثلما هي النار مصحوبة بالدخان» ... «حتى المجرم الكبير إذا بجلني من كل قلبه ولم يفكر إلا بي وحدي، يجب أن يعتبر على صواب فيما فعل لأنه قام بعمله بروح طيبة» ... «حتى لو كنت من بين الخاطئين أكبرهم، فإنك على زورق المعرفة الحقيقية سوف تجتاز محيط الشر» ... «مهما فعلت يا أرجونا، فإن أولئك المحاربين المصطفين للمعركة سيموتون. والحقيقة أنهم قد هلكوا على يدي. أما أنت فكن الأداة فقط. ذلك أن من يولد صائر إلى الموت، ومن يموت صائر إلى الولادة، وأمام ما لا مفر منه لا يجدي التذمر.»
خلاصة
من هذا العرض الموجز والمكثف، نستطيع استخلاص أهم النتائج ذات الصلة بموضوعنا: (1)
رغم تسرب بعض أساطير الخلق والتكوين من الديانة الفيدية القديمة إلى الهندوسية، إلا أن الهندوسية، وعبر جميع أطوارها، لم تأخذ مسألة الأصول والبدايات بشكل جدي. فالعالم لم يخلق مرة واحدة ابتداء، وليس له نهاية منظورة، أو منقلب يرتفع به من مستوى أدنى من الوجود إلى مستوى أعلى. فالزمن يدور على نفسه، ومع كل دورة يفنى الكون القديم ويخلق كون جديد ليسير في الحلقة المفرغة نفسها، فلا بداية ولا نهاية، بل عود أبدي بلا هدف ولا غاية. هذه الرؤية للزمن الدوري المتناوب عند الهندوسية تنطوي على إصرار شديد على رفض التاريخ باعتباره حركة دائبة تهدف إلى تطوير الكون وتطوير الجنس البشري، ولا ترى فيه إلا نسخا يكرر بعضها بعضا إلى ما لا نهاية، وبالتالي لا وجود لخطة إلهية تتجلى في هذا التاريخ بشكل تدريجي، وتهدف إلى تخليص الكون وتخليص الإنسانية. (2)
لم تتوصل الهندوسية إلى مفهوم واضح عن «الإنسانية» ولم تجد لها دورا فاعلا في دفع حركة التاريخ. وما الإنسانية إلا تجمع من الذوات العابرة التي يسعى كل منها بشكل فردي إلى الانعتاق من دورة الحياة والموت. (3)
ترتفع الألوهة فوق الخير والشر، ولا تلعب الأخلاق دورا مهما في علاقة الإنسان بالله. وفي المذاهب التي مزجت بين السلوك الأخلاقي والسلوك الديني، بقي الاعتقاد بالجبرية الكونية حائلا دون تكوين مفهوم ناضج عن حرية الفرد ومسئوليته. (4)
يعمل مبدأ الكارما على تقديم حل بدهي لمسألة وجود الشر في العالم؛ فكل ما يصيب الفرد من نوائب وكوارث وحظ عاثر في حياته، وكل ما يلقاه من نعمة وثروة ورغد عيش، هو نتيجة لكارما سابقة راكمتها روحه في تجسداتها الماضيات. أما ما يراكمه هو من كارما حسنة أو سيئة فإنه لا يجزى بها لا في حياته ولا في حياة أخرى، بل إنه يجيرها للتجسد التالي. وبما أن مبدأ الكارما يعمل بشكل آلي، فإن مفهوم الشر المجرد والخير المجرد هو مفهوم غريب على الفكر الهندوسي، وليست العدالة صفة لكائن إلهي، بها يعاقب ويثيب. (5)
تتصل دورة الحياة والموت في عالم السمسارا بدورة الكون الكبرى؛ فكما يفنى الكون عن نفسه ليعيش في كون آخر جديد، كذلك يفنى الجسد عن نفسه ليعيش في جسد آخر جديد، وعندما تنتهي الدورة الكونية الكبرى إلى الفناء وتعود إلى مياه السرمدية الساكنة، تغفو الأرواح في ليل برهما الطويل. ومع بداية الدورة الجديدة تصحو لتحمل كارماها مجددا إلى ملايين التجسدات المقبلة وملايين الدورات الكونية المقبلة، فلا بعث ونشور، ولا دينونة ولا حساب ولا عقاب. (6)
أمام هذه الأرقام الفلكية لعدد الدورات الكونية والتناسخات الفردية، مما يدير الرأس، لا يوجد أمام الفرد إلا طريق واحد: الإفلات. ولكن من الذي سيفلت ويحقق الانعتاق أخيرا؟ هل هو التجسد الأول للروح في البدايات الضاربة في الأزلية، أم هو هذا التجسد الذي يفكر بالإفلات، أم هو ذلك التجسد الأخير بعد بضعة مليارات من السنين؟ سؤال لا معنى له يلقي على الأيديولوجيا الهندوسية ظلالا من العدمية. (6) الألوهية والتاريخ الدينامي (6-1) الزرادشتية نموذجا
في الديانة الزرادشتية يبلغ المعتقد الألوهي كمال رؤياه للعلاقة بين الله والعالم، ويظهر مفهوم التاريخ الدينامي لأول مرة في تاريخ الدين مكتملا وناجزا. فهنا يقوم الوجود بأسره، وجود الله ووجود ما سواه والعلاقة بينهما، على ثلاثة مفاهيم أساسية مترابطة هي: الأخلاق والحرية والمسئولية. ولأول مرة في تاريخ الدين يظهر مفهوم متسق ومتكامل عن «الإنسانية»، وعن دورها الإيجابي والفعال في خطة الخلق وصيرورة التاريخ ومصير الكون والحياة. فالإنسان لم يعد عبدا للآلهة ولا أداة في يد القدر، بل كائن حر ومسئول، وهذه الحرية والمسئولية لا تنسحب على مصيره الفردي أو الجمعي فقط، بل تتسع لتشمل الكون بأسره وتتحكم بمآل التاريخ.
في البدء، لم يكن سوى الله، الذي يدعوه زرادشت أهورا مزدا، وجود كامل وتام، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها غنية عما عداها، ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توءمان هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميزهما عن مصدرهما وتجعل منهما كيانين مستقلين عنه، وهي خصيصة الحرية الكاملة. ومنذ البداية أيضا استخدم هذان الروحان حريتهما في الاختيار، فاختار الأول الخير، ومن هنا جاء اسمه سبينتا ماينو أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومن هنا جاء اسمه أنجرا ماينو أي الروح الخبيث، وبذلك تحددت القوتان الكونيتان اللتان سيدور حولهما الوجود المادي والروحاني المقبل، وجرى زرع المبدأ الخلقي في أصل الوجود ومبتدئه. فكل ما في الوجود الجديد حر وأخلاقي في آن معا.
بعد الخيار الأخلاقي للتوءمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، وبما أن التوءمين يتمتعان بالطبيعة الإلهية التي لأهورا مزدا، وبما أنه قد وهبها أيضا ما له من حرية، فقد قرر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخرها. هنا عمد الله بمشاركة الروح المقدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تدعى بالأميشا سبينتا، أي المقدسون الخالدون، يستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا ماينو، فشكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إن هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافح الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن أنجرا ماينو قد استنهض عددا من القوى الروحانية المدعوة بالديفا ثم عمل على ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وتحفز الجميع للانقضاض على خلق الله القادم.
فوق الروحين المتنافسين، وفوق فريق الأهورا وفريق الديفا، يسمو أهورا مزدا في عليائه متجاوزا ثنائيات الخلق، غير أن سمو أهورا مزدا فوق الثنائيات لم يكن يعني اتخاذه موقفا سلبيا مما يجري. فبعد أن تأسس الشر على المستوى الروحاني، عرف الله بواسطة علمه الذي يطال البدايات والنهايات ، أن القضاء على عناصر الشر دون الإخلال بمبدأ الحرية، لن يكون متيسرا إلا بخلق العالم المادي الذي سيكون المسرح المناسب لصراع طويل ينتهي بمحق الشيطان أنجرا ماينو وأعوانه، فلسوف يعمد الشيطان إلى مهاجمة العالم بكل قواه لأنه خلق حسن وطيب، ولكن عدوانه سيئول إلى خسران في نهاية الزمن ويحسم الصراع لصالح الخير، ويتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر وإعادته كونا حسنا وطيبا إلى الأبد. وهكذا شرع أهورا مزدا يخلق الكون على ست مراحل، وكان الإنسان آخر ما خلق الله في اليوم السادس، ومع خلق الإنسان ينطلق التاريخ.
يسير التاريخ عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة الخلق الطيب الحسن الكامل. المرحلة الثانية هي مرحلة امتزاج الخير والشر في نسيج العالم عقب هجوم أنجرا ماينو عليه وتلويثه. المرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر ودحر الشيطان ورهطه، والارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في نهاية التاريخ. خلال المرحلة الثانية الحاسمة من التاريخ، يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات الروحانية الأخرى في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، ويكون دوره حاسما في الوصول بالتاريخ إلى نهايته المرتقبة. فالإنسان هو أنبل خلق الله والأقدر على مكافحة الشر، لأنه يعيش في العالم المادي الذي اتخذه الشيطان مسرحا لمقاومة خلق الله وإفساده، ولأنه صار في بؤرة الصراع الكوني وعرضة دائمة للغواية الناجمة عن سلطة الشيطان على العالم ومخلوقاته. وأما سلاح الإنسان في المعركة فوعيه وحريته وخياره الأخلاقي، ويتجلى الخيار الأخلاقي من الناحية العملية في عناية الإنسان بأخيه الإنسان وببقية الكائنات الحية لأنهم جميعا صنعة الخالق الواحد، كما أن عليه أن يرعى جسده وروحه في آن معا، وتأتي رعاية الجسد من اتباع قواعد النظافة والطهارة والصحة العامة، والاعتدال في الطعام والشراب وتجنب الإفراط في كل شيء، وأما رعاية الروح فتأتي من اتباع النظام الأخلاقي الذي اختطه زرادشت، وأداء فروض العبادة الله وحده. من هذا المنظور تتخذ الإنسانية مكان المركز من خلق الله، وهي في سعيها نحو خلاصها إنما تخلص العالم بأسره.
في المرحلة الأخيرة من التاريخ، سوف يظهر المخلص المنتظر المدعو ساوشنياط، وهو الذي سيقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر وتجديده بطريقة أقرب ما تكون إلى خلق جديد، ثم تفتح القبور وتلفظ الأرض ما اتخمت به من عظام عبر الزمن، فتهبط الأرواح من البرزخ، مكان إقامتها المؤقت، لتتحد أجسادها وتأتي إلى يوم الحساب الأخير الذي يفصل بين الأخيار والأشرار. فأما الأشرار فيجرفهم تيار ناري ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، وأما الأخيار فيعبرون الصراط المستقيم إلى العالم الجديد، ويعيشون خالدين في جنة أرضية. هنا يتوقف التاريخ وتدخل الإنسانية الجديدة في زمن مفتوح على الأبدية. (6-2) نتيجة ومدخل
لاهوت التاريخ وفكرة الشيطان
لقد واجه الإنسان منذ فجر وعيه نوعين من الشرور: النوع الأول شرور طبيعانية، والثاني شرور أخلاقية اجتماعية. فالشرور الطبيعانية هي الشرور المتضمنة في صلب صيرورة عمليات الكون والطبيعة والبيولوجيا، وذلك مثل البراكين والزلازل والأعاصير والفيضانات والحرائق، ومثل الألم والمرض والشيخوخة والموت. وأما الشرور الأخلاقية فهي الشرور الناجمة عن ممارسة الإرادة الإنسانية لدى الكائنات العاقلة، عندما تخرج عن القواعد المتعارف عليها للتعامل بين أفراد الجماعة الواحدة، وذلك مثل السرقة والاغتصاب والتسلط والظلم. ورغم أن الإنسان لم يربط في البداية بين هذين النوعين من الشرور، ولم يتصورها ناجمة عن مصدر واحد، إلا أنه قد عكس معاينته للشر الأخلاقي باعتباره فعلا إراديا على الطبيعة، ورأى في عملياتها فعلا تمارسه كائنات ما ورائية تمثلت في أرواح خبيثة وأرواح خيرة، ثم تحولت هذه الأرواح وارتقت تدريجيا لتصير آلهة.
21
فالنظام المستقر المتوازن على المستوى الطبيعاني والبيولوجي تدعمه آلهة معينة، والخروج على هذا النظام وتهديده تمارسه آلهة أخرى، وهذا ما قاده إلى تطوير نوعين من الطقوس، الأول يهدف إلى طلب عون الآلهة الخيرة، والثاني يهدف إلى اتقاء أذى الآلهة الشريرة. أما الشر الأخلاقي فقد بقي شأنا اجتماعيا لا يتصل بتلك القوى الما ورائية، فالذي يسرق أو يظلم أو يعتدي ليس مدفوعا من قبل إله شرير، والذي ينصف ويعين ويرأف ليس أيضا مدفوعا من قبل إله خير. وبتعبير آخر، فإن الثنائية أو القطبية الطبيعانية لم تتسع لتشمل العلاقات الاجتماعية، وبقي الإنسان ينظر إلى السلوك في صفته الخيرة أو الشريرة، ويميزه إلى فضائل ورذائل من غير أن يربطه بثنوية أخلاقية ما ورائية، وهكذا تركت المجتمعات الإنسانية لتدير شئونها الأخلاقية بنفسها دون وصاية من قوة قدسية ما، وهذا ما قامت به على أحسن وجه. ذلك أن إحجام الآلهة عن التدخل في المسائل الأخلاقية، لم يكن معادلا بأية حال من الأحوال للفوضى الأخلاقية في المجتمع، لأن الإنسان كان قادرا منذ بدايات التجمع الإنساني على سن قوانينه ووضع لوائحه الأخلاقية التي لم يكن بدونها للتجمع الإنساني والحياة المشتركة وجود البتة.
وقد تم ربط الأخلاق بالدين تدريجيا، عندما أخذ الفكر الإنساني ينظر إلى الكون باعتباره وحدة مترابطة متكاملة، يسودها نظام دقيق يجمع الأجزاء إلى بعضها في توازن محكم، ويرى وراء هذا الكون قدرة إلهية واحدة غير مجزأة، وتجلت هذه الرؤية بأوضح أشكالها مع ظهور المعتقد التوحيدي الذي لا يرى في الوجود سوى الله من جهة والعالم من جهة أخرى، ويعزو إلى الله كل الكمالات التي تنتهي جميعا إلى كمال الخير. فهو الخير المحض الذي يتجلى على كل مستوى طبيعاني وبيولوجي واجتماعي، وما إن وصل الفكر الديني إلى هذه النقطة، حتى تحول بشكل أوتوماتيكي إلى مفهوم الشيطان الكوني الذي يمثل الشر على جميع المستويات، ويناط به كل خلل في نظام الطبيعة ونظام المجتمع وبنية النفوس الواعية. ولقد أدى ظهور فكرة الشيطان في المعتقد الديني إلى تكوين المفهوم الدينامي للتاريخ، فالشيطان هو الخلل، والخلل ينبغي تصحيحه دون الإخلال بمبدأ الحرية الذي قاد إلى ظهوره، ويتم التصحيح عبر جدلية تاريخية تقوم على صراع الخير والشر، وتنتهي بانتصار الأول وهزيمة الثاني، ومع زوال الشيطان ينتهي التاريخ لأنه لا وجود لتاريخ بلا صراع وبلا تناقض وأضداد.
سوف نكرس ما تبقى من هذا البحث لدراسة نماذج التاريخ الدينامي الرئيسية. وبما أن فكرة الشيطان، كمبدأ شمولي، قد بدأت بشكلها الجنيني في الديانة المصرية القديمة، من دون أن تصل بها إلى غايتها وتضعها في إطار أيديولوجي متسق ومتكامل، فإن أول ما سنبدأ به في فصلنا القادم هو تلمس بذور فكرة الشيطان والثنوية الكونية في مصر القديمة. (6-3) مراجع المادة المعلوماتية عن الهندوسية (1)
R. C. Zaehner, Hinduism, Oxford 1984. (2)
H. Zimmer, Myths and Symbols in Indian Art and Civilization, Princeton 1974. (3)
J. B. Noss, Man’s Religions, McMillan, London. 1969, ch. 2. (4)
ألبير شويتزر، فكر الهند، ترجمه عن الفرنسية يوسف شلب الشام، دار طلاس 1994. (6-4) مراجع الزرادشتية
انظرها في آخر الفصل المخصص للزرادشتية لاحقا.
الفصل الثالث
فكرة الشيطان في الديانة المصرية وبذور
الثنوية الكونية
يسود الاعتقاد لدى الباحثين في الديانة المصرية القديمة بأن الإله سيت هو أقدم الآلهة المصرية المعروفة لنا من الفترات التاريخية، فلقد كان هذا الإله هو معبود الرئيسي للسكان الأصليين قبل استهلال عصر الأسرات الأولى عند أعتاب الألف الثالث قبل الميلاد، وهو العصر الذي ترافق مع حلول أقوام جديدة وفدت إلى مصر من سوريا حاملة معها معتقدات دينية جديدة، ومهدت لتشكيل أسس أول مملكة موحدة لمصر القديمة، ولقد تسربت هذه الأقوام إلى منطقة الدلتا في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وأخذت تبسط سلطتها تدريجيا باتجاه مصر العليا، مخضعة السكان الأصليين وصولا إلى شلال النيل الأول في أقصى الجنوب، ويبدو أن هذا التوسع قد تم في البداية تحت قيادات قبلية متفرقة، ثم انتهى بتشكيل مملكتين واحدة جنوبية في مصر السفلى وأخرى شمالية في مصر العليا. ومع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد قام ملك مصر العليا المدعو نارمر (أو مينا، وفق المؤرخ المصري المتأخر مانيتو)، بتوحيد الإقليمين وأسس أول أسرة حاكمة في التاريخ المصري.
وقد ترافق بسط السلطة السياسية للجماعات الجديدة مع نشر معتقداتها الدينية، وراح إلههم الأعلى المدعو حوروس
1
ينافس إله السكان الأصليين المدعو سيت في كل مكان. وبذلك تم التأسيس لثنائية سيت-حوروس التي استمرت فاعلة في الديانة المصرية حتى نهايات التاريخ المصري. لا نستطيع رسم معالم واضحة لشخصية الإله سيت في طوره القديم السابق لعصر السلالات قبل انتشار عبادة الإله حوروس، ولكن نصوص الأهرام «وهي أقدم النصوص الدينية المصرية، وترجع بتاريخها إلى أواسط الألف الثالث قبل الميلاد» تقدم لنا الصورة اللاحقة له بعد أن تم إنزاله إلى المرتبة الثانية، فصار مجسدا لكل القوى السالبة في الكون وفي حياة الطبيعة، في مقابل حوروس الذي صار مجسدا لكل القوى الموجبة، وتتجلى هذه الصورة البدئية للسلب والإيجاب في ثنائية النور والظلام، والنظام والفوضى، وما ينضوي تحتهما من ثنائيات. فالإله حوروس هو سيد السماء، والشمس التي تهب الحياة وتعكس بحركتها الثابتة نظام الكون الدقيق، أما الإله سيت فهو العدو الأول للشمس وللضوء بجميع أشكاله؛ فهو الذي يحرف مسار الشمس باتجاه الجنوب عقب الانقلاب الصيفي، ويسرق من نور القرص فتقصر ساعات النهار لحساب ساعات الليل، وهو الذي يسرق من نور القمر عقب اكتماله بدرا فيتناقص ليلة بعد ليلة حتى ينطفئ في آخر الشهر القمري، ولكن الإله ثوث يعمل على إشعاله مجددا في أول أيام الشهر التالي، وفي هيئة الوحش الخرافي آبيب، ينقض سيت على قرص الشمس في نهاية رحلته الليلية عبر المسار السفلي، ليطفئه ويمنعه من الشروق مجددا، مستخدما أسلحة الظلام والمطر والغيوم والضباب، ولكن حوروس «أو رع في الأساطير اللاحقة» يتصدى له متسلحا بالحر اللاهب وبسهام الضوء النافذة، وبعد صراع مرير يقع آبيب صريعا وتتبعثر أشلاؤه، ولكنه بعد إفلات الشمس من قبضته إلى يوم آخر، يعود إلى جمع أعضائه بقواه الذاتية، ويجدد نفسه استعدادا للصراع التالي.
والإله سيت هو سيد العماء والشواش الذي يعارض نظام الطبيعة ويعمل على نشر الفوضى، ومملكته تقع في الجهة الشمالية من السماء، وهناك يقيم في كوكبة الدب الأكبر. وكانت جهة الشمال عند المصريين، وخصوصا سكان مصر العليا، هي إقليم الظلام والبرد والمطر والضباب والبروق والرعود، ومنه تأتي العواصف والأعاصير، وجميع هذه الظواهر الطبيعية «التي لم تكن تتصل بالخصب نظرا لاعتماد الزراعة في وادي النيل على الفيض السنوي للنهر» كانت تحت سيطرة الإله سيت، وبها يهدد استقرار الطبيعة. ولكن الإلهة ريريت، التي تمثلها الرسوم المصرية على هيئة خرتيت بذراعي امرأة، كانت موكلة بتقييد هذه القوى الظلامية بالسلاسل ومنعها من السيادة على الأرض والسماء، كما كانت تفسح طريقا في الأعالي لمسار الشمس التي قرنتها النصوص المبكرة بالإله حوروس. وإلى جانب ريريت هنالك أولاد حوروس الأربعة الموكلون أيضا بكف أذى سيت ولجم قواه المؤذية، وهم يرافقونه على الدوام ويظهرون على شكل أربعة نجوم تبدو خلف نجم الزاوية في كوكبه الدب الأكبر، وهو النجم المدعو بركبة الإله سيت.
لا يوجد اتفاق بين الباحثين حول المعنى الدقيق للاسم سيت ولكن البعض يرى - اعتمادا على المقارنة مع اللغة القبطية - أن الكلمة تتضمن معنى الأسفل، مثلما تتضمن كلمة حوروس معنى الأعالي، فحوروس هو ساكن الأعالي وسيت هو ساكن الأسافل. كما تساعدنا الإشارة التي تسبق كلمة سيت في الكتابة الهيروغليفية،
2
على تبين خصائص وصلاحيات أخرى للإله، فالإشارة هنا هي نفس الإشارة التي تكتب بها كلمة الصخرة، وفي هذا دلالة غير مباشرة على ارتباط سيت بالأراضي الصخرية الجرداء وبالصحاري القاحلة وبالبوار والجفاف. وهنا يخبرنا المؤرخ المصري مانيتو بأن أية حمولة حجرية كانت تدعى عظام الإله سيت. ورغم أن النصوص المصرية تطلق على سيت لقب القدير والمزدوج القوة والمحارب الجليل، إلا أن المؤرخ الإغريقي بلوتارخ يخبرنا في نصه المعروف عن إيزيس وأوزوريس أن الأسماء التي يطلقها المصريون على هذا الإله تنطوي جميعها على معاني القوة السالبة والمعطلة والكابحة والمخربة.
فنحن هنا أمام قطبية كونية لا تحمل أية دلالة قيمية. لقد تأمل المصريون الكون وحياة الطبيعة من حولهم، ورأوا فيها قوتين ساريتين متعارضتين ومتعاونتين في الوقت نفسه، ورأوا في الظواهر جميعها نتاجا لتداخل هاتين القوتين وفعلهما المشترك. من هنا لا عجب إذا رأينا أن الأعمال الفنية في مطلع عصر الأسرات تمثل الإلهين سيت وحوروس في جسد واحد يحمل رأسين: واحدا لحوروس وواحدا لسيت، أو واحدا لصقر وهو رمز حوروس وواحدا لحمار وهو رمز الإله سيت. ولا عجب أيضا إذا قرأنا في نصوص الأهرام أنهما يدعيان بالأخوين وبالتوءمين أيضا، رغم العداء الأبدي بينهما والصراع الدائم الذي لا يصل إلى نتيجة حاسمة، مثلما لا يصل التناقض بين القوتين الكونيتين إلى إلغاء واحدة وسيادة الأخرى ، لأنه لا غنى عن صراعهما وعن تعاونهما من أجل صيرورة العمليات الجارية على مستوى الكون ومستوى الحياة الطبيعانية.
وبما أن سيادة إحدى القوتين الكونيتين على الأخرى سوف يؤدي إلى اختلال نظام الكون، فإن الآلهة كانت تتدخل في صراع سيت وحوروس كلما علا أحدهما على خصمه وأوشك أن يجهز عليه، ففي أكثر من نص نجد أن الإله ثوث يهب للفصل بين الخصمين عند وقوع أحدهما تحت وطأة الآخر، وهذا ما أعطاه لقب قاضي الإلهين المتخاصمين، وفي نصوص أخرى نجد الإلهة إيزيس تهرع لنجدة سيت الذي كبله حوروس بالأصفاد وهم بالإجهاز عليه، فتفك قيوده وتطلق سراحه. كما أن الرسوم الجدارية المصرية ورسوم البرديات ملأى بمشاهد الصراع ومشاهد تدخل الآلهة الأخرى للفصل بين الخصمين أو لعون الخاسر فيهما، وإلى جانب تمثيلها لجانب التناقض في علاقة الإلهين التوءمين، فإن الرسوم والمنحوتات المصرية تعمد إلى إظهار الوجه التحتي الآخر للعلاقة وهو وجه التعاون. ففي نحت بارز من مدينة طيبة نجد سيت وحوروس يقفان عن يمين ويسار الفرعون سيتي الأول ويصبان على رأسه قربان ماء الحياة، وفي عمل فني آخر نجدهما يضعان معا تاج المملكة الموحدة على رأس الفرعون رمسيس الثاني، وتحت الشكل نقش هيروغليفي يقول على لسان سيت: «إني أثبت التاج على رأسك ... وإني أهبك الحياة والقوة والصحة ...» ونقش آخر يقول على لسان حوروس: «إني أهبك حياة تعادل حياة الإله رع، وسنوات بعدد سنوات الإله طيم»، وفي عمل فني ثالث نجد الإلهين بصحبة الفرعون تحوتمس الثالث، وكل منهما يعلمه كيفية استخدام أحد الأسلحة.
اختص الإله حوروس في الأعمال الفنية برمز حيواني واحد هو الصقر، بينما تعددت رموز الإله سيت، فمن رموز سيت الحمار، ومنها الأفعى التي تشير إلى سيت في شكل الوحش الكوني آبيب، ومنها الخنزير البري، والعديد من المفترسات المائية مثل التمساح. كما ساد الاعتقاد لدى المصريين بأن قوة الإله المدمرة تحل في بعض الحيوانات الشرسة مثل الكلاب والقطط البرية والنمور وما إليها، وجرت العادة على تقديم القرابين من هذه الحيوانات، وذلك في الأوقات التي تبلغ فيها قوة الإله سيت ذروتها، مثل نهاية الشهر القمري عندما يكون الإله قد ابتلع نور القمر بأكمله، ومثل الانقلاب الشتوي عندما يكون قد ابتلع ما استطاع من نور الشمس وقصر الأيام المضيئة لصالح الليالي المظلمة. في مثل هذه المناسبات، وعند ذبح الحيوانات الممثلة لقوى سيت يخاطبها القائمون على الطقس بقولهم: سوف نعمل على تقطيعكم وتمزيق أعضائكم. بهذه الطريقة انتصر الإله رع على أعدائه جميعهم، بهذه الطريقة انتصر حيرو (= حوروس) الإله العظيم وسيد السماء على أعدائه جميعهم.
حتى الآن، لا يبدو لنا أن ثنائية سيت-حوروس قد اتخذت مضمونا ثنويا، سواء بالمعنى الجذري أم بالمعنى الأخلاقي. ولم يضع الإله سيت بعد قناع الشيطان الكوني كمجسد لمبدأ الشر، بل هو القوة الكونية السالبة معبرا عنها بلغة الرمز الأسطوري، وليس ما يعزى إليه من سلوك «شرير» إلا ضرورة من ضرورات التعبير الميثولوجي، الذي يترجم حركة الظواهر الكونية والطبيعانية إلى إرادات ما ورائية فاعلة في العالم المتبدي. فإذا ما جاز لنا التحدث عن «شر» متعلق بهذه الشخصية الإلهية الكبرى، فإنه «الشر» الطبيعاني المقابل «للخير» الطبيعاني، وكلاهما مجرد من أية قيمة أخلاقية، ويتبع ذلك بالطبع انعدام الصلة بين «خير» و«شر» الإلهين، وبين مسألة الخير والشر على المستوى الاجتماعي. الإله سيت «شرير» ولكنه ليس مبدأ مجردا للشر، وليس صانعا له في التاريخ وفي النفس الإنسانية والمجتمع، والإله حوروس «خير» ولكنه لا يدخل في التاريخ ولا يحض على فضائل الأعمال أو يستن شرعة أخلاقية. فالأخلاق الاجتماعية عند هذه المرحلة من تطور الفكر الديني لدى المجتمعات القديمة، لم تكن (كما أسلفنا سابقا) شأنا دينيا ناجما عن جدلية العلاقة مع عالم الآلهة، بل شأنا دنيويا ناجما عن جدلية الحياة الاجتماعية ومتطلباتها. كما يترتب على غياب الصلة بين الأخلاق والدين فقدان الصلة بين الآخروية
3
والأخلاق، وخصوصا التصورات الآخروية المتعلقة بمصير الروح وحياة ما بعد الموت. فعند هذه المرحلة، لم يكن الخلود الفردي إلا وقفا على الفرعون الذي هو ابن الإله حوروس وممثله على الأرض، كما أن خلود الفرعون نفسه لم يكن رهنا بسلوكه الأخلاقي، بل بسلسلة معقدة من الطقوس والصلوات والتعاويذ السحرية، وبإعداد مقبرة باهظة التكاليف لمرقده الأخير.
على أن هذه القطبية الطبيعانية قد تحولت تدريجيا إلى نوع من الثنوية الأخلاقية، وأخذت فكرة الشيطان الكوني تتضح بشكلها الجنيني مع ارتباط الأخلاق بالدين، وارتباط الآخروية بالأخلاق. ولسوف نتتبع فيما يأتي مسار هذا التحول في تاريخ الديانة المصرية، وبواعثه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، كانت الحضارة المصرية تنسلخ عن العصر النيوليتي وتدخل العصر المديني،
4
مقتفية بذلك أثر حضارة وادي الرافدين الجنوبي، وهي أول حضارة مدينية في تاريخ الإنسان. فخلال هذه الفترة أخذت القرى النيوليتية التي لم تكن تخضع لسلطة مركزية، بالتجمع في وحدات سياسية أكبر، وذلك من أجل تعزيز وسائل الدفاع، والإدارة الأفضل لأمور الزراعة والري والأمن، وكان لكل وحدة من هذه الوحدات ما يشبه العاصمة، كما كان لها حاكمها القبلي وإلهها المحلي، ثم التقت هذه الوحدات السياسية في وحدات أكبر وكونت الأقاليم المصرية الرئيسية المعروفة لنا من الفترات التاريخية، وعددها اثنان وأربعون إقليما، وأخيرا أدت المركزية المتنامية إلى تكوين مملكتين مستقلتين واحدة في الجنوب وهي مملكة مصر العليا وأخرى في الشمال وهي مملكة مصر السفلى.
حوالي عام 3100ق.م. قام ملك مصر العليا المدعو نارمر بضم مصر السفلى بقوة السلاح، مؤسسا بذلك لأول مملكة كبرى موحدة في تاريخ وادي النيل وفي تاريخ البشرية طرا. فلقد سبقت مملكة مصر الموحدة مملكة وادي الرافدين الموحدة بحوالي ثمانية قرون، وكانت بمثابة النموذج الأسبق والأول لكل الممالك الكبرى اللاحقة. نقل نارمر عاصمته من مدينة زيس بمصر العليا إلى مدينة ممفيس بمصر السفلى، التي تقع إلى الجنوب من موقع القاهرة الحالي بحوالي مائة كيلومتر، ومن هناك عمل هو وخلفاؤه من ملوك الأسرة الأولى على تكوين ملامح البنية السياسية الجديدة لوادي النيل، وهي البنية التي احتوت وطورت البنى القبلية السابقة، وصهرتها تدريجيا في مجتمع مدني موحد. يدعو المؤرخون هذه الفترة التأسيسية بعصر الأسرات الأولى، وقد امتد هذا العصر من عام 3100 إلى حوالي عام 2700ق.م. وحكمت خلاله أسرتان من الملوك حكما استبداديا مطلقا، يقوم على مفهوم الحق الإلهي، فقد كان الملك تجسيدا للإله الأعلى حوروس وتجليا بشريا للصقر السماوي، وكان الملك يدعى أيضا بالاسم حوروس خلال حياته، ثم يسلم الاسم لولي عهده عند مماته.
كانت الكتابة الهيروغليفية في مرحلة تجاربها الأولى خلال هذا العصر، ونحن لا نملك نصوصا كافية تساعدنا على رسم صورة واضحة للحياة والمعتقدات الدينية من تلك الفترة، ولذا فإننا مضطرون إلى الاعتماد على النصوص اللاحقة التي تحتوي في بعضها على إشارات واضحة إلى المعتقدات والطقوس السالفة، وإلى الاعتماد على مكتشفات علم الآثار في المدافن العائدة لملوك ذلك العصر ونبلائه وعامته. ولعل أول ما يواجهنا في بحثنا هذا، هو سيادة معتقد ديني عميق التأثير في المجتمع المصري منذ عصر ما قبل الأسرات، يتعلق بحياة ما بعد الموت وبأن تلك الحياة تشبه إلى حد بعيد الحياة الأولى. فلقد احتوت قبور المصريين في المستويات الآثارية العائدة إلى الألف الرابع قبل الميلاد، سواء في الجنوب أو في الشمال، على هدايا جنائزية تتضمن أدوات ووسائل زينة وطعام، وما إليها.
كانت مقابر عصر ما قبل الأسرات تقع بعيدا عن المناطق السكنية، وكان المدفن الواحد عبارة عن حفرة بيضاوية الشكل بعمق بضعة أقدام، يوضع فيها الميت في وضعية الانطواء بحيث يتجه رأسه نحو الغرب، وهي الجهة التي كان المصريون في العصور التاريخية اللاحقة يعتقدون بأنها مقر عالم الأرواح. وفوق القبر ترتفع تلة صغيرة من التراب أو الحجارة، وقد احتوت هذه المدافن إلى جانب الهدايا الجنائزية المؤلفة من أدوات العمل وأوعية الطعام ووسائل الزينة وما إليها، على تمائم سحرية على شكل حيوانات، من بينها التمساح والغزال والخرتيت والصقر، كما احتوت على دمى طينية لأشكال أنثوية تمثل - على الأغلب - الإلهة الأم للعصر الحجري الحديث، وقد تم تمثيل هذه الإلهة أيضا بطريقة الحز على الأوعية الفخارية، حيث تبدو في هيئة امرأة لها قرون البقر ومعها ابنها وحبيبها الذي صار فيما بعد إلها للخصب. كما قدمت لنا أوعية فخارية أخرى مشاهد تمثل طقس الزواج المقدس بين هذين الإلهين، ومشاهد راقصة كانت على ما يبدو جزءا من هذا الطقس المتجذر في منطقة الشرق القديم، والذي أعطتنا عنه اللقى الأثرية في وادي الرافدين الجنوبي أمثلة مشابهة. ومن الملفت للنظر وجود بعض المدافن الواسعة مخصصة لدفن نساء من ذوات المكانة الاجتماعية المميزة، تحتوي على هدايا جنائزية متميزة سواء من حيث النوع أم من حيث الكم، الأمر الذي يدل على المكانة العالية للمرأة في ذلك العصر، وتضلعها بمهام كهنوتية ذات صلة بعبادة الأم الكبرى.
خلال الفترة الانتقالية التي قادت إلى تكوين حضارة المدن في وادي النيل والتي ترافقت مع دخول جماعات آسيوية سيطرت على منطقة الدلتا ومنها على كامل مصر السفلى فالعليا، حصلت تغييرات عميقة في المعتقدات الدينية وفي بانثيون الآلهة، فقد تربع حوروس إله الشرائح الآسيوية الحاكمة على قمة البانثيون، يليه الإله سيت المعبود القديم للسكان الأصليين، والذي نرجح أنه هو نفسه الإله الابن الذي ظهر إلى جانب الأم المصرية الكبرى للعصر النيوليتي. ومرة أخرى فإن المدافن هي التي تعطينا الصورة العامة عن معتقدات وطقوس عصر السلالات الأولى، فيما بينا 3100 و2700ق.م.
خلال عصر السلالات الأولى نستطيع تمييز طريقتين في الدفن: الطريقة الأولى وهي المتبعة من قبل السكان الأصليين، وتظهر استمرارية لعادات الدفن القديمة التي كانت سائدة في عصر ما قبل الأسرات مع بعض التعديلات الطفيفة، أما الطريقة الثانية فهي التي اتبعها - على ما يبدو - القادمون الجدد، والتي أخذت الشرائح العليا من السكان الأصليين بتبنيها تدريجيا خصوصا في المناطق الحضرية والمدن الكبرى. فلقد تحول المدفن من حفرة صغيرة يعلوها مرتفع ضئيل من التراب أو الحجارة، إلى بناء مصمم على طريقة بيوت الأحياء، ويحتوي على عدد من الغرف أو الأجنحة، وذلك تبعا لمكانة صاحب المدفن، وبما أن هذا النوع من المدافن كان يرتفع في جزئه الأعلى قليلا عن سطح الأرض، فقد أطلق عليه علماء الآثار اسم المصطبة، وهي التسمية العربية المتداولة لأية بنية ترتفع قليلا عن الأرض، وقد ميز الآثاريون ثلاثة أنواع من هذه المدافن المصطبية: الأول خاص بالأسرة المالكة، والثاني بالحاشية والنبلاء، والثالث بعامة الناس.
خلال حكم الأسرة الأولى، كانت المدافن الملكية عبارة عن بنية محفورة في الأرض الصخرية الصحراوية، ومقسمة من الداخل إلى عدد من الغرف بواسطة جدران من الآجر، أكبر هذه الغرف مخصص لجثمان صاحب المدفن، أما بقية الغرف فللهدايا الجنائزية المرافقة له، وفوق هذه البنية ترتفع بنية أخرى على شكل مصطبة مستطيلة تشبه بيوت تلك الفترة، ومزينة من الخارج بديكورات مماثلة لما كان للقصور، ويحيط بالبناء سور، وقد يوضع في غرفة خاصة، قرب السور، قارب خشبي ينتظر الميت لكي ينقله في رحلته إلى العالم الآخر. خلال حكم الأسرة الثانية جرى توسيع وتطوير المقابر المصطبية لتغدو أشبه بالقصر الملكي الحقيقي، فهناك قاعة استقبال، وغرف للضيوف وغرفة للمعيشة، وجناح للحريم، وحمامات ومراحيض، إضافة إلى غرفة النوم الرئيسية حيث يضطجع سيد القصر الملك المتوفى.
وتتسع بعض هذه المقابر الملكية لتستوعب خارج حدود السور عددا من المقابر التي تنتظم على طول أضلع المصطبة الأربعة، وتحتوي على جثث لرجال ونساء من حاشية الملك، وخدمه، وحرفييه الذين اصطحبوا معهم أدوات عملهم. وبما أن الدلائل الأثرية تشير إلى تزامن دفن هؤلاء الأتباع مع دفن صاحب المقبرة الرئيسية، فإن النتيجة التي يمكن استخلاصها هي أن الملك قد اصطحبهم معه إلى العالم الآخر، لكي يتابعوا خدمته هناك مثلما كانوا يفعلون في الحياة الدنيا، ويبدو أن هؤلاء قد تناولوا السم قبل دفنهم ثم نقلوا بعدها إلى الأماكن المعدة لهم، وقد بلغ عدد الضحايا التي رافقت الملك زر، من الأسرة الأولى، رقما يزيد على الخمسمائة بين رجال ونساء، ولكن مع نهاية حكم الأسرة الأولى يبدأ طقس دفن الأتباع بالاضمحلال تدريجيا إلى أن يختفي تماما مع نهاية حكم الأسرة الثانية وبداية ما يدعى بعصر المملكة القديمة.
تنسج مقابر على منوال المقابر الملكية من حيث التصميم العام، ولكنها كانت أصغر منها وأكثر تواضعا، أما مقابر العامة قد توسعت وتحولت من مجرد حفرة إلى غرفة صغيرة يوضع فيها المتوفى داخل تابوت خشبي، وتلبس جدرانها الداخلية بالآجر، بينما تتوزع الهدايا الجنائزية على أرضية الغرفة، وبقيت مقابر فقراء العامة على ما كانت عليه في العصور السابقة.
تكشف عادات وطقوس الدفن هذه عن اعتقاد المصريين بأن القوة الحيوية في الجسد الإنساني تستمر بعد الموت، وتبقى على صلة بالجسد وبالعالم الأرضي بطريقة ما. من هنا جاء اهتمامهم بجعل القبر أقرب ما يكون إلى بيت تسكنه الروح أو تعود إليه من وقت لآخر للتزود بالطعام، أو استخدام الأدوات وما إليها من الهدايا الجنائزية المودوعة فيه، والتي كانت تتفاوت في نوعيتها وكميتها حسب الوضع الاجتماعي للمتوفى. وبما أن هذه الهدايا الجنائزية كانت عرضة للنفاد، وخصوصا الطعام والشراب، فقد كان أهل المتوفى يعودونه على فترات منتظمة لوضع مزيد منها عند مدخل القبر، أو يدخلونها من فتحة خاصة معدة لهذا الغرض، وإضافة إلى ذلك كله فقد تم اللجوء إلى وسائل سحرية من شأنها تعويض ما ينفد من طعام وشراب دون حاجة إلى مدد خارجي، ومن هذه الوسائل كتابة قائمة سحرية بأسماء الأطعمة على نصب حجري صغير، من شأنها تحويل الأطعمة المذكورة إلى غذاء حقيقي يمد صاحب القبر باحتياجاته، أو رسم صور بعض الماشية التي كان المصريون يعتمدون عليها في غذائهم.
ولكي تتعرف الروح على بيتها في كل مرة وتستخدم محتوياته، كان لا بد من الحفاظ على الشكل الخارجي لجثمان صاحب المقبرة، بطريقة تجعله أقرب ما يكون إلى شكله في الحياة الأولى، وهذا ما دفع المصريين منذ مطلع عصر الأسرات إلى إجراء التجارب الأولى في هذا المجال. لقد كانت العوامل الطبيعية كفيلة في الماضي بحفظ جثث الموتى الذين كانوا قبل عصر الأسرات يدفنون في حفر ترابية سطحية، لأن الجو الجاف وندرة المطر والتربة الرملية كانت تعمل على التجفيف السريع للأنسجة العضوية ومنعها من التحلل، بحيث إن بعض جثث ذلك الزمن كانت عند اكتشافها في العصر الحديث تحتفظ بجزء لا بأس به من الشعر والجلد الملتصق على الهيكل العظمي، غير أن الانتقال إلى بناء المقابر المصطبية ولجوء العامة إلى تلبيس جدران قبورهم بالآجر ، قد أدى إلى عزل الجثة عن الرمل الحار الذي كان يمتص رطوبة الأنسجة، وبالتالي إلى تفسخها السريع، وهذا ما دفع إلى التفكير بوسائل اصطناعية تحافظ على ما يشبه الشكل الحي لصاحب القبر.
كانت أولى تقنيات التحنيط تهدف إلى الحفاظ على الشكل الخارجي للجثة قبل تحللها، وذلك بلفها بطبقات من قماش الكتان الناعم المشبع بمحلول قابل للتصلب بعد الجفاف، فكان القماش المبلل يلصق بإحكام فوق الجمجمة والوجه وبقية الأعضاء، حتى إذا جف منه المحلول صارت الجثة إلى ما يشبه التمثال الجصي، ولإضافة لمسة من الحيوية على الشكل، يجري بعد ذلك تلوين الشعر وملامح الوجه، وتحديد الخطوط الخارجية للأعضاء، وبذلك يتم إنتاج نسخة خارجية مماثلة للجثة الآيلة إلى التفسخ تحت هذه القشرة الخارجية، ونظرا للوقت الذي تستغرقه هذه العملية وارتفاع تكاليفها، فقد كان استخدامها وقفا على مدافن الأسرة المالكة وكبار النبلاء، والتي احتوت في بعض الأحيان على تمثال خشبي كامل للمتوفى، لتحل محل الصورة المحفوظة بالطريقة السابقة إذا تعرضت للفناء بطريقة ما. أما التحنيط الحقيقي للجثة فلم تكتمل تقنياته إلا نحو نهايات المملكة القديمة في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.
على أن الاعتقاد بحياة ما وراء القبر عند المصريين، في هذه الفترة المبكرة، لم يكن يعني أن جميع أرواح الناس سوف تخلد خلود الآلهة في عالم نوراني سماوي، أو في جنة لا ألم فيها ولا مرض ولا شقاء، لأن مثل هذا الخلود كان وقفا على الفرعون وحده، باعتباره إلها وإنسانا في آن معا، وعلى من يختاره الفرعون بنفسه لكي يخصه بخلود مماثل لخلوده، أما بقية شرائح الشعب فإن حياة ما بعد الموت بالنسبة إليها لم تكن إلا استمرارا شبحيا للحياة الأرضية، يغنيها أو يفقرها مراعاة طقوس الدفن وعناية أهل الميت بروحه بعد الموت، وهذا ما نستدل عليه من مدافن الحقبة التالية ووثائقها الأثرية والكتابية، وهي حقبة المملكة القديمة التي امتدت من حوالي عام 2700 إلى حوالي عام 2200ق.م. وكانت بمثابة ذروة الحضارة المصرية والعصر الذهبي لها.
حققت المملكة القديمة منجزات في التكنولوجيا والعمارة والفنون لم يتم تجاوزها أو حتى مماثلتها في الفترات اللاحقة، كما تم خلالها تكوين عدد من المفاهيم والمعتقدات الدينية التي بقيت مؤثرة حتى نهاية التاريخ المصري. يتجلى التقدم التكنولوجي، والمفهوم المعماري والأستاتيكي، في أوضح تعبير لهما، بأهرامات الجيزة التي بناها فراعنة الأسرة الرابعة (2600-2500ق.م.)، فلقد أتاحت السلطة المطلقة للملوك تسخيرهم لموارد البلاد وعمالتها الفنية واليدوية من أجل تشييد مقابر لهم، على شكل صروح جبارة ما زالت باقية إلى يوم الناس هذ، وهذه الصروح لم تكن نتاج نزوات فردية بقدر ما كانت نتاجا لأيديولوجيا دينية سائدة في المجتمع، وراسخة في نفوس وعقول كل الشرائح الاجتماعية. فلقد قام المجتمع المصري على مفهوم الملوكية، وكان الملك بمثابة رمز الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية بكل فعالياتها. فهو ابن للإله حوروس «أو رع بعد ذلك» من أم ملكية هي الزوجة الرئيسية للملك، حملت به من أشعة الشمس العلوية لا من زوجها الشرعي، ونظرا لوضعه المتميز والاستثنائي هذا، فقد كان متفردا ومستقلا عن بقية أفراد البشر، وفي موقع يسمح له بالتوسط بين السماء والأرض وبين الله والناس، لقد كان النقطة التي يتصل عندها الإلهي بالبشري، وكانت حياته ومماته أيضا بمثابة المحور الذي تدور حوله حياة الجماعة بأكملها، كما كانت موارد المجتمع الاقتصادية وإمكاناته التكنولوجية والفنية موجهة نحو تأمين حياة الملوك على هذه الأرض وضمان رحلتهم الآمنة إلى العالم الآخر. من هنا يعتقد العديد من مؤرخي الحضارة المصرية بأن بناء الأهرام وبقية الصروح الدينية الضخمة، قد تم بدوافع طوعية من قبل المواطنين، وأن الفرعون كان يجزيهم لقاء عملهم أجورا عادلة خلال مواسم العطالة التي كانوا خلالها ينتظرون انحسار فيض النيل عن الأراضي الزراعية.
وفيما يتعلق بالمعتقدات الدينية للمملكة القديمة، فقد حل الإله رع تدريجيا محل الإله حوروس، وصار رئيسا للبانثيون المصري وأبا للآلهة جميعا. ووفق لاهوت كهنة هيليوبوليس (= أون)، المدينة التي كانت مركز الحياة الدينية خلال عصر المملكة القديمة، كان رع أول من ظهر من لجة المياه الأزلية بقواه الذاتية، خالقا نفسه بنفسه، وبعد أن أوجد لنفسه مكانا يقف عليه فوق الماء، قام بتبديد الظلمة والعماء بالنور الذي صدر عنه، ثم أنجب رع شو إله الهواء، وتفنوت إلهة الرطوبة، ومن زواج شو وتفنوت ولدت السماء نوت والأرض جيب، ومن زواج السماء والأرض ولد أربعة آلهة هما أوزوريس وسيت وإيزيس ونفتيس، فتزوج أوزوريس من إيزيس وسيت من نفتيس، ومن بين جميع آلهة المصريين ممن كان كهنة هذه الفترة يعملون على تقصي منشئهم ورسم سير حياتهم، والتوفيق بينهم عن طريق جمعهم في ثواليث وتاسوعات، فقد كان لهذه الآلهة الأربعة، إضافة إلى حوروس الذي صار الآن ابنا لإيزيس وأوزوريس، أن تلعب الدور الأهم في الحياة الروحية المصرية منذ نهايات المملكة القديمة إلى آخر تاريخ مصر القديمة. ورغم أن الإله رع كان بمثابة تجسيد لفكرة الله عند المصريين، إلا أنه كان يتجلى في العالم المادي على هيئة قرص الشمس، فيقطع السماء من مشرقها إلى مغربها ثم يسير ليلا في العالم الأسفل ليشرق ثانية في اليوم التالي. هذا الانبعاث اليومي للشمس هو النموذج الذي يحتذيه الملك عندما يرتقي السماء على أشعة الشمس من قمة الهرم صاعدا إلى أبيه السماوي، هناك يستقبله حشد الآلهة ويقودونه عند المشرق إلى مركبة رع.
على أن هذا المجتمع المستقر الذي أسسه فراعنة الأسرات الأولى، وأكمل بناءه الفراعنة الأوائل لعصر المملكة القديمة، قد أخذ بالتضعضع منذ نهايات حكم الأسرة الرابعة. فلقد ازدادت سلطة كهنة رع على حساب سلطة الملك وأمراء الأسرة الحاكمة، ولدينا من الدلائل ما يشير إلى أن هؤلاء الكهنة صاروا يتدخلون في مسألة على جانب كبير من الأهمية والحساسية بالنسبة لنظام المملكة القديمة، وهي مسألة ولاية العهد ووراثة العرش، وأن العديد من ملوك الأسرة الخامسة كانوا يدينون للكهنة بهذه الوراثة. كما ساعد على تقليص سلطة الملك المطلقة تزايد ثروة البلاد على حساب ثروة الملك، التي كانت تتآكل تدريجيا نتيجة للنفقات الهائلة التي تطلبها بناء الأهرامات والمعابد الضخمة، فلقد كان كل ملك مهتم ببناء هرم جديد له من جهة، وملزم من جهة أخرى بتجديد وصيانة أهرامات أسلافه، إضافة إلى واجباته التقليدية الموروثة التي تلزمه بتقديم هبات للأمراء وكبار النبلاء والأتباع المقربين، تعينهم على بناء وتجهيز مدافنهم الخاصة التي تضمن لهم الخلود الذي وعدهم به الفرعون، كما ساهم في تآكل ثروة القصر الملكي سياسة المنح والإقطاع التي اتبعها الملوك الأوائل من أجل ضمان ولاء حكام المقاطعات.
وقد نجم عن ذلك كله تحول السلطة تدريجيا نحو اللامركزية، واستقلال الأقاليم البعيدة عن العاصمة ودخول حكامها في منازعات دائمة، وكان من أهم نتائج تراخي قبضة السلطة المركزية عن هذه المساحات الواسعة من المملكة انهيار نظام الري وتراجع غلة المواسم الزراعية وانتشار المجاعة، وكذلك انعدام الأمن وغياب سلطة القانون، وهذا ما قاد بدوره إلى تعطيل طرق التجارة المحلية والدولية، ومع نهاية حكم الأسرة السادسة، أخذت القبائل الرعوية تهاجم مصر من حدودها الشمالية الشرقية قادمة من بوادي بلاد الشام، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث انهارت المملكة القديمة ودخلت البلاد في الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة الانتقالية أو المعترضة الأولى، التي استمرت من حوالي 2200 إلى حوالي 2040ق.م. بعد ذلك أفلح أول فراعنة الأسرة الثانية عشرة في إعادة توحيد البلاد وفرض سلطته على جميع الأراضي المصرية مبتدئا بذلك فترة المملكة المتوسطة التي دامت حتى غزو الهكسوس عام 1750ق.م.
أحدثت الفترة المعترضة الأولى تغييرات عميقة في المعتقدات الدينية للمصريين، فلقد كان من نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي للأسرة الملكية وزوال هيبتها السياسية أن الملوك فقدوا هالة الألوهية التي كانت تحيط بهم وتجعل منهم صنفا من البشر-الآلهة، وأخذ الناس ينظرون إلى الملك كمجرد حاكم بين حكام الأقاليم، ساعد على ذلك اضطرار بعض الملوك إلى اتخاذ زوجات لهم من خارج نطاق الأسرة المالكة، ومصاهرة النبلاء من ذوي الثروة الكبيرة من أجل دعم الوضع المالي المتردي للقصر الملكي، ومع اهتزاز صورة الملك كممثل للإله الأعلى ونقطة اتصال السماء بالأرض، حصل اهتزاز شامل في القيم الدينية التقليدية ووضعت موضع الشك والتساؤل. فمنذ نهايات حكم الأسرة السادسة ، عندما ترسخت اللامركزية السياسية وأخذ حكام الأقاليم بالاستقلال وبناء قصورهم الخاصة وتنمية ثرواتهم المحلية، لم يعد الفرعون مصدر قوتهم وجاههم وتمكينهم في مناصبهم، ولم يعد بالتالي شفيعهم من أجل الخلود في عالم الآلهة، وبعد أن كانوا يبنون مدافنهم قرب مدفن الفرعون بمعونة من القصر الملكي، راحوا الآن يبنون صروح دفن لهم في مناطقهم فاقت مع الأيام مدافن الملوك، ويسعون لتحصيل الخلود، دون شفاعة الفرعون ووساطته، ولم يمض وقت طويل حتى أخذت كل شرائح الشعب تتطلع إلى الخلود، وإلى حياة سعيدة بصحبة الآلهة في عالم نوراني بعيد عن ألم وشقاء الحياة الأرضية، وبذلك ولدت فكرة الجنة السماوية المعدة للصالحين جميعهم بصرف النظر عن منشئهم الطبقي، وساد ما يمكن تسميته بديمقراطية الخلود، فمنذ هذه الفترة الحالكة من تاريخ الثقافة المصرية، صار الإله الصاعد أوزوريس هو الشفيع الوحيد للموتى، وهو الذي يمسك بمفاتيح العبور إلى العالم الآخر، وصارت عبادته والإخلاص له، إضافة إلى طقوس الدفن الصحيحة واستخدام الصيغ السحرية القديمة، بمثابة بوابة الخلود. ومنذ هذه الفترة أيضا تم ربط الأخلاق بالدين، فإذا كان الفرعون يلتحق بعالم الآلهة بعد موته بسبب نسبه الإلهي، وإذا كان بقية النبلاء والأمراء يلتحقون به جراء شفاعته ووساطته، فإن بقية شرائح الشعب صارت تأمل الآن بالخلود عن طريق إيمانها بإله مخلص وإتيانها لصالح الأعمال في الحياة الدنيا، لقد كان أوزوريس إلها أخلاقيا يحض على الفضائل ويجزي بها ويكره الرذائل ويعاقب عليها. ومع ارتباط الأخلاق بالدين تحولت القطبية الكونية القديمة إلى ثنوية أخلاقية وخضعت ميثولوجيا سيت-حوروس إلى تعديل جوهري من أجل ملاءمتها مع العقيدة الشعبية الجديدة.
لم يكن أوزوريس بالإله الجديد على البانثيون المصري، فلدينا من الدلائل ما يشير إلى كونه إلها للخصب منذ مطلع التاريخ المصري المكتوب، وكما هو حال آلهة الخصب الشرق أوسطية جميعا، فقد كان أوزوريس إلها مات وبعث من الموت في الأزمنة الميثولوجية الأولى، مؤسسا بذلك لدورة الطبيعة السنوية ولموت وبعث الحياة النباتية، ولذا فقد كان المزارعون يحتفلون سنويا بذكرى موته ثم بذكرى قيامته من الأموات، من خلال طقوس قديمة ومتجذرة في العصر النيوليتي. وخلال عصر الأسرات الأولى ، ثم عصر المملكة القديمة، تعايشت عبادة أوزوريس مع عبادة حوروس الصقر السماوي، ثم مع عبادة رع. ولكن ميثولوجيا أوزوريس أخذت تتغير منذ نهايات عصر المملكة القديمة، عندما تحول أوزوريس من إله للخصب إلى إله للموتى وقاض في العالم الآخر.
لا يوجد بين أيدينا نص ميثولوجي مصري مطرد ومتكامل عن أسطورة أوزوريس، لا في حلتها القديمة ولا في حلتها الجديدة، ولكننا نملك العديد من الإشارات والتلميحات إلى هذه الأسطورة، مقتطعة من سياقاتها الميثولوجية الأصلية ومدغمة في سياقات طقسية شعائرية، من هذه الإشارات نعرف أن أوزوريس كان أول ملك على الأرض، وأنه كان حاكما عادلا نشر الأمن والطمأنينة وقاد البشرية الأولى من عصور الفوضى والهمجية إلى عصر من الحضارة والنظام، وقد مات أوزوريس غيلة على يد أخيه التوءم سيت الشرير، الذي كان يحسد أوزوريس ويغار منه أشد الغيرة، وقد قطع سيت جسد أخيه إلى أربع عشرة قطعة ونثرها في أماكن متفرقة من مستنقعات الدلتا، حتى لا يمكن جمعها وبث الحياة فيها، ولكن إيزيس زوجة أوزوريس أفلحت بالتعاون مع ابنها حوروس في العثور على القطع، فجمعتها معا وبثت الحياة في الجثة الميتة وقام الإله من بين الأموات، ولكن أوزوريس قرر مغادرة الأرض والصعود إلى السماء، وهناك رحب به رهط الآلهة وأعطوه سلطة مطلقة على عالم الموت، فصار قاضيا في العالم الأسفل يحاسب الموتى على ما قدمته أيديهم في الحياة الدنيا، يرسل بالمحسن إلى دار البقاء وبالمذنب إلى دار الفناء. أما سيت فقد حول نشاطه العدواني إلى حوروس، الذي ورث عرش أبيه على الأرض وراح يتهيأ للانتقام لأوزوريس. وهنا تحدثنا النصوص الهيروغليفية عن جولات متتالية من صراع الإلهين، كانت تنتهي لصالح هذا أحيانا ولصالح ذاك في أحيان أخرى، ولكن دون التوصل إلى حسم نهائي. وبذلك اتخذت القطبية الكونية القديمة شكلا ثنويا ذا مضامين أخلاقية.
لقد كان الملك المتوفى في عصر المملكة القديمة يدعى أوزوريس، كناية عن التماهي مع الإله الذي قهر الموت وبعث إلى عالم الآلهة، وكانت عبادة أوزوريس موجهة بالدرجة الأولى نحو معونة الفرعون على تحقيق خلوده الفردي. وعندما صارت التعاويذ السحرية التي ترافق دفن الملوك متاحة للنبلاء، وصار بمقدورهم تمويل بناء مدافن صرحية لهم على طريقة الفراعنة، صار كل واحد منهم يتحول إلى أوزوريس في العالم الآخر، ولكن مع صعود الميثولوجيا الأوزورية الجديدة وشيوع عبادة أوزوريس بشكلها الشعبي، صار بإمكان كل متوفى أن يصبح أوزوريسا وينعم بصحبة الآلهة، وذلك بصرف النظر عن وضعه الاجتماعي ومنبته الطبقي، شريطة أن يؤمن بأوزوريس مخلصا، ويسلك سلوكا أخلاقيا خلال الحياة الدنيا، ويحرص على تأمين مدفن له تتوفر فيه الشروط الدنيا الكفيلة براحة روحه، وأداء أهله للطقوس الجنائزية القديمة. إن أهم ما قدمته عبادة أوزوريس بشكلها الشعبي للمعتقدات المصرية، هو التوكيد على عنصر الأخلاق الاجتماعية وربطها بالدين وبمعتقد الخلود. ورغم أن المصريين قد استمروا حتى نهاية تاريخهم يجلون الطقوس القديمة ويؤمنون بالتعاويذ والرقى السحرية، إلا أن الأوزيرية قد رفعت الأخلاق إلى مستوى يعادل في الأهمية ما للطقوس، بل ويزيد عليها.
كانت الأوزيرية عبادة آخروية تركز على النهايات دون كبير عناية بالبدايات. فقد كان المصري حرا لينخرط في أية عبادة، محلية كانت أو ملكية إمبراطورية رسمية، ويؤمن بأي معتقد حول التكوين والأصول والبدايات، ويؤدي ما يشاء من الطقوس لمن يشاء من القوى العليا، ولكنه عند التفكير بالموت والتهيئة لرحلة العالم الآخر كان يلتفت إلى أوزوريس ويؤدي ما يتوجب عليه أداؤه لكي يؤمن مزدلفا آمنا إلى الحياة الثانية. على أن المصري لم يكن لينتظر حلول النهاية لكي يفكر بأوزوريس ويلتفت إليه طالبا عونه، بل إن استعداده للقاء ربه كان شغله الشاغل طيلة حياته، ذلك أن سنوات حياته ووقت مماته معروفة سلفا من قبل أوزوريس، ومدونة لديه في لوح القدر الذي تسجل فيه الآجال ويحدد لكل امرئ نصيبه من الأيام، فهو رب القضاء والقدر والمصائر، المطلع على كل شيء، لا يخفى عليه ما في السماء وما في الأرض. وإلى جانب لوح القدر، فإن أوزوريس كان يحتفظ بسجل آخر يدعى سجل المصائر، تدون فيه أعمال البشر جميعهم، ويشرف عليه إلهان هما تحوث وسيشيتا اللذان يحصيان الأعمال الصالحة والطالحة لكل إنسان ويحفظانها إلى يوم الحساب، الذي يرى فيه كل واحد أعماله عندما يقف في حضرة ربه أمام الميزان في قاعة العدالة.
عندما يفلح الميت في عبور المفازات المرعبة التي تفصل عالم الأحياء عن عالم الأموات، وذلك بفضل الرقى السحرية التي أودعت في مدفنه من أجل استخدامها لهذه الغاية، يلقاه الإله حوروس، أو الإله أنوبيس الذي يحمل رأس ابن آوى (وهو إله المدافن وراعي التحنيط) فيقوده من يده ويدخله إلى قاعة العدالة المزدوجة، وهي قاعة فسيحة يتصدرها الإله أوزوريس جالسا على عرشه، ووراءه الإلهتان إيزيس ونفتيس في وضعية الوقوف، أمام أوزوريس وباتجاه وسط القاعة هنالك ميزان كبير منصوب يقف قربه الإله تحوث إله الحكمة والكتابة في هيئة القرد، وأمامه عن الجهة الأخرى للميزان يقف الوحش عم-ميت آكل الموتى متحفزا للانقضاض على الميت والتهامه إذا ثبتت إدانته، وعلى طول جدار القاعة يصطف آلهة الأقاليم المصرية وعددهم اثنان وأربعون، ولدى مرور الميت أمام هؤلاء يعلن أمام كل منهم براءته من إحدى الخطايا التي يكرهها أوزوريس، وهكذا حتى ينتهي من إعلان براءته من اثنتين وأربعين خطيئة، يوردها كتاب الموتى وفق الترتيب الآتي:
لم أقم بعمل شرير يؤذي أحدا من الناس، لم أكن سيئا في معاملة الماشية والأنعام. لم أقترف خطيئة في مكان الصدق (= المعبد)، لم أحاول معرفة ما لا يجب على الإنسان الفاني معرفته، لم أجدف على أحد من الآلهة، لم أكن قاسيا على أحد من الفقراء، لم أقم بعمل تمقته الآلهة، لم أشوه سمعة عبد أمام سيده، لم أتسبب بمرض أحد، لم أتسبب بحزن وبكاء أحد، لم أقتل ولم أعط أمرا بالقتل، لم أتسبب في عذاب أحد، لم أمارس الجنس مع غلام، لم أزد ولم أنقص في مكيال الحبوب، لم أغش في مقياس المساحة، لم أتلاعب بوزنات الميزان، لم أغش في كفة ميزان، لم أحرم الأطفال من حليبهم، لم أحرم المواشي من مراعيها، لم أمسك الطيور في حرم الآلهة، لم أصطد الأسماك في بحيرات حرم الآلهة، لم أمنع الماء عن الآخرين في مواسم السقاية، لم أضع ردما أمام الماء الجاري في السواقي، لم أطفئ شعلة نار لأحد، لم أتناس مواعيد تقديم القرابين ... إلخ.
بعد ذلك يؤتى بالميت أمام الميزان فيوضع قلبه في إحدى الكفتين وريشة طائر في الكفة الأخرى، وهي رمز معات إلهة العدالة والنظام والحقيقة. والمطلوب هنا أن يتساوى بدقة قلب الإنسان (الذي هو مقر العقل والعواطف والأفكار والنوايا، وبالتالي يحتوي سجلا كاملا لجميع الأعمال) مع رمز الحقيقة والقانون والنظام. وبعد أن يقوم أنوبيس بفحص النتيجة يبلغها إلى الإله تحوت الواقف خلفه فيدونها في سجل يمسك به ثم يعلنها لأوزوريس، إذا وجد الميت مذنبا انقض عليه الوحش فالتهمه ومحي من الوجود ذكره، وإذا وجد بريئا اقتاده الإله حوروس إلى حضرة أوزوريس وخاطبه قائلا: جئت إليك بفلان الذي وجدنا قلبه صالحا، وقد اجتاز الميزان، لقد وزن قلبه وفقا للأمر الذي نطقت به جماعة الآلهة، فامنحه كعكا وجعة واسمح له بالدخول إلى حضرتك، عند ذلك يركع الميت أمام أوزوريس ويخاطبه قائلا: أنا في حضرتك يا رب، ليس في ذنب، فأنا ما كذبت عمدا ولا فعلت شيئا عن سوء نية، فاجعلني بين من آثرتهم بفضلك وجعلتهم في صحبتك، لعلي أصير أوزوريسا يؤثره الإله الجميل بفضله، ومحبوبا من رب العالمين. وهنا يجيئه الجواب المنتظر من أوزوريس: دعوا الميت ينصرف سالما منتصرا، دعوه يمضي حيث يشاء، ويعيش في صحبة الآلهة وبقية الأرواح الصالحة.
تدعى الجنة الأوزيرية في النصوص المصرية بحقول القصب، وهي عبارة عن أرض خصبة تقع وراء الأفق الغربي، وتتخللها شبكة من القنوات المائية العذبة تجعلها أشبه بالجزر المتقاربة، وتهبها خصبا وخضرة دائمة، فيها ينمو الزرع والشجر من كل نوع، وفيها تعيش أرواح الصالحين خالدة إلى أبد الآبدين. أما عن علاقة روح الميت بجسده الذي تركه في القبر، فمسألة إشكالية في المعتقدات المصرية، ذلك أن النصوص تشير صراحة إلى أن روح الإنسان الصالح تنتقل من الجسد لتعيش مع الأبرار والآلهة، أما الجسد الفيزيائي فلا يبعث أبدا ولا يغادر القبر، ومع ذلك فقد استمر المصريون يحافظون على جثث أمواتهم منذ بدايات التاريخ المصري وحتى نهاياته. فما فائدة الجسد المادي إذا لم يكن معدا للبعث ولحلول الروح فيه مرة أخرى؟ إن الجواب على هذا السؤال ليس بالأمر السهل، وأي جواب لن يكون قاطعا بحال من الأحوال؛ فنحن في دراستنا للدين المصري لا نقف أمام معتقد موحد وثابت، بل أمام معتقد متغير تتداخل حلقاته عبر ثلاثة آلاف سنة، وتحتوي كل حلقة من هذه الحلقات على أثر باق من سابقتها، يضاف إلى ذلك أن الكهنة المصريين لم يعمدوا أبدا إلى إنتاج لاهوت متكامل متماسك، ولم يعبروا عن معتقداتهم بطريقة منظمة، مثلما لم يدونوا أساطيرهم المتداولة بنصوصها الكاملة، بل اكتفوا بالإشارات والتلميحات وإيراد مقتطفات منها ومشاهد تفي بالأغراض الطقسية. ولعل الجواب الأكثر إقناعا عن علاقة الروح بالجسد، هو أن طقوس الدفن وما يرافقها من تعاويذ وصيغ سحرية تحيل الجثة المحفوظة إلى نوع من الجسد الأثيري الذي ينبثق منها ويتجه إلى العالم الآخر، وهذا الجسد الأثيري الذي يشبه تماما الجسد المحفوظ، هو الذي تبعث فيه الروح إلى حياتها الأخرى، يضاف إلى ذلك أن الروح، ولأسباب نجهلها، تبقى بحاجة لأن تزور جسدها من وقت لآخر وتقيم معه لفترات تطول أو تقصر.
خلاصة
تقدم لنا ديانة مصر القديمة نموذجا عن كيفية الانتقال من مفهوم القطبية إلى شكل من أشكال مفهوم الثنوية، وعن الدور الذي تمارسه الأخلاق في هذا الانتقال، عندما تتحول من شأن دنيوي إلى شأن ديني، وما ينجم عن ذلك من ظهور فكرة الشيطان، وهي الفكرة التي تؤصل لمعتقد الآخروية والنهايات، ولكن المعتقد الأوزيري لم يصل بهذه الأفكار الدينية جميعها إلى نهاياتها المنطقية، لأن القطبية لم تتحول إلى ثنوية جذرية، ولا حتى إلى ثنوية أخلاقية تامة. فرغم علو شأن الأخلاق في العبادة الأوزيرية، فإنها لم تطغ تماما على الطقوس وبقيت التمائم والتلاوات السحرية وكلمات القوة وما إليها جزءا لا يتجزأ من الممارسات الدينية الأوزيرية مثلما كانت سابقا، ورغم كون أوزوريس إلها أخلاقيا إلا أنه لم يتحول إلى مبدأ كوني للخير، مثلما لم يتحول سيت إلى مبدأ كوني للشر، فرغم اتخاذ سيت للكثير من ملامح الشيطان الكوني، إلا أنه لم يتقمص فعلا شخصية الشيطان، لأن أهم سمة تميز الشيطان هي انقلابه على القوة الإلهية وتحوله إلى ملعون ورجيم من قبل إله الخير ورهطه السماوي، وهذا لم يحصل لسيت الذي بقي عضوا محترما في البانثيون الإلهي، وبقي الناس يعبدونه ويشيدون له المعابد والهياكل حتى نهايات التاريخ المصري، وبلغ من إجلال بعض الفراعنة له أن تسموا باسمه مثل سيتي الأول من أواخر القرن الثالث عشر ق.م.
ومن أهم نتاج تقصير ثنوية سيت-أوزوريس (أو سيت-حوروس بشكلها الجديد) عن بلوغ الثنوية الأخلاقية التامة، هي بقاء التصور المصري للتاريخ أسيرا لمفهوم التاريخ المفتوح، حيث الزمن الدنيوي عبارة عن سيالة متدفقة أبدا نحو اللانهاية، والتاريخ الإنساني بمحتواه التكراري يتحرك بشكل خطي دون هدف أو غاية. من هنا فقد غاب عن معتقد الثنوية الأوزيرية أهم عناصر الثنوية الأخلاقية الكاملة، وهو معتقد نهاية العالم، والبعث الأخير الشامل، وتحويل الوجود بأسره إلى مستوى ماجد وجليل في نهاية الزمن، وبقيت التصورات الآخروية في حدود القيامة الفردية والمصير الخاص لكل روح على حدة، الأمر الذي يترافق مع غياب مفهوم شامل عن الإنسانية والمجتمع الإنساني، ودور الإنسان كنوع متميز وخاص في دراما الخلاص العام.
على أن الأوزيرية قد قدمت لمفهوم الثنوية الكونية والتاريخ الدينامي، الذي سنراه في أكمل أشكاله في الديانة الزرادشتية، بعضا من أهم عناصره وهي: (1)
صلة الأخلاق بالدين، وصلة المصير الفردي بالأخلاق. (2)
القيامة الفردية، أو الصغرى. (3)
الثواب والعقاب الآخرويان. (4)
تصورات مادية واضحة عن جنة الآخرة.
وهذه العناصر جميعها سوف تشكل جزءا لا يتجزأ من عقائد الديانات المشرقية منذ مطالع الألف الأول قبل الميلاد.
مراجع المادة المعلوماتية للفصل (1)
A. Rosalie David, The Ancient Egyptians, Routledge, London 1982. (2)
Manfred Lurker, The Gods and Symbols of Ancient Egypt, Thames and Hudson, London 1984. (3)
E. A. Wallis Budge. The Gods of The Egyptians, Dover, New York, 1969. (4)
E. A. Wallis Budge, Osiris, Dover, New York 1973. (5)
E. A. Wallis Budge, Egyptian Religion, Routledge, London 1975. (6)
New Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977, ch. 2.
الفصل الرابع
ميلاد الشيطان
زرادشت: نبي التوحيد نبي الثنوية (1) مقدمة تاريخية
منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، أخذت الشعوب المعروفة تاريخيا باسم الشعوب الهندو-آرية بالانسياح من مواطنها الأصلية في السهوب الأوراسية، نحو آسيا الصغرى وأوروبا والهند وإيران، وقد وصلت طلائع الهندو-آريين إلى الهضبة الإيرانية خلال أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، ثم أخذت بالاستقرار تدريجيا في ثلاث مناطق رئيسية، حسب عشائرها، وهي منطقة ميديا ومنطقة فارس ومنطقة بارثيا. في مطلع الألف الأول قبل الميلاد حكمت ميديا سلالة ملكية بدأت بتوحيد الممالك الإيرانية الصغيرة منذ القرن الثامن ق.م. ثم أفلحت في بسط سلطتها على كامل إيران عقب تحالفها مع بابل وتدميرهما آشور خلال عامي 614-612ق.م. دام سلطان الميديين قرابة قرن من الزمان، إلى أن قام قورش ملك فارس بالتمرد على حميه ملك ميديا عام 549ق.م. وأخضع ميديا وبقية المناطق الإيرانية، وأسس لحكم أسرة قوية عرفت باسم الأسرة الأخمينية. بعد أن استتبت له الأمور في إيران، أخذ قورش بالضغط على الحدود الشرقية للإمبراطورية البابلية، إلى أن سقطت بابل العاصمة في يده عام 539ق.م. وانفتحت أمامه بوابة آسيا الغربية، فتابع مسيرته غربا حتى استولى على مناطق النفوذ البابلية في بلاد الشام وآسيا الصغرى جميعها، ثم أكمل ابنه قمبيز ضم مصر بعد ذلك بقليل. وبذلك ابتدأ عصر جديد في منطقة الشرق القديم هو عصر الإمبراطورية الفارسية، التي حكمت أصقاعا مترامية تمتد من البنجاب في الهند شرقا إلى حدود اليونان القارية وحدود الصحراء الغربية في مصر غربا. دامت هذه الإمبراطورية قرابة قرنين من الزمان، إلى أن انتهت على يد الإسكندر المقدوني عام 331ق.م.
في عام 280ق.م. قامت في مملكة بارثيا ثورة على حكم السلوقيين السوريين من خلفاء الإسكندر، بقيادة الزعيم أرشق الذي حرر بارثيا أولا ثم بقية المناطق الإيرانية، وأسس لحكم أول أسرة بارثية. بعد وفاة أرشق قام خلفاؤه بمتابعة الضغط على القوات السلوقية، حتى دفعوا بها إلى ما وراء نهر الدجلة. وفي عهد الملك ميتراديس الأول وخليفته ميتراديس الثاني، تم إجلاء السلوقيين إلى ما وراء نهر الفرات، وامتدت الإمبراطورية البارثية من حدود الهند شرقا إلى الفرات غربا. امتد العمر بهذه الإمبراطورية أمدا طويلا، وذلك من أواسط القرن الثاني ق.م. إلى أوائل القرن الثالث الميلادي عندما عادت السلطة مجددا إلى فارس، فقد قام حاكم منطقة فارس المدعو بابك بالثورة على البارثيين وأعلن فارس مملكة مستقلة، ثم وليه ابنه أردشير الأول الذي التقى بآخر ملوك البارثيين في معركة فاصلة وقتله عام 226 ميلادية. وأردشير الأول هو مؤسس الأسرة الساسانية التي حكمت الإمبراطورية الفارسية قرابة أربعة قرون. من أشهر ملوك الساسانيين خسرو أنوشروان، المعروف لدى العرب بكسرى أنوشروان، وقد ارتقى هذا العاهل الكبير العرش عام 531م، وحكم قرابة خمسين عاما، وبعد وفاته شهدت البلاد فترة من الاضطرابات توالى خلالها على العرش عدد من الملوك الضعفاء انتهوا بالخلع أو القتل، إلى أن ولي العرش يزدجرد الثالث عام 632م. وقد استطاع هذا العاهل القوي ضبط الأمور بيد من حديد، وسار بالبلاد نحو عهد من الطمأنينة والاستقرار، إلا أن العرب الذين ظهروا على المسرح الدولي في ذلك الوقت، ما لبثوا أن غنموا سورية عام 636م، ثم توجهوا لقتال يزدجرد في معركة القادسية الحاسمة، وبعد معركتين تاليتين شق العرب طريقهم نحو الهضبة الإيرانية، ومع حلول عام 652 كانت سيطرتهم على إيران تامة تقريبا. (2) زرادشت
يعتبر زرادشت واحدا من أهم الشخصيات الدينية التي أثرت على مجرى الحياة الروحية عبر تاريخ الحضارة، ولا تكمن أهمية هذا النبي والمعلم الأخلاقي الكبير في مدى الانتشار الجغرافي والزماني للديانة الزرادشتية التي قامت على وحيه وتعاليمه، بقدر ما تكمن في مدى تأثير أفكاره على الديانات العالمية اللاحقة.
لا يوجد بين أيدينا مصادر تاريخية مباشرة تعيننا على رسم سيرة حياة كاملة لزرادشت، ولكننا نستطيع رسم ملامح عامة لها اعتمادا على المصادر الإغريقية التي تعود إلى القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وعلى المصادر الزرادشتية ذاتها، وأهمها مجموعة الأناشيد التي وضعها زرادشت نفسه والمدعوة بالغاثا، ومجموعتين من الأدبيات الزرادشتية معروفتين باسم الأفيستا والأفيستا الصغرى، وتحتويان على تعاليم زرادشت وأحاديثه الشفوية التي تم تناقلها عبر الأجيال، وعلى شروحات وتعليقات اللاهوتيين الزرادشتيين، وقد تم تدوين هاتين المجموعتين خلال الفترة الساسانية بعد قرون طويلة من التداول الشفهي.
رغم أننا نفهم من الأفيستا الصغرى أن زرادشت قد عاش وبشر برسالته قبل عصر الإسكندر بثلاثة قرون، أي فيما بين أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد، إلا أن الباحثين في تاريخ الزرادشتية مختلفون في تاريخ ميلاد المعلم، فبينما يرجع به فريق من الباحثين إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد استنادا إلى التحليل الفيولوجي للهجة أناشيد الغاثا التي تشف عن بنى لغوية مغرقة في القدم، فإن فريقا ثانيا يقبل بالمعلومة الأفيستية ويضع ميلاده في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ويطابق بين اسم الملك فيشتاسبا الذي يتكرر في أناشيد الغاثا واسم والد الملك قورش المدعو هيستابس، وهنالك فريق ثالث يضع مولد زرادشت في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وحوالي عام 900 تقريبا، وحجة هذا الفريق قدم لهجة أناشيد الغاثا من جهة، وعدم تعرضها ولو بالإشارة العابرة إلى ذكر مملكة الميديين أو الأخمينيين من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك ما تكشف عنه الدراسة المدققة للأناشيد من وجود نظام سياسي كان سائدا خلال حياة الكاتب، يقوم على الإمارات الصغيرة التي لا تخضع لسلطة سياسية مركزية، ومثل هذا النظام لم يكن ممكنا بعد عام 900ق.م. هذا التاريخ المتوسط لميلاد نبي الزرادشتية يلقى الآن تأييد معظم الباحثين. أما عن المنطقة التي ولد فيها المعلم وعاش سنوات يفاعته إلى أن جاءه وحي النبوة، فإن الآراء تتفق على وقوعها في المناطق الشرقية المتطرفة والبعيدة عن المراكز الحضرية، والتي كانت تعيش على الرعي وتربية الماشية.
عندما ولد زرادشت، على ما تقصه الأدبيات الزرادشتية اللاحقة، احتفلت كل مظاهر الطبيعة، وحدثت سلسلة من المعجزات التي رافقت ذلك الحدث المهم في تاريخ الكون وتاريخ الإنسانية. أما الشيطان فقد هرب واختفى من وجه الأرض، ثم ما لبث أن أرسل زبانيته لإهلاك الرضيع، فلما اقتربوا منه تكلم في المهد ونطق صلاة للرب طردت الشياطين، وعندما شب عن الطوق جاءه الشيطان لكي يجربه ووضع في يده سلطان الأرض كلها مقابل تخليه عن مهمته القادمة، ولكن زرادشت نهره وأبعده عنه. هذه المواجهة بين المخلص والشيطان نجدها أيضا في الأدبيات الدينية البوذية والمسيحية. فعندما كان البوذا في جلسة التأمل الأخيرة التي قادته إلى المعرفة المطلقة، أرسل رئيس العفاريت الشريرة مارا زبانيته الذين أحاطوا بالشجرة التي يجلس تحتها المعلم، وحاولوا إخافته وبث الرعب في قلبه بكل الوسائل، ولكنه بقي هادئا مستغرقا في تأمله الباطني، ثم هبط مارا بنفسه ورماه بكل أسلحته، ولكنها تحولت إلى براعم زهور معلقة حول رأسه في الهواء، وما إن حل الصباح حتى استنارت جنبات البوذا بالعرفان واخترق بعقله وروحه جوهر الحقيقة. وفي إنجيل متى نقرأ أن إبليس أخذ يسوع إلى البرية بعد أن هبط عليه الروح القدس ليجربه، وبعد أربعين يوما: «أخذه إلى جبل عال جدا وأراه ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعا إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه تعبد» (متى: 4).
انخرط زرادشت منذ يفاعته في سلك الكهنوت وصار كاهنا على دين قومه «وهو دين هندو-إيراني شبيه بدين أسفار الفيدا الهندية»، وكان ينتمي إلى فئة خاصة من الكهان تدعى زاوتار، يتميز أفرادها بسعة العلم والخبرة في الشئون الدينية، ولا يرسمون كهنة إلا بعد خضوعهم لتدريب طويل يتمرسون خلاله بشتى المعارف اللاهوتية والتقنيات الطقسية. غير أن هذا الكاهن ما لبث أن انشق عن المعتقدات التقليدية التي نشأ عليها، وأحدث انقلابا دينيا كان له أعمق الأثر في الحياة الروحية لإيران وللإنسانية على حد سواء. فعندما كان زرادشت في الثلاثين من عمره جاءه وحي النبوة من السماء يأمره بالتبشير والدعوة إلى دين الله الحق. فبينما كان الكاهن الشاب يشارك في إحدى المناسبات الطقسية، دعت الحاجة إلى بعض الماء، فتطوع زرادشت لجلبه ومضى إلى النهر القريب حيث خاض إلى ركبتيه وملأ وعاءه، وبينما هو خارج من الماء،
1
تجلى له على الضفة كائن نوراني، فخاف لرؤيته وهم بالرجوع، ولكن الكائن كلمه وطمأنه قائلا بأنه فوهو مانا، أحد الكائنات الروحانية الستة التي تحيط بالإله الواحد أهورا مزدا وتعكس مجده، ثم أخذ الملاك بيد زرادشت وعرج به إلى السماء حيث مثل في حضرة أهورا مزدا والكائنات الروحانية المدعوة بالأميشا سبينتا ، وهناك تلقى من الله الرسالة التي يتوجب عليه إبلاغها لقومه ولبني البشر جميعهم.
بعد تلقيه الرسالة، انطلق زرادشت يبشر بها في موطنه وبين قومه مدة عشر سنوات، ولكنه لم يستطع استمالة الكثيرين إلى الدين الجديد، فلقد وقف منه الناس العاديون موقف الشك والريبة بسبب ادعائه النبوة وتلقي وحي السماء، بينما اتخذ منه النبلاء موقفا معاديا بسبب تهديده لهم بعذاب الآخرة، ووعده للبسطاء بإمكانية حصولهم على الخلود الذي كان وقفا على النخبة في المعتقد التقليدي. ولما يئس النبي من قومه وعشيرته عزم على الهجرة من موطنه، فتوجه إلى مملكة خوارزم القريبة حيث أحسن ملكها فيستاشبا استقباله، ثم اعتنق هو وزوجته الزرادشتية وعمل على نشرها في بلاده، ولكن ملوك المناطق المجاورة طالبوا فيستاشبا بنبذ الزرادشتية والرجوع إلى دينهم التليد، وانتهزوا الفرصة للإغارة على حدود بلاده، فدخل معهم في حروب طاحنة خرج منها منتصرا، وبذلك تم فتح الطريق أمام الزرادشتية للانتشار التدريجي.
عاش زرادشت عمرا مديدا، ووجد الوقت الكافي لنشر رسالته والعمل على تبسيط تعاليمه الأولى التي أوردها في الأناشيد، وذلك بلغة تقربها إلى عامة الناس وتستميلهم إليها. تزوج ثلاث مرات وأنجب ثلاثة ذكور وثلاث بنات، وكانت ثالث زيجاته من ابنة الوزير الأول لمملكة خوارزم. بعد وفاة الملك فيستاشبا سادت الفوضى في المملكة وفقد زرادشت سنده وحاميه، فكان عليه أن يكافح ويصمد بقواه الخاصة، وهي مهمة حققها بنجاح بعد نضال شاق وطويل. إلى هذه الفترة العصيبة يرجع قانون العقيدة الزرادشتي الذي يتوجب على المؤمن فهمه وإعلانه لدى دخوله في الدين الجديد، وفي مقدمته الشهادة التي تقول: «أشهد أني عابد للإله أهورا مزدا، مؤمن بزرادشت، كافر بالشيطان، معتنق للعقيدة الزرادشتية، أمجد الإميشا سبينتا الستة، وأعزو لأهورا مزدا كل ما هو خير.» لدى نطقه بهذه الشهادة يكون الفرد قد انسلخ عن الدين القديم وصار عضوا في جماعة المؤمنين.
ذاعت شهرة زرادشت في العالم القديم فاعتبره الإغريق سيدا للحكمة والمعارف السرانية، وعزا إليه الفيثاغوريون تأثيرا مباشرا على معلمهم فيثاغورث، ونظر إليه فلاسفة الأكاديميا بإكبار وإجلال باعتباره مؤسسا لفلسفة الثنوية، ثم رأت فيه المسيحية المبكرة مبشرا بقدوم السيد المسيح بسبب تعاليمه حول المخلص المنتظر الذي سيأتي في آخر الأزمان، ولم تكن النجمة التي ظهرت في الشرق وقادت المجوس الثلاثة إلى مهد يسوع في بيت لحم، إلا إشارة إلى تحقيق نبوءة زرادشت (انظر إنجيل متى، الإصحاح الثاني). وعندما ظهرت المدارس الغنوصية في سورية ومصر خلال القرون الأولى للميلاد، وجدت في زرادشت واحدا من معلميها الكبار، ثم جاء ماني المعلم الثاني لمعتقد الثنوية، فاعتبر زرادشت ثالث الأنبياء العظام الذين سبقوه إضافة إلى موسى ويسوع. وفي العصور الحديثة أصبح زرادشت موضع اهتمام الأوروبيين منذ عصر النهضة، وكان الفيلسوف الألماني نيتشه من أكثر الفلاسفة المحدثين إعجابا به، واستعار اسمه لحكيم كتابه: هكذا تكلم زرادشت. (3) المعتقد الزرادشتي
يتميز المعتقد الزرادشتي بابتكاره لمفهوم الوحدانية الثنوية، وصفة الثنوية هنا لا تلغي صفة الوحدانية، لأن مفهوم الثنوية الزرادشتي يقف في تعارض مع مفهوم التعددية، ولكنه لا يتعارض مع الوحدانية بل يتلازم معها، ذلك أنه يقدم أكثر التفسيرات منطقية لوجود الشر في العالم. أهورا مزدا واحد ولا ثاني له في الألوهة، خالق كل ما هو طيب وحسن، ولكنه ليس مسئولا عن وجود الشر في العالم، ولم يكن ليرتضي وجوده منذ البداية، بل لقد سعى إلى مكافحته بكل السبل والوسائل، ولسوف ينتصر عليه في معركة تمتد على مدى تاريخ الكون والإنسان، وستشهد نهاية هذا التاريخ غلبة جند الحق على جند البهتان واختفاء الشيطان وأعماله إلى الأبد. (3-1) خلق العالم الروحاني
في البدء، لم يكن سوى الله، أهورا مزدا، وجود كامل وتام وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها، ولكن هذه الألوهة اختارت أن تخرج من كمونها وتظهر ما عداها إلى الوجود، فكان أول خلقها روحين توءمين هما سبينتا ماينو وأنجرا ماينو، ولكي يكون لهذين الروحين وجود حقيقي مستقل عن خالقهما، فقد منحهما الله خصيصة الحرية التي استخدماها منذ صدورهما عنه، فاختار سبيتنا ماينو الخير ودعي بالروح القدس، واختار أنجرا ماينو الشر ودعي بالروح الخبيث، ثم راح يتحفز للانقضاض على خلق الله القادم ويقاوم كل عمل حسن له.
هذا الخيار البدئي كان بمثابة النموذج الأسبق لكل خيار أخلاقي لاحق يقوم به الإنسان، دونما جبرية أو قدرية من أي نوع، لأن الإنسان سوف يخلق حرا أيضا، والحرية ستقوده إلى الاختيار، والاختيار هو جوهر الأخلاق، وبذلك يقوم المعتقد الزرادشتي على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الحرية والاختيار والمسئولية الأخلاقية. إن صيرورة الوجود بكامله سوف تعتمد على كيفية استخدام الذوات الواعية من أهل السماء والأرض لهذه المعطيات. يقول زرادشت في أحد أناشيد الغاثا: «الحق أقول لكم، إن هناك توءمين يتنافسان منذ البداية، اثنان مختلفان في الفكر وفي العمل: روح خبيث اختار البهتان وثابر على فعل الشر، وروح طيب اختار الحق وثابر على فعل الخير ومرضاة أهورا مزدا. وعندما تجابه الاثنان لأول مرة أبدعا الحياة ونقيضها، ولكن عندما تحين النهاية فإن من اتبع البهتان سوف يرد إلى أسوأ مقام، ومن اتبع الحق فسوف يرد إلى أسمى مقام.»
بعد الخيار الأخلاقي للتوءمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع مفتوح. ورغم أن الله كان قادرا منذ البداية على سحق أنجرا ماينو ومحو الشر في مهده، إلا أنه قرر عدم التناقض مع نفسه بالقضاء على مبدأ الحرية الذي أقره وأقام عليه خليقته، وآثر السير بخطته التي تقوم على مقاومة الشر استنادا إلى المبدأ ذاته الذي أنتج الشر وهو الحرية. وهنا عمد بمعونة الروح القدس سبينتا ماينو إلى إظهار ستة كائنات نورانية قدسية إلى الوجود، شكلت بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام، ويدعون بالأميشا سبينتا، أي الخالدون المقدسون، وقد أوجدهم الله من روحه كمن يشعل الشموع من مشعل متقد، على حد تعبير أحد مقاطع الأفيستا، وتدل أسماؤهم على أنهم ليسوا إلا خصائص مجسدة للإله، فهم: فوهو مانا الفكر الحسن، وآشا فاهيستا الحقيقة الناصعة، وكشاترا فايرا الملكوت القادم، وسبينتا أرمايتي الإخلاص، وهورفات الكمال، وإيرميتي الخلود . وقد شارك هؤلاء الخالق فيما تلا من أعمال الخلق والتكوين، وصاروا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين الناس وجميع مظاهر الوجود، ثم إن الأميشا سبينتا خلقوا عددا من الكائنات القدسية الطيبة تدعى بالأهورا، فعهد إليهم أهورا مزدا بمهامهم وأوكلهم بمكافحة الشر كل في مجاله. وبالمقابل فإن إنجرا ماينو قد استنهض عددا من الكائنات المتفوقة تدعى بالديفا وعمد إلى ضلالتهم فانحازوا إلى جانبه وراحوا يتهيئون للانقضاض على كل عمل طيب يصدر عن الله، وبذلك تم تكوين عالم الملائكة وعالم الشياطين قبل أن يظهر العالم المادي.
فوق الروحين المتنافسين وفوق فريق الديفا والأهورا،
2
يسمو أهورا مزدا في عليائه متجاوزا ثنائيات الخلق، ولكنه يعمل في الوقت نفسه على دعم قوى الخير لتدخل في منافسة عادلة مع قوى الشر. نقرأ في نشيد آخر من أناشيد زرادشت المدعوة بالغاثا:
هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا.
من هو أبو الحقيقة منذ أقدم الأزمان؟
من رسم للشمس مسارها وللنجوم؟
من جعل القمر يتناقص ويتزايد، من إن لم يكن أنت؟
هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر.
من يمسك الأرض ويرفع السماء من فوقها فلا تقع؟
من فرش الزرع وأجرى الماء؟
من قرن جيادا مطهمة إلى عربة الريح وعربة السحاب تجرها؟
من خلق الأفكار الخيرة، من إن لم يكن أنت؟
هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر أيها الإله الحكيم.
أية صنعة مبدعة خلقت اليقظة والنوم؟
من سخر الليل والصباح والظهيرة تذكرة للناس بمهامهم؟
من سخر البقر والأنعام لرخاء الناس؟
من يزرع في القلب احترام الوالدين؟
إني أسألك أيها الإله الحكيم، لأنشر معرفتك بين الأنام.
فأنت العقل الطيب وخالق كل شيء.
بعد أن تأسس الشر على المستوى الروحاني عرف أهورا مزدا أن القضاء على الشيطان وأتباعه لن يتيسر قبل خلق العالم المادي، لأن عالم المادة سيكون المسرح المناسب للصراع بين جند الحق وجند البهتان، ولسوف يعمد أنجرا ماينو إلى مهاجمة خلق الله بكل ما أوتي من قوة، لأنه خلق طيب وحسن، ولكن هذا الهجوم سوف يفت في عضده تدريجيا، حتى يفقد قوته وسلطانه في آخر الأمر، ويحسم الصراع لصالح الخير في نهاية التاريخ. عندها يتم تخليص الكون إلى الأبد من شوائب الشر ليعود كونا حسنا وطيبا إلى الأبد. (3-2) الزمن الكوزموغوني
سار خلق الله للكون على درجتين: الأولى تدعى مينوغ، وهي حالة من الوجود المثالي غير المتحقق في شكل مادي، والثانية تدعى جيتينغ، وهي حالة الوجود المادي المتحقق في أشكال ذات قوام وخواص. والحالة الثانية خير من الحالة الأولى، لأنها انتقلت بالكون من الحالة الهلامية إلى حالة الصلابة والثبات والنظام. وهذا ما يميز خلق الله عن خلق الشيطان، وقدرة الله عن قدرة الشيطان الذي لا يستطيع منح ما يخلقه القوام والمادة، ويخرج به إلى حيز الوجود الفعلي. ونحن هنا أمام رؤية فلسفية جديدة لا ترى في المادة حالة دنيا من أحوال الوجود، بل ترى فيها أنبل وأسمى أشكال الوجود. أما ما يبدو لنا من قصور وشواش في صيرورة العالم المادي، فليس إلا نتيجة لامتزاجه بعناصر الشر التي جاءت من الشيطان، وهي عناصر مؤقتة التأثير سوف يتخلص منها العالم إن عاجلا أم آجلا. وتنعكس هذه الرؤية للعلاقة بين المادة والروح على نظرة الزرادشتية إلى الإنسان في روحه وجسده، فروح الإنسان ليست أسمى من جسده، والجسد ليس منبعا للشرور ولا رداء مؤقتا نسعى إلى التخلص منه من أجل الالتحاق بالعوالم الروحانية، بل هو الشرط الأمثل الذي يحقق للروح حياة ذات معنى، لذا فإن الأرواح عندما تنفك عن أجسادها بالموت، فإنها تبقى في حالة انتظار تحن إلى الاتحاد بأجسادها من جديد في يوم البعث الأخير. من هنا تستبعد الزرادشتية كل ممارسات الزهد والتقشف الهادفة إلى تعذيب الجسد طمعا في تخليص الروح من آثامه، لأن على الإنسان أن يكافح الشر بروحه وجسده معا، وأن يبقيهما في أفضل حالة تمكنهما من أداء هذه المهمة على أفضل وجه.
ولقد انتقل العالم من درجة المينوغ إلى درجة الجيتينغ على ستة مراحل زمنية. في البداية خلق الله السماء من صخر كريستالي، ثم خلق الماء فالأرض فالحياة النباتية فالحياة الحيوانية، وأخيرا خلق الإنسان الأول. وفيما يتعلق بالأرض، وهي بؤرة الكون، فقد أقام الله حولها سلسلة جبال شاهقة تتصل بشروش تحتية بجبل يقع في مركز الأرض يدعى جبل هارا، ومنه تنطلق أرواح الموتى في رحلتها إلى السماء، ثم قسم الأرض إلى سبعة أقاليم، جميعها أراض سهلية لا التواء فيها ولا وهاد ولا تلال. أول هذه الأقاليم يدعى خافي نيراينا وهو الوحيد المأهول بالسكان، وحوله تتوزع الأقاليم الستة الأخرى، وصنع بحرا يغطي الأرض لجهة جنوبها وفي وسطه جبل مصنوع من جبلة السماء، ومن البحر فجر نبعين غزيرين فشكلا نهرين كبيرين هما دايتا ودانها، اللذان يحدان الجهة الشرقية والجهة الغربية للإقليم المسكون، وزرع في البحر شجرة تحتوي على البذور المعروفة بأنواعها تدعى شجرة كل البذور، وشجرة أخرى تدعى شجرة الشفاء والحياة الأبدية.
بعد انتهاء أهورا مزدا من صنع الكون، قام أنجرا ماينو لفوره بالانقضاض عليه، لأن حالة الوجود المتحقق جيتنغ أكثر عرضة للتخريب والبعثرة والإفساد من الحالة غير المتحققة مينوغ. اقتحم أنجرا ماينو الجزء الأسفل من قبة السماء فشوهها، ثم انتصب مثل الحية وقفز نحو تجمعات النجوم فشتتها وأحل الاضطراب في نظام السماء، ثم غطس في البحر فأفسد ماءه بالملح، وتوجه نحو الينابيع فجففها، وإلى السهول الخضراء فأذبل مزروعاتها، ونشر فيها الصحارى، وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية، وانقض على النار فلوثها بالدخان وعلى الإنسان الأول فذبحه، وهكذا زرع الشيطان الموت والفساد في خلق الله. ورغم أن الأميشا سبينتا قد تصدت للهجوم وباشرت بإصلاح ما خربه الشيطان، إلا أن العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء والطيبة لأن الفساد قد عشعش فيه. لقد أخذ الأميشا سبينتا نبات الأرض اليابس فطحنوه ثم نثروه فحملته الرياح إلى الجهات الأربع، ثم دفع الأميشا الرياح فحملت الغيوم وأنزلت المطر، فنبتت من بذور الزرع اليابس حياة جديدة، ثم أخذوا بذور الإنسان الأول القتيل فطهروها بضوء الشمس وزرعوها في التربة، فخرجت منها نبتة انطوت أوراقها على الزوجين البشريين الأولين ماشيا وماشيو، وعندما افترقت عنهما الأوراق كانا ملتصقين في وضعية العناق لا يتبين منهما الذكر من الأنثى، فنفخ فيهما الله روحا فانتصبا أمامه بشرا سويا، وقال لهما : أنتما الإنسان، وأنتما سلف العالم، خلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان، ثم جاء الملائكة وعلموهما إشعال النار واستخدامها وألبسوهما ثيابا من جلد، كما علموهما استخراج المعادن وصنع السكاكين والأدوات، وغير ذلك من التقنيات اللازمة لحياة الإنسان.
بعد ذلك التفت الأميشا سبينتا إلى بقية مظاهر الطبيعة التي زرعت فيها سموم الشر لترميمها، ولكن أنجرا ماينو لم يترك لهم فرصة لإتمام عملهم على أحسنه، فراح يهاجم العالم بكل قواه بمعونة بقية جند الظلام، فجلبوا الأمراض والآلام على الكائنات الحية وصنعوا كل نقيصة مادية، ثم دخلوا في عقل ماشيا وماشيو فزرعوا بذور كل نقيصة أخلاقية. تصدى لهم الأميشا وجندهم، واستمر الصراع بين الفريقين بلا هوادة وبلا توقف، وهذا الصراع لن يكون له نتائج إيجابية إلا بعون الإنسان الذي يتوجب عليه أن يعي مسئولياته الخلقية في هذه الحياة، ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله، وبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني ودفع التاريخ إلى مرحلته الأخيرة، عندما يتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخلهما من خبث. (3-3) مراحل التاريخ وظهور المخلص
لقد عرف أهورا مزدا، الذي يطال علمه البدايات والنهايات، أن آخرة الشر قادمة لا ريب فيها، فوضع خطة للقضاء عليه تتدرج على ثلاث مراحل، يؤشر كل منها لطور من أطوار الزمن. فلقد خلق أهورا مزدا العالم في أكمل وأطيب صورة ممكنة، واستمر على هذه الحالة ردحا من الزمن كان الشيطان خلالها نائما، وهذه هي المرحلة الأولى، مرحلة الخلق الكامل. في المرحلة الثانية يهاجم الشيطان خلق الله ويبث فيه سمومه فيختلط الخير بالشر، وهذه هي مرحلة الامتزاج. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، والتي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه ليعود الكون كاملا وطيبا إلى الأبد، ويأتي التاريخ إلى نهايته ليعقبه زمن سرمدي لا تتناوبه التناقضات والمتعارضات، وينتفي منه المرض والألم والحزن والموت . ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو ساوشنياط «أو شوشانز»، وهو الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود، وبذلك تفتتح فترة التاريخ الأخير بزرادشت وتختتم بمخلص أو مهدي من نسله تحمله أمه بشكل إعجازي، ورغم المعجزة الإلهية التي قادت إلى ولادة هذا المهدي، فإنه يبقى إنسانا مولودا من أبوين بشريين، لأن خلاص العالم في النهاية هو مسئولية الإنسان ويقوده ابن الإنسان الذي سيعلن عن نفسه في الوقت المناسب، فيلقي الرعب في قلوب جند الظلام ويطاردهم في كل مكان ويمحو عن الأرض أثرهم.
تعود فكرة المخلص إلى أناشيد زرادشت القديمة. فلقد بشر بقرب انتهاء مرحلة التمازج، وحلول مرحلة الفصل الأخيرة، وقرن ذلك بقدوم المخلص، وألمح في أكثر من موضع في مجموعة الغاثا إلى أنه سيأتي من بعده ليحل الحق ويدحر البهتان، ودخلت هذه الفكرة في صلب العقيدة الزرادشتية منذ بداياتها، ولكن الفكرة قد أخذت أشكالا جديدة خلال الفترات اللاحقة. ففي العصر الأخميني قال اللاهوتيون بظهور ثلاثة مخلصين، وذلك في نهاية كل ألفية من الألفيات الأخيرة من عمر الزمن الأرضي. في نهاية الألفية الأولى يظهر المخلص المدعو أوخشتاتريتا، وفي نهاية الألفية الثانية يظهر المدعو أو خشياتنيما، وفي نهاية الألفية الثالثة يظهر المخلص ساوشنياط نسل زرادشت من عذراء البحيرة، ولكن هذه التصورات اللاهوتية اللاحقة لم تتأصل في صميم المعتقد الشعبي، وبقي الناس مثبتين قلوبهم على المخلص الأخير منتظرين ظهوره. (3-4) التصورات الآخروية
يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطا وثيقا بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية، فبعد أن دخل الموت في نسيج الحياة خلال فترة التمازج بين الخير والشر، صار الموت نصيب كل كائن حي، وبوابة عبور من حالة الجيتنغ المادية إلى حالة المينوغ الروحانية الهلامية القاصرة. فالأرواح بعد مغادرة الأجساد عقب الموت، تبقى في برزخ المينوغ تنتظر يوم القيامة بشوق وترقب لكي تلتقي بأجسادها التي تبعث من التراب. يحدثنا زرادشت في أناشيد الغاثا عن مصير الروح بعد الموت وأحوالها إلى زمن البعث والنشور. فبعد مفارقتها للجسد تمثل الروح أمام ميترا قاضي العالم الآخر (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبينتا الرهط السماوي المقدس) الذي يحاسبها على ما قدمته في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية وخير العالم، ويقف إلى يمين ويسار ميترا مساعداه سرواشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة، فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفة شره كان مثواه هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير الهوينى فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الخبيثة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار جهنم، وهناك أنجرا ماينو نفسه يسوم المذنبين سوء العذاب. أما من تساوت سيئاته وحسناته فيعبر الصراط إلى مكان وسط بين النعيم والجحيم، حيث يستمر في وجود باهت كظل شبحي بلا إحساس.
هذا وتقدم شروحات اللاهوتيين الزرادشتيين مزيدا من التفاصيل حول هذه القيامة الفردية. فبعد أن يودع الميت مثواه الأخير، تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليال تتأمل في حسناتها وسيئاتها، وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إن كانت من الصالحين فيواسونها، أو شياطين العذاب إن كانت من الكافرين، فيسومونها سوء العذاب. وفي اليوم الرابع تساق الروح إلى جلسة الحساب، وبعد اجتياز الميزان الذي يقرر مكانها تتجه إلى الصراط، وهو عبارة عن جسر يشبه السيف، فإذا كان العابر روحا خبيثة فإن السيف يستدير بطرفه الحاد نحو الأعلى، فتخطو الروح عليه ثلاث خطوات هي الفكر السيئ والقول السيئ والعمل السيئ، وعندما تحاول الخطوة الرابعة تنزلق إلى مهاوي جهنم. أما إذا كان العابر روحا طيبة فإن السيف يستدير بطرفه العريض لتعبره الروح إلى الطرف الآخر بسلام. وفي رواية أخرى، نجد أن الصالح بعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه روائح عطرة آتية من الجنة، وعند منتصف الصراط تظهر له فتاة في ريعان الصبا لم تقع العين في الحياة الدنيا على أجمل منها. فيسألها: من أنت؟ فتقول: أنا عملك الطيب، ثم تأخذ بيده إلى الجنة، وأما الإنسان الطالح فبعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه ريح نتنة من أعماق الجحيم، وعند منتصف الصراط تظهر له عجوز شمطاء نتنة لم تقع العين على أقبح منها. فيسألها: من أنت؟ فتقول: أنا عملك السيئ، ثم تقبل عليه وتعانقه فيهويان معا إلى الجحيم.
يتألف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، حيث يتكاثف الظلام حتى يمكن إمساكه باليد، وحيث يتصاعد نتن لا تطيقه نفس بشرية أو شيطانية، فتستقبل كل طبقة أهلها حسب فداحة ذنوبهم، وتقدم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاث درجات تقابل الفكر الحسن والقول الحسن والعمل الحسن. فالدرجة الأولى عند خط النجوم، والثانية عند خط القمر، والثالثة عند خط الشمس. فتصعد الروح هذه الدرجات تباعا وصولا إلى السماء العليا غارو-ديمانا، أو مسكن الغناء، وهناك تقيم في بركة وسلام إلى يوم الحساب الأخير.
مع ظهور المخلص ساوشنياط، تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اتخمت به من عظام الموتى خلال مراحل التاريخ الثلاثة، ويفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم. هناك يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حيا إلى يوم الدينونة، ليأتي الجميع إلى الحساب الأخير. في ذلك اليوم، يسلط الملائكة نارا على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهرا من السائل الناري ما من أحد إلا وارده. فأما الأخيار فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافئ، وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفتيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، ويكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور، واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ أنجرا ماينو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعا ويتم التخلص من آخر بقايا الشر . كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليما من أقاليم الأرض الزاهرة، عند ذلك يعيش الذين عبروا نهر النار سالمين في أرض جديدة وتحت سماء، هي الأرض نفسها، والسماء نفسها وقد تطهرتا وصارتا نقيتين إلى الأبد، ثم يقوم أهورا مزدا بإسقاء هؤلاء الأخيار شراب الخلود الذي يجعل أرواحهم وأجسادهم في اتحاد أبدي، ويغدون خالدين في جنة وسعها السماوات والأرض كل بقعة فيها ربيع أخضر دائم، وتحتوي على كل شجر وثمر وزهر. (3-5) الأخلاق والعبادات
الواجب الخلقي
يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات القدسية في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، وعليه بالدرجة الأولى أن يعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض، لأنهم جميعا صنعة الله الواحد. كما عليه أن يرعى جسده وروحه معا، وتتحقق رعاية الجسد من اتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة، والاعتدال في الأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء. أما رعاية الروح فتتحقق من اتباع النظام الأخلاقي السليم الذي اختطه النبي، والذي رغم تشعبه يتلخص في ثلاثة عناصر، هي: الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلا الأفكار الطيبة ويبعد عنه الأفكار الخبيثة. والقول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب. والعمل الحسن، الذي يفيد به نفسه وعائلته ومجتمعه، ولا يبادر إلى ما فيه أذية مخلوق قط. فالإنسان هو أنبل خلق الله، وعليه أن يستخدم ما وهبه الله من وعي وذكاء لأجل الارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في آخر الزمان. كما أن الخلاص الذي يسعى إليه الإنسان ليس فقط خلاصا فرديا من ربقة المواد إلى دار الخلود، ولا حتى خلاصا جمعيا للإنسانية طرا، بل هو خلاص للعالم بأسره، لأن الإنسانية تتخذ مكان المركز في خلق الله، وعليها وحدها تقع مسئولية تحرير هذا الخلق بكامله من سلطة الشيطان.
الطقوس والعبادات
كانت الديانة الأصلية التي أسس لها زرادشت ديانة بسيطة لا تعتمد إلا القليل من الطقوس والشكليات الدينية، وفيما عدا الأساطير القليلة الأساسية المتعلقة بنشأة عالم الخير وعالم الشر، وتلك المتعلقة بالمخلص ونهاية الزمن لم يكن للميثولوجيا دور في المعتقد الزرادشتي، وحتى هذه الموضوعات الأسطورية الأساسية لم تعالج في أناشيد الغاثا بأسلوب القص الميثولوجي، وإنما بالإشارات الموجزة والصور الشعرية البالغة التأثير، الأمر الذي ترك شخصياتها أقرب إلى المفاهيم المجردة منها إلى الشخصيات المجسدة.
دعا زرادشت المؤمنين إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل، وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة، لأن منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم، الذي يشبه عندها ما كان عليه في كمال البدايات. أما منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها، فيقوم المؤمنون لإيقاد النار دعما لقوى النور ولترتيل الصلوات. وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، بعد ذلك يقف المصلي منتصبا مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا، كان زرادشت نفسه يتلوها في صلاته، ولكن بمرور الوقت وغياب لهجة الغاثا القديمة عن الاستخدام اليومي، عمد الكهنة إلى إضافة نشيد طقسي منظوم بلهجة أكثر حداثة يدعى الياسنا، ويتألف من فصول قصيرة تحاكي في بنيتها أسلوب الغاثا. وبينما تكون عينا المصلي مثبتتين على النار المقدسة أمامه، يقوم بحل شاله ويمسك به بكلتا يديه، وفي نهاية الصلاة يقوم المصلي بإعادة الشال إلى وسطه فيلفه ثلاث مرات، ثم يعقده من الأمام ومن الخلف، إشارة إلى عناصر الأخلاق الزرادشتية الثلاثة. وهذا الشال هو الشارة التي يميز بها الزرادشتيون أنفسهم، كما أن حله وإعادة ربطه هو عمل طقسي يرمز إلى تمسك المؤمن بتعاليم النبي وتذكرها على الدوام.
تتجلى بساطة الديانة الأصلية التي بشر بها زرادشت في غياب الهياكل والمعابد والمذابح. فلقد منع زرادشت تشييد المعابد، لأن الله موجود في كل مكان، ويمكن التوجه إليه بالصلاة في أي مكان طاهر، كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا ولبقية الكائنات القدسية السماوية، لذا قد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة التي عرفتها بقية ممالك المنطقة المشرقية، كما سار الملوك الأخمينيون الأوائل على خطى المعلم في تحريمهم للتماثيل والصور، فكانت الصلوات تقام في البيوت أو في أماكن مفرزة للعبادة الهواء في الطلق ومزودة بموقد للنار المقدسة. وقد ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس (485-425ق.م.) أن الفرس كانوا يحتقرون المعابد ويرون فيها خطيئة، لأن الله الذي لا تسعه السماوات والأرض لا يسكن في بيت مصنوع بيد الإنسان. ويصف الجغرافي والمؤرخ الإغريقي سترابو (64ق.م.-23م) بقايا معبد أقامه الملك قورش (557-528ق.م.)، فيقول بأنه كان عبارة عن تلة في الهواء الطلق، محاطة بجدار يصعدها المؤمنون للصلاة. ولكن أردشير الثاني (401-359ق.م.)، الذي جاء بعد قورش بنحو قرن ونصف القرن، خرج على هذه التقاليد، وكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية، وصنع صورا للكائنات السماوية، وهذا ما تبينه لنا آثار العاصمة الفارسية القديمة.
استطاع أردشير الثاني استمالة فريق من الكهنة إلى معابده، فراحوا يقودون فيها الصلوات، إلا أن فريقا آخر عارض ذلك ورأى فيه انتهاكا للمعتقدات التقليدية. وقد بدأ الكهنة المعارضون، وبدعم من الجماهير المؤمنة، يردون على هذا الإجراء بإقامة معابد لهم تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلا من تماثيل الآلهة، وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران، وشيئا فشيئا أخذت نار المعبد تكتسب قدسية خاصة بها، بعد أن كانت مجرد رمز للألوهة الخافية، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنهم عبدة النار، ومثل هذا الوصف لم يرد في كتابات المؤرخين الذين تحدثوا عن إجلال الإيرانيين للنار دون أن يصلوا حد القول بعبادتها. لقد قاد نشوء معابد النار إلى إحداث تغييرات عميقة في الديانة الزرادشتية، فبعد البساطة التي ميزت الممارسات الدينية في السابق، انتشرت المعابد الدينية الضخمة والباذخة، ونشأت طبقة جديدة من الكهنة المتفرغين لطقوس النار، التي زادت تعقيدا مع الزمن وبعدا عن بساطة الطقوس الأصلية، وقد عرفت هذه الطبقة من كهنة النار تاريخيا باسم ماجي، وباليونانية ماجوس، وبالعربية مجوس.
طقوس الموت
شغلت طقوس الموت حيزا هاما من الطقوس الزرادشتية بعد عصر النبي، وهي تقوم على نظرة زرادشت إلى الموت على أنه ناتج من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجساد الأحياء تنتمي إلى عالم أهورا مزدا، أما جثث الموتى فإلى عالم أنجرا ماينو، فهي خبيثة ونجسة، لا فرق بين جثة إنسان وجيفة حيوان، ولا بين جثة إنسان صالح وجثة إنسان شرير. إن لمس أية جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتك بها أن يطهر نفسه بالماء، كما أن أي جزء مقتطع من جسم الحي مثل قصاصات الشعر والأظافر هو جزء ميت، ويجب عدم الاحتكاك به، وبالمثل أيضا فإن نفس الزفير الذي يطلقه الكائن الحي من رئتيه هو هواء ملوث بالموت، على عكس نفس الشهيق الذي يحمل الحياة، لهذا كان كهنة النار يضعون كمامات قماشية على أفواههم عندما يقتربون من الشعلة المقدسة. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث، مثل النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وجدت لأنها وكلاء للشيطان. وقد قاد تابو الموت هذا إلى إفراز جماعة من الاختصاصيين بشئون التخلص من الجثث، وهم الذي يقومون بطقوس الجنازات ويعرفون كيف يطهرون أنفسهم عقبها. أما عن الدفن، فإن صرامة تابو الموت كانت تحظر وضع الموتى على تراب الأرض مباشرة كي لا تلوثه، فكانت الجثة تسجى على مصطبة حجرية في سفح جبل أو في منطقة نائية مهجورة، حيث تترك مكشوفة في العراء حتى تتحلل بتأثير العوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها، وبعد فترة كافية لتحلل الجسد تدفن العظام تحت التراب في انتظار يوم النشور.
قواعد الطهارة
لم تضاه الزرادشتية قبلها ملة في الحفاظ على طهارة الجسم واللبس والمأكل، ويأتي حرص الزرادشتي المبالغ به على النظافة من اعتقاده بأن الفساد والتحلل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل أنجرا ماينو. من هنا فإن النظافة والبعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث شأن يعادل الصلاة والعمل الطيب، لأن في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان ووقوفا إلى جانب الرحمن، وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.
لا يمكن سرد قواعد النظافة جميعها التي راكمتها الشريعة الزرادشتية عبر العصور، وإنما يفي بالغرض التعرض لأهمها، وهي المتعلقة بالطعام والماء والنار والدم، فالطعام ينبغي أن يحضر وفق قواعد صارمة تمنع احتكاكه بأي مصدر للقذارة، كما ينبغي أن يؤكل في خشوع مثلما تؤدى الطقوس الدينية، لأن كل مكوناته هي بشكل أو آخر من مخلوقات الله الأخرى. وأما الماء فيجب التأكد من كونه نظيفا وطاهرا، وأنه قد نضح من مصدر غير ملوث قبل استهلاكه في الشرب والطبخ والاغتسال. وفيما يتعلق بالنار المنزلية أو النار الطقسية، فإن وقودها يجب أن يقتصر على القش والعيدان والحطب، وألا يحرق فيها الروث والقمامة وما إليها، وبدلا من حرق فضلات المنازل، فإنها تنقل إلى أماكن بعيدة خاصة، حيث تجري معاملتها بالسوائل الحمضية. ويشكل الدم مصدرا للنجاسة في حال سيلانه من الجسم، لأن هذا السيلان هو شكل من أشكال اختلال الحالة الفيزيولوجية السليمة للكائن الحي، وعرض من أعراض اقتحام قوى المرض والموت، وعلى المتلوث تطهير نفسه بوسائل شتي تختلف باختلاف كمية الدم ومكان الجرح وملابسات الإصابة، كما أن على النساء في فترة الطمث عدم ممارسة الطبخ والأعمال المنزلية، ومراعاة عدد من قواعد الغسل والطهارة.
وبما أنه يصعب على المرء تجنب الاحتكاك بمصادر النجاسة تجنبا مطلقا، فقد وضع فقهاء الشريعة أصولا معينة للتطهير بما يتناسب مع درجة التلوث، وغالبا ما يوصى المتنجس بالاغتسال بالماء من رأسه إلى أخمص قدميه، غير أن بعض درجات التلوث تستدعي الاستعانة بالكاهن الذي يقوم بتلاوة الآيات المقدسة، ويسير بالمتنجس عبر مراحل تطهيرية متعددة قد تستمر بضعة أيام، وتشغل هذه الإجراءات التطهيرية وكيفية تطبيقها حيزا من برامج إعداد وتدريب الكهنة الذين يتوجب عليهم أنفسهم مراعاة أدق وأصعب قواعد النظافة والطهارة. (3-6) التطور التاريخي
بعد وفاة زرادشت بقيت تعاليمه الأصلية التي بثها في أناشيد الغاثا، بمثابة الإنجيل الذي يحفظ جوهر الدين ويجمع المؤمنين حول العقيدة والأخلاقيات والشعائر الزرادشتية. ونستدل من لهجة الغاثا المغرقة في القدم، أنها قد حفظت في شكلها الأصلي، دون أن يمسها تعديل جوهري عبر التداول الشفهي الطويل الذي سبق عصر التدوين، ولكن الشكل الأدبي الرفيع الذي صيغت به الأناشيد وأسلوبها المختصر البليغ، قد دعا الكهنة إلى التوسط من أجل شرحها وبسط وتطوير أفكارها للناس العاديين، وقد تراكمت هذه الشروحات تدريجيا حتى شكلت مصدرا آخر من مصادر الدين الزرادشتي، وبذلك ولدت مجموعة الأفيستا والأفيستا الصغرى، اللتين اتخذتا شكلهما شبه التام نحو نهايات الفترة الأخمينية، ثم تطلبت الأفيستا بدورها الشرح والتفسير، فنشأ على هامشها كتاب الزند، أو الزند أفيستا (أي شروحات وتعليقات على الأفيستا). لم تدون هذه الأدبيات الدينية خلال الفترة الأخمينية بسبب عزوف الكهنة عن استخدام الكتابة لحفظ النصوص المقدسة، لأنهم رأوا في الكتابة شأنا دنيويا واعتبروها تدنيسا للنص، ولكن الأفيستا صارت مهددة بالضياع عقب غزو الإسكندر المقدوني وما تلاه من فترة النفوذ السلوقية، فأمر الملك البارثي فلاكش (حوالي عام 60ق.م.) بجمع أسفارها من شتى المناطق ومقارنتها من أجل تثبيتها كتابة في صيغتها النهائية المعتمدة، غير أن هذه المهمة لم تنجز كاملة إلا في عصر الملك الساساني كسرى أنو شروان، عندما تم تدوين الأفيستا في واحد وعشرين جزءا يتصدرها الجزء الخاص بأناشيد الغاثا.
ولقد لعب كهنة الماجي، أو المجوس، دورا مهما في تحرير وتطوير الأفيستا، وهؤلاء المجوس ينتمون إلى قبيلة ماجي، وهي قبيلة متخصصة في الشئون الدينية، يغلب أنها من أصول ميدية، ويرجح بعض الباحثين أن المجوس كانوا على الديانة الإيرانية التقليدية ثم تحولوا إلى الزرادشتية حتى لا يخسروا مكانتهم الاجتماعية، وبثوا فيها الكثير من معتقداتهم وأفكارهم وطقوسهم القديمة، لهذا السبب عرفوا في العالم القديم في استقلال عن الدين الزرادشتي باعتبارهم حكماء متضلعين بالسحر والتنجيم والمعارف السرانية. لقد أدخل المجوس العديد من آلهة الديانة الهندو-إيرانية القديمة إلى المعتقد الزرادشتي، كما تبنوا بعضا من آلهة البانثيون الرافدي، وعلى رأسها عشتار، التي اتخذت في إيران اسم أناهيتا أي البتول، وأخذت عبادة أناهيتا بالانتشار منذ عهد الملك الأخميني أردشير الثاني، الذي كان أول من بنى المعابد وصنع صورا للكائنات القدسية. كما وسع المجوس مفهوم زرادشت عن قوى النور وقوى الظلام وبنوا حوله لاهوتا متكاملا عن مجمع الملائكة ومجمع الشياطين، فصارت الملائكة التي تعمل تحت إمرة الأميشا سبينتا تعد بالآلاف، وكذلك الشياطين التي تعمل تحت إمرة أنجرا ماينو، وتحول الأميشا سبينتا من قوى مجردة غير مشخصة إلى كائنات إلهية لكل منها وظيفة محددة في نظام الكون والطبيعة، وصارت فروض العبادة والتقديس تقدم إليها بما هي كذلك. ومن أهم التحريفات التي أدخلها المجوس على العقيدة الزرادشتية، أنهم جعلوا أنجرا ماينو على قدم المساواة مع أهورا مزدا، ونظروا إليهما كخصمين متصارعين منذ البداية. وبذلك تحول أهورا مزدا من إله يسمو فوق الروحين المتنافسين اللذين صدرا عنه، إلى طرف مباشر في الثنوية الكونية.
وفي عقيدة الزورفانية، التي طورها فريق من المجوس، صار أهورا مزدا وأنجرا ماينو، الذي اتخذ اسم أهريمان، ابنين توءمين للإله زورفان وهو الزمان. وقد عهد زورفان إلى أهورا مزدا بمهمة خلق العالم ليغدو مسرحا للصراع المكشوف بين قوى الخير وقوى الشر، وحدد لصراعهما فترة محددة تنتهي بغلبة أهورا مزدا على خصمه أهريمان. وبقي زورفان بمثابة العلة الأولى والإطار الذي تجري ضمنه أحداث الكون. وقد انتقلت هذه العقيدة من هرطقة تعيش على هامش زرادشتية الأفيستا إلى دين رسمي للدولة في عهد الساسانيين الذين حولوا الزرادشتية من ديانة عالمية تتوجه لجميع بني البشر، إلى ديانة قومية خاصة بإيران، وهذا ما أضعف موقف الزرادشتية تجاه الديانات العالمية اللاحقة وخصوصا المانوية ثم المسيحية فالإسلام. (3-7) خلاصة: ميراث الزرادشتية
رغم امتلاك الزرادشتية لكل مقومات الديانة الشمولية العالمية، إلا أنها لم تمارس نشاطا تبشيريا خارج إيران بعد موت معلمها، ورغم ذلك فقد انتشرت الأفكار الزرادشتية شرقا وغربا ودخلت في نسيج الديانات اللاحقة لها، حتى وصلت تأثيراتها إلى بوذية المهايانا في الصين. أما تأثيراتها المشرقية فتعزى بالدرجة الأولى إلى عودة المهجرين اليهود الذي سباهم ملوك آشور وكلدان. فلقد طالت سياسة التهجير كل المناطق الواقعة تحت سيطرة آشور من إيران والخليج العربي صعودا إلى جبال طوروس فهبوطا نحو الساحل الفينيقي وصولا إلى حدود مصر . وقد وصلنا حتى الآن 150 نصا آشوريا تذكر عمليات ترحيل واسعة النطاق، والشعوب التي طالتها هذه العمليات، والمناطق التي تم تهجيرها إليها، ومنها نعرف أن الجزء الأكبر من عمليات الترحيل كان باتجاه مناطق آشور الرئيسية في مدن العاصمة آشور وكالح ونينوى ودور شاروكين. وعندما دمر الكلدانيون آشور تابعوا سياسة السبي والتهجير ولكن على نطاق أقل بكثير، ثم ورث الفرس الأخمينيون الإمبراطورية الكلدانية، وأعلن الملك قورش من بابل بيانه المشهور الذي يتضمن السماح للشعوب المسبية بالعودة إلى مواطنها وبينها سبي يهوذا، ولكن هذه العودة لم تتم بين ليلة وضحاها بل استغرقت أكثر من قرن من الزمان، وهي فترة كافية لاحتكاك المسبيين بالفرس عن قرب والتأثر بأفكارهم الدينية.
قدمت الزرادشتية عددا من الأفكار الجديدة على تاريخ الدين، بعضها ما زال فاعلا ومؤثرا في الحياة الروحية لمليارات البشر في شتى أنحاء المعمورة، وأهمها: (1)
التاريخ الدينامي:
حيث يسعى الزمن بين بداية محددة هي زمن الخلق والتكوين، ونهاية محددة يعقبها تحويل كامل للوجود بأسره إلى مستوى ماجد وجليل يليق بخلق الله. ففي مقابل مفهوم التاريخ المفتوح للديانات الشرق أوسطية، والتاريخ الدائري المغلق للديانات الهندية والشرق أقصوية، قدم زرادشت مفهوما عن تاريخ ذي معنى يسعى أبدأ نحو غاية مثلى يحققها الكون والطبيعة والمجتمع الإنساني من خلال عملية تطوير وتطهير دائبة ومتصاعدة. (2)
الطبيعة الأخلاقية للوجود:
فالإله الأعلى إله أخلاقي، والعلاقة بين الله والإنسان علاقة أخلاقية بالدرجة الأولى، أما الطقوس والعبادات فليست وسيلة لإظهار الخضوع للخالق، بل هي تنقية للنفس من شوائب الشر وتقويتها على قاومته، ثم إن الأخلاق تتجاوز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بأخيه، لتغدو مبدأ مزروعا في صميم الخليقة بأكملها، فالكون ذو معنى أخلاقي وصيرورة الوجود قد اكتسبت طابعا أخلاقيا منذ البداية. (3)
تعاون الله والإنسانية:
الإنسان شريك لله في المشروع الكوني الرامي إلى مكافحة الشيطان واستعادة كمال البدايات. إن أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق القديم هو اكتناه مشيئة الآلهة والتطابق معها، خلال حياة لا معنى لها ولا غاية وزمن مفتوح على اللانهاية، كما أن أقصى ما يصبو إليه الإنسان في ديانات الشرق الأقصى هو فهم العالم وليس إصلاحه، فالعالم غير قابل للإصلاح، وهو يسير وفق قوانين أزلية ثابتة في دورة تكرارية أزلية أبدية. أما الزرادشتية فترى أن العالم قابل للإصلاح والتغيير بشكل جذري، ومسئولية هذا الإصلاح تقع على عاتق الإنسان بالدرجة الأولى. (4)
وحدانية الإله:
رغم وجود اتجاهات توحيدية واضحة في الديانات السابقة على الزرادشتية، سواء في مصر أم سورية وبلاد الرافدين، إلا أن زرادشت كان أول من قدم مفهوما صافيا عن التوحيد وصاغه في أيديولوجيا متماسكة ومتكاملة. (5)
أصل الشر وفكرة الشيطان:
رغم وجود الكائنات الما ورائية الشريرة في المعتقدات الدينية عبر التاريخ، إلا أن زرادشت كان أول من تصور وجود مبدأ كوني للشر، هو علة الفساد والنموذج البدئي لكل الشرور المتبدية في العالم، وجسد هذا المبدأ في شخصية ما ورائية كبرى، وبذلك قدمت الزرادشتية أول تفسير مقبول لوجود الشر في العالم، وعلى الرغم من قوة الشيطان ومنازعته للرحمن السلطة على العالم، إلا أنه ليس إلها أزليا ولا خالدا ولسوف يئول إلى الخسران أخيرا، وبذلك يكون المعتقد الزرادشتي ثنويا في نظرته إلى العالم في حالته الراهنة التي تمتزج فيها عناصر الخير بعناصر الشر، وتوحيديا صافيا في نظرته إلى جوهر الكون وحقيقته ومآله. (6)
حرية الإنسان:
عندما خلق الله الكائنات السماوية والكائنات البشرية، وهبها الخاصية الأساسية التي تميز الوعي عن المادة الجامدة، وهي الحرية، لأن الوعي بدون الحرية ليس إلا شكلا آخر من أشكال وجود الجمادات. فالإنسان مخير في حياته ولا يخضع لأية جبرية، وحريته هذه تستدعي مسئوليته، كما تستدعي في النهاية محاسبته، لأن كل مسئول محاسب، ولا حساب حيث لا مسئولية. (7)
مفهوم الإنسانية:
لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني، يظهر في الزرادشتية مفهوم واضح عن «الإنسانية»، فالإنسانية ليست تجمعا لأفراد يعنى كل منهم بمصيره ويسعى لخلاص خاص به، بل هي مجتمع موحد بجميع فئاته وقومياته وأقاليمه، يلعب دورا واحدا في حركة التاريخ ومآله. (8)
المسيانية:
يتوج كفاح الإنسانية ضد الشر بظهور المخلص، وهذا المخلص رغم تفوقه وكماله، إلا أنه إنسان حقيقي ومن أبوين بشريين رغم ميلاده الإعجازي من بذور زرادشت المحفوظة في البحيرة. إنه بشكل ما نموذج الإنسان الأسمى الذي أنتجته الإنسانية عبر مخاضها الطويل لكي يتوج مهمتها. هذه التصورات الدينية المتعلقة بالمخلص المنتظر، دعيت لاحقا بالمسيانية نسبة إلى كلمة ميسيا، وهي كلمة آرامية-عبرانية تعني المسيح المنتظر في آخر الدهر.
3 (9)
مصير الروح:
تشبه التصورات الزرادشتية حول مصير الروح إلى حد بعيد التصورات الأوزيرية في الديانة المصرية، فأرواح الموتى تغادر أجسادها بعد الموت لتتجه إلى مكان الحساب، حيث توزن حسناتها وسيئاتها، فإما إلى نعيم وإما إلى جحيم، ولكن الأوزيرية لم تربط مسألة الثواب والعقاب بتصور واضح عن حركة التاريخ، لأنها رأت في الزمن سيالة مفتوحة على اللانهاية شأنها في ذلك شأن بقية معتقدات الشرق الأوسطية. أما الزرادشتية فقد وضعت فكرة الثواب والعقاب في سياق مفهوم ومتسق عن تاريخ دينامي ذي معنى وغاية، وربطتها بمفهوم الحرية والمسئولية، كما ربطت مسألة الخلود بالتصورات الآخروية عن نهاية الزمن وتجديد العالم. (10)
نهاية الزمن وتجديد العالم:
ليست فكرة فناء العالم القديم وتجديده بالفكرة الغريبة تماما في تاريخ الدين، ففي العديد من ميثولوجيات العالم القديم نجد أن العالم يفنى، إما بطوفان شامل أو بنار سماوية، ثم يعود سيرته الأولى. وفي الهندوسية يتم تدمير العالم وإعادة خلقه عقب كل دورة كونية كبرى، ولكن جديد الزرادشتية هو تقديمها لأول مرة مفهوما عن نهاية العالم مرتبطا بنهاية الزمن ونهاية التاريخ. فالعالم لا يفنى لكي يعود سيرته الأولى ضمن الزمن الخطي نفسه أو الزمن الدوري التناوبي، لأن نهاية العالم تعني في الزرادشتية تغييره جذريا، والخروج به من الزمن ومن التاريخ إلى السرمدية، يضاف إلى ذلك أن تجديد العالم يترافق مع البعث العام للأجساد وعودة الأرواح للقاء أجسادها والاتحاد بها اتحادا أبديا لا ينفصم، وهي فكرة جديدة كليا على تاريخ الدين.
هذا هو ميراث الزرادشتية الذي يجعل منها نقطة علام بارزة في تاريخ الدين الإنساني، وإلى درجة يمكن معها تقسيم هذا التاريخ إلى ما قبل الزرادشتية وما بعدها.
مراجع المادة المعلوماتية المستخدمة في هذا الفصل (1)
Mary Boyce, Zoroastrians, Rotledge, London 1985. (2)
R. C. Zaehner: The Dawn and Twilight of Zaroastrianism, Panta’s Sons, London 1961. (3)
J. B. Noss, Man’s Religions, McMillan, London 1974, p. 336 ff. (4)
Joseph Campbell, Occidental Mythology,
(5)
Gerardo Gonoli, Zoroastrianism. In: Encyclopedia of Religion, McMillan: London 1987, vol. 15. (6)
The New Encyclopedia Britanica: 15
th
Edition.
الفصل الخامس
الشيطان في التوراة بين إشكالية التوحيد
وإشكالية الأخلاق
يعزو الباحثون الغربيون غياب شخصية الشيطان الكوني عن المعتقد التوراتي إلى حرص محرري التوراة على وحدانية يهوه، وتنقية مفهوم الإله الأعلى من أية ظلال قد تجنح به إلى ثنوية أو تعددية كان الدين الشعبي اليهودي ميالا إليها على الدوام. ولكن الأمر كما نراه، هو أن غياب الشيطان الكوني واقتصار ممثل الشر في التوراة على دور ثانوي جدا، يرجع بالدرجة الأولى إلى قيام إشكاليتين رئيستين لم يتوصل الفكر التوراتي إلى حلهما حتى نهاية فترة تدوين الأسفار القانونية، وهما إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق. فمن جهة أولى، لم تتوصل الأيديولوجيا التوراتية إلى مفهوم صاف للوحدانية بخصوص الإله يهوه، كما لم تتوصل إلى ربط الأخلاق بالدين وإلى رسم صورة إله أخلاقي يجمع إليه كل الكمالات، ويؤسس لصلة بينه وبين العالم والإنسان قائمة على الأخلاق، الأمر الذي حرم الأيديولوجيا التوراتية من أهم عنصرين لازمين لبناء شخصية متكاملة للشيطان في أي معتقد ديني. (1) إشكالية التوحيد
لكي نفهم إشكالية التوحيد في التوراة، علينا أن نوضح، ابتداء، الفرق بين مفهومين دينيين يجري الخلط بينهما في معظم الأحيان، وهما مفهوم التوحيد ومفهوم وحدانية العبادة. فالتوحيد هو الاهتداء إلى فكرة الله. والله ليس إلها أعلى شأنا من بقية الآلهة المتحكمة في مظاهر الطبيعة وما وراء الطبيعة، بل هو الألوهة الوحيدة الخافية، والمتبدية في كل مظاهر الكون والطبيعة، إنه العلة الأولى والمآل الأخير، مبتدأ السببية ونهايتها، أما وحدانية العبادة فهي شكل من أشكال التعددية (= الشرك = الوثنية)، يتميز بعبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة، التي لا ينكر وجودها وإنما تستبعد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود. اعتمادا على هذا التمييز بين المفهومين، يمكننا القول بأن المعتقد التوراتي كان معتقد وحدانية عبادة لا معتقد توحيد بالمعنى الدقيق للمصطلح، وإن الانتقال من المفهوم الأول إلى الثاني لم يتحقق تماما، حتى في أسفار الأنبياء التي وصلت إلى عتبة التوحيد دون أن تتخلص من الإرث الأيديولوجي التقليدي.
لقد نشأت وحدانية العبادة في التوراة عندما قام أحد الآلهة الفلسطينية المدعو يهوه بإبرام عقد بينه وبين الأسلاف المفترضين لبني إسرائيل، ومضمون هذا العقد (الذي سمي عهدا) هو أن يعبد أولئك الأسلاف وذريتهم من بعدهم الإله يهوه من دون بقية الآلهة، مقابل تقديمه الحماية والعون لهم وإعطائهم أرض كنعان (= فلسطين) ملكا لهم بعد انتزاعها من أهلها. نقرأ في سفر التكوين 17 عن أول صيغة لهذا العقد بين يهوه والأب الأول إبراهيم: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم» (17: 7-8). ثم يجدد يهوه عقده هذا مع إسحاق وابنه يعقوب من بعده، وبعد ذلك بأكثر من أربعمائة سنة يعود إلى تجديد العهد مع موسى وشعبه، لقاء إخراجهم من مصر وتحريرهم من العبودية. نقرأ في سفر الخروج 6 على لسان يهوه: «قد سمعت أنين بني إسرائيل وتذكرت عهدي، لذلك قل لبني إسرائيل: أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثا» (6: 6-8).
يتضح لنا معتقد وحدانية العبادة منذ أول وصية تصدرت الشريعة التي أنزلها يهوه على موسى. نقرأ في سفر الخروج، 20: «ثم تكلم الرب بجميع هذه الكلمات قائلا: أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لأني أنا الرب إلهك، إله غيور» (20: 1-5). ففي هذا المقطع الذي سوف يتكرر مضمونه حتى آخر الأسفار، نلاحظ أن يهوه لا يدعي الوحدانية، وإنما يطالب بأن يكون المعبود الوحيد من دون بقية الآلهة التي تثير غيرته، فهو إله غيور، لا يحتمل وجود آلهة أخرى إلى جانبه، على عكس بقية آلهة الشرق القديم التي لم تستبعد بعضها بعضا، وإنما شكلت فيما بينها مجتمعا منظما أدق التنظيم. وها هو يخاطب موسى مرة أخرى مؤكدا على صفة الغيرة الشديدة عنده : «فإنك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه غيور، إله غيور» (الخروج، 34: 14). وغيرته تشبه نارا آكلة: «احترزوا أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم، لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور» (التثنية، 4: 23-24). وتماثيل الآلهة الأخرى تدعى بتماثيل الغيرة، وهي تهيج غيرة يهوه. نقرأ في رؤيا النبي حزقيال: «وأتى بي الملاك إلى أورشليم، إلى مدخل الباب الداخلي المتجه نحو الشمال حيث مجلس تمثال الغيرة، المهيج للغيرة» (حزقيال، 3: 8). وعندما يجدد يشوع عهد الشعب مع يهوه بعد موت موسى يذكرهم بغيرة الرب: «فالآن اخشوا الرب واعبدوه، وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم واعبدوا الرب. وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون. وأما أنا وأهل بيتي فنعبد الرب. فأجابه الشعب وقالوا: حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى، لأنه هو إلهنا. قال يشوع للشعب ... إله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم. وإذا تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة يرجع ويسيء إليكم ويفنيكم» (يشوع، 34: 14-20).
وغالبا ما يوصف يهوه بأنه الأعظم بين الآلهة: «من مثلك بين الآلهة يا رب، من مثلك معتزا بالقداسة» (الخروج، 15: 11). وأيضا: «أي إله عظيم مثل الله»
1 (المزمور 77: 13). وأيضا «يا رب، إله الجنود، من مثلك إله قوي، وحقك، من حولك» (المزمور 8: 89). كما يلقب بإله الآلهة: «فأجاب بنو رأوبين وقالوا: إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، 22: 21). وأيضا: «إله الآلهة، الرب تكلم، ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها» (المزمور 50: 1). ونجده أحيانا واقفا بين الآلهة يصدر إليهم الأوامر: «الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي: حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار؟ ... أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، ولكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون» (المزمور 82: 1-6). إن هذا المقطع رغم غموضه وغموض هوية أولئك الآلهة التي يشير إليها، ليؤكد فكرة مجمع الآلهة التي تظهر في مواضع أخرى أيضا: «لأنه من يعادل في السماء الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟ إله مهوب جدا في جماعة القديسين، ومخوف عند جميع الذين حوله» (المزمور 89: 6-7). وجماعة القديسين في هذا المزمور هم أبناء القدس نسل الإله إيل المذكورون في نصوص أوغاريت. نقرأ في النص 129 من ملحمة بعل وعناة على لسان بعل ما يلي: «أنا ليس لي بيت كما للآلهة، وليس لي مسكن كما لبني القدس.» إن مؤدى الفقرة المقتبسة أعلاه من المزمور 89 لتدل بجلاء على أن يهوه ليس الإله الأعلى بل واحدا من أبنائه وأعظمهم شأنا، وهذا ما نجده في مزمور إشكالي آخر يقول على لسان داود: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» (المزمور 110: 1).
وإذا كان التنزيه ملازما لمفهوم الله الواحد المتعالي عن الوصف، فإن التشبيه ملازم لمفهوم التعددية. ولعلنا غير واجدين بين جميع آلهة المشرق القديم إلها أكثر شبها بالبشر من إله التوراة. ففي سفر التكوين نجده يقوم بزيارة ودية لمضرب خيام إبراهيم ومعه اثنان من أتباعه، فيتكئون تحت الشجرة ويأكلون عجلا طبخته سارة زوجة إبراهيم. نقرأ في الإصحاح 18: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل» (18: 1-5). «وفيما هم يستريحون من وعثاء السفر، أمر إبراهيم أحد غلمانه بذبح عجل طري أعطاه لزوجته فطبخته، وعجنت خبزا وجهزت زبدا ولبنا، ووضع إبراهيم ذلك كله أمام ضيوفه فأكلوا وشبعوا» (18: 6-9). ثم قام الضيوف ومشى إبراهيم معهم ليشيعهم. وفيما هو يسير جنب الرب، بثه يهوه مكنونات قلبه: «وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع الأمم ... إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت جدا» (18: 16-20).
بعد ذلك يظهر يهوه ليعقوب حفيد إبراهيم، ولكن بطريقة أكثر درامية، فعندما وصل يعقوب أرض كنعان قادما مع أسرته من آرام النهرين حيث تغرب مدة طويلة، ظهر له إنسان عند موقع يدعى مخاضة يبوق وصارعه ليلا، وعندما لم يقدر عليه حتى طلوع الفجر ضربه في موضع الحق من فخذه «وهو رأس الورك»، فانخلع حق يعقوب ولكنه بقي ممسكا بخصمه الذي استغاث طالبا إطلاقه، ولم يكن هذا الخصم المستغيث سوى يهوه نفسه. نقرأ في سفر التكوين، 32: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب المكان فنيئيل قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (32: 22-30).
وقد رآه موسى مرتين رؤية العين، في المرة الأولى من قفا وفي الثانية من أمام. نقرأ في سفر الخروج، 33: «فقال - موسى - أرني مجدك. فقال: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يري» (33: 18-23). ورغم هذا التحذير من رؤية وجه الرب فقد سمح يهوه في مناسبة أخرى لموسى وسبعين شيخا من شيوخ إسرائيل أن يروه وجها لوجه على جبل سيناء. نقرأ في الخروج 24: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون شيخا معه من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق وكذات السماء في النقاوة، ولكن لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (24: 9-11). وهناك مواجهة ثالثة ذات طابع عنيف بين يهوه وموسى. فبينما موسى عائد إلى مصر من مديان ومعه صفورة زوجته وابنهما، ظهر له الرب وأراد أن يقتله لأن صفورة مانعت في ختان ابنها، فأسرعت صفورة وأمسكت بحجر صوان مسنون وختنت ابنها ثم مست رجلي يهوه. ولمس الرجلين هنا على ما نعرف من مواضع أخرى في الكتاب هو كناية عن لمس الأعضاء التناسلية. نقرأ في الخروج 4: «وحدث في الطريق أن الرب التقاه وطلب أن يقتله، فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها، ومست رجليه فقالت: إنك عريس دم لي، فانفك عنه» (4: 24-26).
وفي مواضع كثيرة يستخدم النص تعبير «ملاك الرب» كناية عن حضور يهوه المرئي. نقرأ في سفر القضاة عن رؤية أبوي شمشون للرب الذي جاء يبشرهما بمولد غلام يحرر إسرائيل من أعدائها: «فقال منوح لملاك الرب ما اسمك حتى إذا جاء كلامك نكرمك. فقال له ملاك الرب لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب. فأخذ منوح جدي المعزى والتقدمة وأصعدهما على الصخرة للرب. فعمل عملا عجيبا، ومنوح وامرأته ينظران، فكان عند صعود اللهيب عن المذبح نحو السماء أن ملاك الرب صعد في لهيب المذبح ومنوح وامرأته ينظران، فسقطا على وجهيهما إلى الأرض ... فقال منوح لامرأته نموت موتا لأننا قد رأينا الله» (13: 17-22). إلى جانب هذه الظهورات التي يبدو فيها يهوه كإنسان عادي أو كجني ليلي يخاف طلوع الفجر، أو كعفريت شاهرا سيفه للقتل، هناك ظهورات يبدو فيها يهوه في هيئة الملك الشرقي الجالس على العرش، على هذه الصورة رآه النبي إشعيا في الهيكل رؤية العين وسمع من فمه: «في سنة غزيا الملك، رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ... فقلت ويلي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود» (إشعيا، 6: 1-5).
هذا وتنعكس إشكالية التوحيد في النص التوراتي على موقف الشخصيات الرئيسية في القصة التوراتية من هذه المسألة، وعلى سلوك الجماعة بأسرها، فلا قادة الشعب التزموا عبادة يهوه وحده، ولا بقية الشعب من ورائهم أيضا، وبما أن قائمة الشواهد من الكتاب تطول حتى تغطي عشرات الصفحات، فإننا سنكتفي هنا بإيراد شاهد واحد من كل حقبة من أحقاب الرواية التوراتية.
في سفر التكوين الذي يسرد قصص الآباء الأولين من إبراهيم إلى يعقوب والأسباط ، لدينا العديد من الشواهد النصية على أن الآلهة الأخرى كانت مبجلة في بيوت أولئك الآباء. نقرأ في الإصحاح 35: «ثم قال الله ليعقوب قم اصعد إلى بيت إيل وأقم هناك واصنع مذبحا لله ... فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة من بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم» (35: 1-2). وفي سفر الخروج، وبعد ثلاثة شهور فقط على هروب بني إسرائيل من مصر، لم يجد هارون أخو موسى غضاضة في صنع تمثال للعجل، يتعبد له بنو إسرائيل أثناء غياب موسى الطويل على جبل سيناء: «قال الشعب لهارون: قم اصنع آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر، لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ... فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر» (32: 1-4). وعندما وصل موسى بقومه إلى شرقي الأردن بعد أربعين سنة، لم يكن موقف الشعب من يهوه قد تغير: «ابتدأ الشعب يزنون مع بنات موآب، فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجد لآلهتهن، وتعلق الشعب ببعل فغور «إله موآب»، فحمي غضب الرب على إسرائيل» (العدد، 25: 1-3).
وبعد موت موسى واجتياز خليفته يشوع بن نون نهر الأردن إلى أرض كنعان التي غنمها ووزعها على القبائل الاثني عشر، كانت الآلهة الغريبة ترافقهم في حلهم وترحالهم. وتوفي يشوع بن نون وهو يوصيهم بنزعها: «فالآن، انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل» (يشوع 24: 23). وعندما استقر الشعب في كنعان عبدوا الإله بعل والإلهة عشيرة ونسوا الرب الذي أخرجهم من مصر وعبر بهم الأردن، ولما جاء ملاك الرب إلى المدعو جدعون وأمره أن يهدم مذبح البعل ويقطع السارية المنصوبة «جذع الشجرة المقدس» عنده، لم يجرؤ على ذلك في وضح النهار. نقرأ في سفر القضاة: «وإذا كان يخاف من أهل بيته وأهل المدينة أن يعمل ذلك نهارا فعمله ليلا. فبكر أهل المدينة في الغد وإذا بمذبح البعل قد هدم والسارية التي عنده قد قطعت ... فقال أهل المدينة ليوآش: أخرج ابنك لكي يموت لأنه هدم مذبح البعل» (6: 27-30).
وفي عصر المملكة الموحدة نجد أصنام الآلهة موجودة في بيت داود، الشاب الذي مسحه الرب ملكا على إسرائيل بدلا عن شاؤل. نقرأ في سفر صموئيل الأول: «فأرسل شاؤل رسلا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح. فأخبرته ميكال زوجته قائلة: إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تقتل غدا. فأنزلت ميكال داود من الكوة فذهب هاربا ونجا، وأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب» (19: 11-13). والترافيم المذكور هنا، هو نوع من أصنام الآلهة الخاصة بالبيوت، ويبلغ حجمها في بعض الأحيان حجم الإنسان الحقيقي. (بخصوص أصنام الترافيم راجع المواضع الآتية في التوراة: التكوين، 31: 9 و34 و35؛ وصموئيل الأول، 15: 23). وكان الملك سليمان باني هيكل الرب في أورشليم من عبدة الآلهة السورية، ولهذا فقد حكم الرب على مملكته بالانقسام بعد وفاته. نقرأ في سفر الملوك الأول: «وكان في زمن شيخوخة سليمان، أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب ... فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك» (11: 4-11).
بعد انهيار مملكة سليمان وانقسامها إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، كان ملوك إسرائيل وعامتها يعبدون الآلهة السورية حتى دمار عاصمتهم السامرة عام 721ق.م. أما في يهوذا فإن المقطع الآتي من سفر الملوك الثاني يعطي صورة حية عن حالة هيكل سليمان في أورشليم الذي امتلأ بنصب ورموز آلهة الخصب الكنعانيين: «وأمر يوشيا الملك الكاهن العظيم حلقيا وكهنة الفرقة الثانية أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناء السماء وأحرقها خارج أورشليم، ولاشى كهنة الأصنام الذين جعلهم ملوك يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط بأورشليم، والذين يوقدون للبعل وللشمس وللقمر ومنازل السماء ولكل أجناء السماء، وأخرج السارية من بيت الرب خارج أورشليم ... وهدم بيوت المأبونين (= الدعارة المقدسة) التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتا للسارية» (23: 4-7).
ويحدثنا النبي حزقيال عن تحول هيكل الرب إلى مكان لعبادة الآلهة الأجنبية وأداء طقوس الخصب التموزية فيه: «وقال لي ادخل وانظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا، فدخلت ونظرت وإذا كل شكل دبابات وحيوان نجس، وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائرة، وواقف قدامهم سبعون رجلا من شيوخ بيت إسرائيل وكل واحد مجمرته في يده وعطر عنان البخور صاعد ... وقال لي بعد تعود تنظر رجاسات أعظم هم عاملوها، فجاء بي إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال، وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على «الإله» تموز ... وجاء بي إلى دار بيت الرب الداخلية وإذا عند باب هيكل الرب بين الرواق والمذبح نحو خمسة وعشرين رجلا ظهورهم نحو هيكل الرب ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال، 8: 7-16).
وفي أسفار الأنبياء وفي بعض فصول شعر المزامير، يرسم المحرر التوراتي صورة أكثر وضوحا لإله عالمي شمولي، تجعلنا نعتقد لأول وهلة بأن الأيديولوجيا التوراتية قد لامست فكرة «الله» وبلغت أعتاب مفهوم التوحيد، غير أن القراءة المدققة للمقاطع المعنية في هذه الأسفار، توضح لنا أن كل وصف عالمي شمولي للإله يهوه يتبعه مباشرة توكيد على علاقة يهوه بشعبه المختار، ووعد صريح بتخليصه وإعلائه فوق الجميع «وهذه المسألة لم يلحظها الباحثون الغربيون الذين يعيدون القول في كل مناسبة بأن أسفار المزامير والأنبياء قد توصلت أخيرا إلى مفهوم التوحيد الصافي.» فالشمولية والحالة هذه ليست إلا حلية وزينة للإله التوراتي الذي يبقى رغم كل سماته الكونية إلها لإسرائيل وحدها عاملا في سبيل تحقيق مملكتها الأرضية وسلطانها على بقية الشعوب.
نقرأ في سفر إشعيا، وهو السفر المفضل لدى الباحثين عن التوحيد في الأيديولوجيا التوراتية، هذه الفقرات المنتخبة، لنرى كيف ترتبط الصورة الشمولية للإله بالصورة التقليدية لإله إسرائيل، وكيف يجري توظيفها لخدمة النظرة الشوفينية الضيقة للخطاب التوراتي: «أنا الرب. أنا الأول والآخر. رأت الجزائر وخافت، ارتعدت أقاصي الأرض فدنت وأقبلت ... إلخ. أما أنت يا إسرائيل عبدي ويا يعقوب الذي اخترته، نسل إبراهيم خليلي، لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري ... يكون كلا شيء مخاصموك ويبيدون، تفتش عن منازعيك ولا تجدهم» (41: 8-12). نلاحظ في هذا المقطع كيف يتم الانتقال مباشرة من المفهوم التوحيدي الشمولي في قوله «أنا الأول والآخر»، إلى مفهوم إله إسرائيل الذي ينصر شعبه على أعدائه، وهذه الصيغة تتكرر عبر كامل سفر إشعيا: «هكذا قال الرب ملك إسرائيل وفاديه، رب الجنود: أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري. من مثلي يدعو ويخبر بهذا أو يرتب لي ذاك، منذ أنشأت شعبا أبديا ليخبروهم بالمستقبل وبما سيأتي. لا ترتاعوا ولا تضطربوا، ألم أسمعكم من ذلك الوقت وأخبركم، أنتم شهودي هل من إله غيري أو من صخر لا علم لي به؟ ... هكذا قال الرب فاديك «يا إسرائيل» وجابلك من البطن: أنا الرب صانع الكل، ناشر السماوات وحدي وباسط الأرض بنفسي، مثبت كلام عبده ومتمم مشورة رسله. القائل لأورشليم ستعمرين ولمدن يهوذا ستبنين وأنا أقيم المنهدم منها» (44: 6-26). إن كل هذا الإعلاء من شأن إله إسرائيل وجعله باسطا للأرض وناشرا للسماوات، لا يخدم أيديولوجيا توحيدية عالمية، بل يهدف إلى زرع الثقة في قارئ النص بأن إله إسرائيل قادر على إعادة بناء أورشليم وبقية مدن يهوذا المهدمة.
ونتابع القراءة في الإصحاح 43: «أنتم شهودي يقول الرب، وعبدي الذي اخترته، لكي تعلموا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو، لم يكن إله قبلي ولا يكون بعدي. أنا، أنا الرب ولا مخلص غيري. إني أخبرت وخلصت وأسمعت وليس فيكم غريب، وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله» (43: 10-12). إن لفظ الجلالة «الله» المذكور هنا وفي مئات المواضع الأخرى من النص التوراتي هو ترجمة للاسم الكنعاني «إيل» الذي يستخدمه المحرر التوراتي في الإشارة إلى إله التوراة إلى جانب الاسم الآخر «إيلوهيم» الذي هو صيغة جمع من «إيل». وفي الإصحاح 46 نقرأ: «اسمعوا لي يا آل يعقوب ويا بقية آل إسرائيل الذين أقلوا من البطن وحملوا من الرحم إلى شيخوختكم أنا، وإلى مشيبكم أقلكم. أنا صنعتكم أنا أحملكم، أنا أقلكم وأنجيكم، بمن تشبهونني وتعادلونني، وبمن تمثلونني فنتشابه؟ ... اذكروا الأوائل منذ الدهر، إني أنا الله وليس آخر ، أنا الله وليس مثلي، أنا المخبر منذ البداءة بالنهاية، ومن القديم بما لم يكن، قائلا: إن مشورتي تثبت وإني أصنع كل ما أشاء ... إني قربت بري فلا يبعد، وخلاصي فلا يبطئ، وسأجعل في صهيون الخلاص ولإسرائيل فخري» (46: 3-13). ونقرأ في الإصحاح 48: «اسمع لي يا يعقوب ويا إسرائيل الذي دعوته. أنا هو، أنا الأول وأنا الآخر. يدي أسست الأرض ويميني شبرت السماوات. أدعوهن فيقفن جميعا ... هكذا قال الرب فاديك قدوس إسرائيل: أنا الرب إلهك الذي يعلمك ما ينفع ويهديك الطريق الذي تسير فيه ... اخرجوا من بابل، اهربوا من الكلدانيين بصوت الترنيم، أخبروا بهذا ونادوا به، أذيعوه إلى أقاصي الأرض. قولوا قد افتدى الرب عبده يعقوب» (48: 12-20).
وهكذا نجد أن الإله الذي جلس تحت الشجرة قرب خباء إبراهيم وأكل وشرب من طبيخ سارة، والذي صارع يعقوب عند مخاضة يبوق، والذي رآه موسى من قفاه أولا ثم جلس وسبعين من شيوخ إسرائيل ينظرون إليه وهم يأكلون ويشربون على جبل سيناء، قد تمت ترقيته إلى رتبة الإله الأعلى خالق السماوات والأرض في أسفار الأنبياء، لا تأسيسا لأيديولوجيا عالمية وإنما تجميلا لصورته في عين شعبه المختار، وتوكيدا لهذا الشعب بأنه وحده القادر على خلاصهم. من هنا، فإن أي حديث عن توصل هذه الأسفار إلى مفهوم توحيدي صاف، هو لغو لا طائل من ورائه. (2) إشكالية الأخلاق
لقد عملت المسيحية من خلال تبنيها لكتاب التوراة باعتباره العهد القديم، على تحسين صورة الإله اليهودي، كما أضافت تفسيراتها اللاهوتية إلى الأيديولوجيا التوراتية بعدا إنسانيا تفتقده على كل صعيد. ولعل من أخطر ما قدمته هذه التفسيرات إظهارها لإله التوراة في صورة الإله الأخلاقي والمشرع الأخلاقي، وذلك بتركيزها على ما دعته بالوصايا العشر الواردة في الإصحاح 20 من سفر الخروج، وعلى عدد قليل آخر من الوصايا الأخلاقية المبعثرة في خضم آلاف الوصايا الطقسية والتحريمية المبثوثة في الأسفار الخمسة، والمفصلة إلى درجة تثير الملل عند القارئ الحديث الذي لا يستطيع فهم باعثها والهدف منها، تماما مثلما كان اليهودي وما زال لا يفهم ذلك وإنما يطبقه في انصياع تام لشريعة غير إنسانية، تهدف إلى تكبيل الإنسان بطقوس وممارسات وتحريمات لا طاقة لأحد على الالتزام بها. من هنا لا عجب إذا وصف القديس بولس «وهو اليهودي السابق المتحمس» شريعة التوراة بأنها لعنة، ودارت معظم تعاليمه حول بطلان زمنها وافتتاح زمن الفداء بيسوع المسيح.
لم تكن الوصايا العشر أولى الوصايا التي تلقاها موسى، وأول وصية في الشريعة لم تكن وصية أخلاقية بل وصية طقسية محضة أسست للفصح اليهودي، وهو ذكرى الخروج من مصر. ففي اليوم السابق للخروج كلم الرب موسى وهارون، على ما نقرأ في سفر الخروج: «كلم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلا: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كلما كل جماعة إسرائيل قائلين: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء، تكون لكم شاة صحيحة ذكرا ابن سنة ... ثم يذبحه كل جمهور إسرائيل في العشية ... ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع فطير ... لا تأكلوا منه نيئا أو طبيخا مطبوخا بالماء، بل مشويا بالنار، لا تبقوا منه إلى الصباح والباقي يحرق بالنار. وهكذا تأكلونه: أحقاؤكم مشدودة وأحذيتكم في أرجلكم، وعصيكم في أيديكم. وتأكلونه بعجلة، هو فصح للرب ... سبعة أيام تأكلون فطيرا، اليوم الأول تعزلون الخمير من بيوتكم، فإن كل من أكل خميرا من اليوم الأول إلى اليوم السابع تقطع تلك النفس من إسرائيل» (12: 10-15). أما لماذا تؤخذ الشاة ذكرا وابن سنة فقط، ولماذا يتوجب عليهم أكلها مشوية لا مطبوخة؟ ولماذا يأكلونها بعجلة وهم وقوف وأحقاؤهم مشدودة وأحذيتهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم؟ ولماذا يأكلون خبزا فطيرا لا خميرا مدة سبعة أيام؟ فجميعها أسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا بالمقارنة مع لوائح التابو التي نجدها عند القبائل البدائية، والتي تكمن عند جذور الدين وأصوله البعيدة.
ونلاحظ من المقطع أعلاه، أن الوصية الطقسية الأولى قد وردت مترافقة مع أول وصية تحريمية (= تابو) وهي عدم أكل الخبز الخمير، ثم تم تدعيم هذه الوصية التحريمية بأول عقوبة إعدام في الشريعة ، وهذه العقوبة لا تفرض على من يخل بنظام الجماعة ويهدد أمنها، ولا على من يتعدى حدود قاعدة أخلاقية أساسية للحياة المشتركة، بل على من يأكل خبزا خميرا لا فطيرا. وبذلك تعلن الشريعة الموسوية عن جوهرها منذ البداية، باعتبارها شريعة طقس وتابو لا شريعة أخلاق، ومنذ البداية أيضا يعلن يهوه عن شكل العلاقة التي يقيمها بينه وبين شعبه، وهي علاقة طقسية جوهرها الخوف والخضوع وتأدية الشعائر وعدم تعدي حدود التابو. أما الأخلاق فمسألة ثانوية، ويستطيع من ارتكب أبشع الذنوب الأخلاقية أن يغسل ذنوبه كما يغسل ثوبه. نقرأ في سفر اللاويين (وهو أحد الأسفار التي تابعت تفصيل الشريعة بعد سفر الخروج، إلى جانب سفر العدد وسفر التثنية) التعليمات الآتية حول طقس غسل الذنوب الأخلاقية: «إذا أخطأ أحد وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبا ... يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشا صحيحا من الغنم ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (6: 1-7). كما يمكن غسل إثم الجماعة كلها عن طريق طقس يدعى بطقس تيس الخطيئة ... «ومتى فرغ الكاهن من التكفير عن القدس وعن خيمة الاجتماع وعن المذبح يقدم التيس الحي ويضع هارون يده على رأس التيس ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة» (16: 20-22).
إن السرقة أو الاغتصاب والسلب وجحد الأمانة واليمين الكاذبة، وما إليها من الذنوب الأخلاقية، يمكن غسلها بأداء طقس تطهيري بسيط، أما تجاوز حدود قاعدة طقسية أو تحريمية فمن شأنه أن يودي بحياة أكثر الناس تقوى، ويطاله عقاب يهوه الفوري، وهذا ما حدث لابني هارون المدعوين ناداب وأبيهو، وكانا على رأس الموكلين بأداء الشعائر أمام خيمة الاجتماع التي تضم تابوت العهد، والتي يقيم فيها يهوه بين شعبه. نقرأ في سفر اللاويين: «وأخذ ابنا هارون ناداب وأبيهو كل مجمرته وجعلا فيها نارا ووضعا عليها بخورا، وقربا أمام الرب نارا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (10: 1-2). وتلقى الرجل الصالح المدعو عزة عقوبة مشابهة عندما انتهك التابو الذي يمنع لمس تابوت العهد، رغم أنه فعل ذلك ليمنع التابوت من السقوط عن المركبة التي كانت تقله. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «فأركبوا تابوت الرب على عجلة جديدة وحملوه ... وكان عزة وأخيو ولدا أبيناداب يسوقان العجلة الجديدة ... ولما انتهوا إلى بيدر ناحون مد عزة يده إلى تابوت الرب وأمسكه لأن الثيران انشمصت. فحمي غضب الرب على عزة وضربه هناك لأجل غفله فمات» (6: 3-8).
إن تجاوزات الوصايا التحريمية التي تقود إلى الموت أكثر من أن تحصى في شريعة موسى، ونكتفي بذكر بعض منها، فعدم غسل الكاهن ليديه ورجليه قبل أداء الطقوس يعرضه للموت (الخروج، 30: 17-20)، وممارسة أي نشاط في يوم السبت يستوجب الإعدام الذي تنفذه الجماعة بالمخطئ (الخروج، 31: 15)، ومثل العمل في يوم السبت كذلك العمل في اليوم العاشر من الشهر السابع، وهو يوم الكفارة أو الغفران (اللاويين، 23: 27-30)، وأكل الدم يستوجب الموت (اللاويين، 17: 10-11)، وكذلك مضاجعة المرأة الحائض (اللاويين، 20: 18). وهنا يحق لنا أن نتساءل: أين مفهوم الله من هذا الكائن الباطش المتعسف، الذي وضع الشريعة لا لخلاص الناس بل لإدانتهم وتجريمهم والانتقام منهم، وأين خصيصتا الأخلاق والعدالة في إله لا يتجلى إلا في الغضب والثأر والثورة الآكلة؟
لقد سبقت الوصايا الطقسية والتحريمية الوصايا العشر بوقت طويل، ثم تتابعت بعدها عبر أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وذلك في سلسلة تبدو لقارئ التوراة بلا نهاية. فبعد الوصية العاشرة مباشرة قال الرب لموسى: «مذبحا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك وذبائح السلامة من بقرك وغنمك، وإن صنعت لي مذبحا من حجارة فلا تبنها منحوتة، فإنك إن رفعت حديدك عليها دنستها، ولا تصعد إلى مذبحي على درج لئلا تنكشف عورتك عليه» (الخروج ، 20: 18-26). ونحن هنا أمام وصية تحريمية يجب تنفيذها دون مناقشة فحواها غير المفهوم. وهي تشبه وصايا تحريمية سائدة لدى الشعوب البدائية ولدى بعض الثقافات القديمة في مطالع تاريخها. فتابو استخدام الحديد معروف في روما القديمة حيث كان محرما على الكهنة الحلاقة بموسى حديدية. وفي غابة آرفال المقدسة قرب روما كان محرما إدخال الحديد أو أية أداة مصنوعة منه، فإذا تطلب الأمر استعمال أداة حديدية في نقش كتابة ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمل وخنزير. وإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوة يحجمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أرضهم. ولدى بعض قبائل الهنود الحمر كان محرما استخدام السكاكين الحديدية في الطقوس الدينية. وفي كوريا كان محرما على الملك لمس الحديد أو استخدام أدوات مصنوعة منه. وفي جنوب غربي أفريقيا تجري إلى الآن عملية ختان الصبيان بواسطة سكين صوانية، فإذا تطلب الأمر إجراءها بسكين حديدية يجري التخلص من السكين بدفنها بالتراب.
وتتعزز إشكالية المسألة الأخلاقية في التوراة من خلال سلوك الإله التوراتي نفسه، وهو سلوك متناوس بين الخير والشر، وغالبا ما ينأى عن أبسط القواعد الأخلاقية. ونستطيع متابعة هذه الطبيعة الأخلاقية المتناقضة منذ الإصحاحات الأولى لسفر التكوين وحتى آخر أسفار الكتاب. فبعد أن خلق الإله الإنسان الأول، لم تكن أولى وصاياه إليه وصية أخلاقية ترسم له دوره في الحياة والتاريخ، بل كانت وصية تحريمية غير مفهومة، وعندما يكون التحريم غير مفهوم أو مسوغ فإنه غالبا ما يدفع إلى العصيان، وهذا ما حصل فعلا عند فجر الزمن. فبعد اكتمال أعمال التكوين غرس يهوه بستانا في مكان على الأرض يدعوه الكتاب بشرقي عدن، وفي وسط البستان أنبت شجرة الحياة وشجرة أخرى هي شجرة المعرفة، ثم وضع آدم الذي صنعه من طين الأرض في ذلك البستان ليعمل به ويحفظه. وبعد أن خلق له زوجة من ضلعه أوصاهما قائلا: «من جميع شجر الجنة تأكلان، وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكلا، لأنكما يوم تأكلان منها موتا تموتان.» هذا التابو غير المفهوم قد سهل على الحية إغواء حواء وتزيين العصيان لها. فبينما هي تتمشى قرب شجرة المعرفة تسللت الحية إلى المكان، وكانت أحيل جميع حيوانات البرية حسب وصف النص، فأطلعت حواء على حقيقة التابو والغاية منه؛ فثمر الشجرة لن يميتهما بل سيجعلهما مثل خالقهما حرين وعارفين الخير والشر: «فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الرب عارف أنه يوم تأكلان تنفتح أعينكما وتكونان كالرب عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل.» وعندما يكتشف يهوه عصيان الإنسان ينطق بلعنته المقيمة التي تتجاوز عالم الإنسان إلى عالم الطبيعة بأكملها: «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود.»
لقد كذب يهوه على آدم وحواء بقوله إن شجرة المعرفة ستجلب عليهما الموت. فالإنسان الأول لم يولد خالدا، وخالقه التوراتي لم يكن راغبا في أن يشاركه أحد خلوده، وذلك بدليل قوله بعد ذلك: «هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة ويأكل فيحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل في الأرض التي أخذ منها.» وهكذا تم منذ البداية، ومن خلال التابو والكذب، التأسيس لطبيعة العلاقة بين الإله والإنسان، وهي علاقة قائمة على الأمر الإلهي والرضوخ الإنساني، على حرية الإله وعبودية الإنسان.
وبين الأمر والرضوخ تقوم الطقوس والشكلانيات الشعائرية باعتبارها الرابطة الوحيدة بين الطرفين، والمحور الذي يدور حوله دين التوراة.
2
بعد أن دفع يهوه الإنسان الأول إلى الخطيئة، زرع بين ذريته الشقاق الذي قاد إلى أول جريمة في التاريخ. فلقد ولد لآدم وحواء بعد طردهما من الجنة ولدان هما قايين وهابيل، مما تتابعه رواية سفر التكوين: «فكان هابيل راعي غنم وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أن قايين قدم من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدم هابيل أيضا شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته وإلى قايين وتقدمته لم ينظر.» ولقد أدى سلوك يهوه غير المسوغ والبعيد عن مفهوم العدالة، إلى حقد قايين على أخيه المفضل عند الرب، فراح يتربص به إلى أن قاده إلى الصحراء حيث قتله هناك ودفنه. وبذلك أصل يهوه لأول خطيئة أخلاقية في المجتمع الإنساني بعد أن أصل لأول خطيئة تحريمية في الفردوس.
ثم يتابع يهوه تعامله مع بني الإنسان من موقف غير متعاطف وغير أخلاقي، فعندما أخذ الناس يتكاثرون على وجه الأرض صاروا أمة واحدة تتكلم لسانا واحدا وتعيش في سلام ووئام، ولما هموا ببناء مدينة لهم وبرج عال يرمز إلى وحدتهم وتضامنهم، نظر يهوه إلى ما هم صانعون فخاف أن يؤدي اتحادهم وازدياد قوتهم إلى تحالفهم ضده، فعمل على تشتيت شملهم وتحويلهم إلى مجموعات متنافرة تتكلم لغات مختلفة لا يفهم بعضهم حديث بعض: «وكانت الأرض لسانا واحدا ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنو هناك ... وقالوا هلم لنبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض.» إن ما فعله يهوه في حقيقة الأمر هو تحويل الجماعة الإنسانية الواحدة إلى مجتمعات متباعدة ذات ثقافات متغايرة، وهذا ما زرع العداوة بينها، وكان ابتداء الحروب وعدوان أمة على أخرى.
فإذا غادرنا هذه الفترة الافتتاحية من تاريخ الإنسان، إلى العصر الذي حلا فيه ليهوه أن ينتقي من شعوب الأرض كلها شعبا واحدا يكون له أمة كهنة، على حد تعبير النص، استطعنا متابعة سلوك يهوه المتناقض أخلاقيا في كل خطوة من مسيرة علاقته الطويلة مع هذا الشعب، فهو يأخذ البريء بجريرة المذنب، وينتقم من الآباء في أبنائهم ممن لا ذنب لهم، وفي أبناء أبنائهم وصولا إلى الجيل الرابع من نسل المخطئ: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج، 2: 5). ولهذا شاع في إسرائيل المثل القائل: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون» (إرميا، 31: 29 وحزقيال، 18: 2). هذا السلوك من قبل يهوه يتناقض مع قاعدة تشريعية وردت في سفر التثنية تمنع أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يقتل الآباء عن الأبناء، ولا يقتل الأبناء عن الآباء. كل بجريرته يقتل» (24: 6). وهذا يعني أن الإله المشرع في حل من قواعد الشريعة عندما يأتي إلى التعامل مع الإنسان، وأن على الإنسان ألا ينتظر من إلهه التزاما بأية معايير أخلاقية.
وإله التوراة ولوع برؤية الدماء وغضبه لا يهدأ إلا بها. فبعد أن عبد الشعب العجل في سيناء، أمر الرب كل من لم يخطئ إليه بعبادة العجل أن يستل سيفه ويقتل صاحبه وابنه وأخاه من المخطئين ليحصل على بركة الرب: «فقال لهم موسى كذا قال الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل واحد سيفه، واذهبوا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، وليقتل كل واحد أخاه وصاحبه وقريبه ... فسقط من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، وقال موسى: كرسوا اليوم أيديكم للرب، كل واحد حتى بابنه وأخيه فتعطوا اليوم بركة» (الخروج، 32: 27-29).
3
وإذا كان هذا شأنه مع شعبه المختار، فإن ولعه بسفك دماء الشعوب الأخرى لا يمكن تصنيفه تحت أي مصطلح مرضي في قاموس الطب النفسي الحديث، وأخبار حملات الإبادة الجماعية للأطفال والنساء والشيوخ تملأ صفحات الأسفار الخمسة، إضافة إلى سفر يشوع الذي ما زالت رائحة الدم تفوح من ثناياه إلى يومنا هذا. وهذه أخبار إحدى حملات موسى التي وجهها إلى مديان: «فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر، وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم ... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم ... فخرج موسى لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش وقال لهم: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن الأطفال من الإناث اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات» (العدد 32: 8-18).
ووفق قاعدة «التحريم» التي استنها يهوه لقادة جيوشه، يتوجب على هؤلاء في بعض الحالات إفناء كل نفس حية بما في ذلك المواشي والبهائم، ولا يجوز لهم الاحتفاظ بأسرى أو سلب المواشي والممتلكات، لأن كل ما في المدينة من حي وجامد يلقى للموت والدمار والحريق إرضاء ليهوه. وهذا ما حصل لمدينة أريحا على يد يشوع: «فحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والحمير والغنم بحد السيف ... وأحرقوا المدينة مع كل ما بها في النار» (يشوع، 6: 21). وهذا ما حصل لمدينة عاي: «فكان جميع الذين سقطوا ذلك في اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا هم جميع أهل عاي. ويشوع لم يرد يده حتى حرم جميع سكان عاي» (يشوع، 8: 23-24). وعندما اختار الرب شاؤل ليكون أول ملك على إسرائيل، وراح هذا يحرر شعبه من قمع الفلسطينيين وتسلط الممالك المجاورة، ما لبث أن غضب عليه وأعطى الملك إلى داود، لأنه لم يلتزم قاعدة التحريم. نقرأ في سفر صموئيل الأول الأمر الذي أعطاه الرب لشاؤل بضرب شعب العماليق مع تطبيق قاعدة التحريم: «الآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (15: 3). فحمل شاؤل على العماليق وأفناهم جميعا، ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج وجاء به أسيرا، كما أنه لم ينحر كل المواشي بل احتفظ بالصحيح والسمين منها لكي يقدمه قربانا للرب على المذبح. فغضب الرب على شاؤل وأرسل عليه روحا شريرا تلبسه فصارت تنتابه حالات اكتئاب، إلى أن سقط قتيلا في معركة جلبوع وسمره الفلسطينيون مع أولاده الثلاثة على سور مدينة بيت شان.
ورغم أن يهوه قد نهى في شريعته عن القرابين البشرية، إلا أن غضبه لم يكن يهدأ أحيانا إلا بها. فقد انتقم من شاؤل بعد موته بسبعة من أولاده وأولاد ابنته ميكال، تم تقديمهم قربانا له. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين. فطلب داود وجه ربه فقال الرب: هو لأجل شاؤل ولأجل بيت الدماء ... فأخذ داود ابني رصفة اللذين ولدتهما لشاؤل وأبناء ميكال ابنة شاؤل الخمسة، وسلمهم إلى الجبعونيين فصلبوهم على الجبل حتى انصب الماء عليهم من السماء» (صموئيل الثاني، 21: 1-10). ولدينا قصة قربان بشري تقشعر لها الأبدان في سفر القضاة. فلقد خرج قاضي إسرائيل المدعو يفتاح الجلعادي لقتال العمونيين، ونذر قبل خروجه للرب أضحية بشرية يرفعها له محرقة إذا نصره على أعدائه، واختار أن تكون هذه الأضحية أول شخص يخرج للقائه بعد عودته منتصرا، فتقبل الرب النذر وحقق له الغلبة على بني عمون، وفيما هو عائد إلى بيته كان أول خارج للقائه والفرح بمقدمه هو ابنته الوحيدة: «وكان لما رآها أنه مزق ثيابه وقال: آه يا بنتي، قد أحزنتني لأني فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. قالت له: يا أبي، هل فتحت فمك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فمك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك.» ولكنها طلبت مهلة شهرين لتذهب إلى الجبال مع صويحباتها وتبكي عذريتها، فأمهلها، وعند نهاية المدة عادت إلى أبيها فنحرها وأحرقها على المذبح، وهي لم تعرف رجلا. فصارت عادة في بني إسرائيل أن تمضي البنات في كل سنة وينحن على ابنة يفتاح أربعة أيام. (القضاة، 11: 30-39).
ومن طبع يهوه الغش والخداع، فقد دفع الملك داود إلى الخطيئة وزينها له، لكي يجعل من خطيئة الملك ذريعة لإنزال العقوبة بالشعب والقضاء على عشرات الآلاف منهم. والخطيئة الموصوفة في هذه القصة ليست خطيئة أخلاقية بل خطيئة تحريمية تتعلق بتابو قديم موضوعه تحريم عد الأنفس. لقد غفر يهوه لداود قتله لجندي مخلص في جيشه لكي يسلبه زوجته (انظر قصة أوريا الحثي في سفر صموئيل الأول: 11 و12) ولكنه لم يغفر له هذه الخطيئة التحريمية التي لا نجد لها معنى إلا مقارنة بالتابو البدائي. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلا له: امض واحص إسرائيل ويهوذا ... فخرج يوآب ورؤساء الجيش من عند الملك ليعدوا الشعب ... وطافوا كل الأرض وجاءوا في نهاية تسعة وعشرين يوما إلى أورشليم ... فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب سبعون ألف رجل، فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (24: 1-17).
ومن طبعه أيضا نقض العهود والمواثيق. وها هو كاتب المزمور 89 يوجه إليه التهم الموثقة بالشواهد: «لقد كلمت صفيك في رؤيا فقلت ... وجدت داود عبدي، بدهن قداستي مسحته ... يدعوني إنك أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أجعله بكرا عليا فوق ملوك الأرض ... مرة حلفت بقداستي ولا أكذب على داود، ليدومن نسله إلى الأبد وعرشه كالشمس أمامي ... لكنك أقصيت ورذلت، استشطت على مسيحك نقضت عهد عبدك ونجست تاجه بالتراب» (19-38).
وهو ناكر للجميل يصعب إرضاؤه، فرغم كل ما فعله موسى وأخوه هارون عبر ملحمة الخروج من مصر، فقد مات الاثنان في المعصية ولم يصفح لهما يهوه خطيئة طقسية اشتم من ورائها نقصا في الإيمان. فعندما عطش الشعب في برية سيناء تذمر على موسى وكاد أن يرجمه بالحجارة، فصرخ موسى إلى الرب طالبا عونه، فأمره أن يضرب صخرة معينة بعصاه ليتفجر منها نبع، ففعل موسى وشرب الناس، وبعد أن اجتاز بهم موسى كل المحن ووصل إلى الأطراف الشمالية لبرية سيناء على حدود كنعان، عطش الشعب ولم يكن هنالك ماء، فأمر الرب موسى وهارون أن يقفا أمام صخرة معينة ويكلماها فتخرج لهم ماء، ولكن موسى الذي كان في حالة إحباط ويأس، لم يكلم الصخرة بل ضربها بعصاه كما في المرة السابقة وصرخ في وجه الشعب: أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء! وبذلك ارتكب خطيئة طقسية أولا، ثم أظهر شكه بإمكانية تفجر الماء من الحجر الأصم: «قال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام عين بني إسرائيل، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها» (العدد، 30: 1-13). وبعد هذه الحادثة بمدة قصيرة حكم الرب على هارون بالموت: «يضم هارون إلى قومه،
4
لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل، لأنكم عصيتم قولي عند ماء مريبة. خذ هارون وأليعازر ابنه واصعد بهما إلى هور، واخلع عن هارون ثيابه والبس ابنه أليعازر إياها، فيضم هارون ويموت هناك» (30: 23-26). أما موسى فقد أمهله الرب حتى وصل بقومه ضفة نهر الأردن، وهناك أصعده على جبل نبو فأراه الأرض الموعودة من بعيد ثم قبض روحه عقوبة له: «انظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكا ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور، لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة» (التثنية، 32: 48-51).
إن عدم توصل إله التوراة إلى موقف متسق من مسألة الأخلاق، سواء فيما يتعلق بسلوكه الخاص أم بمطلبه الأساسي من شعبه، قد جعل الشخصيات الرئيسية في الرواية التوراتية تسلك بدوافع من محاكماتها الآنية ودون الاستناد إلى أية مرجعية أخلاقية، ونحن إذا تتبعنا سير حياة تلك الشخصيات من مختاري الرب، طالعتنا مواقف وتصرفات لا تليق بإنسان عادي، فما بالك بأولئك المختارين الذين رسم لهم الرب أدوارا مهمة في حياة الجماعة. فهذا نوح الأب الثاني للبشرية بعد آدم، والذي جاء وصفه في الكتاب بأنه الرجل البار الكامل، يتكشف عن سكير يعاقر الخمرة في خبائه ويتعرى من ثيابه حتى تنكشف عورته أمام أولاده (التكوين، 9: 20-24) ... وهذا لوط ابن أخي إبراهيم يأخذ الخمرة من يد ابنتيه ويشرب حتى يفقد وعيه، فتقوم ابنته الكبرى بمضاجعته في الليلة الأولى، ثم تفعل أختها الصغرى الشيء نفسه في الليلة التالية، وتحمل البنتان من أبيهما. (التكوين، 19: 36-38). وإبراهيم يرتحل إلى مصر في سنة مجاعة، وهناك يقول عن امرأته سارة إنها أخته لكيلا يطمع بجمالها أحد المصريين فيقتله ويأخذها، ولكن جمال سارة قد لفت أنظار رجال الفرعون فأخذوها إلى البلاط وألحقوها بالحريم، فدخل عليها الفرعون ثم أجزل العطاء لإبراهيم بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وجمال. (التكوين، 12: 17-20). وبذلك يبني الرجل الأول في القصة التوراتية ثروته من زنى زوجته. وقد فعل ابنه إسحاق الشيء نفسه عندما جاء إلى مدينة جرار الفلسطينية، فقال عن زوجته إنها أخته حتى لا يقتل بسببها، ولكن ملك جرار المدعو أبيمالك اكتشف كذبة إسحاق وعنفه قائلا: «إنما هي امرأتك فكيف قلت هي أختي؟ فقال إسحاق: لأني قلت لعلي أموت بسببها. فقال أبيمالك: لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا» (التكوين، 26: 3-11). وبذلك تفوق أبيمالك أخلاقيا على إسحاق.
وكان لإسحاق ولدان هما عيسو الابن الأكبر، ويعقوب الابن الأصغر الذي صار اسمه فيما بعد إسرائيل. وقد تآمر يعقوب مع أمه رفقة التي كانت تؤثره على عيسو، على اغتصاب حقوق البكورية من أخيه، فعندما دعا إسحاق وهو على فراش الموت ابنه الأكبر عيسو ليباركه، جاءت رفقه بيعقوب ليأخذ بركة أبيه عوضا عن عيسو ووضعت على يديه وعنقه فروة جدي ليغدو مشعر الجسم مثل أخيه عيسو، فلما حضر ولمسه أبوه الذي كان كليل النظر من وهن الشيخوخة، داخله الشك فسأله: هل أنت ابني عيسو؟ فقال يعقوب: أنا هو، فباركه أبوه. ومع البركة انتقلت كل حقوق الأخ الأكبر إلى يعقوب الكذاب، ومع الحقوق ورث عهد الرب الذي تجدد معه لا مع أخيه الأكبر، أي إن يهوه قد بارك من جهته كذب يعقوب وكافأه عليه، ثم إن يعقوب يتعرض بدوره لمكيدة من أولاده وهو في سن الشيخوخة، فقد أحب يعقوب ابنه الأصغر يوسف وفضله على إخوته، الأمر الذي جلب عليه بغض وحسد هؤلاء، فتآمروا لقتله عندما وافاهم في البرية وهم يرعون الغنم، ثم ألقوه في بئر جافة ليموت هنالك، وعادوا إلى أبيهم بقميصه وعليه أثر دم جدي وقالوا إن وحشا رديئا قد افترسه (التكوين 37). وبذلك يبتدئ تاريخ الأسباط الاثني عشر بالبغض والحسد والقتل والكذب.
ولدينا قصة عن أحد أولاد يعقوب المدعو يهوذا، وهو الذي تنتسب إليه قبيلة يهوذا، فقد مات الابن الأكبر ليهوذا وترك وراءه زوجته المدعوة تامار، فزوجها يهوذا من ابنه الثاني الذي ما لبث أن مات أيضا، فوعدها يهوذا بتزويجها من الابن الثالث ولكنه راح يماطل في الوفاء بوعده. وبينما هو في طريقه إلى بلدة تمنة لبعض أشغاله، خلعت تامار عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وجلست إلى جانب الطريق، ولما مر بها يهوذا ظنها زانية فطلب أن يدخل عليها. فقالت له: ماذا تعطيني إذا دخلت علي؟ قال: أعطيك جديا من الماعز. قالت: هل تعطيني رهنا ريثما ترسل الجدي؟ قال: ما الرهن الذي أعطيك؟ فقالت: خاتمك وعصابة رأسك وعصاك، فأعطاها ما طلبت ودخل عليها، وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إن تامار قد زنت وهي الآن حبلى. قال يهوذا: أخرجوها وأحرقوها، ولكن تامار أرسلت إليه خاتمه وعصاه وعصابة رأسه قائلة إنها حامل من صاحب هذه الأشياء. فعرف يهوذا أشياءه وبرأها ثم تزوجها، فولدت له ابنين هما فارص وزارح (التكوين 38). ومن فارص ابن الزنا بالكنة يتسلسل نسب الملك داود على ما نقرأ في سفر راعوث، 4: 18-22. فداود مؤسس السلالة التي حكمت في أورشليم حتى نهاية تاريخها القديم كان ابن زنا، رغم أن الرب قد شرع في سفر التثنية: «لا يدخل زنيم في جماعة الرب ولو في الجيل العاشر» (23: 2).
في سفر الخروج، يبتدي موسى حياته بجريمة قتل لم يكن مضطرا إليها، عندما هب لنجدة العبراني الذي كان يتشاجر مع مصري، فقتل موسى المصري وطمره في الرمل. وقبل أن يخرج بجماعته من مصر حضهم على استغلال ثقة جيرانهم المصريين وسرقتهم تحت ذريعة الإعارة المؤقتة، وقد شارك يهوه في عملية السرقة هذه عندما زين للمصريين أن يعيروا لبني إسرائيل ما طلبوا: «وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا. وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم فسلبوا المصريين» (الخروج، 12: 34-36).
ويبتدي داود، مؤسس ما يدعى بمملكة كل إسرائيل، حياته العامة كقائد مرتزقة يعمل لحساب الفلسطينيين من أعداء قومه (صموئيل الأول 26-29)، وعندما صار ملكا استهل حكمه بالقضاء على نسل سلفه شاؤل، فعمد إلى تسليم أولاد شاؤل وأولاد ابنته إلى خصومهم الجبعونيين فقتلوهم (صموئيل الثاني، 21: 10-1). ورغم الزوجات والسراري اللواتي حفل بهن قصره فقد اغتصب امرأة كانت زوجة واحد من رجاله المخلصين يدعى أوريا الحثي، ثم دبر له مكيدة في الحرب أودت بحياته، وعندما عرف أن المرأة حامل تزوجها فأنجبت له سليمان، ابن الزنا والاغتصاب والقهر. لقد انتهك داود الوصية الخامسة: لا تزن. وأدار ظهرا للفقرة التشريعية القائلة: «إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة متزوجة يقتل الاثنان» (التثنية، 22: 22). ولم تكن أخلاق بيت داود بأفضل من أخلاق رب البيت. فقد اغتصب ابنه المدعو أمنون أخته غير الشقيقة تامار (صموئيل الثاني، 13). وقام ابنه الآخر المدعو أبيشالوم بالتمرد عليه وحاول قتله للاستئثار بالسلطة (صموئيل الثاني، 15-18).
فإذا عدنا إلى ابن الزنا سليمان، وجدناه يحتال لانتزاع ولاية العهد من أخيه أدونيا، عندما كان أبوه داود شيخا مريضا يتدفأ من داء البرداء في أحضان عذراء جميلة اسمها أبيشج الشمونية (الملوك الأول، 1: 34). وكان أول عمل يقوم به بعد مسحه ملكا هو قتل أخيه أدونيا صاحب الحق بالعرش، وقتل قائد جيش داود المخلص المدعو يوآب لدعمه أدونيا، وعندما استتبت له الأمور نسي إلهه الذي بنى له الهيكل وعبد آلهة أخرى، مما أشرنا إليه سابقا. أما عن أخبار من تلا سليمان من ملوك إسرائيل وملوك يهوذا بعد انقسام المملكة، فإن الصفحات هنا تضيق عن ذكر كل ما ارتكبوه من مخاز وآثام، ولذلك نضرب الصفح عنها، ونحيل القارئ إلى سفري الملوك الأول والملوك الثاني في الكتاب العتيد.
وأخيرا، فقد أدرك مؤلفو أسفار الأنبياء هذا المأزق الأخلاقي للتوراة مثلما أدركوا المأزق التوحيدي، فحاولوا إنقاذ ما تبقى من القيم الأخلاقية التوراتية، عندما راحوا يؤكدون على السلوك الأخلاقي في مقابل الطقوس. نقرأ في سفر إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب: اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف، رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلا مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دما. اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (1: 11-17). وأيضا: «من يذبح ثورا فهو قاتل إنسان، من يذبح شاة هو ناحر كلب، من يصعد تقدمة يصعد دم خنزير. من أحرق بخورا فهو مبارك وثنا. بل هم اختاروا طرقهم وبمحرقاتهم سرت أنفسهم» (66: 3). ويسير عاموس على النهج نفسه في إعلاء الأخلاق فوق الطقوس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت، كرهت أعيادكم ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (5: 14، 21-24). أما حزقيال فيصحح سلوك إله التوراة الذي كان يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، عندما يقول على لسان إلهه: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل في إسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا، يقول الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل ... النفس التي تخطئ هي التي تموت ... الابن لا يحمل من إثم الأب» (18: 2-4، 20).
ولكن هذه النداءات الواهية المتفرقة في أسفار الأنبياء، لم تكن كافية لحل إشكالية الأخلاق التي بقيت قائمة، مثلها مثل إشكالية التوحيد، حتى اختتام تدوين الأسفار القانونية. (3) الشيطان الحاضر الغائب
إن عدم توصل الأيديولوجيا التوراتية إلى صياغة معتقد واضح متسق حول وحدانية الإله وأخلاقيته، وتقصيرها عن بلوغ مفهوم الكمال والخير المطلق في شخصية ذلك الإله، الذي بقي يتصرف حتى النهاية كزعيم قبلي مدفوع بردود أفعاله الآنية وبعواطفه الفطرية مثل الغضب والغيرة، قد دفع بالشيطان إلى دائرة الظل عبر أحداث الرواية التوراتية. فإله التوراة هو صانع الخير وصانع الشر في آن معا، وها هو النبي إشعيا يقدم لنا ما يمكن اعتباره خلاصة تجربة شعب التوراة مع إلهه: «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا» (45: 76). ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: «الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى من عند الرب ... الظلال والظلمة خلقا مع الخطأة» (11: 14-16). وأيضا: «أنا، أنا هو الرب وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي، وليس من يدي مخلص. إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد. سللت سيفي البارق وأمسكت بالقضاء يدي، أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضي. أسكر سهامي بدم ويأكل سيفي لحما بدم القتلى والسبايا ومن رءوس قوات العدو» (التثنية، 32: 39-42). وبذلك يتم دمج الإله والشيطان في شخصية واحدة هي شخصية يهوه الذي نراه يلعب الدورين ببراعة، رغم أن العناصر الشيطانية في شخصيته تطغى على العناصر الإلهية. فأي إله هذا الذي تسكر سهامه بالدم ويأكل سيفه اللحم مغمسا بدم القتلى والسبايا ورءوس قوات العدو؟ وأي إله هذا الذي يشبهه مقطع آخر بالعملاق الذي تعتعه السكر فراح يضرب ذات اليمين وذات الشمال: «ثم استيقظ الرب كنائم، ومثل الجبار الذي رانت عليه الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عارا أبديا» (المزمور 78: 65-66). وأي إله هذا الذي يخرج من أنفه دخان ومن فمه نار آكلة: «ارتجت الأرض وارتعشت. أسس الجبال ارتعدت وارتجت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه» (المزمور 18: 7-8). وأي إله هذا الذي يحف به كلما خرج شيطان الوبأ وشيطان الحمى: «قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى ... وقف وقاس الأرض، انظر، فرجف الأمم» (حبقوق 3: 4-6).
ومع ذلك فإن الشيطان لم يكن غائبا تماما رغم ضآلة دوره وقلة حيلته، وهو يظهر شريكا ليهوه أحيانا وتابعا له في أحيان أخرى ينفذ مهاما معينة. ففي الأسفار الخمسة يدعى عزازيل، ويبدو أشبه بالجن التي تسكن البوادي والقفار، وهو يقتسم قربان الخطيئة مع يهوه. نقرأ في سفر اللاويين: «ويأخذ هارون التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع، ويلقي على التيسين قرعتين قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطيئة، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل يوقف حيا أمام الرب ليفكر عنه ليرسله إلى عزازيل في البرية» (اللاويين، 16: 5-10). ونجده في سفر القضاة وما تلاه تحت اسم بليعال، والذي يعني بالعبرية الشرير عديم الفائدة. نقرأ في سفر القضاة عن سبط بنيامين الذي كان رجاله لوطيين يصطادون الغرباء ويعتدون عليهم: «وفيما هم يطيبون قلوبهم إذا برجال المدينة رجال بني بليعال أحاطوا بالبيت قارعين الباب، وكلموا الرجل صاحب البيت الشيخ، قائلين: أخرج الرجل الذي دخل بيتك فنعرفه
5
فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم: لا يا إخوتي لا تفعلوا شرا بعدما دخل هذا الرجل بيتي لا تفعلوا هذه القباحة» (19: 22-23). ونجد هنا نموذجا عن أخلاق عامة الناس في الرواية التوراتية، مما لم نتعرض له عندما عرضنا لسلوك الشخصيات الرئيسية في الرواية. هذا ويرد الاسم بليعال في عدة مواضع أخرى في الإشارة إلى الشيطان، ففي سفر الملوك الأول يغتصب الملك آخاب كرما للمدعو نابوت اليزرعيلي ويلفق له تهمة تودي بحياته، ثم يأتي بشهود زور من بني بليعال (الملوك الأول 21). وقد استخدم مؤلفو العهد الجديد الاسم بليعال للدلالة على الشيطان. يقول بولس الرسول: «وأية شركة للنور مع الظلام، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال» (كورنثة الثانية، 6: 14-15). كما استخدمت الأسفار غير القانونية الاسم أيضا ومنها نصوص قمران، كما سنرى في الفصل القادم.
وقد يشير المحرر التوراتي إلى الشيطان دون ذكر اسمه صراحة، فهو «المهلك» الذي يرسله يهوه في مهمات القتل والدمار، نراه في صحبته عندما مر على بيوت المصريين ليضربهم في سفر الخروج، وذلك بعد أن أمر العبرانيين بوضع شارة مرسومة بالدم على أبوابهم لكي يميزهم عن المصريين: «إن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتهم ليضرب» (12: 23). ويقول إشعيا بأن يهوه قد خلق المهلك لمهام الخراب والتدمير: «وأنا خلقت المهلك ليخرب» (54: 16). وبه يهدد النبي إرميا أهل يهوذا وأورشليم: «قد صعد الأسد من غابته، وزحف مهلك الأمم، خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابا. تخرب مدنك فلا ساكن» (4: 7). والنبي ناحوم يعد الشعب بكف أذى المهلك: «هو ذا على الجبال مبشر مناد بالسلام، عيدي أعيادك يا يهوذا، أوفي نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضا المهلك. قد انقرض كله» (1: 15).
وهو الروح الرديء الذي يرسله يهوه فيتلبس من يخطئ أمامه، وقد أرسل مثل هذا الروح فحل في جسد شاؤل : «وذهب روح الرب من عند شاؤل وبغته روح رديء من قبل الرب» صموئيل الأول (16: 14). «وكان في الغد أن الروح الرديء من قبل الرب اقتحم شاؤل وجن في وسط البيت» (18: 10). وهذا يعني وجود صلة شراكة بين يهوه والشياطين التي تعمل تحت إمرته. وكان يسوع فيما بعد يخرج مثل هذه الأرواح الرديئة من أجسام المجانين فيشفون، وهم يدعون العهد الجديد بالأرواح النجسة والأرواح الشريرة والشياطين.
وهو الوباء والحمى اللذان يسيران أمام إله الغضب: «جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان له لمعان كالنور، قدامه ذهب الوبا، وتحت رجليه خرجت الحمى ... بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم» (حبقوق، 3: 3-12)، وفي سفر طوبيا يدعى إزموداس (طوبيا، 3: 8) مثلما يدعى أيضا بالشيطان (طوبيا، 6: 8 و8: 2-3). وعندما يذكر بالاسم «الشيطان» (وهو بالعبرية شطن، ويعني المقاوم والمعاند) نجده واحدا من بطانة يهوه الخاصة والمقربة، مكلفا بأداء مهام شريرة يوكلها إليه الرب، كما نجد أن الاثنين متفقان أحيانا ومختلفان في أحيان أخرى. ففي المزمور 109 نجد كاتب المزمور يدعو ربه لكي يقيم من عنده شيطانا على خصمه يفسد عليه حياته: «فأقم عليه شريرا، وليقف شيطان عن يمينه، إذا حوكم فيخرج مذنبا، وصلاته فلتكن خطيئة. ليكن بنوه أيتاما وامرأته أرملة» (6-9). وفي سفر زكريا ينتهر الرب الشيطان لأنه وقف عن يمين الكاهن يهوشع ليقاومه: وأراني الملاك الكاهن العظيم يهوشع قائما قدام الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم (3: 1-2).
في سفر أيوب نجد أن يهوه والشيطان متفقان تماما بخصوص النيل من العبد الصالح أيوب، وهما يعقدان رهانا فيما بينهما بشأنه. وهنا تتضح لنا بجلاء شخصية الشيطان في التوراة ومكانته ومهامه، فهو ملاك أسود موكل من قبل يهوه بأمر الشر، ويجول مع بقية الملائكة في الأرض يستقي أخبارها ويرفع تقاريره إلى معلمه، وهو رغم تبعيته الظاهرية إلا أنه قادر على خداع سيده، ودفعه لاتخاذ قرارات غير صائبة بناء على معلومات كاذبة يقدمها إليه. وإليكم القصة نسوقها مع بعض التفصيل نظرا لأهميتها في الكشف عن الجوانب الشيطانية في شخصية يهوه.
كان أيوب رجلا كاملا ومستقيما، على حد وصف مطلع السفر: «وكان هذا الرجل كاملا ومستقيما، يتقي الله ويحيد عن الشر ... ولد له سبعة بنين وثلاث بنات، وكانت مواشيه سبعة آلاف رأس من الغنم وثلاثة آلاف جمل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان، وخدمه كثيرون جدا. فكان هذا الرجل أعظم بني المشرق» (1: 1-3). وفي أحد الأيام جاء الملائكة ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان في وسطهم كواحد منهم: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب وجاء الشيطان أيضا في وسطهم. فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان
6
في الأرض والتمشي فيها» (1: 6-7). هنا يتذكر يهوه عبده الصالح أيوب ويأمل ألا يكون الشيطان عازما على مسه بسوء: «فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض، رجل صالح كامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر» (1: 8). عند ذلك يبدأ الشيطان مكيدته لأيوب، فيوحي ليهوه بأن تقوى الرجل ليست تعبيرا عن كماله وإنما هي نتاج موقف نفعي، لأن الرب قد أغدق عليه ووهبه ما لم يهب لغيره، فإذا مسه ضر من ربه سوف يكفر ويجدف في وجهه: «فأجاب الشيطان: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية، باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ما له فإنه يجدف عليك» (1: 9-11). هنا يظهر بجلاء عدم اتصاف يهوه بواحدة من أهم خصائص الله وهي كلانية المعرفة، لأن الشك يداخله في أمر أيوب ويود معرفة خبيئة نفسه، فينقاد لأحابيل الشيطان: «هو ذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك» (1: 12). وقد كان أحرى به أن يرجع إلى معرفته الكلية، إذا كان لديه منها أدنى نصيب، ليعرف خبيئة نفس أيوب بدل توظيفه للشيطان والاتكال عليه.
أطلق يهوه يد الشيطان في أيوب ينزل به ما شاء من الضربات، ففي يوم واحد سرقت أبقاره وجماله، وقتل اللصوص عبيده جميعا، وسقطت نار من السماء فأحرقت قطعان غنمه، ثم سقط البيت على أولاده فماتوا جميعا: «فقام أيوب ومزق جبته وجز شعر رأسه وخر على الأرض وسجد وقال: عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركا. وفي كل هذا لم يخطئ أيوب ولم ينسب لله جهالة» (1: 13-22).
يأتي الشيطان للمثول أمام الرب مرة أخرى فيعاتبه الرب على دسيسته لأن أيوب لم يخطئ ولم يجدف رغم ما حل به من مصائب: «إلى الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتني عليه لأبتليه بلا سبب» (2: 1-3). فيقترح الشيطان أن يستمر الاختبار، وأن يطال الأذى أيوب في جسمه وصحته بعد أن طاله في أملاكه وعائلته، فينساق يهوه مرة أخرى لإغواء الشيطان الذي يباشر عمله فورا: «فخرج الشيطان من حضرة الرب وضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالس في وسط الرماد. فقالت له امرأته: أنت متمسك بعد بكمالك؟ ... فقال لها: تتكلمين كلاما كإحدى الجاهلات. أنقبل الخير من عند الله والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (2: 4-13).
ولكن يهوه وقد أمتعته اللعبة الآن، يزداد إمعانا في تعذيب أيوب الذي تشتد عليه الأوجاع الجسدية والشقاءات الروحية، فيرفع عقيرته بالشكوى وطلب العدل من إله لا يعرف مثل هذا المصطلح: «أبحر أنا أم تنين حتى جعلت علي حارسا؟ إن قلت فراشي يعزيني وينزع كربتي تريعني بأحلام وترهبني برؤى ... كف عني الآن لأن أيامي نفحة. ما هو الإنسان حتى تعتبره وحتى تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح، وكل لحظة تمتحنه؟ حتى متى لا تلتفت عني ولا تريحني ريثما أبلع ريقي؟ هل أخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس؟ لماذا جعلتني عاثورا لنفسي حتى أكون على نفسي حملا؟» (17: 12-20). ولكن هذه الشكوى تذهب هباء، لأن يهوه هو الخصم والحكم، وما من أحد يحاسبه على أعماله: «ذاك الذي يسحقني بالعاصفة ويكثر جروحي بلا سبب، لا يدعني آخذ نفسي ولكن يشبعني مرائر. إن كان من جهة القوة يقول ها أنا ذا، وإن كان من جهة القضاء يقول من يحاكمني؟ ... أنا مستذنب فلماذا أتعب عبثا ... لأنه ليس هو إنسانا مثلي فأجاوبه فنأتي جميعا للمحاكمة. ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا » (9: 29-33). «أفهمني لماذا تخاصمني ... يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعا، أفتبتلعني؟ ... كف عني قبل أن أذهب ولا أعود إلى أرض ظلمة وظل موت» (10: 1-21).
ولكن ادعاء البراءة من جانب أيوب وثباته على توكيد حقه أمام إلهه، لا يزيد هذا إلا تعنتا، وها هو يخاطبه مخاطبة الند للند مستعرضا قوته أمام هذا الإنسان الضعيف القاعد فوق كومة رماد بين أطلال بيته المهدم يحك قروحه بكسرة فخار: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟ أشدد حقويك الآن كرجل، فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسست الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم، من وضع قياسها أو من مد عليها مطمارا؟ على أي شيء قر قواعدها، أو من وضع حجر زاويتها عندما ترنمت كواكب الصبح معا وهتف جميع بني الله؟» (38: 1-6). وبعد خطبة طويلة يتباهى يهوه فيها بكل ما صنعت يداه، يتقدم أيوب بإجابة مقتضبة تنم عن اليأس من الاحتكام لإله يعتبر نفسه فوق الواجبات الأخلاقية: «فأجاب أيوب الرب وقال: ها أنا حقير بماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد» (40: 2-4).
هذه الإجابة المختصرة تدعو يهوه إلى ثورة عارمة أقوى من الأولى، لأنه يرى في ثناياها اتهاما مبطنا من قبل أيوب: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال: الآن أشدد حقويك كرجل. أسألك فتعلمني. لعلك تناقض حكمي!! تستذنبني لكي تتبرر أنت!» (40: 6-8). ثم يعود إلى استعراض قوته مستعيدا مشاهد معروفة تظهر تسلطه على الوحوش والتنانين البحرية من أمثال بهيموث ولوياتان: «هل لك ذراع كما لله وبصوت مثل صوته ترعد؟ ... أتصطاد لوياتان بشص أم تضغط لسانه بحبل؟ ... من يفتح مصراعي فمه؟ دائرة أسنانه مرعبة ... عطاسه يبعث نورا وعيناه كهدب الصبح، من فمه تخرج مصابيح شرار نار تتطاير منه ... إلخ» (40: 9؛ و41: 1-21). بعد أن ينتهي يهوه من خطبته الاستعراضية الثانية هذه، يدرك أيوب أخيرا أن إلهه لا ينطلق في تصرفاته من أية قاعدة منطقية أو أخلاقية، بل من إحساسه بالتفوق والسلطة المطلقة، وأنه لا يطلب من عباده إلا اعترافا تاما بالتفوق، ولا فائدة ترجى من تذكيره بالعدل والإنصاف. وهنا يعمد أيوب إلى صياغة إجابته الأخيرة بطريقة تنسجم مع نظرة يهوه إلى نفسه، وبذلك يفلح في كسب قضيته أخيرا: «فأجاب أيوب الرب فقال: قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك أمر ... وقد نطقت بما لم أفهم بعجائب فوقي لم أعرفها ... بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني، لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد» (42: 1-5).
لا تحتوي كلمات أيوب الأخيرة على أي عرض لحق أو احتكام لعدل أو تذكير بالقواعد الأخلاقية، بل إنها تبدي خضوعا كاملا وغير مشروط لجبروت إله كان أيوب يسمع به وبعجائبه ولكنه رآه بعد ذلك بأم عينه، لهذا يهدأ غضب يهوه ويقرر الرأفة بأيوب، فيعيد إليه كل ما سلب منه: «وزاد الرب على كل ما كان لأيوب ضعفا، فجاء إليه كل إخوته وكل أخواته وكل معارفه وأكلوا خبزا في بيته، ورثوا له وعزوه عن الشر الذي جلبه الرب عليه. وبارك الرب آخرة أيوب أكثر من أولاه ... وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات أيوب شيخا وشبعان الأيام» (42: 1-17). ولكن من يعيد لأيوب كرامته الإنسانية التي هدرت على يد إله يدعي أنه الذي أسس الأرض ورفع السماء، ويتباهى بقتل التنانين واصطيادها بشص كما السمك، ولكنه لا يملك الحد الأدنى من المعرفة التي تمكنه من الاطلاع على فؤاد أيوب ليتأكد من صحة ادعاء الشيطان. (4) لاهوت الملائكة
على عكس لاهوت الشيطان، الذي بقي ناقصا وغامضا حتى اختتام الأسفار القانونية، فإن لاهوت الملائكة يأخذ بالاتضاح تدريجيا عبر الأسفار، وذلك بتأثيرات رافدينية وفارسية، غير أن ما يميز مفهوم الملائكة في التوراة عن مفهوم الملائكة الفارسي، هو أن الملائكة التوراتية ليست كائنات نورانية خيرة تقف في وجه الشياطين وتكافح الشر في العالم على كل صعيد، بل هي البطانة الخاصة التي تحيط بيهوه الملك، وتحمل عرشه كلما زار الأرض، وتنفذ ما يوكل إليها من مها، فمنها للمهام الخيرة ومنها للمهام الشريرة، وغالبا ما يختلط الفريقان حتى يصعب التمييز بين ملائكة النور وملائكة الظلام. فبعد أن ترك يهوه خيمته التي سكن تحتها في الصحراء ردحا وصار له هيكل مثل بقية الآلهة الكبرى، أخذ المحررون التوراتيون يرسمون له صورة الملك الشرقي المتربع على العرش، والذي يحيط به رهط السماء من الخدم والحشم والأتباع: «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه، وكل جند السماء واقفا عن يمينه ويساره» (الملوك الأول، 22: 19). «الرب جالس على كرسي قدسه» (المزمور 47: 8). «الرب قد ملك. لبس الجلال، لبس الرب القدرة ائتزر بها» (المزمور 93: 1). «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض ولتفرح الجزائر الكثيرة ... أسجدوا له يا كل الآلهة» (المزمور 97: 1-7).
رغم أن قصة الخلق التوراتية لم تأت على ذكر خلق الملائكة، إلا أن النص يتحدث عن صنف من هذه الكائنات منذ مطالع سفر التكوين ويدعوها «كروبيم»، والكلمة صيغة جمع للمفرد «كروب» وهي من أصل بابلي، وتدل على كائنات مجنحة ذات رأس إنساني وجسم حيواني، كانت تصور على مداخل الأبنية والقصور الملكية باعتبارها كائنات ما ورائية حارسة. يرد أول ذكر للكروب والكروبيم في الإصحاح الثالث من سفر التكوين. فبعد أن جرى طرد الإنسان من جنة عدن أقام الرب الكروبيم لحراسة الطريق إلى شجرة الحياة (التكوين، 3: 24). وفي سفر الخروج يأمر الرب موسى أن يصنع لتابوت العهد غطاء عليه صورة لكروبين مجنحين: «اصنع كروبا واحدا على الطرف من هنا وكروبا آخر على الطرف من هناك، ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق، مظللين بأجنحتهما على الغطاء» (الخروج، 25: 19). كما أمره أن يرسم عددا آخر من الكروبيم على نسيج خيمة الاجتماع التي تضم تابوت العهد (الخروج، 26: 31). وعندما بنى سليمان الهيكل الذي وضع الرب بنفسه مخططه، كانت صور الكروبيم تملأ المكان: «وعمل في المحراب كروبين من خشب الزيتون علو الواحد عشر أذرع، وخمس أذرع جناح الكروب الواحد، وجعل الكروبيم في وسط البيت الداخلي ، وجميع حيطان البيت في مستديرها رسمها نقشا بنقر كروبيم ... وعمل لباب المحراب مصراعين من خشب الزيتون ورسم عليهما نقش كروبيم» (الملوك الأول، 6: 23-32).
ويستخدم يهوه هذه الكائنات كواسطة نقل عندما يفكر بزيارة الأرض: «طأطأ السماوات ونزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب وطار، ورئي على أجنحة الريح، جعل الظلمة حول مظلات» (صموئيل الثاني، 22: 10). ونجد الصورة نفسها في المزمور 18: «ركب على كروب وهف وطار على أجنحة الريح ... من الشعاع قدامه عبرت سحبه، برد وجمر ونار» (18: 10-12). كما أن الكروبيم تسند عرش يهوه: «يا راعي إسرائيل يا جالسا على الكروبيم أشرق» (المزمور 80: 1). وأيضا: «الرب قد ملك. ترتعد الشعوب وهو جالس على الكروبيم، تتزلزل الأرض» (المزمور 99: 1). وفي رؤيا حزقيال نجد أربعا من هذه الكروبيم تحمل عرش الرب، الذي تحول إلى مركبة تطير به وتحط على الأرض، في مشهد رأى فيه بعض أصحاب الخيال الجامح من الكتاب الغربيين ما يشبه هبوط مركبة فضائية من العوالم الأخرى: «فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال، سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان، ومن وسطها شبه أربعة حيوانات هذا منظرها: لها شبه إنسان، ولكل واحد أربعة أوجه وأربعة أجنحة، وأرجلها قائمة، وأقدام أرجلها كقدم رجل العجل، وبارقة كمنظر النحاس المصقول، وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة ... منظرها كجمر نار متقدة، ومن النار كان يخرج برق ... وعلى رءوس الحيوانات شبه مقبب كمنظر البلور الهائل منتشرا على رءوسها من فوق ... وفوق المقبب الذي على رءوسها شبه عرش كمنظر العقيق الأزرق، وعلى شبه العرش كمنظر إنسان ... هذا منظر شبه مجد الرب. ولما رأيته، خررت على وجهي وسمعت مرسل صوت متكلم فقال لي: يا ابن آدم قم على قدميك فأتكلم معك» (1: 4-28).
ويستخدم النص في الأسفار الخمسة الاسم المفرد «ملاك» في العديد من المواضع، والكلمة بالعبرية تلفظ «ملاخ» وتعني رسول أو مرسل. نقرأ في سفر التكوين، في خطاب إبراهيم لعبده: «هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجة لابني من هناك» (24-7). وفي سفر الخروج: «ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك يحفظك في الطريق». وفي سفر العدد : «فصرخنا إلى الرب فسمع صوتنا وأرسل ملاكا وأخرجنا من مصر» (20: 16). وبعد ذلك تظهر في النص صيغة الجمع «ملائكة» إلى جانب صيغة المفرد: «الرب في السماوات ثبت كرسيه ومملكته على الكل تسود ... باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه. باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته» (المزمور 103: 19-20). وهم مثل ريح ونار على حد تعبير المزمور 104: «باركي يا نفسي الرب ... الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح، الصانع ملائكته رياحا وخدامه نارا ملتهبة.»
ونظرا لغياب الشياطين كمخلوقات ما ورائية شريرة، فإن الملائكة تنقسم إلى فريقين: واحد شرير والآخر طيب. والشريرون منهم هم أداة غضب يهوه: «أرسل عليهم حمو غضبه، سخطا ورجزا وضيقا، جيش ملائكة أشرار مهد الطريق لغضبه» (المزمور 78: 49-50). وأما الطيبون منهم فيحفظون أتقياء يهوه: «لأنك قلت أنت يا رب ملجئي، لا يلاقيك شر، لأنه يوصي بك ملائكته لكي يحفظوك في كل طرقك» (المزمور 91: 9-11). والشيطان نفسه هو واحد من هؤلاء الملائكة الأشرار وربما كان رئيسا عليهم رغم عدم وجود إشارة واضحة في النص إلى ذلك. وينفرد سفر إشعيا بالحديث عن طبقة من الملائكة تدعى سيرافيم، وهؤلاء يطيرون بستة أجنحة لا بأربعة كما هو حال الكروبيم: «رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة، باثنتين يغطي وجهه وباثنتين يغطي رجليه وباثنتين يطير، وهذا نادى ذاك وقال قدوس رب الجنود، مجده ملء كل الأرض» (6: 1-3).
ومن مهام الملائكة الاتصال بمختاري الرب وأنبيائه. فبعد أن تحول يهوه إلى ملك شرقي وترك خيمته المتواضعة في الصحراء، لم يعد يتصل مباشرة بالناس بل جعل من الملائكة وسيطا بينه وبينهم. فهؤلاء إلى جانب تسبيحهم للرب وتعظيمهم له فإنهم يتصلون بمختاري الرب وأنبيائه فيفسرون معنى أحلامهم ويضعون النبوءات على ألسنتهم (حزقيال، 4: 3-4؛ وزكريا، 12:1). ونعرف من هؤلاء الوسطاء ميخائيل رئيس الملائكة، وجبرائيل حامل الوحي. نقرأ في سفر دانيال عن ظهور جبرائيل للنبي: «وبينما أنا أتكلم وأصلي وأعترف بخطيئتي وخطيئة شعبي، وإذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا لمسني عند وقت تقدمة المساء، وفهمني وتكلم معي وقال: يا دانيال ... إلخ» (9: 20-22). وأيضا: «إذا كنت على جانب النهر العظيم الذي هو دجلة، رفعت بصري ونظرت وإذا برجل لابس كتانا لابس وجسمه كالزبرجد ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار وصوت كلامه كصوت جمهور ... وسمعت صوت كلامه. ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبخا على وجهي، ووجهي إلى الأرض، وإذا بيد لمستني وأقامتني مرتجفا وقال لي: يا دانيال ... إلخ» (دانيال، 10: 4-11).
إن تجلي جبرائيل للنبي دانيال في المشهد أعلاه، يظهر بقوة أثر التقاليد الزرادشتية، ويحضر إلى الأذهان مشهد تجلي الروح القدس المدعو فوهو مانا لزرادشت عندما كان على ضفة النهر، وإبلاغه إياه رسالة أهورا مزدا. كما تظهر التأثيرات الزرادشتية في سفر طوبيا الذي يشير إلى وجود سبعة ملائكة تقف في حضرة الرب بشكل دائم. فهذه الملائكة السبعة هي نظيرة الأرواح السماوية السبع التي تحيط على الدوام بأهورا مزدا وتعكس مجده. يقول الملاك للرجل الصالح طوبيا: «والآن فإن الرب قد أرسلني لأشفيك وأخلص سارة كنتك من الشيطان، فإني أنا رفائيل الملاك، أحد السبعة الواقفين أمام الرب» (12: 14-15). وقد انتقلت هذه الفكرة بعد ذلك إلى العهد الجديد. نقرأ في رؤيا يوحنا اللاهوتي: «سلام من الكائن، والذي كان والذي يأتي، ومن سبع الأرواح التي أمام عرشه» (1: 4). وأيضا: «هذا يقوله الذي له سبع أرواح الله وسبعة الكواكب ... إلخ» (3: 1).
وخلاصة الأمر فيما يتعلق بمفهوم الملائكة في الأيديولوجيا التوراتية، هي أن المحرر التوراتي قد اقتبس هذا المفهوم عن المعتقد الزرادشتي بعد أن جرده من كل معانيه الأصلية. إن وجود الملائكة في المعتقد الزرادشتي هو ضرورة أخلاقية، وقد خلقها أهورا مزدا لغرض محدد واضح هو مكافحة الشيطان وأعوانه، والتصدي لهجوم قوى الشر الدائم على خلق الله الطيب. أما في المعتقد التوراتي الذي يفتقر أصلا إلى تصور متسق وواضح عن الخير والشر، وإلى أي معنى أخلاقي للكون والحياة وصيرورة التاريخ، فإن وجود الملائكة لا يخدم إلا صورة يهوه عن نفسه كملك مطلق السلطان. (5) الزمن ومفهوم التاريخ
تنتمي الرؤية التوراتية للزمن والتاريخ إلى نمط خاص أدعوه بالتاريخ الدينامي المنقوص، لأن هذه الرؤية تقوم على فكرة نهاية التاريخ، ولكن مع استمرارية الزمن الدنيوي المفتوح على اللانهاية، فالأيديولوجيا التوراتية تفتقر إلى أهم العناصر التي يقوم عليها مفهوم التاريخ الدينامي، وهي : وحدانية الإله وأخلاقيته، والشيطان الكوني، وصراع الخير والشر الذي يقود التاريخ والزمن معا إلى نهاية يعقبها خروج من الزمن إلى الأبدية. فلنتابع فيما يأتي حركة تاريخ العالم والحضارة الإنسانية كما رآه محررو التوراة حتى اختتام أسفار الكتاب.
قبل بداية الزمن، لم يكن سوى المياه البدئية الأزلية، وروح الرب يرف فوق سطحها، ولسبب غير مفهوم قرر الرب خلق العالم، ونفذ ذلك خلال ستة أيام تقابل مراحل الخلق الست في الزرادشتية. في اليوم الأول خلق الرب النور الذي شق الظلمة الأزلية المتكاثفة فوق سطح الغمر البدئي، وسمى النور نهارا وسمى الظلمة ليلا. في اليوم الثاني خلق قبة السماء. وفي اليوم الثالث أظهر اليابسة وميزها عن البحار ثم بث فيها الحياة النباتية. وفي اليوم الرابع خلق الشمس والقمر وبقية الأجرام السماوية. وفي اليوم الخامس خلق الكائنات المائية وطيور الجو. وفي اليوم السادس خلق حيوانات الأرض ثم خلق الإنسان. وفي اليوم السابع استراح من جميع عمله الذي جعله خالقا (التكوين 1 و2).
مما يلفت النظر في قصة الخلق هذه، عدم تعرضها لخلق الملائكة والشياطين أو أية كائنات ما ورائية أخرى، رغم أن مثل هذه الكائنات تبدأ بالظهور تباعا عقب ذلك، غير أن محرر الإصحاحات الأولى من سفر التكوين قد ترك لنا جملة غامضة في مطلع الإصحاح الثاني يقول فيها: «فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ في اليوم السابع من عمله.» وهذه الجملة تفتح الباب واسعا أمام عدد من التفسيرات المتعلقة بالكائنات الما ورائية على مختلف أنواعها. فكلمة «جند» الواردة هنا، ومرادفها «أجناد»، مضافة إلى كلمة «الرب» أو «السماء»، تدل في النص على الآلهة الأخرى أحيانا، وعلى الملائكة في أحيان أخرى. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «وكان أن بني إسرائيل أخطئوا ... وتركوا جميع وصايا الرب إلههم وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل » (17: 16). وأيضا: «وعمل منسي - ملك إسرائيل - الشر في عيني الرب وأقام مذابح للبعل ... وسجد لكل جند السماء وعبدها» (21: 1-3). وأيضا: «وأمر الملك ... أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء وأحرقها خارج أورشليم» (23: 4). وفي سفر إرميا نقرأ: «في ذلك الزمان، يقول الرب، يخرجون عظام ملوك يهوذا وعظام رؤسائه وعظام الكهنة وعظام الأنبياء وعظام سكان أورشليم من قبورهم، ويبسطونها للشمس وللقمر ولكل جنود السماء التي أحبوها والتي عبدوها»
7 (8: 1-2).
وفي مواضع أخرى نجد أن تعبير جند الرب أو جند السماء يدل بوضوح على الملائكة. نقرأ في سفر يشوع: «رفع «يشوع» عينيه ونظر، وإذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده، فسار إليه يشوع وقال له: هل أنت لنا أو لأعدائنا؟ فقال: كلا بل أنا رئيس جند الرب» (5: 13-14). ونقرأ في إرميا: «كما أن جند السماوات لا يعد ورمل البحر لا يحصى، هكذا أكثر نسل داود عبدي» (33: 22). وفي سفر أخبار الأيام الثاني: «قد رأيت الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره» (18: 18). وفي المزمور 103: «باركوا الرب يا ملائكته ... باركوا الرب يا جميع جنوده، خدامه العاملين مرضاته» (103: 20). وفي المزمور 148: «سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده» (148: 1-3).
هذه الشواهد وغيرها تلقي ضوءا على الجملة التي ختم بها المحرر التوراتي فعاليات خلق يهوه. فلقد أراد القول بأن يهوه لم يكن وحيدا عندما اكتمل خلق العالم، وأن المستوى الما ورائي كان مليئا منذ البداية بحشد من الكائنات الإلهية والملائكية، ولكن يهوه قد سما عليهم جميعا من خلال عملياته الخلاقة عند جذور الزمن، وها هو يراقب صيرورة التاريخ الذي انطلق عقب التكوين دونما خطة إلهية مسبقة.
بعد طرد الإنسان من جنة عدن، مما فصلناه في موضع سابق، يبتدئ تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن يهوه لا يتبع فعاليات التكوين بفعاليات التأصيل على طريقة الآلهة المشرقية، التي وضعت بنفسها أصول التحضر الإنساني ودفعت حثيثا مسيرة البشر الثقافية، وإنما ينسحب إلى عليائه بعد أن أسس لثلاثة أصول فقط، هي الخطيئة واللعنة والجريمة. فقد دفع الزوجين الأولين إلى الخطيئة ثم أخرجهما بخطيئتهما من الجنة إلى الأرض ليعملوا فيها، ولعن الأرض بسببهما: «ملعونة الأرض بسببك بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك.» وعندما ولد للزوجين الأولين ابنان، هيا يهوه أسباب الجريمة الأولى بقبوله قربان أحدهما ورفضه قربان الآخر، فقتل قاين هابيل متبدئا تاريخ نسل آدم بالعنف والعدوان. بعد تأسيسه لهذه الشرور الأولى يغفو الإله التوراتي ردحا طويلا تاركا البشر يسلكون في طرقهم الخاصة، حتى تكاثروا وملئوا الأرض. وخلال هذه المدة لم يتدخل في شئونهم لا سلبا ولا إيجابا ولم يؤسس لنوع من الصلة معهم. فلا طقوس ولا عبادات ولا شريعة أخلاقية من أي نوع. وفجأة ينتبه يهوه ويخطر له أن يتفقد أحوال الناس فيرى أن شرهم قد كثر في الأرض، ولا يجد وسيلة لإصلاح هذا الشر أفضل من إفنائهم جميعا، رغم كل الخيارات الأخرى المتاحة أمام إله يفترض أنه كلي القدرة: «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه، فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع البهائم ودبابات وطيور السماء ... فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت» (التكوين، 6).
بعد زوال الطور الأول من الحضارة وابتداء الطور الثاني مما تلا الطوفان، يعود يهوه إلى الاستغراق في ذاته تاركا العالم على هواه مرة أخرى، ثم يصحو ليجد الناس وقد صاروا أمة واحدة تتكلم لسانا واحدا، وها هم يبنون مدينة وبرجا عاليا يصبح رمز وحدتهم وتكاتفهم، وبدلا من أن يمد لهم يد العون فقد عمل على تشتيتهم وبلبلة ألسنتهم ليصبحوا شيعا متفرقة متناحرة: «وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة ... وقالوا هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبليل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه الأرض» (التكوين ، 11: 1-8).
يختفي يهوه بعد أن اطمأن إلى تشتيت البشر وفرقتهم بتنوع لغاتهم، وبعد أن اطمأن إلى إحباط قفزتهم الحضارية الأولى. بينما يتابع سفر التكوين سرد نسب سام بن نوح من دون جميع فروع بني البشر، ومن سلسلة نسب سام هذه يتابع فقط خطا واحدا هو الخط الذي انتهى بالمدعو تارح، الذي ولد في مدينة أور الكلدانية ثم ارتحل مع ولديه ناحور وأبرام (= إبراهيم) وحفيده لوط من ابنه المتوفى هاران، فسار وحط في مدينة حاران في الشمال السوري. هنا ينتبه يهوه مجددا وينظر إلى الأرض بقاراتها وشعوبها وحضاراتها جميعها، فلا يرى منها سوى أبرام، فنراه يكلمه بدون مقدمات ويأمره بالتوجه إلى أرض كنعان التي سيعطيه إياها ميراثا ويجعله أمة عظيمة: «وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك ... وتتبارك فيك قبائل الأرض» (التكوين، 12: 1-3). أما لماذا وقع الاختيار على أبرام هذا من دون بقية بني البشر، ولماذا سيجعل الرب منه أمة عظيمة وتتبارك فيه قبائل الأرض جميعها، فأسئلة لا يجيب عليها النص، ولا يستطيع من يتابع سيرة أبرام وسير أبنائه وأحفاده من بعده أن يستشف أية حكمة من وراء هذا الاختيار.
بعد ذلك بمدة، يعقد يهوه عهدا بينه وبين أبرام مضمونه أن يعبد، هو ونسله من بعده، يهوه وحده من دون بقية الآلهة، مقابل تقديم الحماية والعون لهم وإعطائهم أرضا تصبح لهم ملكا خاصا: «ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله
8
القدير. سر أمامي وكن كاملا، فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا ... وتكون أبا لجمهور كبير، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون إبراهيم ... وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم» (17: 1-8). وبعد وفاة إبراهيم يجدد يهوه عهده مع ابنه إسحاق ومع ابن إسحاق يعقوب، الذي صار اسمه إسرائيل وأنجب اثني عشر ولدا، هم رءوس قبائل بني إسرائيل.
خلال عصر الآباء الذي يبتدئ بهجرة إبراهيم إلى كنعان، وينتهي بالتحاق يعقوب وأولاده بيوسف في مصر، لا يتصل الرب بأولئك الآباء إلا مرات قليلة وعلى فترات متباعدة، وذلك إما لتجديد العهد أو للتبشير بغلام بعد سن العجز واليأس. كما أنه لا يستن لهم شريعة ولا يوحي بوصايا من أي نوع. من هنا تبدو لنا جماعة عصر الآباء بدون عقيدة واضحة أو دين مؤسس، وفيما عدا هذه الاتصالات العرضية التي يباشرها يهوه بنفسه، فإن هذا الإله الذي يوصف عادة بالإله الذي يتجلى في التاريخ ويفعل من خلاله، لا يمارس أية فعالية في تاريخ العالم الذي يفترض أنه خالقه، ولا في تاريخ البشرية التي يفترض أنه إلهه. لقد اختار نسل إبراهيم شعبا له، ومن نسل إبراهيم اختار خط إسحاق من دون إسماعيل، ومن خط إسحاق اختار خط يعقوب من دون عيسو.
كما أنه من كل بقاع الأرض لا يرى إلا بقعة جغرافية صغيرة لا تكاد العين تلمحها على خارطة العالم، أعطاها ملكا أبديا لشعبه هذا، وأمضى ما تبقى من تاريخ العالم في محاولة الوفاء بوعده لهم. ومع ذلك فإن الباحثين الغربيين لا يملون إسماعنا في كل مناسبة بأن إله التوراة هو إله يتجلى في التاريخ ويفعل من خلاله، بينما تتجلى آلهة الشرق القديم في الطبيعة وتفعل من خلال صيرورة عملياتها. وهذه الفكرة هي أخطر الأفكار المسيطرة (=
) على حقل دراسة لاهوت العهد القديم، وأكثرها خطأ في الآن نفسه، إلا إذا افترضنا أن الجغرافيا البشرية تقتصر على منطقة السامرة ويهوذا، وأن تاريخ العالم يقتصر على فلسطين الكنعانية خلال فترة الحدث التوراتي.
ترحل جماعة سفر التكوين من كنعان لتلتحق بيوسف الذي صار وزيرا للفرعون، وكان عددهم سبعين نفسا فقط، وهناك أقطعهم يوسف أراضي في منطقة الدلتا فاستقروا وتكاثروا ... ولكنهم بعد موت يوسف وقعوا تحت نير العبودية والسخرة مدة أربعمائة سنة، كان الرب خلالها غافلا عنهم في نوبة من نوبات سباته «التاريخية» الطويلة، التي لم يوقظه منها سوى صراخ بني إسرائيل، فنظر وتذكر عهده. نقرأ في مطلع سفر الخروج: «وتنهد بنوا إسرائيل من العبودية وصرخوا، فصعد صراخهم إلى الرب من أجل العبودية، فتذكر الرب ميثاقه مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب» (2: 23-24). اختار الرب موسى ليكون أداته في تحرير الشعب وقيادته، فتجلى له أول مرة في لهيب شجرة تشتعل ولا تحترق، «فقال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة، ثم قال: أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ... إني قد رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا» (3: 5-8). «لذلك قل لبني إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها، وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثا» (6: 6-8).
هنا فقط يقرر يهوه الدخول في التاريخ، ولكن لا في تاريخ العالم وتاريخ الحضارة، بل في تاريخ بني إسرائيل حصرا، وينحصر مخططه التاريخي في تخليص تلك الفئة القليلة من العبودية، وقيادتهم إلى كنعان ليكونوا شعبه الذي اختاره من دون شعوب الأرض، فيصيروا له مملكة خاصة. يترك يهوه علياءه ليقود بنفسه بني إسرائيل عبر صحراء سيناء. فكان يتجلى لهم على شكل عمود من سحاب يسير أمامهم في النهار، وعلى شكل عمود من نار يسير أمامهم ليلا فلا يضلون الطريق، و«لم يبرح عمود السحاب نهارا وعمود النار ليلا من أمام الشعب» (13: 20-21). كما كان موكلا بطعامهم وشرابهم، ينزل عليهم من السماء المن وطيور السلوى لمأكلهم، ويفجر الصخر أمامهم لينبثق منه ماء لعطشهم، ثم سكن بين ظهرانيهم في خيمة كيلا يبرحهم، وكان يتدخل في المعارك الحربية إلى جانبهم. الأمر الذي جعله يبدو في الأسفار الخمسة أقرب إلى قائد ملحمي منه إلى إله علوي. كما تعطينا هذه الأسفار انطباعا قويا بأن تاريخ الكون بأسره وتاريخ البشرية منذ آدم، لم يكن إلا مقدمة لتحرير بني إسرائيل وقيادتهم إلى كنعان، لكي يؤسس الرب بهم مملكته على الأرض ويكونوا له أحبارا في هذه المملكة: «وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلي، فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونوا لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة» (19: 3-6). في هذه المملكة ينتظر يهوه أن يتربع على العرش ويحكم بشكل مباشر: «ما أجمل قدمي المبشر على الجبال، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك» (أشعيا، 52: 7). وأيضا: «ارتعدي قدامه يا كل الأرض. قولوا بين الأمم: الرب قد ملك» (المزمور 96: 8). «الرب قد ملك. فلتبتهج الأرض ... قدامه تذهب نار وتحرق أعداءه حوله» (المزمور 97: 1-2). «الرب قد ملك. ترتعد الشعوب. هو جالس على الكروبيم. تتزلزل الأرض» (المزمور 99: 1).
غير أن خطة يهوه لم تسر على ما يحب ويشتهي، لأن الشعب الذي اختاره لم يتحمل عبء الشريعة، وراح يتذمر على موسى وإلهه منذ خروجه من مصر، فهو يفضل حياة العبودية مع الطمأنينة على الحرية مع المشقة والخطر: «وقالوا لموسى: هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا، حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هذا هو الكلام الذي كلمناك به في مصر: كف عنا فنخدم المصريين، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية» (الخروج، 14: 11-12). ورغم كل ما فعله يهوه من أجل شعبه، فقد راح هذا الشعب يعبد آلهة أخرى خلال كل الفترة التي تغطيها الأسفار التوراتية. وهذا ما صاغ منذ البداية نوعا من العلاقة المتوترة بشكل دائم بين الإله وشعبه، استمرت حتى نهايات التاريخ اليهودي. فكان الرب يعاقبهم كلما زاغوا عن سبيله وأهملوا وصاياه، فيضربهم بالوباء ويرسل عليهم الكوارث، ثم يمد لهم الحبل عند توبتهم وعودتهم إليه.
ويدور تاريخ بني إسرائيل في الحلقة المفرغة نفسها: عصيان - غضب وعقاب - توبة - عصيان ... وذلك حتى تشكيل المملكة الموحدة التي ضمت القبائل في دولة واحدة، تعاقب على العرش فيها شاؤل فداود فسليمان. ولقد بدا لأول وهلة أن ملك يهوه وشيك التحقق من خلال هذه المملكة التي أسبغ عليها خيال المحور التوراتي كل خصائص العصر الذهبي الكاملز نقرأ في سفر الملوك الأول: «فتعاظم سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان، وكانوا يأتون إليه كل واحد بهديته بآنية فضة وآنية ذهب وحلل وسلاح وأطياب سنة فسنة، وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل لكثرته» (23-27). ولكن حلم يهوه في مملكة أرضية قد تلاشي لأن سليمان انحرف عن سبيل الرب وعبد آلهة أخرى: «فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك» (11: 9-11).
تتمزق مملكة سليمان بعد وفاته وتنقسم إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وتدخل هاتان المملكتان في صراع دائم وحروب طاحنة ويسير ملوكهما وعامتهما على خطى من سبقهم في إدارة ظهرهم لإله موسى، فيحكم عليهما بالخراب والسبي، ويستخدم في ذلك مملكة آشور التي دمرت السامرة عاصمة إسرائيل وسبت أهلها، كما يستخدم بعد ذلك بابل التي دمرت أورشليم وسبت أهل يهوذا. نقرأ في سفر إرميا: «قد رجعوا إلى آثام آبائهم الأولين، وقد ذهبوا وراء آلهة أخرى ليعبدوها. قد نقض بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهدي. لذا أنا جالب عليهم شرا لا يستطيعون أن يخرجوا منه، ويصرخون إلي فلا أسمع لهم ... لأنه بعدد مدنك يا يهوذا صارت آلهتك» (إرميا، 1: 9-13). وأيضا: «قد جعلت وجهي على هذه المدينة - أورشليم - للشر لا للخير يقول الرب. ليد ملك بابل تدفع فيحرقها بالنار» (21: 8-10).
وهكذا يغدو ملكوت الرب أشبه بسراب خادع، كلما اقترب منه بنو إسرائيل صار أبعد عنهم. فمسببو إسرائيل لم يرجعوا قط إلى مواطنهم بل تفرقوا وضاع أثرهم، أما مسببو يهوذا فقد سمح لهم الملك قورش الفارسي بالعودة إلى ديارهم، حيث شكلوا ولاية فارسية صغيرة دعيت بمقاطعة اليهودية، قامت على جزء من دولة يهوذا القديمة ، ولم تكن إلا أثرا باقيا من مملكة قديمة زالت إلى الأبد ولا أمل في إحيائها. ثم ما لبثت الاستقلالية الشكلية التي منحت لمقاطعة اليهودية خلال العصر الفارسي أن زالت بعد إلحاقها بدولة السلوقيين، التي ورثت أملاك الإمبراطورية الفارسية في مناطق غربي الفرات، وعندما حاول السلوقيون إضفاء الطابع الهيلينستي على المنطقة، ثار اليهود تحت قيادة المكابيين (= الأسرة الهشمونية) ودخلوا حرب استقلال طويلة أنهكت المقاطعة ودمرت بناها التحتية التي لم تكن قد تعافت تماما، ثم جاء الفتح الروماني ليضع حدا لكل أمل لليهود بالاستقلال وإعادة بناء المملكة.
خلال هذه الأحداث كانت فكرة تحقيق ملكوت الرب على الأرض تدفع نحو الآفاق غير المنظورة للمستقبل، إلى أن صارت مترافقة مع فكرة جديدة على الأيديولوجيا التوراتية هي فكرة نهاية التاريخ، التي تسربت إليها من الزرادشتية خلال فترة السبي والاحتكاك بالفرس. ففي نهاية التاريخ يظهر المخلص المنتظر الذي بشرت به الزرادشتية، ولكن لا لكي يأتي بالزمن الدنيوي إلى نهايته ويتغلب على قوى الشر الكونية ويساعد على تخليص الكون والإنسانية، كما هو شأنه في العقيدة الزرادشتية، بل لكي ينصب ملكا على اليهود ويحارب أعداءهم في كل مكان، فيرفع الشعب المختار فوق شعوب الأرض قاطبة، ويمهد لحلول ملكوت الرب. إنه «المسيا» أي مسيح الرب
9
الذي يمسح ملكا زمنيا على إسرائيل ويحقق مملكتها الأبدية، ورغم أن لقب مسيح الرب كان يطلق على ملوك إسرائيل الأوائل الذين اختارهم يهوه بنفسه للملك مثل شاؤل وداود «كما أطلقه محرر سفر عزرا على الملك قورش الفارسي الذي سمح لمسببي يهوذا بالعودة إلى أورشليم» إلا أنه صار فيما بعد وقفا على مخلص نهاية التاريخ.
إضافة إلى الصفة الزمنية للمسيح المنتظر كمحرر سياسي يأتي من نسل داود، فإن محرري أسفار الأنبياء، بشكل خاص، يضفون عليه خصائص قدسية تجعله أقرب إلى عالم الآلهة منه إلى عالم البشر، فهو يولد من عذراء مثل المخلص الزرادشتي ويدعى عمانوئيل التي تعني: الله معنا، لأنه يمثل الحضور الإلهي بين الناس. نقرأ في سفر إشعيا: «هي ذي العذراء تحبل وتلد ابنا ، ويكون اسمه عمانوئيل» (7: 14). وأيضا: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا، وتكون الرياسة على كتفيه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا، إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام. لنمو الرئاسة، ولسلام لا انقضاء له على عرش داود» (9: 6-7). وهو يخرج من نسل داود بن يسي: «ويخرج قضيب من جذع يسي وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب ... يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض» (1: 1-4). ونقرأ في نبوءة ميخا أن ولادة المخلص تكون في بلدة بيت لحم: «وأنت يا بيت لحم، إنك صغيرة في ألوف يهوذا، ولكن منك يخرج لي من يكون متسلطا على إسرائيل ... ويقف ويرعى بعزة الرب وبعظمة اسم الرب إلهه، فيكونون ساكنين لأنه حينئذ يتعاظم إلى أقاصي الأرض» (5: 1-4).
ونقرأ في نبوءة دانيال أول إشارة إلى تسمية المخلص بابن الإنسان، وهي تسمية ستعود للظهور في الأسفار التوراتية غير القانونية وفي العهد الجديد بعد ذلك: «كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام (= الرب). لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار بكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه ... وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه، فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي لن يزول وملكوته لا ينقرض» (7: 9-10 و13-14).
وفي المزمور الثاني يقول الرب عن مسيحه إنه ابنه وإنه اليوم قد ولده: «إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثا لك، وأقاصي الأرض ملكا لك، تحطمهم بقضيب من حديد، مثل إناء خزاف تكسرهم» (2: 7-9). لا يوضح كاتب هذا المزمور هوية المتحدث بضمير المتكلم، فقد يكون الملك داود الملقب بمسيح الرب، وقد يكون ابنه سليمان لأننا نقرأ في سفر صموئيل الثاني قول يهوه عن سليمان: «هو يبني بيتا لاسمي وأنا أثبت مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا» (7: 13-14). وقد يكون المتكلم هو مسيح آخر التاريخ. وفي جميع الأحوال فإن إطلاق لقب «ابن الله» مجازا على المسيح المخلص يأخذ مشروعيته من مثل هذه المقاطع.
يستهل ملكوت يهوه على الأرض بما تدعوه أسفار الأنبياء بيوم الرب، ففي ذلك اليوم يتدخل يهوه بشكل مباشر لإفناء الأمم والشعوب من أعداء بني إسرائيل. وها هو يبدأ هجومه الكاسح بصرخة الحرب: «قريب يوم الرب العظيم قريب، وسريع جدا صوت يوم الرب. يصرخ حينئذ الجبار (صراخا) مرا، ذلك اليوم يوم سخط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضباب، يوم بوق وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرفات الرفيعة، (يوم) أضايق الناس فيمشون كالعمي لأنهم أخطئوا إلى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلة، لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم في يوم غضب الرب، بل بنار غيرته تؤكل الأرض كلها، لأنه يصنع فناء مباغتا لكل سكان الأرض» (صفنيا، 1: 14-18).
ويترافق هجوم يهوه مع حلول عدد من الكوارث الطبيعية والكونية، مما رأيناه في التصورات الزرادشتية عند نهاية الأزمنة. نقرأ في سفر إشعيا: «ولولوا لأن يوم الرب قريب، قادم كخراب من القادر على كل شيء ... هو ذا يوم الرب قادم، قاسيا بسخط وحمو غضب، ليجعل الأرض خرابا ويبيد منها خطاتها. فإن نجوم السماوات لا تبرز نورها، تظلم الشمس عند طلوعها والقمر لا يلمع بضوئه ... أزلزل السماوات وتتزعزع الأرض من مكانها في سخط رب الجنود وفي يوم حمو غضبه، ويكونون كظبي طريد وكغنم بلا من يجمعها» (13: 9-14). وأيضا: «هو ذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبدد سكانها» (24: 1). وأيضا: «عليك رعب يا ساكن الأرض، لأن ميازيب من العلاء انفتحت وأسس الأرض تزلزلت، انسحقت الأرض انسحاقا، تشققت الأرض تشققا، تزعزعت الأرض تزعزعا، ترنحت الأرض ترنحا كالسكران، وتدلدلت كالعرزال وثقل عليها ذنبها، تسقط ولا تقوم» (21: 17-20). وأيضا: «اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا، وأيتها الشعوب أصغوا، لتسمع الأرض وملؤها المسكونة وكل ما تخرجه، لأن للرب سخطا على كل الأمم وحموا على جيشهم، قد حرمهم دفعهم للذبح، فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها وتسيل الجبال بدمائهم، ويفنى كل جند السماوات وتلتف السماوات كدرج (= لفافة ورق)، وكل جندها ينتثر» (34: 1-5).
على أنقاض الأرض المهدمة وعلى أشلاء قتلى الشعوب تقام مملكة يهوه، ويتربع الرب على عرشه ملكا في جبل صهيون : «ويكون في ذلك اليوم أن الرب يطالب جند العلاء في العلاء وملوك الأرض على الأرض ... ويجمعون جميعا كأسارى في سجن ويغلق عليهم في حبس، ثم بعد أيام كثيرة يتعهدون، ويخجل القمر وتخزى الشمس لأن رب الجنود قد ملك في جبل صهيون، وفي أورشليم وقدام شيوخه قد مجد» (24: 21-23).
عند ذلك يعيد الرب ترميم الطبيعة ليرتع فيها شعبه المختار: «تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارا ويبتهج ويرنم ... الانتقام يأتي، جزاء الله يأتي، هو يخلصكم، حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس لأنه قد انفجرت في البرية مياه، وأنهار في القفر، ويصير السراب أجما والمعطشة ينابيع ماء. ولكن هناك سكة يقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس بل هي لهم ... ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدي على رءوسهم» (34: 1-10).
وبعد أن يجمع يهوه إليه شراذم الشعب المختار من كل مكان ويريحهم في أرضهم إلى الأبد، فإنه يسوق من بقي من الأمم والشعوب إلى إسرائيل ليكونوا عبيدا في خدمة اليهود. نقرأ في إشعيا: «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من آشور ومن مصر ومن كوش ... إلخ. ويجمع منفيي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض لأن الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتقرن بهم الغرباء وينضمون إلى بيت يعقوب، ويأخذهم شعوب ويأتون بهم إلى موضعهم، ويمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيدا وإماء ويسبون الذي سبوهم ويتسلطون على ظالميهم» (11: 11-12؛ و14: 1-2). وأيضا: «ويكون في ذلك اليوم أنه يضرب ببوق عظيم فيأتي التائهون في أرض آشور والمنفيون في أرض مصر، ويسجدون للرب في الجبل المقدس ... قومي استنيري (يا أورشليم)، لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك ... تسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك ... وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك» (27: 13 و60: 1-3 و14). أما الحالة الفردوسية التي تعقب حلول ملكوت الرب فلا تشبه الجنة الزرادشتية المعدة لفاعلي الخير جميعهم، بل هي وقف على أرض يهوه المقدسة، وجبل صهيون الذي يقف عليه سليل داود بن يسي راية للشعوب: «فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي والعجل، والشبل والمسمن معا وصبي صغير يسوقهما. والبقرة والدبة ترعيان، تربض أولادهما معا. والأسد كالبقر يأكل تبنا. ويلعب الرضيع على سرب الصل، ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوءون ولا يفسدون في حبل قدسي لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر ... ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسي القائم راية للشعوب، إياه تطلب الأمم ويكون محله مجدا» (11: 6-10).
على هذه الطريقة ينتهي التاريخ، وإلى مثل هذه النتيجة يئول سعي البشرية وشقاؤها عبر مراحل التاريخ. أما الزمن الدنيوي فمستمر بعد زوال التناقضات بين يهوه والآلهة الأخرى، وبين الشعب المختار وبقية الشعوب التي تسجد لدى باطن قدمي أورشليم. (6) التصورات الآخروية
إن خلو مفهوم التاريخ في الأيديولوجيا التوراتية من صراع الخير والشر، ومن فكرة نهاية الزمن التي يعقبها تحويل كامل للوجود إلى مستوى ماجد وجليل، وافتقاد الإله التوراتي إلى أهم الخصائص والصفات التي تقربه من مفهوم «الله»، وأهمها الخير والعدالة، يستتبع خلو هذه الأيديولوجيا من فكرة خلاص الروح وخلاص الإنسانية جمعاء من سلطان الموت ودخولها في الأبدية. فالإله التوراتي لم يتدخل في تاريخ الإنسانية إلا في بداياته وبشكل سلبي لا إيجابي، وعندما قرر التدخل في التاريخ بشكل فعلي، اقتصرت خطته التاريخية على قيادة بني إسرائيل بنفسه وتحقيق مملكته على الأرض من خلالهم. من هنا فإن هذا الإله غير معني بالإنسان، ومفهوم الإنسانية غائب تماما عن الفكر التوراتي. فإذا أتينا إلى ما تجلبه نهاية التاريخ للشعب المختار، لما وجدنا فيها سوى مملكة أرضية يوتوبية لا عزاء فيها للروح التي تبقى أسيرة لسلطان الموت.
تنسج التصورات التوراتية عن حياة ما بعد الموت على منوال التصورات الرافدينية والسورية القديمة، فأرواح الموتى تذهب إلى العالم الأسفل المدعو بالعبرية شيؤل، والتي ترد في الترجمات العربية على عدة أشكال: فهي الهاوية، والهاوية السفلي، والجب الأسفل، والحفرة السفلى. هذه الهاوية فاغرة فاها لتلتهم كل من دنت ساعته ونفذت أيامه المعدودة، أو كل من حم عليه القضاء وهو في عز شبابه. فعلى حد قول سفر الأمثال: «الهاوية والهلاك لا يشبعان» (27: 20). وأيضا: «ثلاثة لا تشبع، وأربعة لا تقول كفى، الهاوية والرحم العقيم وأرض لا تشبع ماء، والنار لا تقول كفى» (30: 16). وهي أرض ظلمة وديجور لا يرى أهلها نورا: «قد شبعت من المصائب نفسي وحياتي إلى الهاوية دنت ... وضعتني في الجب الأسفل، في ظلمات في أعماق» (أيوب، 10: 21-22). وسكانها ظلال وأخيلة: «الهاوية من أسفل مهتزة لك، لاستقبال قدومك، منهضة لك الأخيلة» (إشعيا، 14: 9). والإقامة فيها أبدية والطريق إليها ذو اتجاه واحد: «هكذا الذي ينزل إلى الهاوية لا يصعد ولا يرجع بعد إلى بيته» (أيوب، 7: 9-10). وإليها تهبط أرواح الأشرار والأخيار معا، وأرواح مختاري الرب وأنبيائه في ذلك مثل الفجار والعصاة. يقول يعقوب عندما نقل إليه أولاده خبر موت يوسف: «فمزق يعقوب ثيابه وناح على ابنه أياما كثيرة. ... وقال إني نازل إلى ابني نائحا إلى الهاوية السفلى» (التكوين، 37: 36).
هذا العالم الأسفل هو مملكة مستقلة لا سلطان لإله التوراة عليها، وأهلها لا يعرفون الرب ولا يسبحون بحمده، وهو من جانبه قد نسيهم ومن يده انقطعوا: «بين الأموات فراشي مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد وهم من يدك انقطعوا ... أفلعلك يا رب للأموات تصنع عجائب أم الأخيلة تقوم تمجدك؟ هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في أرض النسيان. أما أنا فإليك يا رب صرخت وفي الغداة صلاتي تتقدمك» (المزمور 88: 5-13). «لأن الهاوية لا تحمدك، الموت لا يسبحك، لا يرجو الهابطون إلى الجب أمانتك. الحي هو الذي يحمدك كما أنا اليوم» (إشعيا، 38: 18-19). «في عز أيامي أذهب إلى أبواب الهاوية، قد أعدمت بقية أعوامي، وقلت لا أرى الرب ، الرب في أرض الأحياء» (إشعيا، 38: 9-10). «ليس الأموات يسبحون الرب، ولا من ينحدر إلى أرض السكون. أما نحن فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر» (المزمور 115: 17). «إليك يا رب أصرخ، وإلى السيد أتضرع. ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ؟ هل يحمدك التراب هل يخبر بحقك؟ استمع يا رب وارحمني ... لكي تترنم لك روحي ولا تسكت» (المزمور 30: 10-12).
ونظرا لغياب فكرة البعث والحساب والعالم الآخر، فإن ثواب الرب وعقابه يجري على هذه الأرض وخلال حياة الناس، ويظهر ثواب الرب بشكل رئيسي بطول العمر: «أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك». (الخروج، 20: 12). «مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تقصر» (الأمثال، 10: 27). «يا بني لا تنس شريعتي ولا ينس قلبك وصاياي، فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلاما» (الأمثال، 3: 1-2). ومع ذلك قد نجد الأشرار يكافئون بطول الأيام ورغد العيش والأخيار يموتون بحسرة ولم يذوقوا سعادة قط. نقرأ في سفر أيوب: «لماذا تحيا الأشرار ويشيخون، نعم، ويتجبرون قوة؟ نسلهم قائم أمامهم معهم، وذريتهم في أعينهم، بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله» (21: 7-9). والفريقان يمضيان إلى آخرة واحدة، كما يتابع أيوب فأين العدالة: «هذا يموت في عين كماله كله مطمئن وساكن، أحواضه ملآنة لبنا ومخ عظامه طري، وذاك يموت بنفس مرة ولم يذق خيرا. كلاهما يضطجعان معا في التراب والدود يغشاهما» (21: 23-26). وهذا الاضطجاع هو الهجعة التي لا قيام منها أيضا: «الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفذ المياه من البحر والنهر يجف و(لكن) الإنسان يضطجع ولا يقوم» (14: 10-12). ويشبه سفر الجامعة موت الإنسان بموت البهيمة لأن الحادثة تودي بهما إلى الفناء: «موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد» (3: 19-20).
على أن إشارات قليلة وغامضة عن خلود الروح ترد في أسفار الأنبياء، منها ما نقرؤه في سفر دانيال: «في ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم (رئيس الملائكة) القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن (مثله) منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت ... وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي» (12: 1-2). مثل هذه الإشارات القليلة والغامضة لم تؤثر على موقف الأيديولوجيا الرسمية من مسألة خلود الروح، ولكنها فتحت الباب واسعا أمام الأسفار غير القانونية لتعيد النظر بشكل جذري في هذه المسألة، على ضوء المعتقد الزرادشتي الذي نهلت منه بحرية تامة بعيدا عن الرقابة الرسمية.
خلاصة
إن أفضل ما نصف به الأيديولوجيا الدينية التوراتية هو أنها زرادشتية مقلوبة على رأسها. فالإله الواحد الشمولي العالمي للمعتقد الزرادشتي قد صار إلها واحدا لبني إسرائيل. وتاريخ الكون الدينامي الذي يدفعه صراع الخير والشر نحو نهاية الأزمنة، قد تحول إلى تاريخ دينامي ناقص يتوج بسيادة الشعب المختار على كل الأمم وتحقيق ملكوت الرب على الأرض. والشريعة الزرادشتية ببنودها التحريمية جميعها قد صارت شريعة موسى، ولكن بعد إفراغها من بواعثها ومعانيها كسلاح في مقاومة الشيطان وقوى الموت والمرض والفساد، وتحويلها إلى تحريمات مفروضة من قبل الرب، على المؤمن التقيد بها دون تفكير أو مساءلة من أي نوع.
الفصل السادس
على هامش التوراة
الثورة الدينية الصامتة
منذ مطلع القرن الثاني قبل الميلاد اكتملت عملية تحرير كتاب التوراة، ثم اكتملت ترجمته حوالي عام 150ق.م. إلى اللغة اليونانية في الإسكندرية، وهي الترجمة المعروفة باسم السبعينية.
1
وبذلك أغلق باب الوحي وأخذ الكتاب شكله النهائي تقريبا، رغم أن الأسفار لم تجمع في كتاب واحد بل بقيت على شكل لفائف متفرقة حتى عام 90 ميلادية، إلا أن اختتام الأسفار التوراتية على المستوى الرسمي الكهنوتي، لم يكن ليغلق باب الاجتهاد والتطوير في عالم هيلينستي موحد تتمازج فيه تيارات ثقافية متعددة، وخلال فترة تعد من أخصب فترات التاريخ الحضاري للمنطقة المشرقية، إن لم تكن أخصبها. فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد نشطت حركة إبداع ديني داخل الديانة اليهودية، تستند إلى الفكر التقليدي ولكنها تتجاوزه نحو النهايات المنطقية لتيار الفكر النبوئي والرؤيوي التوراتي، الذي بقي، رغم طموحاته التجديدية، أسيرا للتركة التقليدية ولسطوة الأسفار الكلاسيكية. وقد استمرت هذه الحركة ناشطة بزخم قوي حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، وكان أصحابها شخصيات متقدة فكريا وعاطفيا، تأثرت بالحياة الثقافية والدينية المضطرمة لتلك الفترة، وحاولت تفسير الموروث الجامد بما يتلاءم ومستجدات عصرها وروحه. وقد استخدم هؤلاء أسلوب الأسفار النبوئية والرؤيوية التوراتية، ووضعوا خطابهم على لسان شخصيات توراتية بارزة من أجل إسباغ سطوة الماضي على أفكارهم. من هنا جاءت تسمية أعمالهم بالأسفار المنحولة، أي المنسوبة إلى غير كاتبها الحقيقي، مثلما دعيت أيضا بالأسفار غير القانونية، لأنها بقيت على هامش النص القانوني الرسمي، وفي البحث الغربي تدعى
.
مارست الأسفار غير القانونية تأثيرا كبيرا على أفكار الفرقة الفريسية التي ظهرت خلال القرن الأول قبل الميلاد، وتبنت أفكارا جديدة على الفكر التوراتي مثل خلود الروح والثواب والعقاب والجنة والنار. كما أثرت بعمق على الفكر التلمودي والرباني الذي تبلور خلال القرن الثاني بعد الميلاد. ولكن الأهم من هذا كله هو أن الاتجاه الأكثر راديكالية وتحررا في هذه الحركة قد مهد لظهور المسيحية. هذا الاتجاه الراديكالي هو الذي سيكون موضع اهتمامنا فيما تبقى من هذا الفصل قبل أن نستعرض نماذج منتقاة من الفكر المنحول لا بد لنا من وقفة قصيرة نستعرض خلالها أهم الأفكار الجديدة التي قدمها هذا الفكر إلى الأيديولوجيا الدينية التوراتية. (1)
مشكلة الشر ومفهوم الشيطان الكوني:
إن نقطة الانقلاب المحورية في الفكر المنحول، هي ابتداؤه بمعالجة مسألة الشر وسلطته في هذا العالم، وانتقاله من التأمل في هذه المشكلة إلى صياغة لاهوت عن الشيطان الكوني ودوره في صيرورة التاريخ ومآله. (2)
مشكلة الأخلاق:
أعاد الفكر المنحول النظر جذريا في مشكلة الأخلاق العائمة في الأيديولوجيا التوراتية، وأكد على مسئولية الإنسان الخلقية وعلى أخلاقية الإله وعدالته، كما جعل الأخلاق ندا للطقوس والشريعة. (3)
مسألة التوحيد:
سار الفكر المنحول بمفهوم التوحيد الذي بشرت به أسفار الأنبياء إلى صيغته التامة، وأخذ الإله التوراتي يكتسب ملامح وخصائص «الله». فهو إله كوني وشمولي ورب للبشرية جمعاء بأجناسها وأعراقها كافة، رغم عنايته الخاصة ببني إسرائيل. وهو معني بخلاص هذه البشرية وملتزم بتحريرها من شقاء التاريخ ومن ربقة الموت . (4)
التاريخ الدينامي والارتقاء بالوجود:
لقد قاد حل المشكلات الثلاث السابقة إلى صياغة مفهوم دينامي للتاريخ، فحركة التاريخ تقوم على جدلية الخير والشر، وهي تئول إلى نقطة مستقبلية ينتصر عندها الخير نهائيا. ومع انتصار الخير ينتهي التاريخ مثلما ينتهي الزمن الدنيوي أيضا، ويتم دخول الكون والإنسانية في الأبدية. (5)
الآخروية والمسيانية:
جلبت فكرة نهاية الزمن والارتقاء بالوجود، معها، عددا آخر من التصورات الآخروية، وعلى رأسها القيامة العامة للموتى والحساب الأخير والجنة والنار. كما أعاد الفكر المنحول طرح موضوع المسيح المنتظر بطريقة أكثر وضوحا واتساقا مما رأيناه في الأسفار القانونية. (6)
مفهوم الإنسانية:
لم يتوصل الفكر المنحول إلى مفهوم مجرد وشامل عن الإنسانية ودورها في حركة التاريخ وتحرير الكون. ولكن لهجة الخطاب الشوفيني التوراتي قد خفت حدتها في معظم الأسفار غير القانونية، وظهرت في العديد منها فكرة مساواة الأمم والشعوب أمام الله. بينما ركز الاتجاه الراديكالي على فكرة تفضيل الله لأمم وشعوب أخرى على إسرائيل، لأنها تفعل مشيئته وتستمع لكلمته أكثر من شعبه المختار.
سوف تتضح لنا الكيفية التي عالجت بها الأسفار غير القانونية هذه الأفكار وغيرها، من خلال عرضنا التالي لنماذج منتقاة من هذه الأسفار. ونظرا لطول معظم هذه النماذج واحتوائها على مادة لا تتصل بموضوعنا، فإننا سوف نقدم ملخصا لكل سفر مع ترجمة كاملة لبعض المقاطع الأكثر أهمية والأكثر تعبيرا عن روح العمل وأفكاره. وأما عن المراجع، فقد اعتمدت كتابين موسوعيين شارك فيهما نخبة الاختصاصيين الغربيين في اللغات القديمة والدراسات التوراتية وهما:
The Other Bible 1 - الصادر عام 1984 عن دار
Harper
بالولايات المتحدة و
The Old Testament Pseudepigrapha 2 - الصادر عام 1983 في مجلدين ضخمين عن دار
Doubleday
بالولايات المتحدة أيضا. (1) سفر أخنوخ الأول
2
تم العثور على مقاطع من هذا السفر باللغة الآرامية، ضمن مخطوطات البحر الميت «نصوص قمران»، وأرجع الاختصاصيون تاريخها إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. كما عثر على مقاطع متفاوتة الطول من هذا السفر باللغتين اليونانية واللاتينية، وهي أحدث عهدا من شذرات قمران. أما النص الكامل فمتوفر فقط باللغة الإثيوبية وفي أكثر من مخطوط، ويعزى هذا العدد من المخطوطات الكاملة إلى أن سفر أخنوخ قد تم تبنيه من قبل الكنيسة الإثيوبية كجزء من العهد القديم.
ينتمي السفر إلى جنس الأدب الديني الرؤيوي، الذي يتميز بأسلوب خيالي غرائبي يصف الكاتب من خلاله مواجهات مع شخصيات ما ورائية تمده بوحي سماوي يكشف له مستقبل الأيام وماضي الخليقة، أو تصعد به إلى السماوات العلى وتطلعه على أسرارها. وغالبا ما يكون الموضوع الأساسي للرؤيا نهاية الزمن والقيامة العامة والحياة الثانية. ويعطينا سفر دانيال في العهد القديم ورؤيا يوحنا في العهد الجديد، إضافة إلى مقاطع رؤيوية من أسفار حزقيال وأشعيا وزكريا وميخا التوراتية، نماذج كلاسيكية عن مثل هذا الأدب.
يضع كاتب السفر رؤياه على لسان أخنوخ بن يارد، وهو السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، والذي يقول عنه سفر التكوين إنه رفع حيا إلى السماء (5: 21-24). ويبتدئ بالمقدمة الآتية: «هذه بركات أخنوخ التي أسبغها على المختارين والبررة الذين سيكونون حضورا في يوم المحنة، يوم يزول كل الأشرار. أخنوخ الرجل الصالح، رجل الله شرع ينطق بأمثال
3
وعيناه مفتوحتان، فرأى وتكلم قائلا: هذه رؤيا مقدسة من السماء كشفها لي الملائكة، فسمعت منهم كل شيء وفهمته، وإني لا أتوجه إلى هذا الجيل وإنما إلى الجيل البعيد الآتي، جيل المختارين الذين إليهم نطقت بمثلي،
4
وتلكم هو: إله الكون، القدوس الأكبر، سيخرج من مقره وسيمشي على جبل سيناء، ويظهر في معسكره منبثقا من السماء بكامل قدرته. يحل الخوف على الجميع والساهرون (حرفيا: الحراس اليقظون، وهم الملائكة الساقطون) يرتجفون، تأخذهم الرعدة إلى أقاصي الأرض. تتزعزع الجبال والمرتفعات وتتهاوى، والتلال العالية تذوب مثل أقراص العسل أمام اللهب. الأرض تتمزق وتفغر شقوقها وكل ما عليها يفنى، وتحل الدينونة ويأتي حساب الجميع، لكنه سيحل سكينته على الأبرار ويحفظ المختارين ويسبغ نعمته عليهم ... سيأتي بصحبة عشرة ملايين من أبناء القدس «الملائكة» لينفذ أحكامه على الكل، فيهلك الأشرار، ويخزي كل جسد، بما فعلوه وبكل ما اقترف الخطأة والفجرة بحقه.» يلي ذلك موعظة يدعو فيها أخنوخ الإنسان إلى التأمل في مظاهر الكون ومجريات الطبيعة، التي تشير كلها إلى خالقها وتسير وفق النظام الموضوع لها، وذلك على عكس الإنسان الذي خرج على مشيئة ربه وما أراده له وتبع أهواءه ورغباته، ثم يخلص من ذلك إلى الكشف عن أصل الشر ويروي قصة الملائكة العصاة الذين هبطوا من السماء وتحولوا إلى شياطين.
تعطف هذه القصة على قصة أبناء الله الذين دخلوا على بنات الناس وأنجبوا منهن أولادا مما يرويه سفر التكوين: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا ... وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منهم منذ الدهر ذوو اسم. ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم» 6: 1-5. يفسر كاتب السفر هذه القصة فيجد فيها تعليلا لوجود الشر في العالم، ثم يعيد روايتها على الطريقة الآتية: «في تلك الأيام، عندما تكاثر بنو الإنسان وولد لهم بنات حسنات وجميلات، حدث أن فريقا من الملائكة، أبناء السماء قد رأوهن فاشتهوهن. فقال بعضهم لبعض: هلم بنا نختار لأنفسنا زوجات من بين بني الإنسان وننجب منهن نسلا. ولكن رئيسهم المدعو سيمياز
semyaz «أفضى بمخاوفه وحدثهم» فقال: أخشى أن تتراجعوا عن فعل هذا الأمر «بعد الشروع به» وأدفع وحدي ثمن هذه الخطيئة العظيمة. فأجابوه جميعا: دعونا نقسم قسما ولتحل اللعنة على كل من يتراجع عن فعل هذا الأمر. فأقسموا جميعا وارتبطوا بقسم اللعنة هذا، ثم هبطوا في موضع يدعى عردوس، وهو قمة جبل حرمون، وكان عددهم مئتين. وسمي الجبل حرمون نسبة إلى قسمهم الذي ربطهم باللعن.
5
وهذه أسماء رؤسائهم: سيمياز، راميئيل، تامئيل، دانتيل ... (إلخ). هؤلاء هم رؤساء العشرات، وكان الجميع تحت إمرتهم.»
6
ويتابع الكاتب فيقول لنا بأن هؤلاء الرؤساء وتابعيهم، قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من بين الناس، فولدت الزوجات لهم عمالقة طول الواحد منهم: ثلاثمائة ذراع. وعلم الملائكة الساقطون البشر كيفية استخراج المعادن واستخدامها في صناعة السيوف والتروس والدروع، وكيفية صناعة الأساور والحلي وكحل العيون وأدوات الزينة، وكذلك الإفادة من النباتات، والتنجيم، وإشارات السماء والأرض، ولكن شر العمالقة كثر على الأرض وأكلوا الأخضر واليابس، وعندما لم يبق ما يكفي لطعامهم راحوا يلتهمون البشر أيضا. فصعد صراخ البشر إلى السماوات، عند ذلك نظر الملائكة ميخائيل وسورافيل وجبرائيل من الأعالي، ورأوا ما يجري على الأرض من شر وعنف، فمضوا إلى الرب وأطلعوه على الأمر. بعث الرب مع الملائكة إلى أخنوخ يأمره أن يذهب إلى الساقطين وينقل لهم قضاء السماء بشأنهم، فهم سيشهدون ذبح أولادهم العمالقة، وبعد ذلك سيقيدون في ثنايا الأرض لسبعين جيلا حتى يوم الدينونة، عندها سيقادون إلى هوة النار وإلى العذاب الأبدي. سمع الساقطون حكم الرب عليهم فارتاعوا وطلبوا من أخنوخ أن يشفع لهم عنده فيقبل استرحامهم واستغفارهم، فمضى أخنوخ وجلس عند ضفة النهر حيث قرأ استرحام الساقطين، وكرر ذلك حتى وقع عليه سبات، وهنا تبدأ رؤيا أخنوخ التي يصفها في المقطع الآتي: «دعتني رياح وناداني غمام، وهرعت بي بروق ومسارات نجوم، وحملتني في الرؤيا رياح وطارت بي نحو السماء، ارتفعت حتى اقتربت من جدار مصنوع من الكريستال وتحيط به ألسنة اللهب، تملكني الخوف، ولكني تقدمت حتى اجتزت ألسنة اللهب ووصلت قصرا عظيما مبنيا من حبات برد كريستالية، كانت جدرانه وأرضياته كشبه أرض مبلطة بالكريستال، أما سقفه فكان من بروق ومن مسارات النجوم، وبينها ملائكة الكروبيم النارية، والسماء من خلف ذلك بنقاوة الماء. وكانت نار تتوقد حول الجدران والبوابات وتتوهج، ولجت القصر فكان ساخنا مثل النار وباردا مثل الثلج، ولا أثر لحياة فيه ... فغمرني الخوف وأخذتني الرجفة ووقعت على وجهي، ورأيت رؤيا ثانية.» «كان هنالك قصر آخر أعظم من الأول تجل مهابته عن الوصف، قصر من جمر أرضه وسقفه من نار فوقها البروق ومسارات النجوم، كانت بواباته مفتوحة أمامي فنظرت ورأيت عرشا مرتفعا له مظهر الكريستال وعجلاته تبدو مثل قرص الشمس آنا ومثل ملائكة الكروبيم آنا آخر. ومن تحت العرش تخرج أنهار من نار متقدة لم أستطع إدامة النظر إليها. هناك يجلس المجد الأعظم. عباءته أكثر بريقا من الشمس وأكثر نصوعا من الثلج، لا تستطيع الملائكة دخولا أو دنوا من مجده وعظمته، ولا يستطيع كائن من لحم ودم رفع البصر إليه. نار من أمامه ومن خلفه فلا يقدر أحد منه اقترابا. في حضرته مئات الآلاف من الملائكة وأكثرهم قداسة يقفون أمامه في كل آن، ولكنه لا يحتاج إلى مشير.» «كنت ساجدا طيلة الوقت أرتعد، ثم كلمني الرب بصوته قائلا: تقدم يا أخنوخ واسمع كلامي، فجاء أحد الملائكة المقدسين فرفعني وسار بي حتى دنوت من البوابة وأنا مطرق الرأس. هناك كلمني ثانية وقال: لا تخف يا أخنوخ أيها الرجل الطيب يا كاتب الصدق، تقدم إلي واسمع صوتي، اذهب إلى ساهري السماء
7
الذين أرسلوك لتسترحم من أجلهم، وقل لهم قد كان أحرى بكم أن تسترحموا من أجل الإنسان لا أن يسترحم الإنسان من أجلكم، وقل لهم لماذا توليتم عن السماء العليا المقدسة لتناموا مع النساء وتتدنسوا ببنات الناس، وتأخذوهن لكم زوجات مثل بني البشر وتنجبوا منهن أولادا عمالقة. كنتم قديسين وروحانيين وخالدين، ولكنكم تدنستم بدم النساء وأنجبتم أولادا من لحم ودم، ومثل الذين يموتون ويفنون صار لكم توق لجسد اللحم والدم. لقد أعطيت أولئك نساء يخصبونهن وينجبون منهن أولادا لكيلا يفنى جنسهم على الأرض، أما أنتم فكنتم روحانيين وخالدين على مر أجيال الأرض، فلم أعطكم زوجات لأن السماء مسكنكم. والآن فإن العمالقة «أولادكم»، نسل الروح والجسد، سيدعون أرواحا شريرة، لأن أرواحا خبيثة سوف تصدر عن أجسادهم «المذبوحة» ويكون في الأرض مسكنها، لأنهم ولدوا من نساء الأرض ومن الساهرين المقدسين. لن يأكلوا ولن يشربوا رغم أنهم يجوعون ويعطشون، سوف يسببون الأذى والعنف والدمار على الأرض ويدفعون الناس إلى الخطيئة وإلى المعصية، ويقومون ضد أبناء الناس وضد النساء لأنهم منهن قد أتوا. عندما يهلك العمالقة سوف تعيث الأرواح الخارجة منهم فسادا «وترتع» بلا رادع إلى يوم الحساب الأخير، يوم يهلك الساهرون الساقطون. فقل «يا أخنوخ» للساهرين الذين تسترحم من أجلهم: لقد كنتم من سكان السماء، وقد كشفت لكم بعض أسرارها، ولكنكم بقساوة قلوبكم نقلتم الأسرار إلى النساء، وبفضلها صنع النساء والرجال مزيدا من الشرور. وقل لهم: لن يكون سلام أبدا.»
8
بعد ذلك يأخذ الملائكة أخنوخ في جولة تكشف له أسرار السماء ، ويستغرق وصف هذه الجولة بقية الجزء الأول من سفر أخنوخ، والوصف طويل ومفصل بحيث لا نستطيع هنا سوى إعطاء لمحة موجزة عن أهم ما رآه. فقد رأى خزانات الرياح، وخزانات البروق والرعود، وخزانات الغيوم والثلوج، ورأى منابع أنهار الأرض كلها ومنبع البحر، ورأى الملائكة التي تحرك عجلات القمر والشمس وبقية الأجرام السماوية، والملائكة التي تسند قبة السماء عند نهايات الأرض حيث بوابة السماء التي تخرج منها النجوم في مواعيدها، وبوابات الرياح الأربع، وبوابات الثلج والبرد والضباب والندى. ورأى مكان سجن النجوم العاصية التي لا تطلع في مواعيدها، وجحيم الملائكة الساقطين، وجنة الأبرار وجحيم الكفار، ورأى مكان المطهر، وهو عبارة عن أربعة كهوف عظيمة محفورة في جبل هائل الحجم، معدة لأرواح الموتى في انتظار يوم الحساب الأخير. ثلاثة من هذه الكهوف مظلمة وواحد منير، فأما المظلمة فهي لإيواء أرواح الخاطئين وفق درجة خطيئتهم، وأما الكهف المنير فمعد لأرواح الصالحين.
يحتوي الجزء الثاني على عدد آخر من الرؤى مصاغة بأسلوب شعري ترميزي، وتفتقد إلى الشروحات التفصيلية المطولة التي ميزت الجزء الأول. نقتبس فيما يأتي أهم هذه الرؤى المتصلة بموضوعنا، وهي التي تدور حول المخلص المنتظر المدعو هنا بابن الإنسان، والتصورات الآخروية المرتبطة بنهاية التاريخ.
9 (1-1) مبدأ الأيام وابن الإنسان «هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (= الرب). كان شعره مشتعلا بياضا مثل الصوف، ومعه كائن آخر له مظهر الإنسان ووجهه ممتلئ نعمة كملاك قديس. فسألت الملاك المرافق أن يكشف لي سر ابن الإنسان، من هو ومن أين أتى ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال لي: هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير والذي به يحيا الخير والذي به تنكشف الكنوز الخبيئة، لأن رب الأرواح اختاره، وقدره خير كله أمام رب الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان الذي رأيت، سيرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشها وكراسيها، لأنهم لم يسبحوا بحمده ولم يمجدوه ولم يعترفوا بمصدر ملكهم وسلطانهم، سوف يخلع قلوب الأقوياء ويكسر أسنان الخطأة ويخفض وجوه العتاة ويمرغها بالعار، فيجعل الظلمة مسكنهم والديدان سريرهم. هناك يضطجعون ولا يقومون .»
نلاحظ هنا أن الفكر المنحول قد تحول من فكرة مسيح آخر الأزمنة إلى فكرة «الحقيقة المسيحانية» القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقة كونية سوف تتجسد في إنسان عندما يأتي الزمن والتاريخ إلى نهايتهما. وهذا ما تعالجه الرؤيا التالية بشكل أكثر وضوحا. (1-2) ابن الإنسان سابق الأيام «هناك رأيت ينبوع الخير الذي لا ينضب معينه، وحوله من كل ناحية كثير من ينابيع الحكمة، ليشرب منها العطاش ويمتلئوا حكمة، فيعيشون مع الأخيار والقديسين والمختارين. في تلك الساعة سمي ابن الإنسان أمام رب الأرواح وكان اسمه سابق الأيام.
10
قبل أن تخلق الشمس وبروج السماء، قبل أن تصنع نجوم السماء، دعي اسمه أمام رب الأرواح. سيكون عصا يتوكأ عليها الأبرار فلا يتعثرون، سيكون نورا تهتدي به الأمم وأملا لجميع المحزونين. أمامه سيسجد جميع أهل الأرض ويعبدونه، ويحمدون ويباركون رب الأرواح بالأناشيد. لأجل هذا تم اصطفاؤه وحجبه في حضرة رب الأرواح، من قبل خلق العالم وإلى نهاية الدهر. لكن حكمة رب الأرواح، قد كشفت عنه للقديسين والأبرار، لأنه حافظ الأبرار الذين نبذوا عالم الشر هذا وكرهوا كل طرقه وأعماله، واعتصموا برب الأرواح الذي باسمه سوف يخلصون وفقا لمرضاته. في تلك الأيام سيذل الملوك والمتنفذون جراء ما اقترفته أيديهم، وفي يوم كربهم لن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم، عندها سوف يسلمون لأيدي المختارين، ولسوف يحترقون مثل قش في نار أمام وجه القديسين، ومثل رصاص في ماء سوف يغرقون أمام وجه الصالحين وينمحي أثرهم. في يوم كربهم ذاك سيحل سلام على الأرض، وهم يسقطون ولا يقومون.» (1-3) القيامة والبعث «في تلك الأيام سوف تعيد الأرض أمانتها، وتلفظ الهاوية ما أخذته إليها، ويسدد الجحيم دينه. في تلك الأيام سيقوم المصطفى ويختار من بين الأموات المبعوثين، الأبرار منهم والقديسين، لأن يوم خلاصهم قد حان. في تلك الأيام سيجلس المصطفى على العرش وينطق فمه بأسرار الحكمة والموعظة الحسنة، لأن رب الأرواح قد منحه إياها ومجده. في تلك الأيام سوف تقفز الجبال مثل كباش فرحة، وتنط التلال مثل حملان رويت حليبا، يومئذ ستشع وجوه الملائكة حبورا وتبتهج الأرض بالأخبار والمختارين وهم يمشون عليها، ورب الأرواح يحكم فوقهم. سوف يأكلون مع ابن الإنسان، وينامون ويستيقظون في كل يوم إلى أبد الآبدين، سيرفعون قاماتهم على الأرض ولا يخفضون رءوسهم أبدا. عليهم عباءات مجد، عباءات الحياة من رب الأرواح، عباءات لا تبلى مع الزمن، ولا يبلى مجدهم أمام رب الأرواح.»
هذا وتحتوي الأجزاء 3 و4 و5 من السفر على عدد متنوع جدا من المواضيع، أهمها بالنسبة لموضوعنا هنا هو الإشارات المتفرقة إلى القيامة والحساب والمعاد. فمن علامات اقتراب القيامة انتشار الظلم وغياب العدالة، وشح المطر ومحل الأرض، واضطراب مسارات الأجرام السماوية وتغيير القمر مواعيد طلوعه. وعندما تحل الساعة يحدث من الأهوال ما يجعل كل مرضعة تغفل عن رضيعها وترميه عن صدرها، عندها يبعث من في القبور وكل الذين هلكوا بدون دفن ومحقت آثارهم، كل الذين قضوا في الصحراء أو غرقوا في الماء وابتلعتهم الأسماك، أو افترستهم الكواسر، ويقفون للحساب أمام رب الأرواح. ثم تفتح بوابة الجحيم، وهي هاوية عميقة لا يسبر غورها ومهما وفد إليها من الناس لا تمتلئ، فيها ملائكة العذاب يجهزون أدوات العقاب من سلاسل وقضبان وما إليها، وفي قعرها نار تتضرم، نار أبدية يلقى فيها المجرمون. في ذلك الوقت يعلن الملوك والمتنفذون ندمهم أمام ملائكة العذاب ويطلبون فسحة من الوقت ليرجعوا عن آثامهم ويتوبوا أمام الرب ويعبدوه، ولكن طلبهم يرفض ويصدر بحقهم حكم أبدي على مدى أجيال الدهور. (2) سفر عزرا الرابع
يعود الأصل العبري لهذا السفر إلى أواخر القرن الأول الميلادي. ورغم أن هذا الأصل قد ضاع منذ وقت مبكر، إلا أن أجزاء منه قد وجدت مترجمة إلى كل من اليونانية واللاتينية والإثيوبية والقبطية والأرمنية، ولدينا ترجمتان عربيتان قديمتان محفوظتان في مكتبة الفاتيكان بروما: الأولى تحت رمز «العربية 1» ولها مخطوطتان الأولى أصلية والأخرى نسخة عنها، والثانية تحت رمز «العربية 2» ولها ثلاث مخطوطات واحدة كاملة واثنتان ناقصتان.
11
أما الترجمة المعتمدة عالميا فهي الترجمة اللاتينية، لكونها أكمل الترجمات، وهي التي سنعتمد نصها الإنكليزي فيما يلي:
12
يبتدئ السفر بمقدمة تسرد نسب عزرا، الشخصية التوراتية التي يضع السفر كلامه على لسانها، ثم يفتتح السفر بقول عزرا: «وكانت كلمة الرب إلي قائلا: اذهب وأعلن لشعبي عن شرورهم ولأولادهم عن خطاياهم التي اقترفوها أمامي.» بعد ذلك يتابع الرب تعداد نعمه التي أنعم على بني إسرائيل وكيف قابلوه بالجحود والنكران وأداروا ظهورهم لشريعته. وينتهي إلى القول بأنه سيترك شعبه الذي اختاره إلى شعوب وأمم أخرى: «سوف ألتفت إلى شعوب أخرى فأعطيها اسمي وتعمل شرائعي، لقد تركتموني وأنا أيضا سوف أترككم. عندما تستجدون رحمتي أحجبها عنكم، وعندما تبسطون أيديكم إلي أصرف سمعي عنكم. أيديكم ملآنة دما وأرجلكم سريعة لاقتراف الجريمة. والحق فإنكم ما تركتموني وإنما تركتم أنفسكم، يقول الرب: ألم أعطف عليكم كما يعطف الأب على أولاده والأم على فلذات كبدها، لتكونوا لي شعبا ولأكون لكم إلها، وتكونوا لي أولادا وأكون لكم أبا؟ لقد جمعتكم كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولكن ماذا أفعل لكم الآن؟ سأنبذكم من أمامي وأدير وجهي عن تقدماتكم. رءوس شهوركم، وأعيادكم، وختان الجسم، بغضتها نفسي. أرسلت إليكم خدمي الأنبياء ولكنكم قتلتموهم ومزقتم أجسادهم، وها أنا ذا أطلب دماءهم منكم، يقول الرب.» «هو ذا بيتكم خرابا، تخرجون منه فأذروكم كما تفعل الريح بالقش ... وأعطي مساكنكم لشعب يأتي، شعب يؤمن بي ولم يسمعني، يفعل مشيئتي ولم أظهر له آية، يترك طرقه القديمة ولم أبعث له أنبياء، يوقنون بأقوالي ولم يروني رؤية العين بل رؤية الروح. انظر يا عزرا باعتزاز الشعب الآتي من الشرق، له سوف أعطي إبراهيم وإسحاق ويعقوب قادة، وأعطي هوشع وعاموس وميخا ويوئيل ... (إلخ) أنبياء. لقد أخرجت هذا الشعب من الأسر وأعطيتهم وصاياي عن طريق الأنبياء، ولكنهم لم يصغوا إليها بل راحت هباء ... فليتفرقوا بين الأمم وليمح اسمهم وذكرهم عن وجه الأرض، لأنهم رذلوا عهدي ... هكذا يقول الرب لعزرا: قل لشعبي «الجديد» بأني سأهبهم مملكة أورشليم التي أعددتها لإسرائيل، وأسحب منها مجدها، سأهبهم سكنا أبديا أعددته لإسرائيل، فيه شجرة الحياة تعطيهم عطرها فواحا، وفيه لا يتعبون ولا يشقون .»
بعد ذلك تعرض لعزرا رؤى سبع متتابعة، وهو في مدينة بابل التي سيق إليها مسببو يهوذا. في الرؤيا الأولى يناجي عزرا ربه ويطرح عددا من التساؤلات التي تدور حول أصل الشر في العالم ومصير إسرائيل والبشرية. فمنذ البداية فرض الرب على آدم وصية واحدة فقط، ومع ذلك لم يكن أهلا للاضطلاع بها فأخطأ إلى الرب وحكم عليه وعلى ذريته بالموت. وعن آدم نشأت شعوب وأمم كثيرة جميعها مشى وراء أفكاره وترك الرب، فأهلكهم الرب بطوفان عظيم وأنجى نوحا ومن معه، ولكن أمم ما بعد الطوفان لم تكن بأحسن حالا من سابقتها، بل لقد فجرت وضلت أكثر منها ... ولذا فقد اختار الرب إسرائيل شعبا خاصا وأعطاه الشريعة، ولكن إسرائيل ضل عن السبيل لأن الرب لم يطهر قلبه من الإثم الإنساني فعاشت بذرة الخطيئة التي زرعت في قلب آدم مع الشريعة جنبا إلى جنب، ثم ذهب الخير واستقر الشر في القلوب فآلت إسرائيل إلى الدمار والخراب.
ثم ينظر عزرا حواليه ويرى أن خطيئة بابل ليست أقل من خطيئة إسرائيل، وإثم الأمم ليس أقل من إثم نسل يعقوب. فلماذا حم القضاء على إسرائيل وحدها بينما ترتع بقية الأمم الضالة بالثراء والدعة، وتكافأ على شرها فيضاعف رزقها أضعافا. هنا يتدخل الملاك المدعو أوريئيل محاورا عزرا، ويقول له بأن فهمه قد قصر عن استيعاب ما يجري في هذا العالم، لأن أسباب ما يجري تقع وراء الظاهر، وطرق الله خفية على الإنسان، ثم يكشف له عن مجيء ساعة قريبة يحصد فيها من زرع بذرة الشر محصوله، ويحصد فيها من زرع بذرة الخير محصوله، وهذه الساعة تأتي في ميعاد دقيق محسوب عند رب العالمين. فكما أن رحم المرأة لا يستطيع الاحتفاظ بالجنين في آخر الشهر التاسع عندما يأتي المخاض، كذلك الأرض التي أتخمت بالموتى منذ بدء الخليقة، فهي لن تلفظهم قبل مجيء ساعة مخاضها في اليوم الأخير.
ولكن للساعة علاماتها، ففي ذلك الوقت يتملك الناس ذعر عظيم، وتغيب سبل الحق ويفقد الإيمان في الأرض. الشمس تشرق في الليل، والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار، الصخر يتكلم ويسمع صوته، والنجوم تغير مجراها وتتساقط على الأرض، قوة غير معروفة تبسط سلطانها، وصوت مجهول يسمع في الليل من قبل الجميع، تتشقق الأرض عبر المساحات الواسعة، وتندلع نيران لا تنطفئ، تترك الطيور أعشاشها وتفر، والكواسر تهجر مقراتها، والبحر يلفظ أحياءه، تحمل النساء مسوخا، وابن السنة يتكلم، والحوامل تضع في ثلاثة أو أربعة أشهر، وهؤلاء يعيشون ويرقصون، تجف الحقول وتفرغ الإهراءات، ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح، يقوم الأصدقاء والإخوة ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوة، يفقد الرشد والتفكير السليم، وتنسحب الحكمة إلى مخبئها فلا يجدها أحد، عمل الناس لا يعطي ثمارا، وكدهم يذهب هباء.
تتابع رؤى عزرا بعد الرؤيا الأولى، وفي نهاية كل رؤيا كان عزرا يصوم ويصلي مدة سبعة أيام قبل أن تأتيه رؤيا أخرى. في الرؤيا الثانية يتابع عزرا حواره مع الرب من خلال الملاك أوريئيل الذي يجيبه عن كل سؤال، ويدور الحوار حول مصير إسرائيل والأزمنة الأخيرة. وفي النهاية يلخص الملاك أجوبته بالمقطع الآتي الذي نفهم منه أن كل ما كان وما هو كائن وما سيكون، إنما يجري وفق مخطط دقيق وضعه الرب قبل خلق العالم، عندما رسم دائرة على وجه المياه الأولى فحدد بها موقع الكون في المكان اللامتناهي: «عندما رسم دائرة الأرض، وقبل أن يرسي دعائم الكون، قبل أن تتحرك مجامع الرياح، قبل أن يهدر صوت الرعد، قبل أن يلتمع ومض البرق، قبل أن توضع أساسات الفردوس، قبل أن يرى بصر ورودا نضرة، قبل أن تطلق قوى الزلزال ... قبل أن ينتظم حشد الملائكة ... قبل أن ترفع الأجواء عاليا، وتسمى بروج السماء، قبل تشكيل مدرجات جبل صهيون، قبل أن يوضع حساب السنين، قبل أن يجنح خيال الخطأة بهم نحو الخطيئة، ويختم على جباه أهل كنوز الإيمان، قبل هذه جميعا وضعت مخطط كل شيء وجميعها صنعتها أنا ولا أحد آخر، مثلما سأصنع نهايتها أنا ولا أحد آخر.»
في الرؤيا الثالثة ينقل الرب لعزرا خبر مملكة المسيح القادمة على الأرض، والتي ستدوم مدة أربعمائة سنة: «هو ذا يوم يأتي، بعد ظهور الإشارات التي أنبأتك بها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن، ويكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك بخبرها عجائبي. عندها سيظهر المسيح، ابني، والذين معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمائة سنة، ثم يموت المسيح وكل ذي نسمة حياة معه، ويعود العالم إلى الصمت البدئي مدة سبعة أيام، كما كانت حاله قبل البدايات. بعد ذلك يستيقظ العالم النائم ويتلاشى منه ما هو قابل للفساد ... ستلفظ الأرض الأجساد النائمة فيها، وتخرج ردهات المطهر ما عهد إليها من أرواح، ويظهر العلي مستويا على عرش الدينونة. عندها تزول الرحمة ويغيب الصبر ويبقى الحساب «العسير». عندها ينزرع الحق وينمو البر، يصحو الخير ولا ينام الصلاح ويعرض الثواب والعقاب. عندها تتعرى هاوية العذاب ويبرز في مقابلها مقام النعيم، يكشف عن أتون الجحيم ويبرز في مقابله الفردوس المقيم. عندها يقول العلي للأمم التي بعثت من الموت: انظروا الآن إلى الذين أنكرتم ورذلتم وصاياه، ثم انظروا إلى هذه الجهة وإلى تلك. هنا السكينة والنعيم وهناك العذاب والجحيم. هذا ما يقوله العلي في يوم الدينونة، يوم ليس فيه شمس ولا قمر ولا نجوم، ليس فيه سحاب ولا رعد ولا برق ولا ريح ولا هواء ولا ماء، ليس فيه صباح ولا مساء، ليس فيه صيف ولا ربيع ولا حر ولا صقيع، ولا وابل ولا ندى، ليس فيه ظهر ولا مغرب، ولا فجر ولا إشراقة ضوء. وحده مجد العلي يتلألأ».
13
عقب ذلك يقول عزرا للملاك إن الفئة الناجية هم قلة والهالكين كثر؛ لأن الشر المزروع في النفس الإنسانية قد حرف جل البشر عن طرق الله، فيجيبه الملاك بأن الحصى في الأرض أكثر من الرصاص، والرصاص أكثر من الحديد، والحديد أكثر من النحاس، والنحاس أكثر من الفضة، والفضة أكثر من الذهب. فالثمين في الأرض هو القليل والنادر، وهذا ينطبق على طبقات وأنواع البشر. لقد خلق هذا العالم من أجل الكثيرين، ولكن قلة معدة للخلاص ولوراثة العالم القادم.
في الرؤيا الرابعة يجد عزرا امرأة في حلة الحداد، تندب وتبكي ابنها الوحيد الذي اختطفه الموت في ليلة عرسه، وبينما عزرا يعزيها ويخفف من أحزانها، أضاء وجهها ببريق عجيب وأطلقت صرخة عالية اختفت على أثرها، وظهرت في مكانها مدينة مشيدة وضاءة هي أورشليم في يوم الخلاص.
في الرؤيا الخامسة يصعد إلى كبد السماء نسر جبار يبسط جناحيه على العالم ويتحكم به، ولكن مخلوقا يشبه الأسد يظهر من الغابة ويتصدى له، فيحترق النسر ويتهاوى على الأرض. يمثل النسر في هذه الرؤيا الإمبراطورية الرومانية، ويمثل الأسد مسيح الرب الذي سيسحق هذه الإمبراطورية. وفي الرؤيا السادسة نجد مسيح الرب هذا طالعا من وسط البحر: «بعد سبعة أيام عرضت لي رؤيا جديدة وأنا نائم في الليل، هبت من البحر ريح عاصفة دفعت أمامها كل أمواجه، فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسان يطلع من وسط البحر، ثم نظرت ورأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجة ورجفة، وكلما هدر صوته ذاب سامعوه مثلما يذوب الشمع الساخن، ثم رأيت حشودا تهب من جهات الرياح الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر، ولكنه اقتطع جبلا عظيما بيديه وقذفه عليهم، فتملك الذعر تلك الحشود التي تجمعت للقتال، ولكنها عزمت على الهجوم. فلما رأى اقترابها منه لم يرفع يدا ولم يمسك حربة أو سلاحا، ولكنه أطلق من فمه زفيرا ناريا ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيار ملتهب انصب على الحشود المهاجمة، فأتت عليهم جميعا ولم يبق في مكان تجمعاتهم سوى الغبار والرماد وروائح الدخان، دهشت لذلك كله، ثم رأيت الرجل يهبط من الجبل ويدعو إليه حشدا آخر هادئا ومسالما، فتقاطر إليه أناس بعضهم فرح وبعضهم حزين وبعضهم يرسف في الأغلال.»
يطلب عزرا تفسير رؤياه فيأتيه الجواب: «إن الرجل الذي رأيته طالعا من البحر هو الذي أخفاه العلي عصورا عديدة، والذي به سيخلص خليقته ويقود من بقي منها. أما عن التيار الناري الذي يخرج من فمه ، وعدم حمله لحربة أو سلاح، وتدميره مع ذلك للحشود التي تجمعت لقتاله، فإليك بيان ذلك: سوف يأتي يوم أعده العلي لتخليص سكان الأرض، ولكن سكان الأرض يتبلبلون ويقومون لقتال بعضهم، مدينة ضد مدينة، وقطر ضد قطر، وشعب ضد شعب، عندما يحصل ذلك وتظهر العلامات التي أخبرتك بها سابقا، سيظهر ابني، مثلما رأيته، في هيئة رجل يخرج من البحر، عندها سيترك الجميع قتال بعضهم ويتجمعون لقتاله، ولكنه سوف يقف على ذروة جبل صهيون ويوبخ الأمم المحتشدة على سوء فعالها، فتأتي كلماته على شكل تيار ناري ويعذبهم بما يستحقون، ثم يدمرهم بلا جهد بواسطة الشريعة التي هي مثل النار. أما الحشد المسالم الذي رأيت الرجل يدعوه ويجمعه إليه، فإنهم الأسباط العشرة التي سبيت وأخرجت من ديارها من قبل الملك الآشوري شلمنصر، في أيام ملكها هوشع.» بعد ذلك يسأل عزرا عن مغزى طلوع الرجل من البحر فيأتيه جواب العلي: «كما أنه لا أحد يستطيع أن يكتنه ما في أعماق البحر، كذلك لا أحد على الأرض يستطيع رؤية ابني ومن برفقته إلا عندما يأتي وقته ويومه.» (2-1) كتاب اليوبيليات
اليوبيليات، أو الخمسينيات، هو كتاب منحول مطول، يعيد سرد سفر التكوين والأجزاء الأولى من سفر الخروج بأسلوب مختلف، فهو يكثف ويختصر في بعض المواضع، ويسهب في أخرى بداعي الشرح والتوضيح، ويضيف أحيانا، أو يعيد صياغة بعض الأحداث صياغة جديدة. أما عن تاريخ التأليف واللغة الأصلية للكتاب، فإن العثور على جزء منه بين نصوص قمران باللغة العبرية يرجح أن لغته الأصلية هي العبرية، وأنه كتب في القرن الأول قبل الميلاد على ما يدل عليه نوع الخط العبري المستخدم في كتابته. لدينا أجزاء لا بأس بها من هذا الكتاب مترجمة إلى اللاتينية، ولكن النص الكامل متوفر باللغة الإثيوبية التي نقل إليها بين القرن الرابع والقرن السادس الميلاديين، أي خلال الفترة التي تمت خلالها ترجمة أسفار التوراة إلى تلك اللغة، والكنيسة الإثيوبية هي الوحيدة التي تعترف بقانونية هذا السفر. أما عن تسمية الكتاب فمستمدة من تقسيم الزمن في النص إلى وحدات خمسينية تتألف كل وحدة من 49 سنة، وذلك منذ اليوم الأول للتكوين وحتى يوم الدينونة الذي سيأتي بعد 4900 سنة، أي 10 خمسينية مضروبة ب 49 سنة.
لا يركز كاتب اليوبيليات على المسائل اللاهوتية المتعلقة بنهاية الزمن ومملكة المسيح والحياة الأخرى، ولا يأتي ذكر هذه المسائل إلا بشكل مقتضب وفي سياق تذكير إسرائيل بتقوى الرب وإعادة عقد الصلة معه، ولكنه بالمقابل يركز على المسائل اللاهوتية المتعلقة بعالم الملائكة وعالم الشياطين. فقد خلق الرب الملائكة في اليوم الأول من أيام التكوين مع خلق السماء والأرض، وجعلهم في مراتب وطبقات، ففي قمة هرم الملائكة لدينا طبقة ملائكة الوجه
، وطبقة ملائكة التقديس وهم المحيطون بالعلي على الدوام، يليهم الطبقات ذات المهام المحددة، فهناك ملائكة للريح وملائكة للغيوم وملائكة للبروق والرعود وما إلى ذلك من الوظائف والظواهر الطبيعانية والكونية، كما تتوسط الملائكة بين الرب وعالم البشر، فمنهم من ينقل أوامره وتعاليمه إليهم، ومن يختبرهم ومن ينقل التقارير عن خطاياهم، ومن يسهر على أحوال الأرض ويتابع شئونها ... إلخ.
وعندما أخذ البشر يتكاثرون على وجه الأرض وولد لهم بنات، رأى فريق من الملائكة الساهرين أن بنات الناس حسنات، فرغبوا بهن وتخلوا عن طبيعتهم الروحانية واتخذوا لهم زوجات من البشر، فأنجبت النساء أولادا عمالقة أفسدوا في الأرض حتى عم الشر كل الكائنات الحية من الإنسان إلى الحيوان وكل ما يمشي على الأرض. وبذلك يحل مؤلف الكتاب مشكلة وجود الشر في العالم بطريقة تختلف عن مؤلف سفر عزرا الرابع. فالشر عند عزرا ينبع من الإنسان لا من قوة خارجة عنه، أما في اليوبيليات فإن الشر يأتي من قوة ما ورائية طاغية، وما الإنسان إلا ضحية لهذه القوة بسبب ضعفه في مواجهتها. لقد تحول فريق من أهل السماء المقدسين إلى شياطين ملعونين، وأخذوا يستخدمون قواهم الأصلية لدفع الإنسان في طرق الغي والضلال، بعد أن أدار العلي وجهه عنهم وتحول بريقهم الملائكي إلى سواد وظلمة.
ولكن الرب رغم عدم مسئوليته عن ظهور الشر، إلا أنه يسمح به بعد ظهوره. فلقد أفنى الرب نسل الإنسان وكل ذي روح على الأرض بطوفان عظيم بعد أن كثر شرهم إلا نوحا ومن معه، وكان الأحرى به أن يفني الشياطين التي أصل الشر، ولكن حكمة العلي، كما يعيد ويكرر مؤلفو هذه الأسفار، خفية على أفهام البشر، ولذلك فقد نشطت قوى البشر مجددا بعد أن تكاثر نسل نوح، وصعد صوت البشر بالشكوى إلى السماء من تعديات الشياطين. وهنا يقوم اتفاق بين رئيس الشياطين المدعو مستيما وبين الرب، ويسمح للإبليس مستيما أن يمارس نشاطه جماعة من أتباعه، خلال مدة محدودة تنتهي في يوم القيامة والحساب، ولكنه بالمقابل يأمر الملائكة أن يعلموا الإنسان طرق مقاومة أذى وشر الشياطين. نقرأ في الفصل العاشر من الكتاب المقطع الآتي:
14 «في الأسبوع الثالث من تلك الخمسينية، أخذ الشياطين المتمردون بتضليل نسل نوح ودفعهم للرذالات وإهلاكهم، فجاء أولاد نوح إلى أبيهم وحدثوه بأمر الشياطين التي تعمي وتضل وتهلك أحفاده، فصلى نوح إلى الرب إلهه وقال: يا إله الأرواح التي تقيم في كل جسد. أنت الذي رحمني وأنقذني مع أولادي من مياه الطوفان فلم أهلك مع أبناء اللعنة، لأن نعمتك علي كانت عظيمة ورحمتك واسعة على روحي. أسبغ نعمتك على أولادي ولا تدع للأرواح الشريرة عليهم سلطانا فيبيدونهم عن وجه الأرض. باركني وبارك أولادي لنكثر ونتزايد ونملأ الأرض. أنت تعلم ما فعله ملائكتك الساهرون آباء هذه الأرواح في أيامي «قبل الطوفان»، وما فعله من بقي من هذه الأرواح «بعد حملتك عليهم». فلتوقع بهم وتقودهم إلى مكان الحساب، ولا تتركهم يعيثون فسادا بين أبناء خادمك، لأنهم يا إلهي قساة وقد خلقوا لكي يدمروا، ولا تدع لهم سلطانا على نفوس الأحياء.» يستجيب الرب لصلاة نوح ويأمر فريقا من الملائكة بمطاردة الشياطين وتقييدهم، ولكن الإبليس مستيما رئيس الأرواح الشريرة يتوسط لدى الرب، ويطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعا بل يترك له قسما منهم لكي يستطيع متابعة مهامه الشريرة، فيوافق الرب ويمهل مستيما ومن بقي معه من الشياطين إلى يوم الحساب الأخير: «فأمرنا الرب إلهنا
15
أن نوثقهم جميعا، ولكن مستيما رئيس الأرواح مثل أمام الرب وقال: أيها الإله الخالق اترك بعضا منهم معي ليستمعوا إلي ويفعلوا ما أمرهم به، لأنه إذا لم يبق لي منهم أحد لا أستطيع بسط سلطاني على أبناء البشر، لأن شر البشر عظيم وبني الإنسان منذورون للضلالة قبل أن يصدر حكمك بشأني. فأمر الرب أن يبقى عشر الأرواح الشريرة مع مستيما وأن ينزل التسعة أعشار الباقية إلى مكان الحساب، ثم أمر واحدا منا أن يعلم نوحا كل طرق الشفاء من شر الشياطين، لأنه يعرف أن البشر لن يسيروا ولن يجاهدوا في سبل الحق والخير. فامتثلنا للأمر، وقيدنا الأرواح الشريرة في مكان الحساب، وتركنا عشرهم تحت إمرة إبليس على الأرض، وعلمنا نوحا طرق الشفاء من أذاهم ومن غواياتهم، وعلاج ذلك بواسطة نباتات الأرض.» بعد ذلك يدخل الرب وإبليس في علاقة معقدة، فهو يقيده ليكف أذاه أحيانا ثم يطلقه ليتابع مهامه في أحيان أخرى. كما نجده يعهد إليه بأعمال كان قد نفذها بنفسه في النص التوراتي القانوني. ففي قصة موسى وفرعون نقرأ تنويع اليوبيليات على النص الرسمي كما يأتي: «ولقد انتصب الرئيس مستيما أمامك يا موسى وحاول تسليمك ليد فرعون، كما أنه ساعد سحرة مصر الذين مارسوا سحرهم أمامك، ولكن الرب ضربهم بقروح رديئة، ومنعناهم عن إتيان معجزة واحدة، ولكن الرئيس مستيما لم ينخذل بل استجمع قواه وأهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم وبكل عرباتهم وخيلهم وأهل مصر، ولكني حلت بين المصريين وإسرائيل وخلصنا إسرائيل من فرعون وشعبه. وفي الأيام الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، كان الرئيس مستيما مقيدا ومحجوزا خلف أبناء إسرائيل لكيلا يلاحقهم ويوقع بهم. وفي اليوم الثامن عشر حللنا قيوده مع أتباعه لكي يساعد المصريين في ملاحقة إسرائيل فشدد عزيمة المصريين وقواهم، ثم قيدناهم مجددا ... إلخ.»
إذا قارنا هذه الفقرة أعلاه بمقابلها في سفر الخروج، وجدنا أن يهوه في اليوبيليات قد أحل إبليس محله في التشديد من عزيمة المصريين ودفعهم إلى مطاردة بني إسرائيل. نقرأ في سفر الخروج، 14: 8-9: «وشدد الرب قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني إسرائيل، فسعى المصريون وراءهم وأدركوهم.» بينما نقرأ في اليوبيليات: «ولكن الرئيس مستيما أهاب بالمصريين أن يلاحقوك بكل جيوشهم، فشدد عزيمة المصريين وقواهم.» وفي تعديل مشابه يقلب الأدوار بين يهوه وشيطانه، نقرأ في اليوبيليات: «ثم عدت يا موسى من مديان إلى مصر في الأسبوع الثاني من السنة الثانية للخمسينية الخامسة، وأنت تعرف ما قيل لك على جبل سيناء، وتعرف كيف رغب مستيما بقتلك بكل ما أوتي من قوة لكي ينقذ المصريين من يدك، لأنه رأى أنك قد أرسلت لتنفيذ الحكم بهم.» أما في الموضع المقابل من سفر الخروج فإن يهوه هو الذي ظهر لموسى في الطريق وأراد قتلة لأن صفورة زوجته قد ترددت في ختان ابنها: «فأخذ موسى امرأته وبنيه ورجع إلى مصر، وحدث في الطريق، في المنزل، أن الرب التقاه وطلب أن يقتله. فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها هو ومست رجليه. فقالت إنك عريس دم لي، فانفك عنه» (الخروج، 4: 24-26).
ورغم أن يهوه في اليوبيليات يستخدم الشيطان على هواه، فيقيده آنا ويطلقه آنا آخر، أو يحسن صورته من خلاله بأن يعزو إليه أفعالا معينة كان قد قام بها هو نفسه في النص التوراتي، فإن الشيطان من ناحيته كان يوقع يهوه في أحابيله ويظهر مقدرته على خداعه. ومثال ذلك ما وقع بين يهوه وإبراهيم في قصة تضحية إبراهيم بابنه الواردة في التكوين، 22: «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم، فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكر إبراهيم صباحا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه، وقام وذهب إلى الموضع، فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك مذبحا ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب، ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء، فقال لا تمد يدك إلى الغلام لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني» (22: 1-12).
أما محرر اليوبيليات فقد أدخل تعديلا جوهريا على هذه القصة، يوضح مدي سلطة الشيطان ومقدرته حتى على خداع يهوه. فلقد تحدث أهل السماء عن مدى إخلاص إبراهيم للرب، وعن مدى حبه لابنه إسحاق الذي كان يفضله على كل ما في الدنيا، فجاء الشيطان إلى الرب وشككه بإخلاص إبراهيم ثم أقنعه أن يخضعه للتجربة والامتحان، وذلك بأن يأمره التضحية بابنه الوحيد ليرى ويتأكد فيما إذا كان الرب أحب إليه من أي شيء آخر. فأخذ الرب بمشورة الشيطان رغم أن سيرة حياة إبراهيم قد أكدت في كل مناسبة مدى محبته للرب وإخلاصه له، وعندما نفذ إبراهيم الأمر وهم بذبح ابنه، تأكد الرب من مدى خشيته له وسمع إبراهيم صوتا من السماء: لا ترفع يدك على الغلام لأني عرفت الآن أنك تخشى الرب فلم تضن عليه بابنك البكر، فاخز الشيطان مستيما.
قبل أن نغادر كتاب اليوبيليات، لا بد من الإشارة إلى أن المؤلف، رغم تجديداته اللاهوتية الجذرية، فقد بقي أسيرا للنزعة الشوفينية التوراتية، بل لقد زاد عليها. فالصراع بين الخير والشر يتجلى في العالم والتاريخ بشكل رئيسي في الصراع بين إسرائيل وأعدائها من بقية شعوب العالم، فإسرائيل رغم كل خطاياه يجسد الخير في العالم، والشعوب الأخرى هي حصة الشر والشيطان. لقد اختار يهوه إسرائيل شعبا له قبل خلق العالم، وهو ملتزم بتطهير هذا الشعب في النهاية وتخليصه وحده من بين الشعوب، وما التاريخ إلا التجلي العملي لخطة يهوه هذه. نقرأ في المقاطع الأولى من اليوبيليات أن الرب قد اختار إسرائيل شعبا له في اليوم السادس من أيام التكوين، وذلك على عكس ما ورد في النص الرسمي الذي يقول لنا إن اختيار يهوه لشعبه يبتدئ مع عهده لإبراهيم ولنسله من بعده: «وأكمل في اليوم السادس كل عمله، كل ما في السماوات وما في الأرض، لقد أعطانا آية عظيمة هي يوم السبت الذي نرتاح فيه بعد عمل ستة أيام، وقال لنا، نحن ملائكة الوجه وملائكة التقديس، المرتبتان العاليتان، أن نحتفل بالسبت معه في السماء وعلى الأرض. وقال لنا أيضا: سوف أفرز لنفسي شعبا من بين كل الشعوب، فيحتفل بالسبت وأكرسه لنفسي وأباركه، مثلما كرست السبت وباركته، سيكون شعبا لي وأكون إلهه. لقد اخترت بذرة يعقوب من كل ما رأت عيني، وأسميتها ابني البكر الذي خصصته لنفسي إلى الأبد.» (2-2) وصايا الأسباط الاثني عشر
عندما حضرت المنية يعقوب، دعا أولاده الاثني عشر فأوصاهم وتنبأ لهم بما سوف يصيبهم وأوصى بمكان وطريقة دفنه. نقرأ في التكوين، 49: 1-33: «ودعا يعقوب بنيه وقال اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام. اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب وأصغوا إلى إسرائيل أبيكم. رأوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي ... إلخ. شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما ... إلخ. يهوذا إياك يحمد إخوتك ... إلخ. هؤلاء هم أسباط إسرائيل الاثنا عشر، وهذا ما كلمهم به أبوهم وباركهم، وأوصاهم وقال ... ادفنوني عند آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحثي ... إلخ. ولما فرغ يعقوب من توصية بنيه ضم رجليه إلى السرير وأسلم الروح.»
تنسج وصايا الأسباط الاثني عشر على منوال وصية يعقوب، فكل وصية تحتوي على نصائح للأولاد المجتمعين عند سرير الأب، وسرد لمراحل حياته الماضية والدروس المستقاة منها، وأخيرا تنبؤات حول مستقبل إسرائيل، والأيام الأخيرة في نهاية الزمن. إن العثور على مقاطع من هذه الوصايا بين نصوص قمران «أواسط القرن الأول الميلادي» باللغتين الآرامية والعبرية، يدل على قدم هذا النص وأرجحية وضعه في القرن الأول قبل الميلاد، وربما أبكر من ذلك، إلا أن النص الكامل للوصايا غير متوفر في نسخة عبرية، وإنما في نسخة يونانية متأخرة، يقول صاحبها إنه قد ترجمها عن العبرية. هذا ويشكك بعض الدارسين بمصداقية الترجمة لأنهم يلمحون تأثيرات هيلنستية واضحة في هذا العمل، إضافة إلى تأثيرات مسيحية.
هنالك ثلاثة محاور مشتركة بين الوصايا ذات صلة بموضوعنا وهي: (1) دور الشيطان ووظيفته في العالم. (2) مجيء المخلص. (3) يوم الدينونة ونهاية التاريخ. مما سنتتبعه فيما يأتي:
لا تحفل الوصايا بتقديم تاريخ للشيطان، بل تركز على سلطته على نفوس الناس ونشاطه الدائب في دفع الإنسان إلى ارتكاب الشرور والمعاصي. وهي تدعوه بالاسم بلعار، وتصفه بالمضلل وبرئيس الضلال وبروح الضلال، وتتحدث عن معاونيه من أرواح الشر التي تعمي البصيرة وتلبس الحق بالباطل والباطل بالحق، ثم تؤكد أنه سيئول إلى الخزي وإلى الدمار في نهاية الزمن.
في وصية أشير لدينا مقطع على جانب كبير من الأهمية، فهو ينطلق من الفكرة الزرادشتية عن صراع الروحين البدئيين، ليجد معادل هذا الصراع ومنعكساته في النفس الإنسانية، ففي عمق النفس هنالك نازعان واحدا نحو الخير وآخر نحو الشر، وهذان النازعان يقودان إلى دربين ويصنعان سلوكين ونهايتين، واحد يرضى عنه بلعار وواحد يرضى عنه الرب: «استمعوا يا أبناء أشير إلى أبيكم، فأريكم كل ما هو حسن في عين الرب. لقد أعطى الرب لبني الإنسان دربين ونازعين وسلوكين ونموذجين ونهايتين، وهذان الدربان هما درب الخير ودرب الشر، وفي مقابل هذين الدربين هنالك في صدورنا ميلان اثنان يختاران بين الدربين، فإذا مالت النفس إلى درب الخير فإن كل أعمالها تسير في الخير، وتجنح للاستغفار والتوبة عن كل خطيئة. وهي إن تضع نصب عينيها العمل الصالح وتدير ظهرها للعمل الطالح، فإنها تقتلع الخطيئة من جذورها وتقهر الشر. أما إذا مالت النفس نحو الشر فإن كل أعمالها تكون خبيثة، تهجر الخير وتفتح الصدر للشر فتستعبد لبلعار. عند ذلك يتحول حتى فعل الخير إذا أرادته إلى شر، لأن مخازن الشيطان مترعة بسموم الأرواح الشريرة، وأنتم يا أبنائي لا تكونوا مزدوجي الوجوه، وجه للخير ووجه للشر، وإنما التزموا الطيبة لأن الرب الإله يرتاح إليها والناس تتطلع إليها. أديروا ظهوركم للنوازع الشريرة واستعينوا على الشيطان بعملكم الطيب، لأن مزدوجي الوجوه ليسوا من الله بل عبيد لرغباتهم الآثمة وهم يرضون بلعار والذين على شاكلتهم، أنتم ترون يا أبنائي كيف أن في كل شيء وأمر عنصرين، واحدا ضد الآخر، وهذا مختبئ في ذاك. ففي التملك هناك يكمن الطمع، وفي المرح السكر، وفي الضحك النواح، وفي الزواج الفسق. الموت يلي الحياة، والخزي يلي المجد، والليل يلي النهار، والظلمة تلي النور، ولكن هذه الأشياء كلها تقود إلى ضوء النهار. العمل الصالح يقود إلى الحياة، والعمل الطالح يقود إلى الموت.»
16
هذا وتتعاون نصوص الوصايا على رسم صورة للشيطان بلعار ولطريقة عمله، فهو يعمي بصيرة الإنسان ويعتم على ذكائه وحسن تمييزه. نقرأ في وصية شمعون: «في أيام صباي كنت غيورا من أخي يوسف لأن أبي أحبه أكثر منا جميعا، فعزمت في سري على إهلاكه، لأن أمير الخطيئة «بلعار» أعمى بصيرتي فلم أعد أرى فيه أخا ولم أصفح لأبي «تفضيله له»، ولكن إله آبائنا بعث رسوله فأنقذه من يدي، لقد قيد الرب يدي ورجلي وحال بيني وبين إتيان ذلك العمل، ولمدة سبعة أيام بقيت يدي اليمنى مشلولة تقريبا، ولقد عرفت أن ما حصل لي كان بسبب يوسف، لهذا فقد ندمت واستغفرت وتبت باكيا. لقد كان يوسف وسيما طلق المحيا لأن قلبه لم ينطو على أي شر، فالوجه مرآة اضطراب النفس، لذلك يا أولادي اجعلوا قلوبكم فاضلة أمام الرب، وطرقكم مستقيمة أمام الناس، وستلقون على الدوام نعمة في عين الرب والناس. احفظوا أنفسكم من الفسق الجنسي لأنه أم الرذائل، وهو الذي يبعد عن الله ويقود إلى بلعار ...»
وبلعار يستخدم عاطفة الغضب عند الإنسان ليدفعه إلى العنف والظلم. نقرأ وصية دان: «الغضب سيئ يا أولادي، يعكر الروح ويتملك جسد الغضوب، فينقل إليه قوته الخاصة ليجعله يرتكب كل أنواع الظلم، والإنسان الذي يغضب، حتى ولو كان ضعيفا، يكتسب أضعاف قوته العادية، لأن الغضب يعينه دائما على الظلم، الغضب سيئ يا أولادي، لأنه يغدو القوة المحركة للنفس، وهذه القوة تستولي على النفس وتمد الجسد بقدرات خاصة فيغدو قادرا على إتيان أحط الأعمال. إن روح الغضب تمشي دائما مع روح الكذب إلى يمين الشيطان، لكي يتم أعماله بالوحشية والخداع. فاحفظوا وصايا الرب يا أبنائي. تفادوا الغضب واكرهوا الكذب، ليسكن الرب بينكم، وليهرب بلعار بعيدا عنكم.»
والجشع والكلام الباطل إرادته. نقرأ في وصية نفتالي: «لا تعجلوا بإفساد أعمالكم بالجشع، ولا تضللوا نفوسكم بالكلام الباطل، لأن من يلتزم الصمت في نقاوة الفؤاد يحفظ مشيئة الله وينبذ مشيئة بلعار.» وفاعلو الشر هم أداة الشيطان بهم ينفذ مآربه. نقرأ في وصية نفتالي أيضا: «فإذا سعيتم في الخير يا أولادي يبارككم الناس والملائكة ويهرب الشيطان عنكم. ومن يسع في الشر يلعنه الناس والملائكة، ويتملكه الشيطان فيجعله أداة له.» وبلعار سيد عالم الظلمات: «فإن الرب سيكون في النور معكم وبلعار سيكون في الظلام» وصية لاوي. وأيضا: «إن الأمر بيدكم أنتم لاختيار النور أو الظلمات، شريعة الرب أو أعمال بلعار» وصية يوسف.
ويقدم يساكر في وصيته الوصفة الأخلاقية التي لا تترك لبلعار سلطة على الأبرار: «لقد بلغت من العمر مائة واثنين وعشرين سنة ولم أقترف خطيئة، لم أعرف امرأة غير زوجتي ولم أفسق بنظرة شبقة، لم أشرب الخمر حتى الثمالة، لم أطمع بممتلكات جاري، لم يكن ثمة غش في قلبي، لم يجر الكذب على لساني، بكيت وتألمت مع كل إنسان مقهور، شاركت الفقراء خبزي، ولم آكل وحدي، كنت ورعا ومستقيما كل حياتي، أحببت الرب بكل قوتي، وأحببت كل إنسان كحبي لأولادي. فافعلوا هذا يا أولادي وسيهرب كل روح لبلعار بعيدا عنكم، ولن يكون لشر مخلوق سلطان عليكم.»
أما عن الوعود الآخروية وخاتمة الأزمنة وظهور المخلص، وهي الموضوعات التي تفيض بها وصايا الأسباط، فإن الوصايا تستخدم عددا من الأفكار والصور المتكررة مع تنويعات خاصة بكل وصية. ويلفت نظرنا بشكل خاص توكيد مؤلف (أو مؤلفي) الوصايا على مساواة الأمم والشعوب أمام الرب في يوم الدينونة، وتجاوزه لشوفينية الخطاب التوراتي. نقرأ في وصية شمعون: «عندها ستهدأ الأرض كلها من اضطرابها، ويرتاح كل من تحت السماء من الحروب، عندها سيمجد سام، لأن الرب الإله، عظيم إسرائيل، سيظهر على الأرض في شكل إنسان، وينقذ بنفسه آدم، عندها سيتم تسليم أرواح الضلال جميعها لكي تداس بالأقدام، ويسود البشر على الأرواح الشريرة، عندها سأبعث في سعادة وأبارك العلي لأجل عجائبه، لأن الرب اكتسى جسدا وتناول طعاما مع الناس وخلص البشر.»
17
ونقرأ في الوصية نفسها عن مسيحين لا مسيح واحد، الأول مسيح سياسي يأتي من نسل يهوذا ، والثاني مسيح روحي يأتي من نسل لاوي: «والآن يا أبنائي، أطيعوا لاوي ويهوذا ولا تعلوا أنفسكم فوق هاتين القبيلتين، لأن الرب سيبعث من لاوي كاهنا أعظم ومن يهوذا ملكا، هو إله وإنسان، وهو الذي سيخلص الأمم ويخلص شعب إسرائيل.»
وفي وصية لاوي نقرأ عن المسيح الذي سيأتي من نسل لاوي، وذلك في خطاب الرب إليه في الرؤيا: «... ثم غلبني النوم، فرأيت جبلا عاليا ورأيت نفسي على ذروته، والسماوات انفتحت وملاك من عند الرب تكلم معي وقال: لاوي، ادخل. فعرجت إلى السماء الأولى حيث رأيت مياه الأعالي معلقة، ثم عرجت إلى السماء الثانية فرأيتها أشد لمعانا وأكثر بريقا ولم يكن لارتفاعها من نهاية. فقلت للملاك: لماذا هي على هذه الحال؟ فقال لي: لا تعجب لما رأيت، لأنك سترى سماوات بعدها أشد منها لمعانا وأكثر بريقا، وعندما ترتقي إلى هناك فإنك ستقف قريبا من الرب، وتكون كاهنا له، وستنبئ بأسراره البشر، ستعلن لهم عن الذي يوشك على تحرير إسرائيل. فمن خلالك وخلال يهوذا سيتراءى الرب للبشر، ويخلص بنفسه كل أعراق البشر.» وأيضا: «نجمه سيسطع في السماء مثل ملك، فيشعل نار المعرفة مثلما تضيء الشمس النهار، ويمجده العالم أجمع، سيشع مثل الشمس على الأرض، وسيمحو الظلمات كلها تحت السماء، فيحل السلام على الأرض، وتتهلل السماء في أيامه وتبتهج الأرض، سيفتح بوابات الفردوس، ويزيل السيف الذي يحرسه منذ خروج آدم. سيعطي الأبرار ليأكلوا من شجرة الحياة، ويحل عليهم روح القداسة، سيقيد بلعار بالأغلال ويعطي لأبنائه السلطة على وطء الأرواح الشريرة بأقدامهم، وسيفرح الرب بأبنائه إلى الأبد. والآن يا أبنائي، بعد أن سمعتم كل ما قلت، لكم أن تختاروا بين النور أو الظلمة، بين شريعة الرب أو أعمال بلعار.»
وفي وصية يهوذا نقرأ تعليما عن ثنوية الخير والشر في النفس الإنسانية مشابها لما قرأناه في وصية أشير: «فافهموا يا أبنائي أن هنالك روحين مسخرين للبشر، روح الحق وروح الضلال، وبينهما الوعي الصاحي الذي يميل وفق إرادته إلى هذا أو إلى ذاك. إن أعمال الحق وأعمال الضلال مسجلة في ضمير الإنسان والرب يعلم بها، ما من لحظة تخفى فيها أعمال الإنسان لأنها مكتوبة على القلب ومكشوفة أمام الرب، كما أن روح الحق يشهد على كل شيء، ويوجه الاتهامات بحق المخطئ الذي ينهشه ضميره فلا يجرؤ على رفع بصره إلى قاضيه.»
وعن المسيح الذي سيظهر من سبط يهوذا نقرأ في الوصية نفسها: «لأجلكم سوف يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم رجل من نسلي مثل شمس العدل، سائرا مع الناس باللطف والعدل، ويكون مطهرا من الخطيئة، ستفتح السماوات من فوقه ويحل عليه الروح بركة من الأب القدوس ويسكب روح النعمة عليكم، ستكونون أبناء في الحقيقة، وتعملون بتعاليمه الأولى وتعاليمه الأخيرة. إنه غصن الرب العلي، إنه نبع الحياة للبشرية، عندها سيتألق صولجان ملكي بواسطته، ومن جذركم سيطلع، ومن الغصن سيطلع قضيب العدل من أجل الشعوب، فيحاكم وينقذ كل الذين يذكرون الرب
18
فيكونون شعبا واحدا للرب، ولغة واحدة لجميعكم، وستختفي روح بلعار المضلة لأنه سيرمي إلى النار الأبدية. الذين ماتوا في الحزن سيقومون في الفرح، والذين ماتوا في الفقر لأجل الرب سوف يبعثون في الغنى، والذين هلكوا في سبيل الرب سيستيقظون إلى الحياة. أيائل يعقوب سوف تجري في فرح، ونسور إسرائيل ستطير في حبور، ولكن الخطأة سيبكون، والمذنبين سينوحون، وستمجد الأمم كلها الرب إلى الأبد.»
ونقرأ في وصية زبولون: «بعد ذلك سوف يتجلى لكم الرب نفسه، نور العدل، وفي جناحيه الشفاء والرحمة، فيحرر من بلعار أبناء البشر الأسرى ويطأ كل أرواح الضلال، ويهدي كل الأمم فتخلص له. سترون الرب في هيئة إنسان يختاره الرب ويظهر اسمه في أورشليم.»
ونقرأ في وصية دان: «... لهذا عندما تفيئون إلى الرب يرحمكم ويقودكم إلى مقدسه ويحل سكينته عليكم، ومن يهوذا ولاوي سيظهر لكم خلاص الرب. سوف يحارب بلعار ويتيح نصر النقمة والعقاب، سوف يستعيد من بلعار أرواح القديسين الأسيرة، ويهدي قلوب العصاة إلى الرب ويهب السلام الأبدي للذين يدعونه. القديسون سوف يرتاحون في عدن، والأبرار ينعمون بأورشليم الجديدة التي ستخصص إلى الأبد لتمجيد الرب. لن تقع أورشليم ثانية فريسة للخراب، ولن تقاد إسرائيل ثانية إلى المنفى، لأن الرب سيكون بين ظهرانيها يقيم مع الناس، ويحكمهم بالتواضع والفقر. سيعلو اسمه في كل مكان من إسرائيل وتعرفه الأمم والشعوب باسم المخلص.»
ونقرأ في وصية نفتالي: «مروا أولادكم أن يتحدوا بيهوذا ولاوي، لأنه من يهوذا سوف يظهر خلاص إسرائيل، وبه سيبارك يعقوب. من خلال قوة ملوكيته سيظهر الرب ويقيم على الأرض بين الناس، فيخلص نسل إسرائيل ويجمع إليه الأبرار من بين الأمم.»
ونقرأ في وصية يوسف: «ورأيت أنه من يهوذا قد حبلت عذراء ترتدي ثوبا من الكتان، ومنها ولد حمل لا شية فيه، عن يساره وقف كائن يشبه الأسد، هجمت عليه الحيوانات المتوحشة كلها، ولكن الحمل هزمها جميعا ووطأها بقدمه، فابتهجت به الملائكة والأرض والبشرية. هذه الأمور ستحصل أوقاتها في الأزمنة الأخيرة. وأما أنتم يا أبنائي، فاحفظوا وصايا الرب وبجلوا لاوي ويهوذا، لأنه من صلبهما سيأتي حمل الرب الذي سيمحو خطايا العالم ويخلص الأمم كلها ويخلص إسرائيل، لأن ملكه يكون ملكا أبديا لا ينقضي.»
ونقرأ في وصية بنيامين: «احفظوا يا أولادي وصايا الرب حتى يظهر خلاصه للأمم كلها. عندها سترون أخنوخ وشيت وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وقد بعثوا على الميمنة
19
مستبشرين، عندها سنبعث نحن أيضا كل في سبطه ساجدين للملك السماوي، سيبعث الجميع، وسيحاكم الرب إسرائيل أولا من أجل خطاياهم ثم يحاكم الأمم كلها، وسيقاضي إسرائيل على يد الذين اختارهم من الأمم ... لن أدعى بعد اليوم بالذئب الكاسر بسبب تعدياتكم، بل فاعلا أدعى، فأوزع الطعام على فاعلي الخير. وفي آخر الزمان سوف يظهر من نسل يهوذا ولاوي محبوب الرب، الذي يعمل لمرضاته بكلام فمه فينير الأمم كلها بمعرفة جديدة.» (2-3) نصوص قمران
نصوص قمران، أو مخطوطات البحر الميت ، هي مجموعة لفائف عثر عليها تباعا منذ عام 1947، في عدد من المغاور الواقعة في المنطقة الصخرية الوعرة المنحدرة نحو الشاطئ الغربي الأعلى للبحر الميت، ويبدو أن هذه اللفائف قد خبئت هنا حفظا لها من الضياع خلال الحملة الرومانية على أورشليم عام 70 ميلادية ، وهي الحملة التي أدت إلى تدمير الهيكل تدميرا كاملا، ويمكن تقسيم هذه اللفائف إلى ثلاثة أنواع حسب موضوعاتها: فلدينا أولا نصوص توراتية بعضها كامل تقريبا مثل سفر إشعيا وبعضها مجتزأ بسبب تلف اللفيفة. ولدينا ثانيا شذرات من النصوص المنحولة. ولدينا ثالثا نصوص قمرانية خاصة بهذا الموقع. وقد أرجع الباحثون تاريخ اللفائف إلى الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثاني قبل الميلاد وأواسط القرن الأول الميلادي.
لقد ساد الاعتقاد زمنا بأن نصوص قمران هي من إنتاج فرقة يهودية معروفة بالفرقة الأسينية، وهي ملة يهودية عاصرت خلال القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد الملتين الصدوقية والفريسية، وظن الدارسون الأوائل أن الأسينيين كانوا يقيمون في الموقع الأثري المعروف اليوم بخربة قمران، وهو بقايا قلعة قديمة تتحكم في الشواطئ الشمالية الغربية للبحر الميت حيث وجدت النصوص. ولكن بعض الدراسات الحديثة قد بدأت تتحدى هذا الرأي، وتنفي وجود صلة بين نصوص قمران والملة الأسينية.
20
وإني إذ أتبنى هنا هذا الرأي، فإني أقدم نصوص قمران باعتبارها جزءا من الحركة الأشمل للفكر المنحول دون خصها بفرقة يهودية معينة.
لا تنتمي نصوص قمران إلى الاتجاه الراديكالي في الفكر المنحول، لأنها بقيت تراوح عند التصورات التوراتية الرسمية التي تجعل من نهاية الأزمنة عصر انتصار لإسرائيل على أعدائها من الأمم جميعها دون استثناء، وترى في خلاص الرب خلاصا لبني إسرائيل وحدهم، ولكن هذه النصوص قد قدمت مساهمتين رئيسيتين في موضوعات الفكر المنحول: أولاهما فكرة ثنائية الخير والشر المتأصلة في صميم خلق الله. والثانية حرب الأزمنة الأخيرة بين المؤمنين والكفار. والمؤمنون هنا هم حصرا بنو إسرائيل المدعوون بأبناء النور، أما الكفار فهم حصرا بقية الأمم أبناء الظلام وأتباع الشيطان بليعال.
في المخطوط الذي أطلق عليه الباحثون الأوائل اسم «نظام الجماعة» لدينا تعليم أساسي يتعلق بثنوية الخير والشر:
21 «من إله المعرفة يصدر كل ما هو كائن وما يكون. قبل أن تكون الكائنات صممها، وحين تكون فبحسب أنظمتها وبحسب مخططه المجيد تتم علمها ولا تبدل فيه شيئا. في يده نواميس جميع الكائنات وهو الذي يسندها في جميع حاجاتها، وهو الذي خلق الإنسان ليكون سيدا على الأرض.» «وأعد للإنسان روحين ليمشي فيهما إلى يوم الافتقاد هما روح الحق وروح الضلال. في ينبوع النور أهل الحق وفي ينبوع الظلمة أهل الضلال. في يد أمير الأنوار سيادة على جميع أبناء البر فهم في طريق النور يسيرون، وفي يد ملاك الظلمة سيادة على جميع أبناء الضلال فهم في طريق الظلمة يسيرون، (ولكن) بسبب ملاك الظلمة يضل أبناء البر (أيضا)، فكل آثامهم وخطاياهم ومعاصيهم هي نتيجة سيادته، حسب أسرار الرب حتى الزمن المحدد، وكل الضربات التي تصيبهم وكل أوقات ضيقهم هي نتيجة سيادة بغضه، كما أن الأرواح كلها والتي هي من نصيبه (= الشياطين) تجعل أبناء النور يعثرون، لكن إله إسرائيل وملاك حقه يعينون أبناء النور.» «أجل. هو الذي خلق الروحين، روح النور وروح الظلمة، وعلى هذين الروحين أسس كل عمله، وعلى مشورتيهما كل خدمة، وعلى طريقيهما كل افتقاد. واحد منهما يحبه الرب مدى الأجيال ويرتضي بعمله إلى الأبد، والآخر يمقت مشورته وإلى الأبد يبغض طرقه جميعها، وهاكم طرق هذين الروحين في العالم. روح الحق هو الذي ينير قلب الإنسان ويمهد أمامه كل طرق البر الحقيقي ويجعل في قلبه مخافة أحكام الرب ... أما روح الضلال فقيه الطمع والتهرب من البر وفيه الكذب والكبرياء ...» «في هذين الروحين تمضي جميع أجيال بني البشر، وفي هاتين الطبقتين تتوزع جيوشهما من جيل إلى جيل وتسير. كل جزاء أعمالهم يتم بهاتين الطبقتين بحسب ما قسم لكل واحد، أكان كثيرا أم قليلا على مر العصور. ذلك أن الرب قد رتب هذين الروحين في أجزاء متساوية إلى الحد الأخير، وجعل بغضا أبديا بين طبقتيهما، فحمية القتال تجعل الواحد يعارض الآخر في جميع أوامرهما لأنهما لا يسيران معا.» «أما الرب، وفي أسرار عقله ومجد حكمته، فقد وضع حدا لوجود الضلال، وهو سيزيله بشكل كامل في ساعة الافتقاد، وحينئذ يظهر الحق بشكل نهائي في العالم، حينئذ ينظف الرب بحقه أعمال كل فرد، وينقي جسد كل إنسان فيزيل روح الضلال كله من أعضائه، ويطهره بروح قداسته من أعمال الكفر، ويفيض عليه روح الحق مثل ماء التطهير، وهكذا تنتهي كل أرجاس الكذب وينتهي كل تنجيس بروح النجاسة ...» «حتى الزمن الحاضر يتحارب روحا الحق والضلال في قلب كل إنسان، والناس يسيرون في الحكمة والجهالة، كل منهم يبغض الضلال بقدر قسمته في الحق والبر، أو يمقت الحق بقدر ميراثه في حصة الضلال. فالرب قد رتب هذين الروحين في قسمين متساويين حتى الحد الحاسم، حد «أو ميعاد» التجدد، وهو يعرف جزاء أعمال هذين الروحين على مدى الأزمنة، وقد وزعهما بين أبناء البشر لكي يعرفوا الخير ويعرفوا الشر، وهكذا تعطى قسمة كل حي بحسب روحه حتى يوم الدينونة والافتقاد.»
في المخطوطة الأخرى التي اخترنا عرضها هنا وهي مخطوطة «نظام الحرب» أو «حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام»، نجد أن الصراع بين روح الشر بليعال وروح الخير ميخائيل رئيس الملائكة، يدوم إلى أن يحين يوم الفصل العظيم بين الخير والشر. في ذلك اليوم يجتمع المؤمنون، وهم حصرا بنو إسرائيل، في حشد واحد لشن الهجوم على الكفار من أتباع بليعال، وهم بقية أمم الأرض، وتحدث المعركة النهائية الفاصلة. وفيما يأتي مقتطفات من هذه المخطوطة: «لقد بدأ تسلط أبناء النور على حزب أبناء الظلام، على جيش بليعال، على زمرة آدوم ومؤاب وبني عمون، وجمهور أبناء المشرق وفلسطيا، وضد زمرة كتيم، على آشور وشعبهم الذين جاءوا لمعونة الكفار الذين تجاوزوا العهد. إن أبناء لاوي وأبناء يهوذا وأبناء بنيامين والمنفيين في البرية يقاتلون ضدهم» «... تهيأ الحرب خلال ست سنوات، وكل الجماعة تهيئها معا. وتكون الحرب على مراحل تمتد على السنوات التسع والعشرين الباقية. في السنة الأولى يقاتلون آرام نهاريم. في السنة الثانية أبناء لود. في الثالثة يقاتلون ما تبقى من آرام وعوص وتوجر ومشا الذين في عبر الفرات ... إلخ.» «وتعسكر كل فرق المقاتلين تجاه ملك كتيم، وتجاه كل جيش بليعال المجتمع لديه ليوم الفناء بسيف الرب، ويقف رئيس الكهنة ويقرأ على مسامعهم صلاة زمن الحرب ويبدأ كلامه قائلا : تقووا، تشجعوا ... لا ترتدوا أمامهم لأنهم جماعة كفر وكل أعمالهم هي في الظلمة ... اليوم موعد الحرب من قبل الرب على كل مجموعة بليعال، وموعد غضب على كل بشر. فإله إسرائيل يرفع يده القديرة العجيبة ضد كل أرواح الكفر، وكل جبابرة الآلهة يشدون أحقاءهم للحرب، وتشكيلات القديسين تجتمع ليوم الرب، إلى أن يزول كل المكرسين لبليعال، لأن إله إسرائيل قد دعا السيف ضد جميع الأمم، وهو يبسط قوته بواسطة قديسي الشعب.»
بعد وصف مطول لتشكيلات القتال وأساليب الكر والفر، يتم القضاء على جيوش الأمم ويرفع المنتصرون صلاة شكر هذه خاتمتها: «افرحي جدا يا صهيون، وابتهجي يا كل مدن يهوذا وافتحي أبوابك على الدوام لتدخل إليك ثروات الأمم، وليخدمك ملوكها ويسجد أمامك كل جلاديك ويلحسوا تراب قدميك. يا بنات شعبي اهتفن هتاف الفرح، وتزين بزينة المجد، وتسلطن على ممالك الشعوب. هكذا يكون الملك للرب ولإسرائيل مملكة أبدية.» (3) سفر أسرار أخنوخ
يدعى هذا الكتاب أيضا بسفر أخنوخ الثاني، وهو يتميز عن سفر أخنوخ الأول بتركيزه على الموضوعات اللاهوتية المتعلقة بالبدايات، في مقابل تركيز أخنوخ الأول على موضوعات التاريخ، وهو يتوسع بشكل خاص في مسألة سقوط إبليس وتحوله إلى روح متمردة شريرة، بعد أن كان رئيسا لطبقة عليا من الملائكة. كما يتوسع في مسألة خلق الإنسان الأول وسقوطه، ودور إبليس في تزيين المعصية له، وهنالك وصف لأحوال السماوات السبع ولأهوال الجحيم ومتع النعيم. النص متوفر فقط باللغة السلافية، ويبدو من أسلوبه أن هذه النسخة السلافية هي ترجمة مباشرة عن اليونانية. أما عن زمن تدوينه فإن الباحثين مختلفون في ذلك، فبينما يرجح بعضهم أن تدوينه قد تم في زمن ما من القرن الأول قبل الميلاد على يد يهودي هلنستي من الإسكندرية، فإن البعض الآخر يرى فيه نتاجا لعملية تحريرية طويلة أدخلت على النص القديم تعديلات وإضافات خلال بضعة قرون.
ينتمي النص إلى جنس الأدب الديني الرؤيوي، وفيه يتحدث أخنوخ بن يارد، السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، عن رؤيا نبوية عرجت به إلى السماوات وصولا إلى عرش الرب، وهناك استمع من فمه مباشرة إلى قصة الخلق والتكوين: «عندما كنت في سن الخامسة والستين بعد الثلاثمائة، وفي أحد أيام الشهر الثاني، كنت وحيدا في بيتي وأشعر بضيق عظيم، فرحت أبكي وأنتحب على وسادتي حتى غلبني النوم، عندها ظهر لي رجلان هائلان في الحجم لم تر عيني مثلهما على الأرض، كان وجهاهما يضيئان مثل الشمس، وعيونهما تتقد كمشعل، ومن فميهما تخرج النيران، وأذرعهما لها شكل أجنحة ذهبية. وقفا على رأس سريري وهتفا باسمي، عندها انتبهت من نومي وانتصبت واقفا فانحنيت أمامهما بعد أن سترت وجهي خوفا وفرقا. فقالا لي: تشجع يا أخنوخ ولا تخف، فنحن رسولان من عند الرب الأزلي. اليوم سترتفع معنا صعدا نحو السماء، فأخبر زوجك وأفراد أسرتك بما يتوجب عليهم فعله في البيت، وقل لهم ألا يبحثوا عنك حتى يعيدك الرب إليهم.»
22
بعد ذلك يرفع الملاكان أخنوخ على أجنحتهما ويرقيان به إلى السماء الأولى، وهناك يقوده الملاك المتصرف بشئون النظام النجمي فيريه مسالك النجوم ومداراتها ومعابرها، ويريه هنالك بحرا واسعا أكبر من بحار الأرض، ومئات من الملائكة ترف فوقه بأجنحتها، ويريه مخازن السحب والبرد والثلج والندى وعليها ملائكة يحرسونها، ثم يعود إليه الملاكان فيرقيان به إلى السماء الثانية، وهنالك يرى ظلمة مترامية في أعماقها ملائكة سود مقيدون بسلاسل وهم ينتحبون، فيسأل عنهم وعن سبب تعذيبهم، فيجيبه الملاكان بأنهم الملائكة العصاة الذين ساروا وراء كبيرهم، وهم الآن في انتظار الحساب الأخير. في السماء الثالثة يلج الملاكان بأخنوخ إلى جنة غناء يقوم على حراستها ثلاثمائة ملاك، فيها من كل شجر وثمر، وما لم تره عين ولا يستطيع كائن بشري وصفه. وفي وسط الجنة شجرة الحياة ونبعان يفيض منهما نهران من لبن وعسل ، ثم يتفرعان إلى أربعة روافد من زيت وخمر. إنها الميراث الأبدي للأبرار الذين ساروا في حياتهم أمام الرب بدون خطيئة، وطهروا أرواحهم من الشر، وأطعموا الجائع وألبسوا العريان، وأعانوا الأرملة واليتيم. في الجهة الأخرى من السماء الثالثة يقف الملاكان بأخنوخ على عتبة مكان مظلم مخيف تتأجج فيه نيران أبدية، ويقوم عليه ملائكة مخيفو الهيئة يحملون أدوات تعذيب مرعبة. إنه الميراث الأبدي للخطأة الذين اختاروا طريق الشر وعاكسوا إرادة الرب فسرقوا وقتلوا وحسدوا، وكدسوا الثروات على حساب الفقراء، وأجاعوا المسكين وظلموا الأرملة واليتيم.
في السماء الرابعة يرى أخنوخ الشمس والقمر ومساريهما، والنجوم الأربعة التي ترافق الشمس، وتحت كل واحد منها ألف نجم تابع له، وهنالك عشرات الألوف من الملائكة المعينين بشئونها، ومن وسط هذه السماء الرابعة تناهى إلى سمعه صوت جوقات الملائكة تسبح بحمد خالقها وتنشد على إيقاع المزامير والصنوج. في السماء الخامسة يرى أخنوخ الملائكة الساقطين المدعوين بالعمالقة، وهم أول زمرة من الملائكة تمردت على الرب وتبعت رئيسها المدعو «ساتانا إيل»، فأدارت وجهها عن نور الرب ثم أغوت بقية الملائكة الساقطين الذين رآهم في السماء الثانية، وكانوا في كرب عظيم وحزن عميق صامتين إلى نهاية الأزمنة عندما يحين يوم عقاب الرب. في السماء السادسة يرى سبع زمر من الملائكة هم الرؤساء الموكلون بشئون الأرض، فما من ظاهرة من ظواهر الطبيعة إلا وعليها ملاك حارس منهم، وبينهم من يسجل ويحصي أعمال البشر على الأرض، السيئة منها والحسنة، وكل هؤلاء يسبح بأنغام عذبة تتردد دوما تحت قدمي الرب الجالس في السماء السابعة.
عندما يصل أخنوخ إلى السماء السابعة، يرى العرش من بعيد وحوله طبقات الملائكة العليا من الكروبيم والسيرافيم وهم منشغلون بالإنشاد والتسبيح. هنا يقول له الملاكان بأن مهمتهما قد انتهت ويتركانه وحيدا، يسقط أخنوخ على وجهه لهول المشهد، ولكن الملاك جبرائيل يتقدم نحوه ويناديه قائلا: تقدم يا أخنوخ ولا تخف. قم معي إلى سدة العرش العظيم. ثم يتقدم إليه فيرفعه عن الأرض كورقة شجر عصف بها الريح ويضعه أمام وجه الرب . يأمر الرب أن يؤتى لأخنوخ بقرطاس وورق ومداد ليكتب كل ما رآه وكل ما سيسمعه من فم الرب، ليبلغه إلى أرواح البشر المعدة للأبدية من قبل أن يخلق العالم، ثم يقص عليه قصة الخلق والتكوين.
تتطابق قصة الخلق في سفر أخنوخ الثاني مع قصة الخلق التوراتية في خطوطها العامة، ولكنها تضيف إليها عنصرين جديدين: الأول هو خلق الملائكة في اليوم الثاني من أيام التكوين، والثاني عصيان الملاك الرئيس ساتانا- إيل وتمرده على ربه وتحوله إلى إبليس ورئيس للشياطين، إضافة إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان الأول في اليوم السادس. فلقد خلق الرب الملائكة من جوهر النار، وجعلهم في عشر طبقات لكل طبقة رئيس، ثم إن أحد رؤساء هذه الطبقات قد تصور في قلبه خطة مستحيلة، وهي أن يعلو فيصبح ندا للرب في القوة، فتمرد هذا الرئيس على خالقه ثم أغوى من تحته من الملائكة وزين لهم العصيان، ولكن الرب رماه من الأعالي مع ملائكته، ففقدوا بريقهم الإلهي وصاروا أرواحا متمردة شريرة تهيم فوق وجه الهاوية السفلى.
في اليوم السادس خلق الرب الإنسان من سبعة عناصر، فجعل لحمه من تراب الأرض، ودمه من الندى، وعينيه من الشمس، وعظمه من الصخر، وذكاءه من الغيوم ومن سرعة الملائكة، وشعره وأوردته من عشب الأرض، وروحه من نفس الرب ومن الريح، ودعا اسمه آدم، ثم أسكن الرب آدم في جنة زرعها على الأرض في عدن شرقا، ليرعى عهده ووصاياه، وأراه الطريقتين، طريق النور وطريق الظلام، وقال له هذا حسن وذاك سيئ، ومع ذلك فقد كان الخالق مطلعا على فؤاد آدم عارفا بطبيعته الخاطئة، فقال في نفسه: وهل بعد الخطيئة سوى الموت، ثم أوقع الرب سباتا على آدم وأخذ من أضلاعه واحدا وخلق منه زوجا له دعاه حواء. ولكن الشيطان تسلل إلى الفردوس وأغوى حواء وجعلها تخطيء ولكنه لم يقارب آدم.
23
وهنا يقول النص على لسان الرب: «فحلت لعنتي على الجهل، أما ما باركته سابقا فلم ألعنه، لا الإنسان ولا الأرض ولا بقية المخلوقات، وإنما أعمال الإنسان الشريرة. وقلت له إنك من تراب وإلى تراب الأرض التي أخذتك منها تعود. لن أهلكك وإنما سأبعدك عن المكان الذي أسكنتك فيه، ولسوف أضمك إلي في مجيئي الثاني. ثم باركت جميع مخلوقاتي المرئية منها وغير المرئية. وكانت فترة إقامة آدم في الجنة خمس ساعات ونصف. وباركت يوم السبت الذي فيه استرحت من جميع أعمالي، وجعلت اليوم الثامن رأس الأيام المخلوقة التي تلت أعمالي، وجعلت بعده سبعة آلاف سنة بعدد الأيام السبعة الأولى، وفي بداية الألف الثامن جعلت موعدا للأبدية، لزمان لا يقاس بالسنوات والشهور والأسابيع والأيام والساعات.»
بعد ذلك يأمر الرب أخنوخ أن يعود إلى الأرض ويخبر بما رآه عبر رحلته من السماء الأولى وإلى العرش العظيم، ويعطيهم ما سطره في كتابه ليتناقلوه من جيل إلى جيل. فيرجع أخنوخ ويبشر بين الناس ويعظهم بالحياة الأخلاقية السوية، لأنهم سوف يجدون أعمالهم الحسنة تنتظرهم يوم الحساب الأخير. وبعد أن ينتهي من مهمته يرسل الرب ظلمة على الأرض ويرفع أخنوخ إليه ليعيش خالدا في السماء. وعندما تنقشع الظلمة يتلفت الناس حولهم فلا يرون أخنوخ، وفي الموضع الذي كان واقفا فيه يرون لفافة كتب عليها: الله الخفي.
على هذه الصورة ينتهي أكثر أسفار الفكر المنحول راديكالية. وفي اعتقادنا، إن راديكالية هذا النص ومدى تناقضه مع الأيديولوجيا التوراتية، تجعل من تسميته بنص توراتي منحول تسمية اصطلاحية لا تتطابق مع مضمونه وطابعه الشمولي العالمي. فلقد انطلق الكاتب من مناخ توراتي ليضع خطوطا عامة لأيديولوجيا جنينية غير توراتية، سوف يكون لها أبعد الأثر على تطور الفكر الديني اللاحق. ولعل بعض نقاط الاختلاف التي نوردها فيما يأتي تبرر مقولتنا هذه: (1)
لا يدعى الإله هنا بإله إسرائيل لأنه إله شمولي عالمي. (2)
لا يوجد ذكر للشعب المختار ولا لإسقاطات مستقبلية على تاريخ بني إسرائيل. (3)
لا يؤكد الرب في وصاياه لأخنوخ على الشريعة، بل على السلوك الأخلاقي القويم. وفي الحقيقة فإن مفهوم الشريعة غائب تماما عن ذهن مؤلف النص. (4)
جميع أرواح البشر معدة للخلاص وللأبدية قبل خلق العالم. (5)
خلق الإنسان حرا ، وبين له الخالق منذ البداية طريق الخير وطريق الشر. كما أن عصيان الملاك الرئيس وبطانته يدل على أن الملائكة قد خلقت حرة من البداية أيضا. (6)
لا ينبع شر الإنسان من رغبته في إتيان الشر، بل من جهله؛ ولهذا لم يلعن الرب الإنسان ولا الأرض مثلما لعنهما في سفر التكوين، بل لعن الجهل وأعمال الإنسان الشريرة، ثم بارك جميع مخلوقاته. (7)
لا يؤسس يوم الدينونة لملكوت الرب على الأرض ولا لدولة إسرائيل الأبدية، بل هو يوم حساب لجميع بني البشر. (4) كتاب حياة آدم عندما امتنع إبليس عن السجود
كتاب «حياة آدم وحواء» نص متوفر باللغة اليونانية، إضافة إلى اللاتينية والسلافية. ويرجح الباحثون اعتمادا على الصيغ والتعابير والبنى اللغوية للنص اليوناني، أنه الأقدم بين النصوص المتوفرة بين أيدينا، وأنه ترجمة مباشرة عن نص عبري مفقود يعود تاريخه إلى زمن ما، بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي، بينما تم إنتاج النص اليوناني في زمن ما خلال القرنين الثالث والرابع الميلاديين. يروي هذا النص قصة حياة آدم وحواء بعد خروجهما من الفردوس، ويكتسب القسم الأول منه أهمية خاصة نظرا لتقديمه - لأول مرة في الفكر المنحول - قصة عن سقوط الملاك الرئيس بسبب عصيانه أمر الرب بالسجود لآدم، وهذه ترجمتي لهذا الجزء من النص.
24 «بعد طردهما من الفردوس صنعا لنفسيهما خيمة وجلسا ينوحان مدة سبعة أيام ويبكيان بأسى عظيم. بعد اليوم السابع أخذا يشعران بالجوع فراحا يفتشان حولهما عن شيء يأكلانه ولم يجدا. فقالت حواء لآدم: كم أنا جائعة يا سيدي. هلا ابتعدت وفتشت لنا عما يسد الرمق. ربما يشفق الرب علينا ويعيدنا إلى حيث كنا سابقا، فنهض آدم وراح يجول مدة سبعة أيام في الأرض، ولكنه لم يجد طعاما كالذي تناولاه في الفردوس، فقالت حواء لآدم: سيدي، هلا قتلتني لعل الرب إذا مت يعيدك إلى الفردوس، فأنا السبب في نقمته وغضبه عليك. فأجابها آدم: لا تتفوهي بمثل هذا الكلام لئلا نتلقى مزيدا من لعنات الرب، وكيف لي أن أتخلى عن جزء من لحمي ودمي ؟ من الأفضل لنا أن ننهض ونتابع البحث عن وسيلة للعيش ولا نتخاذل.» «مشى الاثنان مدة تسعة أيام يبحثان عن طعام، ولكنهما لم يجدا طعاما يشبه ما كانا يأكلانه في الفردوس، بل طعاما مما تأكله حيوانات الأرض. فقال آدم لحواء: لقد جعل الرب هذا الطعام نصيبا للحيوانات، بينما كنا نتناول هناك طعام الملائكة. من الأفضل لنا أن نبكي أمام الرب خالقنا ونعلن الندم والتوبة ونستغفر، لعله يسامحنا ويرأف بنا ويزودنا بأسباب الحياة. فقالت حواء: قل لي يا سيدي، ما هو الندم وكيف أستغفر، لكيلا يأتينا عكس مرادنا ويدير الرب وجهه عنا ولا يعير أذنا صاغية لصلاتنا. سيدي كم من الوقت يستغرقه استغفارك؟ فأنا من جلب عليك التعب والمشقة. فقال آدم: لن يكون بمقدورك القيام بما سأقوم به، بل ابذلي قدر استطاعتك. سوف أصوم لمدة أربعين يوما، أما أنت فامضي إلى نهر الدجلة وخذي لك حجرا قفي عليه في وسط الماء واغطسي إلى الرقبة فالبثي مدة سبعة وثلاثين يوما، بينما أغطس أنا في نهر الأردن أربعين. والزمي الصمت لأن شفاهنا التي تنجست بالأكل من الشجرة المحرمة غير جديرة بالتوسل إلى الرب. لعله بعملنا هذا يرحمنا ويرأف بنا.» «مضت حواء إلى نهر الدجلة وفعلت مثلما قال لها آدم، بينما مشى آدم إلى نهر الأردن وأخذ لنفسه حجرا وقف عليه في الماء الذي غمره إلى رقبته، ثم خاطب آدم نهر الأردن قائلا: هلا بكيت معي يا ماء الأردن، وجمعت مخلوقاتك السابحة حولي لتبكي معي، لتندبني لا لتندب نفسها، فأنا الذي أخطأ من دون مخلوقات الأرض، فهبت لفورها مخلوقات النهر وأحاطت بآدم وتوقف تيار الماء عن الجريان.» «بعد ثمانية عشر يوما وهما على هذه الحال، ثارت ثائرة الشيطان فاتخذ شكل ملاك وضاء، وجاء إلى نهر الدجلة بينما كانت حواء تبكي فوقف عندها وتظاهر بمشاركتها البكاء ثم قال: اصعدي من الماء وتوقفي عن البكاء، دعي عنك الحزن والتنهد. ما الذي يقلقك أنت وزوجك؟ لقد سمع الرب دعاءكما وقبل توبتكما، وكل الملائكة تشفعت عنده لكما، ولقد أرسلني لكي أصعدك من الماء وأقدم لك طعام أهل الفردوس مما كنت تطلبينه، فهلمي معي إلى حيث الطعام معد من أجلك. سمعت حواء كلام الشيطان وصدقته، فصعدت من الماء ولكنها سقطت أرضا لدى ملامستها الضفة، فأقامها الشيطان وقادها إلى آدم. فلما رآهما قادمين صرخ وانتحب وناداها قائلا: أين ذهب ندمك واستغفارك؟ وكيف وقعت ثانية تحت غواية عدونا الذي حرمنا مسكننا الفردوسي ومتعنا الروحانية؟ لسماعها نداء آدم انتبهت حواء إلى خديعة الشيطان، فسقطت على وجهها في التراب وتضاعف عويلها ونواحها وصرخت في وجه مرافقها: الويل لك أيها الشيطان، لماذا تهاجمنا دون سبب؟ ما الذي فعلناه حتى تلاحقنا دوما بالمكر والخديعة؟ ...» «فتنهد الشيطان وقال: إن كل عدائي وحسدي بسببك أنت يا آدم، بسببك أنت طردت وحرمت من مجدي في السماء بين الملائكة، بسببك، أنت رميت من الأعالي إلى الأسافل. قال آدم: ما الذي فعلته لك، وفي أي أمر لومك لي؟ لماذا تلاحقنا ولم نسبب لك ضرا ولا أذى؟ فأجاب الشيطان: عن أي شيء تتحدث يا آدم؟ بسببك أنت أخرجت من هنالك، وبعد خلقك أنت أبعدت من حضرة الرب وصحبة الملائكة. فعندما نفخ الرب في أنفك نسمة الحياة وتشكلت هيئتك على صورته، دعانا ميخائيل لكي نسجد لك في حضرة الرب الذي خاطبك بقوله: انظر يا آدم لقد صنعتك على صورتنا وشبهنا. ولقد دعا ميخائيل جمع الملائكة وقال لهم: اسجدوا لصورة الرب حسبما أمر، وكان ميخائيل أول الساجدين ثم دعاني إلى السجود قائلا: اسجد لصورة الرب يهوه. فأجبته: أنا لا أسجد لآدم. وعندما حثني على السجود قلت: لن أسجد لمن هو أدنى مني مرتبة، لقد خلقت قبله وعليه هو أن يسجد لي. ولما سمع الملائكة التابعون لي قولي، رفضوا السجود أيضا. ولكن ميخائيل تابع حثنا وقال: إذا لم تسجدوا سوف يصب الرب جام غضبه عليكم. فقلت له: إذا غضب الرب علي سوف أرفع لنفسي كرسيا فوق نجوم السماء وأصبح ندا للعلي. فلما سمع الرب قولي ثار غضبه علي وأنزلني من مرتبة المجد مع أتباعي، وطردنا من مقرنا الأعلى إلى الأرض، حيث لبثنا في حزن وأسى نندب مجدنا الضائع، وقد آلمنا أن نراك تنعم هنالك بالبركة والسرور، لذا فقد جئت زوجتك بالخديعة وأغويتها فجعلتها سبب فقدانك أفراح النعيم، مثلما فقدت بسببك مجدي العظيم.»
يتابع النص بعد ذلك سرد أخبار أسرة آدم وما جرى بين قابيل وهابيل وما جرى لبقية أولاد آدم إلى حين وفاته، وينتهي النص بمشهد موت آدم وتلقيه رحمة ربه ومغفرته: «ولسبعة أيام أظلمت الشمس وأظلم القمر والنجوم. وكان شيت يحتضن جسد أبيه، وحواء تشبك ذراعيها فوق رأسها المنكس والمستند على ركبتيها، وكل الأولاد يبكون بحرقة. وبينما هم على هذه الحال ظهر الملاك ميخائيل واقفا عند رأس آدم وخاطب شيت قائلا: انهض عن جسد أبيك وتعال إلي فأريك ماذا أعد الرب له، فلقد رحم الرب مخلوقه وتاب عليه، وعزف كل الملائكة بأبواقهم وأنشدوا: مبارك أنت أيها الرب الذي أشفق على مخلوقه. عندها رأى شيت ذراع الرب تمتد فتحمل آدم وتسلمه إلى ميخائيل وسمعه يقول: ليكن آدم في حرز لديك إلى يوم الدينونة في آخر الأزمان، عندما سأحول حزنه فرحا وأجعله يتربع على عرش من غلبه (= الشيطان).» (5) الهاجاده
نشأت على هامش التلمود «وهو المصدر الثاني للشريعة بعد التوراة» خلال القرون الأولى للميلاد مجموعة الأدبيات الدينية المعروفة باسم الهاجاده، أي رواية القصص. والاسم مستمد من أسلوب المؤلفين الذين استخدموا القصص المشبعة بالميثولوجيا، وذلك من أجل تقريب المعتقدات التلمودية إلى ذهن عامة الناس. فالهاجاده بالنسبة إلى التلمود تعادل الأسفار المنحولة بالنسبة إلى التوراة.
يعتبر النص الذي سأقدمه ملخصا فيما يأتي،
25
من عيون أدبيات الهاجاده، وهو يعالج موضوعات التكوين منذ خلق العالم إلى سقوط الإنسان، ويلفت نظرنا بشكل خاص تقديمه لعنصر جديد في قصة خلق الإنسان عندما قال الرب للملائكة إنه سوف يخلق الإنسان، واستمع لآرائهم التي تحذر من مغبة هذا العمل، لأنهم رأوا أنه سيكون ميالا إلى النزاع والقتال وممتلئا بالغش والخداع، كما أن النص ينسج على منوال كتاب حياة آدم في اعتبار السبب في سقوط إبليس رفضه السجود لآدم.
في البدء أوجد الرب سبعة أشياء قبل أن يخلق العالم وهي: (1) التوراة مسطرة بنار سوداء على نار بيضاء، ومستقرة في حضن الخالق. (2) العرش الإلهي. (3) الفردوس عن يمين العرش. (4) الجحيم عن يسار العرش. (5) الهيكل المقدس أمام العرش. (6) مذبح الهيكل. (7) جوهرة على مذبح الهيكل، محفور عليها اسم المسيا المخلص، وصوت يهدر قائلا: عودوا يا أبناء البشر. عندما أراد الرب خلق العالم تشاور مع التوراة بهذا الخصوص، أبدت التوراة شكها من جدوى خلق العالم الأرضي، لأن الناس سوف يشيحون فيه بوجوههم عن تعاليمها ويقعون في المعصية. ولكن الرب بدد شكوكها بقوله إنه قد أعد للبشر التوبة والغفران قبل خلقهم، وهيأ لهم سبل تصحيح سلوكهم، كما وأنه قد أعد الفردوس والجحيم لأجل الثواب والعقاب، وسمى المسيا من أجل تقديم الخلاص لجميع الخطأة.
تتابع بعد ذلك أعمال الخلق والتكوين وفق ترتيبها في سفر التكوين التوراتي، ولكن مع توسع وإسهاب وإدخال عناصر جديدة على القصة الأصلية. فالسماوات سبعا طباقا تتدرج من السماء الأولى التي تستند إلى الأرض عند الجهات الأربع، وحتى السماء السابعة التي تتصل بيدي الخالق. والأرضين سبعا طباقا أيضا، يفصل كل أرض عن الأخرى خمس طبقات فرعية. ثم جعل الرب الجحيم في الجهة الشمالية من الأرض وقسمه إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم. وقسم الدرجة إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الخطاة وفق ذنوبهم. وقسم الدرجة إلى سبعة أجنحة، والجناح إلى سبعة آلاف كهف، والكهف إلى سبعة آلاف حجرة، وفي كل حجرة سبعة آلاف عقرب، لكل عقرب منها ثلاثمائة شوكة، في كل شوكة سبعة آلاف جراب، ومن كل جراب يجري سبعة أنهار من السم، إذا مست قطرة منه جسم إنسان تفجرت أشلاؤه. وهناك أنهار من حمم تجري في كل مكان، وأنهار من قطران وإسفلت تغلي وتضطرم. وهناك خمسة أنواع من النيران وقودها قطع من الفحم بحجم الجبال، وهناك ملائكة العقاب موزعون في كل مكان.
وجعل الفردوس في الجهة الشرقية من الأرض، وقسمه إلى سبع درجات لكل درجة حصتها من الصالحين وفق صلاحهم. وجعل له بوابتين عليهما ألوف من ملائكة الرحمة. فإذا وصل واحد من أهل الجنة إلى البوابة، تقدم منه الملائكة فنضوا عنه حلة القبر وألبسوه عباءة من سحاب المجد، ووضعوا على رأسه إكليلا من لآلئ وأحجار كريمة ، وفي يده سبعة أغصان تفوح بأطيب روائح الجنة، ثم اقتادوه إلى مكان ربيع دائم وأنهار جارية من لبن وخمر وعسل. هناك شجرة الحياة التي تثمر سبعة عشر نوعا لكل نوع مذاق ورائحة خاصة، وتهب على الشجرة نسائم تحمل عبقها إلى أنحاء الفردوس جميعها، والتي يتوزع فيها ملائكة يغنون بأعذب الأصوات، وليس في المكان نور يأتيه من خارجه، لأن نوره مستمد من ضياء وجوه المؤمنين الذين تحولت هيئاتهم فصار أقبحهم يضاهي يوسف الحسن والجمال. وفي كل يوم يمر أهل الفردوس بأربعة تحولات، في الصباح يستيقظ واحدهم طفلا ليصير يافعا عند الضحى فرجلا ناضجا عند الظهيرة ليعود شيخا مع المغيب، وبذلك يتمتع ساكن الجنة بما يقدمه للإنسان كل طور من أطوار الحياة من متع وبما له من خصائص إيجابية.
بعد أن انتهى الرب من خلق السماوات وملائكتها والأرض وكائناتها، جاء دور الإنسان. وهنا يستطلع الرب رأي رؤساء الملائكة فيما هو مقدم عليه، فتأتي مشورتهم في غير صالح الإنسان، ورغم أن الرب لم يطلعهم إلا على نذر يسير مما وصل إليه علمه بشأن طبيعة المخلوق الجديد، فقد تنبأ بعضهم أنه سيكون ممتلئا بالغش والخداع ميالا إلى النزاع والقتال. ثم ينتهي الحوار بقول الرب لملائكته: ما نفع وليمة معدة بعناية فيها كل الطيبات وما من ضيف يتمتع بها؟ فيجيب الملائكة ليكن اسمك ممجدا في الأرض كلها ولتأت مشيئتك بما تراه مناسبا.
مد الرب يده واغترف من جهات الأرض الأربع أربع قبضات من التراب فعجنها وسواها إنسانا. فجاء آدم صنعة يد الخالق على عكس بقية المخلوقات ومظاهر الكون والطبيعة التي ظهرت بكلمة فمه، وذلك تكريما له وإعلاء لشأنه، ثم نفخ الرب في أنف آدم من روحه الأزلية فصار نفسا حية. وبذلك غدا الإنسان أول خلق الرب في ترتيب الظهور بدل أن يكون الأخير، باعتبار ما لروحه من قدم هو قدم الروح الإلهية. ومع خلق روح آدم خلق الرب أرواح البشر المتسلسلين من صلبه إلى آخر الأزمان، وحفظها في مكان خاص من السماء السابعة، فمن مكانها سوف تهبط لتحل في الأجسام المخلوقة في الأرحام. وسيكون إذا حملت امرأة من نساء الأرض، جاءها ملاك الليل فأتي بحملها الذي لم تدب فيه الروح بعد إلى حضرة الرب ليقرر للكائن الجديد كل صفاته وخصائصه، عدا تلك المتعلقة بالخير والشر والتي تترك لخياره الحر في المستقبل، ثم يأمر بعد ذلك خازن الأرواح أن يأتيه بالروح التي اسمها كذا، فيأتيه بها وتؤمر أن تدخل في الحمل. ولكن الروح تسجد لخالقها وتتوسل إليه أن يتركها في حال القداسة الذي تعيش ويعفيها من النزول إلى الأرض. فيجيبها ربها إن المكان الذي ستمضي إليه أفضل من مكانها هذا، فتذعن الروح. بعد ذلك يأخذها ملاك فيطوف بها ويطلعها على الفردوس ويقول لها إن مأواها سيكون هنا إذا عملت صالحا، ثم يطلعها على الجحيم ويقول لها إن مأواها سيكون هنا إذا أساءت، ثم يجول بها أرجاء الأرض فيريها أين ستولد وأين ستعيش وأين ستموت وتدفن، بعد ذلك يعيدها إلى الرحم. وبعد تسعة أشهر يأتيها الملاك نفسه ليقول إن وقت خروجها قد حان، فتتمنع الروح وتقاوم، فيقول لها: لم يكن لك خيار في خلقك، ولن يكون لك خيار في ولادتك ولا في موتك ثم مثولك أمام الملك القدوس لتحاسبي على ما قدمت يداك. وعندما تمعن الروح في المقاومة ينقف الملاك الجنين على أنفه ويدفع به خارجا وقد نسي ما رأته روحه وما تعلمته.
لقد خرج آدم من يد الخالق إنسانا تام التكوين في العشرين من عمره، كاملا في مواصفاته الجسدية والخلقية، فأسكنه الرب في الجنة التي غرسها في عدن شرقا ليحفظها ويرعاها، لا بواسطة عمله الجسدي، بل من خلال دراسته للتوراة والتزامه وصايا ربه الأخلاقية، ولكي يثبت الرب لملائكته تفوق آدم عليهم، فقد جمع حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجا زوجا، لينبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا، ثم عرضها على آدم بعد أن علمه أسماءها وحيا، فسماها آدم بأسمائها. فلقد كان آدم نبيا وحكمته من حكمة الأنبياء. ونلاحظ هنا الإضافة المتميزة التي قدمها كاتب النص، والتي تتمثل في عنصرين: الأول تحدي الرب للملائكة أن ينبئوه بأسماء كائنات الأرض، والثاني تعليمه الأسماء لآدم وحيا قبل أن يدعوه إلى عرض علمه على الملائكة وإثبات تفوقه عليهم. وهذان العنصران غائبان عن القصة التوراتية، حيث نقرأ في سفر التكوين، 2: 19-20: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.»
عقب ذلك أمر الرب كل الملائكة أن يسجدوا لآدم فعلوا وعلى رأسهم ميخائيل، الذي كان أول الساجدين لكي يضرب مثلا للآخرين في الطاعة والخضوع للأمر الإلهي. ولكن الملاك الرئيس ساتان الذي أضمر الغيرة والحسد لآدم، رفض السجود قائلا: لقد خلقتنا من ألقك وبهائك فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض. فأجابه الرب: ومع ذلك فإن تراب الأرض هذا يفوقك حكمة وفهما. وهنا تدخل ميخائيل وحث ساتان على الانصياع قائلا: إذا لم تبجل آدم وتخضع له، عليك أن تتحمل عواقب غضب الرب. فأجابه ساتان: إذا صب غضبه علي سأرفع عرشي فوق نجوم السماء وأغدو ندا للعلي. لما سمع الرب ذلك منه أمسك به ورماه خارج دائرة السماء فهوى باتجاه الأرض، وتبعه حشد كبير من الملائكة الذين شجعهم تمرده على إظهار ما كتموه في أنفسهم من حسد لآدم ورفض لسموه عليهم، ومنذ تلك اللحظة صارت عداوة بين الشيطان والإنسان.
يتابع الرب خطته في خلق الجنس البشري، فقد رمى سباتا على آدم وأخذ من أضلاعه واحدا صنع منه المرأة حواء. وكان لآدم وجهان قبل خلق المرأة فأعطى الرب واحدا للمرأة وترك له الآخر، ثم قال لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة عدا شجرة المعرفة لأنهما يوم يأكلان منها أو حتى يمسانها يموتان. وكانت شجرة المعرفة تحجب الطريق إلى شجرة الحياة القائمة في وسط الفردوس. وكان الأفعوان، أمير حيوانات البرية، صاحب حيلة وذكاء ودهاء وكان يمشي على ساقين منتصب القامة مثل الإنسان، ويماثله في كثير من خصائصه وصفاته . فحسد الأفعوان الإنسان وتمنى موته، فتسلل إلى الجنة واقترب من المرأة التي كانت تتمشى عند شجرة المعرفة وقال لها: أحقا قال الرب لا تأكلا من هذه الشجرة ولا تمساها كي لا تموتا؟ فقالت: نعم. فدفعها الأفعوان إلى جذع الشجرة فتمسكت به، وقال: لقد مسست الشجرة ولم يصبك ضر كذلك الأكل منها، لقد أكل الرب من ثمر هذه الشجرة قبل أن يخلق العالم، ولذا قد حرمها عليكما حتى لا تعمدا إلى خلق عوالم أخرى وتصيرا مثل الآلهة، ثم مد يده وأكل وأعطى المرأة فأكلت ثم مضت إلى زوجها فأطعمته وهو لا يدري أنه قد تناول من الشجرة المحرمة.
يتابع النص بعد ذلك سرد تنويعاته الخاصة على خاتمة القصة التوراتية، التي تتضمن عقاب الإنسان وطرده إلى الأرض التي جبل منها ليتعب فيها ويكد ويأكل بعرق جبينه، حتى يحين موعد اليوم الذي يقدم فيه كشفا كاملا بأعماله أمام خالقه. وقد جرى طرد آدم من الفردوس بعد اثنتي عشرة ساعة من خلقه، في الساعة الأولى من النهار السادس عزم الرب على خلق الإنسان. وفي الثانية تشاور مع ملائكته في الأمر. وفي الثالثة قبض أربع قبضات من تراب الأرض. وفي الرابعة عجن الطين وشكله جسدا. وفي الخامسة كسا الجسد جلدا، وفي السادسة اكتمل آدم جسدا بلا روح. وفي السابعة نفخ في أنفه من روحه. وفي الثامنة أسكنه الجنة. وفي التاسعة أمره ألا يقرب الشجرة. وفي العاشرة عصى أمر ربه. وفي الحادية عشرة حاكمه. وفي الثانية عشرة طرده إلى الأرض.
خلاصة
لا ينتظم الفكر المنحول ضمن رؤية أيديولوجية واحدة، فنحن هنا ما زلنا في فترة مخاض للفكر التجديدي قدم من خلالها كل مؤلف رؤياه الخاصة لجانب من جوانب التجديد لم ترق إلى مستوى تكوين رؤيا عامة متماسكة تطال كل ناحية من نواحي العقيدة. من هنا فقد تفاوتت المواقف بين الالتزام بالخطوط العامة للأيديولوجيا الرسمية، وبين الخروج عليها وتجاوزها نحو الآفاق الشمولية للثقافة الهلينستية السائدة في المنطقة. ورغم أننا لم نقدم في هذا الفصل إلا غيضا من فيض الفكر المنحول،
26
إلا أن أمثلتنا المنتقاة كانت كافية على ما نرجو لإعطاء فكرة عن مضمونه وتوجهاته العامة، لا سيما فيما يتعلق بالاتجاه الراديكالي الذي تجاهلته اليهودية التلمودية، وكان له بالمقابل أثر كبير على تشكيل الفكر المسيحي.
لقد ميز الفكر المنحول نفسه عن الأيديولوجيا التقليدية عندما أدخل فكرة الشيطان الكوني على الرؤيا التوراتية للتاريخ. ذلك أن الشيطان المجسد لمبدأ الشر هو الذي يعطي الإله الأوحد صفة الخير المحض، والخير المحض لا يمكن أن ينتج الشر أو يكون مسئولا عن وجوده. فالاتجاه الراديكالي في الفكر الجديد ينسج على منوال الفكر الزرادشتي في تصوره للشر على أنه نتاج للحرية التي زرعها الله في خلقه من الملائكة والناس، فلقد قادت الحرية إلى عصيان إبليس عن سابق قصد وتصميم ومعرفة بعواقب العصيان، كما قادت الإنسان الأول إلى الخطأ عن غفلة منه وسذاجة. ولسوف يتابع إبليس عصيانه المتعمد إلى آخر الأزمان، ويمتحن الإنسان في عالم تتداوله قوة الشيطان المدمرة ويد الرحمن الممدودة دوما للرحمة والخلاص.
هذه الجدلية بين الرحمن والشيطان على مستوى الكون، وما يتصل بها من جدلية الخير والشر في النفوس الواعية، ما إن تتأسس في الأيديولوجيا الدينية حتى تنتقل بها من مفهوم التاريخ المفتوح إلى مفهوم التاريخ الدينامي. فالرحمن الذي سمح بوجود الشر لأنه أراد الحرية لخلقه، لن يكون راضيا عنه بل سيجهد للقضاء عليه ضمن مخططه الأصلي القائم على الحرية. سوف يتابع الشيطان خياره البدئي دون تدخل من الرحمن القادر على محقه متى شاء، أما الإنسان فسيتابع مسيرته الحرة دون خيار بدئي، لأنه لا يخطئ عن عمد وقصد في معارضة المشيئة الإلهية مثلما فعل الشيطان، بل عن جهل منه وحسن نية، وهو قادر دوما على إتيان الخير ومقاومة الشر. هذا الصراع على المستوى الميتافيزيكي وعلى مستوى الحياة النفسية والمجتمعية، سوف يقود الزمن إلى نهايته التي ستشهد اندحار الشيطان بعد أن تطغى عناصر الخير على عناصر الشر عبر الفترة الوسيطة من التاريخ، ويعود الوجود المادي والإنسان إلى حالة الكمال الأولى. إن المخلص المنتظر ليس إلا صورة عن ضمير الجماعة الإنسانية بأسرها، وليس انتصاره على الشيطان في آخر الأزمان إلا تعبيرا عن نجاح الإنسانية في تنقية نفسها واستعادة صورة آدم قبل سقوطه وانقياده للشيطان. إن ظهور الرب نفسه كمخلص على هيئة إنسان، أو إرساله للمسيا الذي أعده للمهمة منذ البدء، في هيئة إنسان، هو دلالة رمزية سيكولوجية تفيض بالرغبة في انتصار الروح الإنسانية وبلوغها كمال البدايات. لهذا يدعى المسيا المخلص بابن الإنسان مثلما يدعى بابن الله أيضا، فهو الإنسان الكامل، والمثال الآدمي الأسمى الذي بقي أمينا لجوهره كأعلى المخلوقات مرتبة. وبنوته لله مثل بنوة آدم، كلاهما من روح الخالق. ولكن بينما ترتب على آدم أن يعاني وطأة التاريخ وجوره ليطهر نفسه من عناصر الشر، فإن نموذجه الكامل قد بقي مع الله في كمال البدايات، في انتظار الساعة التي يصل فيها الزمن إلى النهايات.
لم يحدث الفكر المنحول انقلابا جوهريا في الفكر اليهودي الذي تابع مسيرته التلمودية غير آبه لما يجري حوله، ولكن هذا الفكر قد قدم الخميرة التي ستتفاعل في عجينة الفكر المسيحي خلال القرون الأولى للميلاد، والذي سيتجاوز الفكر التلمودي والفكر المنحول على حد سواء نحو آفاق إنسانية رحبة، لم يكن الأول مؤهلا لارتيادها بسبب تركته التوراتية الثقيلة، مثلما لم يكن الثاني بسبب تقصيره عن تقديم بديل إيديولوجي متسق ومتكامل.
قبل أن ننتقل إلى معالجة المفهوم المسيحي للثنوية وللتاريخ، سوف نتوقف في الفصل القادم عند الفكر الغنوصي، الذي قدم خلال القرون الأولى للميلاد أهم نقد جذري للمعتقد التوراتي، معتبرا إياه جملة وتفصيلا من نواتج عبادة الشيطان الذي هو يهوه بالذات، إله اليهود.
الفصل السابع
يهوه: شيطان الغنوصية
في الوقت الذي كان فيه مؤلفو الأسفار التوراتية المنحولة يعملون على إحداث تغييرات أساسية في الأيديولوجيا التوراتية، مع الحفاظ على جوهرها إلى هذا الحد أو ذاك، كان الغنوصيون يؤسسون لتيار روحي جديد يقوم على نقد جذري لليهودية وللمسيحية اليهودية على حد سواء. نشأ هذا التيار في الإسكندرية ثم امتد إلى سورية وبلاد الرافدين، وساهم في إغنائه عدد من المعلمين الكبار من أمثال فالنتينوس وباسيليديس وبتولمايوس. ولقد نافست الغنوصية في كل مكان المسيحية خلال القرون الأولى للميلاد، وشكلت تهديدا حقيقيا للكنيسة الناشئة قبل أن تتلاشي إثر حملة قمع شاملة قادتها الكنيسة في القرن السادس الميلادي، وقد أدت هذه الحملة التي طالت الأشخاص والكتب إلى إتلاف معظم المخطوطات الغنوصية، وأما ما تبقى منها فقد ضاع أثره تدريجيا بعد فترة لا بأس بها من التداول السري، وذلك بسبب صعوبة إنتاج نسخ جديدة منه، لهذا فقد بقي المهتمون بالتأريخ للفكر الغنوصي يعتمدون على ما كتبه آباء الكنيسة، في معرض نقدهم للغنوصية وما أوردوه من مقتطفات أمينة من كتبها الأساسية. ولكن في عام 1945 تم اكتشاف مكتبة غنوصية بموقع نجع حمادي بمصر، احتوت على اثنين وخمسين مخطوطة مخبأة في جرار فخارية، أمكن إرجاع تاريخها إلى حوالي عام 400 ميلادية. وهذه المخطوطات عبارة عن ترجمة قبطية عن أصول يونانية. ومنذ عام 1964 عكف الباحثون على ترجمة هذه الثروة الفكرية الهامة، وصارت متاحة للقراء والاختصاصيين في مجلد واحد ضخم صدر بالإنكليزية بإشراف وتحرير
J. M, Robinson .
1
والغنوصية
Gnosticism
مشتقة من
Gnosis ، وهي كلمة من أصل يوناني تدل على المعرفة بشكل عام، ولها أشباه في بقية اللغات الهندو-أوروبية، مثل قولنا بالإنكليزية
Know
أي يعرف و
Knowledge
أي معرفة. على أن المعرفة التي تشير إليها المفاهيم الغنوصية هي أقرب إلى مفهوم «العرفان» بمصطلح التصوف الإسلامي، أي إنها فعالية روحانية تقود إلى معرفة الأسرار الإلهية من خلال تجربة باطنية تقود إلى الكشف والاستنارة. ففي مقابل التزام اليهودي بالشريعة وأدائه للطقوس، وفي مقابل إيمان المسيحي بيسوع المخلص، فإن الغنوصي ينكفئ على ذاته في خبرة عرفانية تقوده إلى معرفة الله الحي ذوقا وكشفا وإلهاما. هذه المعرفة هي وحدها الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه.
ولكن الله الحي الذي يبحث عنه الغنوصي في داخله، ليس الإله يهوه صانع هذا العالم المادي، بل الله العلي الذي يتجاوز ثنائيات الخلق ويسمو فوقها. فهم يعتقدون أن هذا العالم الناقص والمليء بالشرور ليس من صنع الله، بل من صنع إله أدنى هو إله التوراة، الذي يطابقون بينه وبين أنجرا ماينو شيطان الزرادشتية، ويدعونه بأمير الظلام وحاكم العالم المادي، ويصورونه على هيئة ملك متربع على عرش العالم يحيط به مساعدوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة «مفردها أركون أي الحاكم». هذا الإله الخالق هو نقيض إله الأنوار الأعلى الذي لا يحده وصف ولا يحيط به اسم، وهو يعمل دوما على حبس النور في طبقات المادة الكثيفة التي خلق منها العالم. وعندما جاء إلى خلق الإنسان في نهاية عمل التكوين، صنع جسمه من مادة الأرض الظلامية، ثم حبس روحه التي أخذها من نور الأعالي المسروق في ذلك الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة، التي تشغله عن العرفان واكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.
فيما عدا الغنوصية المانوية التي تحولت على يد معلمها «ماني» إلى ديانة مؤسساتية خلال أواسط القرن الثالث الميلادي، فإن الفكر الغنوصي لم يطور أيديولوجيا دينية موحدة ومنمطة، وبقيت الفرق الغنوصية أقرب إلى الفرق الصوفية التي يتبع كل منها معلما روحيا ذا نهج خاص وفكر متميز، مع اشتراكها جميعا بعدد من الأفكار العامة التي ميزها عن غيرها من التيارات الدينية والفلسفية، التي كانت تتمازج وتتلاقح خلال فترة تعد من أخصب فترات التاريخ الروحي والثقافي للحضارة الإنسانية. ونظرا لخلو الغنوصية من التعاليم والأيديولوجيا الناجزة، فقد تطورت ضمنها اتجاهات متنوعة بينها الوثني واليهودي والمسيحي، وجميعها تدين بأصولها إلى شكل من الغنوصية المبكرة هي الحكمة الهرمزية، التي قامت على تعاليم وأفكار شخصية يلفها الغموض هي هرمز المثلث الحكمة. وإلى هرمز هذا تنسب مجموعة من رسائل الحكمة تمتزج فيها أفكار الأفلاطونية المحدثة بالميثولوجيا المصرية في أشكالها المتأخرة ذات الطابع السراني المسطيقي . وقد كتبت هذه الرسائل في مطلع القرن الأول قبل الميلاد في مدينة الإسكندرية. ولهرمز المثلث الحكمة قول مأثور تداولته فيما بعد الفرق المسطيقية وصولا إلى الصوفية الإسلامية وهو: «إن من يعرف نفسه يعرف الكلي»، ولقد جعل المتصوفة المسلمون من هذا القول حديثا نبويا لا سند له: «من عرف نفسه عرف ربه.»
2
اتخذت الغنوصية شكلها الناضج على يد معلمها الكبير فالينتينوس، الذي ولد حوالي عام 10 ميلادية بمنطقة الدلتا بمصر، من أسرة ذات أصول يونانية، وتلقى علومه بالإسكندرية، مدينة العلم والثقافة لذلك العصر، وبؤرة إشعاع الفكر لأفلاطوني المحدث والفكر الهرمسي. اتصل بالمسيحيين واعتبر نفسه مسيحيا، ولكنه شكل لنفسه شبكة من الأخويات الغنوصية ضمن كنيسة الإسكندرية، وأسس أكاديمية للبحث الحر. اعتبر فالينتينوس نفسه المفسر الحقيقي لتعاليم المسيح، وبلغ من ثقته بنفسه أنه قد دعا لنفسه كمرشح لكرسي الباباوية في أواسط القرن الثاني الميلادي، رغم أن تعاليمه تشكل انشقاقا كاملا عن لاهوت العهد القديم، وتفسيرا مغرقا في التطرف لحياة يسوع ورسائل بولس الرسول. يرى فالينتينوس أن بؤس الإنسان ناجم عن سجن روحه في المادة المظلمة من قبل يهوه، إله العهد القديم وخالق العالم المادي، ولكن الخلاص متاح أمام كل فرد من خلال الغنوص أو العرفان الداخلي، ورغم أن هذا العرفان ذو طابع فردي في أساسه ويؤدي إلى خلاص فردي في النهاية، إلا أن كل فعالية عرفانية فردية تؤثر على صيرورة الكون بكامله وتساعد على تخليص العالم، كما تساعد على إصلاح الإله الخالق نفسه لأنه إله جاهل ومحروم من العرفان اللازم لخلاصه، ولكن الإنسان قادر على معونته وعلى شفائه وتحريره من خلال تلمسه للنور الروحاني في داخله.
يعتبر باسيليدس المعلم الثاني للغنوصية بعد معاصره فالينتينوس. اعتبر نفسه مسيحيا أيضا، وبقي عضوا في كنيسة الإسكندرية حتى آخر أيامه، رغم أن أتباعه كانوا يقولون بأنهم ليسوا يهودا ولم يصبحوا بعد مسيحيين. أسس باسيلديس مدرسة غنوصية اجتذبت الكثير من الأتباع خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وكان يبشر بالله العلي الذي يسمو على الإله يهوه إله العهد القديم. أنتج باسيليديس ميثولوجيا على غاية من التعقيد والغموض في موضوعات النشأة الأولى والتكوين، ففي البداية لم يكن شيء سوى العدم والإله الخفي المتلفع بالعدم، ثم أنتج الإله الخفي بشكل تلقائي بذرة الكون التي تنطوي على كل الممكنات التي تحققت فيما بعد ، مثلما تحتوي حبة الخردل على ممكنات الجذر والساق والأوراق ... إلخ. من هذه البذرة خرج الأركون الأكبر المدعو يهوه وباشر بخلق العالم المادي دون أن يعلم بوجود الإله الخفي الأسمى منه.
أما الشخصية الثالثة في الفكر الغنوصي فكانت مرقيون. أسس مرقيون خلال أواسط القرن الثاني الميلادي لكنيسة بديلة، شكلت أكبر تهديد للكنيسة الرسمية، واستمرت قوية لفترة طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصا في الأطراف الشرقية لمناطق انتشار المسيحية مثل أرمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الأناجيل الأربعة وتثبيت المعتقد الرسمي في صيغته النهائية. يعتبر مرقيون أكثر الغنوصيين مسيحية، فهو رغم اتفاقه مع الغنوصية في كل طروحاتها الرئيسية، إلا أنه يؤكد في النهاية على عنصر الإيمان المسيحي ويعليه فوق العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يأتي بالإيمان وعن طريق يسوع المسيح بالذات ابن الله العلي لا ابن يهوه، وهذا ما استتبع عنده نكران الطبيعة الواحدة التي تجمع بين روح الإنسان وروح الله. فالإنسان نتاج صنعة الإله الخالق لا الإله المتعالي الخفي، ولكن الإله المتعالي قد أحب الإنسان وأشفق عليه فمد إليه يد الخلاص.
ينطلق مرقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد القديم والعهد الجديد، فيؤسس لعقيدة مسيحية مستقلة عن التوراة تقوم على إنجيل لوقا فقط في شكله المشذب والمختصر من قبله، وعلى رسائل بولس الرسول. ذلك أن بولس، في رأي مرقيون، هو الذي فهم الإنجيل حق الفهم من دون بقية الرسل، بعد أن تجلى له المسيح على طريق دمشق وأوكل إليه مهمة التبشير بالإنجيل الحقيقي، فعارض منذ البداية المسيحية اليهودية التي كان بطرس وزملاؤه يدعون إليها. يرى مرقيون أن هذا العالم المادي الناقص والمليء بالشرور هو من صنع الإله يهوه، وإن إله العهد القديم هذا هو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس، ولكن يهوه هذا ليس الإله الأعلى، رغم أن جهله قد جعله في البداية يعتقد بوحدانيته، فلم يعلم بوجود قوة شمولية عظمى تتمثل في الله الخفي، الأب الأعلى إله المحبة. ولقد شعر الأب الأعلى بالشفقة نحو الإنسان فأرسل ابنه المسيح في هيئة يسوع الناصري ليخلص البشرية، ورآه الناس بينهم فجأة وهو يعلم ويبشر بملكوت الروح، فظنه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن الحواريين أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته. ونظرا لجهل يهوه بقيمة المخلص فقد دفع به إلى الصلب، وهو لا يدري أن عمله هذا سوف يجلب عليه سوء المصير، لأن ابن الله قد حرر بموته الناس من سلطة يهوه ومن لعنة الناموس.
ننتقل الآن إلى تقديم نموذج عن الميثولوجيا الغنوصية التي عرض المعلمون أفكارهم من خلالها، وهي ميثولوجيا شديدة الغموض والتعقيد وذات دلالات رمزية بعيدة الأغوار. ونموذجنا هنا هو الكتاب المعروف بعنوان «منحول يوحنا» أو «كتاب يوحنا السري» المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي. ولكننا نرى من المفيد قبل ذلك عرض وتبسيط بعض مصطلحات الميثولوجيا الغنوصية، فالآلهة بالمفهوم الغنوصي أقرب إلى مفهوم الشياطين في بقية الميثولوجيات، وهي تنتمي إلى العالم المادي وتشكل جزءا لا يتجزأ منه، وتدعى أراكنة، جمع أركون «أو أرخون» وتعني حاكم. يحكم فوق هؤلاء الأركون الأعظم يهوه الملقب بساكلاس أي الأحمق، وسمائيل أي الأعمى. أما في المستوى الروحاني الأعلى فلا وجود لآلهة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل لأفلاك قوة تدعى أيونات، جمع أيون، وإذا كانت هذه الأيونات تدخل في علائق مع بعضها البعض، فما ذلك إلا من دواعي أسلوب القصص الميثولوجي، لا يستثنى من ذلك فلك القوة الأعلى، فهذا الفلك ليس إلها وإنما هو مفهوم مجرد عن المبدأ الكلي والحقيقة النهائية.
ولدينا مفهوم مركزي من التصورات الميثولوجية الغنوصية هو «صوفيا»، أي الحكمة. وصوفيا هي آخر أفلاك القوى الروحانية في ترتيب الصدور عن مركز النور الأسمى، ولكن أهميتها تأتي من كونها حلقة الوصل بين الأفلاك الروحانية وما يناظرها في الأسفل من عوالم المادة والظلام، وهي التي أنجبت الأركون الأعظم، كبير الآلهة يهوه. ونستطيع أن نعثر على بذور فكرة صوفيا في مقاطع من سفر الأمثال التوراتي وفي سفر حكمة سليمان أيضا. نقرأ في سفر الأمثال عن الحكمة قولها: «الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. منذ الأزل مسحت، من الأول من قبل أن كانت الأرض. ولدت حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة، قبل أن أقرت الجبال، والتلال ولدت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أتربة المسكونة، حين هيأ السماوات كنت هناك، وحين رسم دائرة على وجه الغمر العظيم ... لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعا، وكنت كل يوم لذته، فرحة دائما قدامه» (الأمثال، 8: 22-30).
أي إن الحكمة-صوفيا كانت بمثابة الزوجة الروحية للخالق وقد شاركته في فعاليات الخلق. وفي سفر حكمة سليمان: 8، هنالك مطابقة بين الحكمة والروح القدس، ويشار إليها على أنها دفق مجد الرب ومرآة فعالياته الخلاقة ومنبع النور الأبدي. وفي التيار الغنوصي السوري، الذي يعتبر سمعان السامري من أقوى ممثليه، فإن صوفيا هي فكرة الآب الأعلى الأولى، والروح القدس، وأم الجميع، وقد هبطت صوفيا من العوالم الروحانية نحو الأسفل حيث أنجبت ملائكة المادة الذين خلقوا العالم.
ولدينا مفهوم مركزي آخر في الميثولوجيا الغنوصية هو «الإنسان القديم»، الذي هو ابن الله العلي وصورة الإنسان الكامل التي تعيش في عالم المثل الأعلى، بالمفهوم الأفلاطوني. وفي لحظة معينة من تاريخ العالم، نزل هذا الإنسان المؤله الذي يدعى أيضا بابن الإنسان فتجلى في هيئة يسوع الناصري، ولكن دون أن يلبس جسدا ماديا حقيقيا، ثم عاد في النهاية إلى عالم النور الأسمى الذي انبثق عنه. هذا الإنسان القديم هو النموذج الذي خلق آدم على صورته، فعندما كان الأراكنة يهمون بخلق الإنسان الأول من تراب الأرض، أطل الإنسان القديم من الأعلى فانعكست صورته على صفحة الماء، ولما رآها الأراكنة راحوا يصنعون آدم على صورة ما رأوه.
في كتاب منحول يوحنا الذي أقدم ترجمتي الملخصة له فيما يأتي ،
3
يحاول المؤلف تقديم إجابة على سؤالين: الأول ما هو أصل الشر؟ والثاني كيف نستطيع الخلاص من عالم الشر هذا؟ وهو يصوغ نصه متبعا جنس الأدب الرؤيوي الذي عهدناه لدى مؤلفي الأسفار المنحولة. في البداية نجد يوحنا وقد انتابته الحيرة عقب حوار بينه وبين أحد الفريسيين، فيترك المعبد وينعزل في جبل يتأمل في مسائل الإنجيل. في أحد الأيام تقع له رؤيا هائلة، فتنشق السماء وتهتز الأرض ويشع من الأعلى نور غامر ليس من هذا العالم، فيرتجف فرقا ويسقط على وجهه، ولكن صوتا من داخل النور يناديه قائلا: «يوحنا لماذا تشك؟ لا تكن ضعيف الإيمان لأني معك دائما، أنا الآب وأنا الأم وأنا الابن، أنا الموجود أبدا. جئتك لأكشف لك حقيقة ما هو كائن وما كان وما سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين وما هو خاف عنها، وأكشف لك عن سر الإنسان الكامل. فارفع وجهك وتعال فاسمع وتعلم ما أقوله لك اليوم، لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم.» «الروح وحدة غير متجزئة لا يحكم فوقه أحد. إنه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس، الخفي الذي يهيمن على الكل، الموجود بقيوميته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار، الروح ليس إلها أو كائنا يتمتع بصفات وخصائص محددة. إنه البداية التي لا تسبقها بداية، لم يكن لأحد وجود قبله فيحتاج إليه. الروح لا يحتاج الحياة لأنه سرمدي، ولا يطلب ما دونه لعدم وجود نقص فيه يتطلب التكميل. إنه وراء الكمال، إنه النور، إنه بلا حدود ولا أبعاد، لعدم وجود شيء قبله يحدده. خفي، لم ولن يراه أحد. دائم وموجود أبدا. بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. ليس واسعا وليس ضيقا، ليس كبيرا وليس صغيرا، ليس ماديا وليس غير مادي، ليس بكم وليس بكيف، ليس كيانا ولا غير كيان، ليس زمنيا بل وراء الزمن، ليس موجودا ولكنه وراء الوجود، قائم في نفسه ولنفسه. وحده الذي يقيم ضمن نوره الذي يحيط به . إنه نبع الحياة والنسور الأعظم الباهر.»
بعد ذلك يتابع الصوت تعليم يوحنا ويشرح له كيفية صدور ما سوى الله عن الله، وكيف تشكلت أولا أفلاك القوى الروحانية من منبع النور الأسمى، وهي الأيونات «ومفردها أيون». فكانت الفكرة الأولى أول ما ظهر، ثم تحولت صورتها إلى شبه إنسان، هو الإنسان القديم، بعد ذلك ظهرت المعرفة الأولى، فالديمومة، فالحياة الخالدة. ثم إن الفكرة الأولى «وتدعى باربيللو» نظرت إلى أعماق النور العظيم، فحملت وأنجبت شرارة من نور هي المولود البكر للنور الأعظم، المسيح المعمد بطيبة الروح الخفي، فوهبه الأب العقل والإرادة والكلمة، وجعل الحقيقة طوع بنانه، وأعطاه سلطانا على بقية الأيونات، بعد ذلك ظهرت الأفلاك الأدنى مرتبة وأعطيت لها أسماؤها ومراتبها وصولا إلى فلك الحكمة صوفيا عروس الإنسان القديم.
ثم إن صوفيا أحست برغبة في أن تنجب صورة عنها، ولكن رغبتها تلك لم تلق موافقة زوجها ولم تحظ بمباركة الروح الأعلى، ومع ذلك فإن رغبتها استعرت حتى شعت نحو الخارج، وأعطت الميلاد لكائن إلهي جهيض غير مكتمل أشبه بالمسخ، لأنه ولد من أمه دون موافقة الأب وتعاونه. فكان له شكل مختلط من أسد وأفعى، وله عينان جمرتان من نار. فلما رأته صوفيا ذعرت وأبعدته عنها، ولكيلا يراه أحد من أقرانها صنعت له عرشا وأخفته في سحابة تحجبه عن الأعين، ودعت اسمه يلدابوث، فكان أول الأراكنة.
بعد أن شعر يلدابوث بقوته الذاتية، خرج من المكان الذي أودعته فيه أمه وجعل لنفسه فلكا ناريا أقام فيه، فكان هذا الفلك أعلى طبقات العالم المادي الكثيف الذي سيظهر فيما بعد عن عالم الظلمات، ظلمات جهل أول الآلهة. ثم إن يلدابوث دعا اثني عشر فلك قوة تحتية إلى الظهور، لكل فلك ملاك رئيس، تحته طبقة من الملائكة الثانوية تخدمه وتأتمر بأمره. كما جعل لكل من هؤلاء الملائكة الثانويين طبقة من الملائكة الثانوية تخدمه وتأتمر بأمره، وتابع إظهار وتنظيم هذه المراتبية الملائكية حتى بلغ عدد الطبقات ثلاثمائة وستين طبقة، وعندما نظر يلدابوث إلى ما خلق من أفلاك قوة تحته ، ابتهج وصاح قائلا: أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور (سفر الخروج، 20: 3؛ وسفر التثنية، 5: 9). ثم شرع يصنع السماوات والأرض بكلمته الخالقة، بالقوة التي ورثها عن أمه صوفيا، ولكن صوتا جاءه من الأعالي قائلا: أنت مخطئ يا سمائيل «أي الأعمى»، لأن إنسانا كاملا وخالدا ومستنيرا قد وجد قبلك، ولسوف يأتي ويحل في جسد فيحطم مملكتك كما تحطم الجرة الفخارية، ويحيل كل نقص إلى كمال الحقيقة.
بعد أن اكتمل خلق السماوات والأرض، أطل الأب الأعلى إلى الأرض في صورة الإنسان القديم فانعكس خياله على صفحة الماء، فرآها الأراكنة الرؤساء وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع الإنسان على الصورة التي رأيناها ليخدمنا على الأرض. وهكذا جبلوا الإنسان الأرضي من التراب، على صورة الإنسان القديم السماوي التي تراءت لهم، ودعوه آدم، إلا أن الهيئة الطينية بقيت مسجاة بلا حراك، رغم كل ما بذله الأراكنة لإحيائها. ولكن صوفيا، في رغبتها لاسترجاع قوة الروح التي استمدها منها يلدابوث، أوحت إليه أخيرا أن ينفخ في أنف آدم بعضا من الروح التي فيه، ولما فعل ذلك تحرك آدم وانتصب إنسانا تاما ذا جسد مادي وروح سماوية. وهنا غار رؤساء طبقات الملائكة الثانوية من آدم لأنهم تبينوا تفوقه عليهم فهما وحكمة، فأرادوا قتله. ولكن يلدابوث أخذه وأسكنه في جنة عدن، ثم أرسل عليه سباتا وأخذ من أضلاعه واحدا صنع منه المرأة حواء. أمر يلدابوث آدم وزوجه أن يأكلا من ثمر الجنة كلها عدا ثمر شجرة المعرفة، وذلك خوفا من أن تنفتح عيونهما ويعرفا أصلهما النوراني في عالم الروح الأعلى، ولكن حواء عصت الأمر وحرضت آدم على العصيان الذي كان بمثابة الخطوة الأولى في سبيل تحرير الجنس الإنساني من حجب الجهل التي فرضها يهوه. ولقد حقق الزوجان هذه الخطوة البطولية بمعونة الأفعوان، الذي يمثل هنا مبدأ العرفان لا مبدأ الشر، والذي وهبهما المعرفة التي من خلالها وحدها يتم التخلص من سلطة يهوه ومن إسار عالمه المادي. وعندما يبلغ سعي الإنسانية نحو الخلاص أوجه، سوف يعود مبدأ العرفان ليظهر في هيئة المخلص يسوع المسيح، الذي سيرفع عن كاهل الناس لعنة الشريعة التي أبقتهم طويلا في حجب الجهل، وينقذهم من صاحب هذه الشريعة ومن العالم الناقص الذي صنعه، عندها يكتشفون الجوهر الحقيقي للروح.
خلاصة
لقد حلت الغنوصية معضلة وجود الشر في العالم بطريقة مبدعة وجديدة على الفكر الديني، وذلك بابتكارها لفكرة الأب الأعلى مصدر العالم الروحاني عالم النور، والإله الأدنى خالق العالم المادي عالم الجهل والظلمة. فالكون المادي لم يخلق كاملا من قبل الله ثم داخله الشر من خارجه، كما هو الحال في المعتقد الزرادشتي، بل إن المادة هي الشر بعينه، ومصدر هذا الشر هو إله التوراة الذي ولد صدفة من الأم صوفيا، ثم راح يخلق المادة ليقتنص فيها نور الأعالي ويحبس فيها أرواح الناس. ولكن هذا الإله وعالمه سيئولان إلى الدمار عندما يتعرف الإنسان على النور الأسمى في داخله، وهي المعرفة التي تعتقه من دورة الميلاد والموت والتناسخ في الأجساد. فالإنسان ليس خاطئا منذ البداية ولكنه مأسور في حجاب الجهل، ولا فكاك له إلا بالعرفان، وهو النشاط الأسمى للنفس الإنسانية الراغبة في الانعتاق. إن العرفان الداخلي الذي ينير جنبات النفس هو الذي يجعل من صاحبه إنسانا طيبا وأخلاقيا، ودونما حاجة إلى لوائح أخلاقية مفروضة من الخارج، لأن الشر هو الجهل والمعرفة هي الخير. أما الطقوس والعبادات الشكلية فليست في حقيقتها إلا خضوعا لإله العالم المادي وتطبيقا أعمى لشرائعه، بينما لا يتطلب الأب الأعلى من الإنسان سوى أن يعرفه ويتلمس منابع الخير في داخله، وهو ملتزم بتخليصه واستعادة روحه إلى بيتها الذي ضاعت عنه، إذا استجاب لنداء رحمته.
مراجع الفصل (1)
J. M. Eobinson, edt. The Nag Hammadi Library, Harper, New York 1972. (2)
Willis Barnstone, edt. The Other Bible, Harper, New York 1984. (3)
Gnosticism, in: Encyclopedia of Religion, vol 2.
الفصل الثامن
الغنوصية المانوية وشيطانية المادة
تحولت الغنوصية على يد ماني إلى دين مؤسساتي ذي عقيدة متماسكة واضحة المعالم، استقت من التيارات الدينية السائدة في عصرها وأثرت فيما تلاها. تقوم هذه العقيدة على مفهوم دينامي للتاريخ ينطلق، كما في الزرادشتية، من وجود مبدأين كونيين متصارعين، يقود صراعهما حركة التاريخ إلى نهاية محتومة. فمنذ الأزل كان النور وكان الظلام، عالمان منفصلان ومستقلان ولكنهما متجاوران ، وكان جوهر النور هو الحكمة وجوهر الظلام هو الجهل. وهذه هي المرحلة الأولى الكاملة من مراحل التاريخ، أو العصر الذهبي. ثم إن الظلام قد عدا على النور، فتقدم النور لصده وإرجاعه، فاختلطت عناصر النور بعناصر الظلمة وراحا يتصارعان، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل التاريخ، مرحلة يوم الناس هذا. ولكن النور سوف يفلح في تخليص نفسه من الظلام خلال المرحلة الثالثة المقبلة، التي ستنتهي لا باستقلال النور عن الظلام فقط، بل بالقضاء عليه وتأسيس ملكوت النور النهائي. في هذه المعركة الدائرة الآن، يشارك الجنس البشري بكل قوته، سلاحه في ذلك العرفان الذي يحرر المبدأ النوراني الحبيس في الجسد المادي المظلم. وإلى أن يحين اليوم الأخير، فإن الأرواح العارفة التي اكتشفت طبيعتها كقبس من النور الأعلى، سوف تنضم إلى عالمها الذي نشأت عنه، بينما تبقى الأرواح الجاهلة في إسار دورة الميلاد والموت، وتتناسخ في أجساد جديدة ضمن هذا العالم المظلم.
وهكذا تستبدل المانوية المفهوم الزرادشتي عن تاريخ دينامي يشارك فيه الإنسان من خلال الإيمان والأخلاق، بمفهومها عن تاريخ يشارك فيه الإنسان من خلال العرفان.
من بين جميع الفرق الغنوصية، كانت المانوية الأوسع انتشارا والأكثر دواما، فلقد انتشرت شرقا وغربا انطلاقا من بابل الموطن الرئيسي لمعلمها، وعاشت فترة زمنية مديدة تقدر بأكثر من عشرة قرون، لا كمعتقد طائفي مقتصر على جماعة بعينها، بل كدين عالمي ومعتقد شمولي يتوجه إلى جميع بني البشر. وبذلك تقف المانوية في صف الديانات العالمية الكبرى في تاريخ الدين، مثل الإسلام والمسيحية والبوذية. إلى جانب جاذبية المعتقد المانوي واحتوائه على عناصر شتى من كل المعتقدات الأقدم منها والمعاصرة له، فإن انتشار المانوية يمكن أن يعزى إلى ثلاثة عناصر رئيسية: أولها النشاط التبشيري المحموم الذي مارسه ماني شخصيا في كل بقعة من بقاع المشرق، وتابعه بعد ذلك حواريوه. وثانيهما التنظيم المؤسساتي الدقيق للكنيسة المانوية التي كانت تتألف من مبشرين منذورين لمهامهم، وكهنة متفرغين ضمن سلسلة مراتبية مرسومة بدقة، ونخبة دينية تشبه فئة الرهبان البوذية، وعامة المؤمنين الذين يقدمون الدعم المالي والمعنوي للأجهزة الفعالة في المؤسسة الدينية. وثالثهما اعتماد ماني على الكتب الدينية التي تؤسس للعقيدة وتحفظها. فلقد كانت المانوية ديانة كتاب شأنها في ذلك شأن اليهودية والمسيحية والبوذية، وعمل ماني منذ البداية على وضع كتبه بنفسه وخطها بقلمه، ثم حرص على نسخها وتداولها وحفظها في حالة جيدة، سواء من خلال المواد المستخدمة أم من خلال تقنيات الإنتاج العالية.
ورغم ما لحق بالمؤلفات المانوية من إتلاف متعمد على يد الخصوم خلال حملات الاضطهاد المتكررة والمتلاحقة، إلا أن عددا لا بأس به من المخطوطات المانوية الأصلية قد اكتشفت سليمة في القرن العشرين، ومكتوبة بعدد من اللغات منها الإيرانية والتركية القديمة والصينية والقبطية واليونانية. وقد مكنتنا هذه المخطوطات من إجراء التقاطعات بين المصادر الأصلية، والمصادر غير المباشرة التي كان الباحثون حتى وقت قريب يعتمدون عليها وحدها. من أهم المصادر غير المباشرة ما كتبه القديس أوغسطين (حوالي عام 400م)، الذي كان مانويا متحمسا قبل أن يتحول إلى المسيحية، وما كتبه أفرايم السرياني (حوالي عام 370م)، وتيودور بن قوينا (حوالي عام 790م)، وما كتبه المؤلفون العرب من أمثال ابن النديم (القرن العاشر م)، والبيروني (القرن الحادي عشر م)، والشهرستاني (القرن الثاني عشر م).
1 (1) ماني
ينتمي ماني إلى أسرة إيرانية عاشت قرب مدينة طيسفون بمنطقة بابل، وكانت طيسفون في ذلك الوقت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية، ومقرا لملوك الأسرة البارثية ثم الساسانية من بعدها. جاء أبوه من منطقة همذان وتزوج من المدعوة مريم، وهي سليلة أسرة نبيلة تتصل بأواصر القربي بالأسرة البارثية الحاكمة، ثم أقام الزوجان في بلدة مردينيوس في منطقة بابل، وهناك ولد ماني وأمضى طفولته ومراهقته. وقد أكدت إشارات ماني المتفرقة هذه الرواية، ومنها قوله: «إني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل» وأيضا: «أنا النطاسي الذي جاء من أرض بابل.» وتعبير النطاسي هنا يدل على المهارات الطبية العالية التي تمتع بها ماني، فقد كان نطاسيا ماهرا قادرا على شفاء الأمراض المستعصية. يرجح الباحثون أن الاسم «ماني» هو من أصل سامي لا من أصل إيراني ، أما الاسم «مانيخيوس» الذي عرف به المعلم لدى اليونان، فهو تحوير للقبه الآرامي «ماني-حياه» أي ماني الحي. ومن ألقابه الأخرى الآرامية «مار-ماني» أي السيد ماني، ومنه جاء اسمه بالصينية «مور-موني».
ولد ماني عام 216م، وتربى على ملة أبيه، وهي طائفة غنوصية معمدانية يدعوها ابن النديم في كتابه الفهرست بالمغتسلة، وذلك نسبة إلى طقوس التعميد بالماء التي كانت تمارسها. وكان المغتسلة يلتزمون سلوكا طهوريا بالغ الصرامة، إذ كانوا يمتنعون عن أكل اللحم وشرب الخمر ويفرضون على الممارسة الجنسية قيودا شديدة. إضافة إلى هذه الخلفية الغنوصية التي اكتسبها ماني من طائفته هذه، ومن الطوائف الغنوصية الأخرى الناشطة في منطقته مثل المندائية والمرقيونية والديصانية، فقد اكتسب ماني الكثير من البيئة الثقافية البابلية التي كانت منفتحة على شتى التيارات الدينية والفلسفية، وتلاقت عندها الأفكار المسيحية واليهودية والزرادشتية والهيلنيستية والهندية والصينية، إضافة إلى الثقافة الكلدانية المحلية التي تختصر التركة القديمة لبلاد الرافدين بأكملها. وهذا ما جعل من ديانته نموذجا عن الديانة التوفيقية، التي تحتوي على الموروث بكل زخمه وتنوعه، وتتجاوزه بطريقة مبدعة تعبر عن عبقرية صاحبها وقوة شخصيته وتفوق تفكيره.
عندما بلغ ماني الثانية عشرة من عمره هبط عليه الوحي (على ما يقول) من السماء عن طريق كائن نوراني يدعوه ب «التوم»،
2
وهو القرين السماوي للنبي، فأمره أن يعتزل ملته ويطهر نفسه استعدادا للوحي الثاني الذي سيهبط عليه عندما يغدو قادرا على الدعوة والتبشير. في سن الرابعة والعشرين أتاه التوم ونقل إليه وحي الرسالة كاملا غير منقوص، ثم أمره أن يظهر للناس ويبلغهم ما أمره الله تعالى إبلاغهم. نقرأ في كتاب الفهرست للمؤلف العربي ابن النديم: «فلما تم له اثنتا عشر سنة أتاه الوحي، على حد قوله، من ملك جنان النور وهو الله (تعالى عما يقول). وكان الملاك الذي جاءه بالوحي يسمى التوم، وهو بالنبطية ومعناه القرين. فقال له: اعتزل هذه الملة فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنك. فلما تم له أربع وعشرون سنة ، أتاه التوم فقال: عليك السلام مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتبشر ببشرى الحق من قبله وتحتمل في ذلك كل جهدك. فخرج يوم ملك شابور بن أردشير ووضع التاج على رأسه، وهو يوم الأحد أول يوم من نيسان والشمس في برج الحمل، ومعه رجلان قد تبعاه على مذهبه، أحدهما يقال له شمعون والثاني زكوا، ومعه أبوه ينظر ما يكون من أمره ... وقد زعم ماني أنه الفارقليط الذي بشر به عيسى بن مريم. واستخرج ماني مذهبه من المجوسية والنصرانية. والقلم الذي كتب به كتبه مستخرج من السرياني والفارسي.»
ونقرأ في نص قبطي عن لسان ماني نفسه: «في هذه السنة نفسها، عندما كان الملك أردشير على وشك التتويج، نزل الفارقليط
3
الحي وكلمني، وأباح لي معرفة السر المحجوب بخصوص عصور وأجيال بني البشر، السر العميق والعالي، سر النور والظلام، سر الصراع والحرب الماحقة، وعلمني ما هو كائن وما كان وما سيكون.» إن الفارقليط، أو البارقليط، المذكور هنا، هو الذي أشار إليه إنجيل يوحنا في أكثر من موضع، ويرد في الترجمات العربية تحت اسم «المعزي». نقرأ في الإصحاح 14: «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يراه ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» ونقرأ في الإصحاح 15: «ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي منذ الابتداء.» وبما أن الفارقليط هو التوءم والصورة العليا لماني، فقد دعا ماني نفسه بالبارقليط أيضا، واعتبر نفسه متمما لرسالة يسوع في صيغتها الأصلية التي لم يفهمها الرسل.
اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة، ولكنه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة. فلقد كشف كل من بوذا وزرادشت ويسوع عن حقيقة الدين، كل بما يناسب عصره والأرض التي ظهر بها والشعب الذي توجه إليه بلغته. أما ماني الذي دعا نفسه بخاتم الأنبياء، فقد جاء ليكمل رسالة هؤلاء ويطورها، لأنه يتوجه برسالته الجديدة إلى جميع بني البشر أيا كانوا وبأية لغة تحدثوا. وهو يصف هذا الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أن نهرا يرفد آخر لتكوين تيار دافق قوي، كذلك صبت الكتب القديمة في كتبي فشكلت حكمة كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.»
ويرد ما يشبه قول ماني هذا في كتب المؤلفين العرب. نقرأ في كتاب المغني للقاضي عبد الجبار: «وعندهم إن أول ما بعث الله تعالى بالعلم آدم، ثم شيتا ثم نوحا وبعث زرادشت إلى أرض فارس، والبدة (= البوذا) إلى أرض الهند، وعيسى المسيح إلى بلاد المغرب، ثم ماني خاتما للنبيين.» ونقرأ في كتاب الملل والنحل للشهرستاني: «واعتقاده - أي ماني - في الشرائع والأنبياء أن أول من بعث الله بالعمل والحكمة آدم أبو البشر، ثم شيتا بعده، ثم نوحا بعده، ثم إبراهيم بعده، ثم بعث بالبدة إلى أرض الهند، وزرادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولص بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين.» ونقرأ في كتاب الآثار الباقية للبيروني: «وكان ابن ديصان ومرقيون ممن استجابا وسمعا كلام عيسى وأخذا منه طرفا، ومما سمعا من جهة زرادشت طرفا، واستنبط كل واحد من كلا القولين مذهبا يتضمن القول بقدم الأصلين، وأخرج كل منهما إنجيلا نسبه إلى المسيح وكذب ما عداه، ثم جاء من بعدهما ماني، وكان قد عرف مذهب المجوس والنصارى والثنوية، فتنبأ وزعم في أول كتابه الموسوم بالشابورقان أن الحكمة هي التي لم تزل رسل الله تأتي بها في زمن دون زمن، فكان مجيئها - أي الحكمة والأعمال - في بعض القرون على يدي الرسول الذي هو البد (= البوذا) إلى بلاد الهند، وفي بعضها على يدي زرادشت إلى أرض فارس، وفي بعضها على يدي عيسى إلى أرض المغرب، ثم نزل هذا الوحي، وجاءت هذه النبوة في هذا القرن الأخير على يدي أنا ماني رسول الله الحق إلى أرض بابل ... وذكر ماني في إنجيله أنه الفارقليط الذي بشر به المسيح، وأنه خاتم النبيين.»
كتب ماني خلال حياته عددا من المؤلفات يربو على العشرة، إضافة إلى بعض الرسائل القصيرة، وكتاب مصور يشرح فيه عقيدته من خلال رسوم فخمة أعدها بنفسه، وفيما عدا كتاب الشابورقان الذي ألفه بالفارسية وأهداه إلى الملك الساساني شابور، فإن بقية كتبه قد خطت باللغة والقلم الآرامي الشرقي. وكانت الآرامية في ذلك الوقت لغة الكتابة والقراءة بين متعلمي ذلك العصر وأداة التخاطب الديبلوماسي. وهذا ما أمن للمانوية انتشارا واسعا لم يكن لأية لغة أخرى أن تؤمنه. لم يبق من كتب ماني، التي نعرف عناوينها فقط، إلا شذرات عثر عليها بشكل خاص في طورفان بآسيا الوسطى وفي الفيوم بمصر. ولكن مقاطع مطولة من هذه الكتب قد وردت في مؤلفات القديس أوغسطين وابن النديم. هذه الشذرات الأصلية والمقاطع المنقولة، تكشف لنا عن مدى اطلاع ماني على ثقافة عصره. فلقد درس بالتأكيد الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الرسول وغيرها من أسفار العهد الجديد، القانونية منها والمنحولة، وكان مطلعا على الأسفار التوراتية المنحولة وعلى رأسها كتاب أخنوخ الأول وكتاب أخنوخ الثاني. ولم يخف إعجابه بتوما الرسول الذي توجه للتبشير في مناطق الهند، فكانت رحلته التبشيرية الأولى تتبع خطا ذلك المبشر العظيم، إضافة إلى هذا التراث المسيحي واليهودي، فقد كان ماني مطلعا على الزرادشتية في شكلها الأصلي وفي أشكالها المتأخرة. وخلال رحلاته التبشيرية المبكرة نحو الشرق احتك بالعديد من الثقافات الشرقية، واطلع بشكل خاص على بوذية المهايانا.
بعد أن تلقى ماني الأمر بالتبشير، دعا إلى دينه أهله الأقربين؛ فاستمال والده وأعضاء بارزين في أسرته، ثم شرع في رحلته التبشيرية الأولى نحو أطراف الهند ومناطق آسيا الوسطى، آملا في استمالة الجيوب المسيحية التي شكلتها بعثة توما الرسول، فوصل إلى إقليم السند ثم إلى إقليم بلوخستان وإقليمي مكران وطورفان. ولعل أهم ما أنجزته حملة ماني التبشيرية الأولى هذه هو استمالة ملك طورفان وحاشيته، فاعتنق الملك المانوية وجعلها دينا للمملكة بدلا عن البوذية. لم يقدر لرحلة ماني الشرقية أن تدوم طويلا، فلقد قرر الرجوع إلى موطنه بعد أن سمع بوفاة الملك أردشير وصعود ابنه شابور إلى العرش، وفي طريق عودته مر بإقليم ميسان الذي يحكمه مهرشاه أخو شابور، فدخل عليه مبشرا بديانته، وهنا تروي الأخبار المانوية أن ماني دخل على مهرشاه وهو في بستانه الذي كان حديث الناس لجماله وكثرة أشجاره ومائه وحسن تنظيمه، فقال له مهرشاه: هل يوجد في الفردوس الذي تتغنى به بستان كبستاني هذا؟ فلما سمع ماني هذا أراه بقوته الخارقة الملأ الأعلى وجعله يشم نسيم الحياة الأبدية، وأراه بقعا من الفردوس السماوي وأشياء أخرى مما يمكن رؤيته هناك، فسقط الرجل على الأرض مغشيا عليه مدة ثلاث ساعات، ثم وضع الرسول يده على رأسه فأفاق وسجد عند قدمي ماني معلنا إيمانه. تبين لنا هذه الحادثة الجانب الآخر من شخصية ماني، فقد كان طبيبا ماهرا يعالج الجسد بالعقاقير والروح بطرد الشياطين منها، وكان صاحب معجزات تتراوح بين شفاء الأمراض المستعصية ورفع الأرواح إلى السماء ساعة يشاء، وقد عرج هو نفسه إلى السماء وفق إحدى الروايات ليتلقى الوحي الإلهي هناك.
أدرك ماني أن دعوته لن يقيض لها النجاح دونما سند سياسي قوي من أعلى سلطة في البلاد، فاتصل بالقصر الملكي وحاور الأمراء والنبلاء فاستمال فريقا منهم، وبينهم أخو الملك المدعو فيروز الذي حصل لماني على الإذن بالدخول على شابور، فمثل أمامه وقدم له كتابه المعروف بالشابورقان، نسبة إلى الاسم الملكي. عن هذه المقابلة الحاسمة في حياة ماني يحدثنا ابن النديم في الفهرست فيقول: «وجول ماني في البلاد قبل أن يلقى شابور، ثم إنه دعا أخا شابور بن أردشير فأوصله إلى أخيه شابور، فدخل إليه وعلى كتفيه مثل السراجين من نور. فلما رآه أعظمه وكبر في عينيه، وكان قد عزم على الفتك به وقتله، فلما لقيه داخلته له هيبة وسر به وسأله عما جاء فيه، فوعده أنه يعود إليه. وسأله ماني عدة حوائج منها أن يعز أصحابه في البلاد وسائر بلاد مملكته، وأن ينفذوا حيث شاءوا، فأجابه شابور إلى جميع ما سأل. وكان ماني قد دعا الهند والصين وأهل خراسان، وخلف في كل ناحية صاحبا له.» ويروي ماني نفسه عن هذه المقابلة قائلا: «مثلت أمام الملك شابور فاستقبلني بحفاوة كبيرة، ووافق على أن أتجول في البلاد وأن أبشر برسالة الحياة. وأمضيت بعد ذلك عاما بين حاشيته.» وقد بلغ من تقريب شابور لماني أنه اصطحبه في حملته الكبرى ضد الروم من أجل استعادة النفوذ الفارسي في آسيا الصغرى، فقاتل ماني إلى جانبه، على ما يذكره المؤلف أليكسندر ليكوبوس «وهو من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة» في رده على المانوية.
كانت سنوات العلاقة الطيبة مع شابور بمثابة الفترة الذهبية للدعوة المانوية، فقد تم خلال هذه الفترة تأسيس الكنيسة المانوية، وتنظيمها وفق هيكل مراتبي دقيق يتألف من خمس طبقات. في الطبقة الأولى العليا هناك الحواريون أو الرسل وعددهم اثنا عشر رسولا، وفي الثانية الأساقفة وعددهم اثنان وسبعون، وفي الثالثة الكهنة وعددهم ثلاثمائة وستون، وفي الرابعة المختارون وعددهم غير محدد لأنه يتوقف على عدد المؤمنين الراغبين في التخلي عن الدنيا والالتزام بالقواعد السلوكية والأخلاقية الصارمة الخاصة بالكهنوت المانوي، أما الطبقة الخامسة والأخيرة في السلم فتضم عامة المؤمنين. ومن مقر إقامته في طيسفون بعث ماني بحوارييه ينشرون الدين في الجهات الأربع، ولاقت دعوته نجاحا كبيرا في سورية ومصر وآسيا الصغرى، كما دخلت عقر دار الإمبراطورية الرومانية في أوروبا. وباتجاه الشرق تجاوز المبشرون المانويون آسيا الوسطى إلى أطراف الصين. وتولى ماني بنفسه حملات تبشيرية عديدة مؤسسا جماعات جديدة من الأتباع أني رحل، تاركا بين أيديهم نسخا من كتبه وخصوصا إنجيله المدعو بالإنجيل الحي. وكان يتباهى بالقول بأن كتب من سبقوه من أصحاب الرسالات الروحية دونت بعد وفاتهم وبيد خلفائهم، أما هو فقد دون كتبه بنفسه. وعلى حد وصف أحد المراجع المسيحية المعاصرة له، فقد كان ماني يشاهد بين الناس مرتديا سروالا عريضا لونه أصفر مائل إلى الاخضرار وعباءة خضراء مائلة نحو الزرقة، وبيده عصا من الأبنوس، وتحت إبطه الأيسر كتاب بابلي «أي مكتوب بالآرامية». عن هذا النشاط ونتائجه كتب ماني يقول: «لقد وصل أملي - أي الكنيسة المانوية - إلى مشارق الأرض ومغاربها، شماليها وجنوبها، وهذا ما لم يحدث لأي داعية من قبلي.»
لقد بدا للبعض أن المانوية سوف تغدو الديانة الرسمية للإمبراطورية الفارسية، وذلك بسبب دعم القصر الملكي وتعاونه، إلا أن الملك شابور رغم ميله الضمني لماني ومعتقده، كان يدرك قوة التقاليد الزرادشتية المحافظة ، ويفهم دوره الرسمي كوصي على تراث الأجيال. يضاف إلى ذلك أن طبقة المجوس كانت تقود في ذلك الوقت حركة واسعة النطاق تهدف إلى جمع وتدوين الأدبيات الدينية الزرادشتية بروح قومية متعصبة، وتعمل جاهدة على مقاومة المد المانوي من خلال تنظيم كنيستها الخاصة وإحياء معابد النار في كل مكان. وبذلك بدت المواجهة الحاسمة بين الطرفين محتومة، ولم يؤخرها سوى مقدرة الملك شابور على الإمساك بخيوط اللعبة بكل حذق ومهارة، ولكن وفاة هذا العاهل الحكيم في عام 273 ميلادية قد قلب ميزان القوى فجأة، وأخذ المجوس يتهيئون للتخلص من ماني.
خلف شابور ابنه هرمز الأول الذي اتخذ موقفا وديا من ماني، ولكن هرمز هذا ما لبث أن توفي بعد عام فقط من توليه السلطة وخلفه أخوه بهرام، الذي كان شابا ضيق الأفق لا يعرف من أمور الحكم سوى الرياضة والقنص، ويعطي أذنا صاغية لدسائس الكهنة المجوس. سمع ماني بوفاة هرمز بينما كان يزور بعض الجماعات المانوية عند حوض نهر الدجلة الأسفل، وفي نيته أن يتابع رحلته شرقا، وبينما كان يتفكر فيما يتوجب عليه فعله وصله أمر ملكي بالعودة إلى العاصمة. وهنا تصف لنا النصوص القبطية الأسابيع الأخيرة من حياة ماني. فلقد عاد المعلم مبحرا في نهر دجلة حتى طيسفون، وعندما وصل كان المجوس قد وضعوا أمام الملك عريضة ادعاء تتهم ماني بالتحريض ضد العقائد والآلهة الإيرانية وإفساد عقول العباد، ولكن بهرام لم يكن فعلا بحاجة إلى مثل هذه العريضة، لأنه اتخذ قرارا مسبقا بإيقاف الداعية الخطر عند حده، فلما مثل ماني أمامه لم يكن مهتما فعلا بالاستماع إلى أقواله والموازنة بينها وبين دعاوى متهميه، فلم تدم المقابلة سوى وقت قصير اقتيد بعدها المعلم إلى السجن. عن هذه المقابلة العاصفة التي حضرها الكاهن الأكبر قيردير عدو ماني اللدود، نقرأ في إحدى الوثائق القبطية الوصف الآتي: «أتى ماني لمقابلة الملك بهرام، وكان الملك جالسا إلى مائدة الطعام، فدخل عليه رجال من بلاطه وقالوا له: لقد أتى ماني وهو حاضر عند الباب. فأرسل الملك إلى مولانا أن يتريث حتى يستطيع القدوم إليه. فجلس مولانا إلى جانب الحارس حتى غسل الملك يديه لأنه كان عازما على الذهاب إلى الصيد، ثم جاء وهو يضع إحدى ذراعيه على كتف الملكة والأخرى على كتف الكاهن قيردير، وخاطب مولانا قائلا: لا مرحبا بك. فرد عليه مولانا قائلا: لماذا؟ هل ارتكبت أي ذنب؟ فقال الملك: لقد أقسمت ألا أدعك تبقى على هذه الأرض، ثم انفجر غاضبا وخاطب مولانا قائلا: عجبا، ما الحاجة إليك؟ فأنت لا تشارك في الحرب ولا في مطاردات الصيد، قد تكون مفيدا في الطب وتركيب العقاقير ولكن حتى هذه لا تحسنها. فأجابه مولانا: لم أقترف بحقك أي ذنب. لقد قدمت لك ولأسرتك الكثير من الفوائد، وحررت أعدادا كبيرة من عبيدكم من الشياطين والأرواح الشريرة، وأقمت كثيرين من فراش المرض فشفيتهم، وخلصت آخرين من الحمى ... أما الذين كانوا على حافة الهلاك وأعدتهم إلى الحياة فأكثر من أن يحصوا.»
بعد أن تابع ماني تعداد ما أفاض عليه الملكان السابقان من حماية ورعاية، ختم خطابه قائلا: والآن افعل بي ما تراه. فأمر الملك بتقييد ماني، فوضعت ثلاث سلاسل حديدية حول يديه وثلاث أخرى حول عقبيه وواحدة حول رقبته، وأخذ إلى السجن حيث أمضى ستة وعشرين يوما كان خلالها قادرا على رؤية حوارييه والتكلم معهم، لأن نظم السجن الفارسية كانت تسمح بمثل هذه الإجراءات. ولكن جسده الذي أضعفه الصيام والأغلال الثقيلة، كان يخور تدريجيا وهو ينقل تعاليمه الأخيرة التي تكمل العقيدة والشريعة المانوية، وما لبث طويلا حتى أسلم الروح. عند ذلك أمر الملك أن يغرز مشعل محترق في جسد ماني ليتأكد من موته، ثم قطع رأسه وعلقه فوق بوابة المدينة. وبذلك تقرر مصير واحد من أعظم أصحاب الرسالات الروحية من قبل ملك غر أنهى المحاكمة المصيرية خلال الوقت الفاصل بين غسل يديه عقب الطعام والانطلاق إلى الصيد، ولم ير في ماني الكهل إلا رجلا لا يصلح للحرب ولا للصيد.
ولكن السلطة قد تنال من جسد المفكر وتفعل به ما تشاء، أما أفكاره فتطير كل مكان ولا يمكن اصطيادها بشص أو إسقاطها بسهم. ولقد عاشت المانوية أكثر من ألف عام بعد وفاة معلمها رغم أنف كل سلطة غاشمة. (2) المعتقد
إن العقيدة التي بشر بها ماني هي شكل من أشكال الغنوصية السورية البابلية، ولكن ماني قد تجاوز الحدود الضيقة للغنوصية فأسس لديانة شمولية تقوم على موروث غنوصي بالدرجة الأولى وموروث زرادشتي ومسيحي ويهودي، إضافة إلى العديد من التيارات الدينية والفلسفية الأخرى. إن توجه هذه الديانة إلى جميع بني البشر ونهجها التبشيري الإنساني يجعل منها ديانة عالمية توحيدية بكل امتياز.
تتفق المانوية مع الغنوصية في نقطتين رئيسيتين، الأولى هي أن العالم شر ومحكوم بالقوى الشريرة، والثانية هي أن العرفان لا الإيمان هو الذي يقود إلى خلاص الروح. فروح الإنسان هي قبس من النور الأعلى ومن جوهر الله، ولكنه قبس حبيس في سجن المادة. ثم تسير المانوية أبعد من ذلك عندما ترى أن العرفان الفردي يساهم بشكل فعال في عملية الخلاص الكونية التي يقودها الأب النوراني الأعلى، من أجل انتصار النور الطيب على الظلام الخبيث، وتحرير عناصر النور التي اختلطت بعناصر الظلمة. وهنا تلتقي المانوية مع الزرادشتية في التوكيد على مفهوم الثنوية؛ فهي تقول بوجود أصلين أو مبدأين هما النور والظلام، ولكن بينما ترى الزرادشتية أن النور قديم والظلام حادث، فإن المانوية ترى أن النور والظلام أزليان ومتساويان في القدم ولكنهما ليسا متساويين في الأبد، لأن الظلام يسير نحو التلاشي والنور يحتل مواقعه تدرجيا عبر مراحل التاريخ الثلاث التي كشفها الأب النوراني لرسوله، في المقطع الذي اقتبسناه آنفا: «وأباح لي معرفة السر المحجوب بخصوص عدد وأجيال البشر. السر العميق والعالي، سر النور والظلام، سر الصراع والحرب الماحقة. وعلمني ما هو كائن وما كان وما سيكون.»
في المرحلة الأولى السابقة على الخلق والتكوين كان الأصلان مستقلين ومنفصلين عن بعضهما. وعلى حد ما أورده ابن النديم فإن: «مبدأ العالم كونان، أحدهما نور والآخر ظلام، كل منهما منفصل عن الآخر. فالنور هو العظيم الأول، وهو الله ملك جنان النور ... وذلك الكون النير مجاور للكون المظلم لا حاجز بينهما، فلا نهاية للنور من فوقه ولا يمنته ولا يسرته، ولا نهاية للظلمة من سفلها ولا من يمنتها ولا من يسرتها. ومن الأرض المظلمة كان الشيطان الذي ليس أزليا بعينه رغم أن عناصره كانت أزلية.» وعلى حد ما أورده الشهرستاني في الملل والنحل: «ولم يزل النور يولد ملائكة لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحكمة من الحكيم والمنطق الطيب من الناطق. وملك ذلك العالم هو روحه، ويجمع عالمه الخير والحمد والنور. كما أن الظلمة لم تزل تولد أراكنة وعفاريت، لا على سبيل المناكحة بل كما تتولد الحشرات من العفونة القذرة. وملك ذلك العالم هو روحه، ويجمع عالمه الشر والذميمة والظلمة.»
في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الخلق والتكوين وما تلاها إلى يوم الناس هذا، امتزجت الظلمة بالنور وتصارع الأصلان القديمان. يقول الشهرستاني: «ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه، والخلاص وسببه. قال بعضهم إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل، فنظرت الروح فرأت النور فبعثت الأبدان على ممازجة النور، فأجابتها الأبدان لإسراعها إلى الشر. فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملاكا من ملائكته، فاختلطت الأجناس النورانية بالأجناس الظلامية ... فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملاكا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة، لتتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة.» كما نقرأ لابن النديم في أمر الامتزاج وخلق العالم: «فلما تكون هذا الشيطان من الظلمة تسمى إبليس القدي، ثم راح هذا الإبليس يتحرك يمنة ويسرة وإلى الأسفل، ولما رام العلوم رأى لمحات النور فأعد نفسه وتسلح استعدادا للانقضاض على مملكة النور من أسفلها، فعلم به ملك جنان النور واحتال لقهره. كان جنوده قادرين على قهر إبليس، ولكنه أراد أن يتولى ذلك بنفسه فأولد مولودا هو الإنسان القديم
4
وندبه لقتال الظلمة ... فتدرع الإنسان القديم بالأجناس النورانية الخمسة وهي: النسيم والريح والنور والماء والنار، واتخذها سلاحا وانحط بسرعة إلى مكان إبليس. وعمد إبليس إلى أجناسه الظلامية الخمسة وهي: الدخان والحريق والظلمة والسموم والسم، فتدرعها ولقي الإنسان القديم فاقتتلوا مدة طويلة، ولكن إبليس ظهر على الإنسان القديم وبلع من نوره وأحاط به مع أجناسه وعناصره، ولكن ملك جنان النور أرسل وراءه نجدة من قوى عالم النور خلصت الإنسان القديم وأسرت من أرواح الظلمة ... وحدث لما شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، أن اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة. «فلما اختلطت الأجناس الظلامية الخمسة بالأجناس النورية، نزل الإنسان القديم إلى غور العمق فقطع أصول الأجناس النورية لئلا تزيد، ثم انصرف إلى موضعه من الناحية الحربية، فأمر بعض الملائكة باجتذاب ذلك المزاج إلى جانب من أرض الظلمة يلي أرض النور، فعلقوهم بالعلو. وبعد ذلك أمر ملك عالم النور بعض ملائكته بخلق هذا العالم وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجة، من أجل تخليص أجناس النور من أجناس الظلمة، فبنى عشر سماوات وثماني أرضين ووكل ملاكا بحمل السماوات وآخر برفع الأرضين، وجعل حول هذا العالم خندقا ليطرح فيه الظلام الذي يستصفى من النور، ثم خلق الشمس والقمر لاستصفاء ما في العالم من النور، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر وسائر النجوم تستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد.»
خلال هذه الفترة الثانية، يمارس الإنسان دورا فعالا في عملية الفصل بين النور والظلمة ودفع التاريخ إلى مرحلته الثالثة، مرحلة استقلال النور عن الظلمة والقضاء على إبليس. يقول ابن النديم: «ومما يعين في التخليص والتمييز ورفع أجزاء النور، التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البر، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في أعمال عمود الصبح (= درب المجرة) إلى فلك القمر. فلا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى النصف، فيمتلئ فيصير بدرا، ثم يؤدي إلى الشمس حتى آخر الشهر، فتدفع الشمس إلى نور فوقها في عالم التسبيح، فيسير في ذلك العالم إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم.»
عندما تحل المرحلة الثالثة يكون معظم النور المحتبس في المادة الظلامية قد عاد إلى أصله، ولم يبق في هذا العالم سوى نذر يسير، تأتي نهاية العالم. يقول الشهرستاني: «حتى إذا لم يبق من أجزاء النور في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد لا تقدر الشمس ولا القمر على استصفائه، يرتفع الملاك الذي يحمل الأرض، ويدع الملاك الذي يجذب السماوات، فيسقط الأعلى على الأسفل، ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل، ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور، وتكون مدة الاضطرام ألفا وأربعمائة وثمان وستين سنة.» ويقول ابن النديم: «وهكذا فأجزاء النور أبدا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، فيبطل الامتزاج وتنحل التراكيب ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.» وأيضا: «فإذا انقضى التدبير ورأت روح الظلمة خلاص النور وارتفاع الملائكة والجنود والحفظة رامت القتال، فيزجرها الجنود من حولها فترجع إلى قبر أعد لها ثم يسد على ذلك بصخرة تكون مقدار الدنيا، فتتم حينئذ الراحة من الظلمة وأذاها.»
أما عن مفهوم الخلاص، وهو المفهوم المركزي في المعتقد المانوي، فيرتبط بأسطورة خلق الإنسان التي تستطيع إعادة بنائها اعتمادا على شذرات من النصوص المانوية، وعلى مصادر أخرى غير مباشرة. فعندما رأى الشيطان خطة الله في استصفاء النور المحتبس في المادة الظلامية، جهز خطة معاكسة لاحتباس مزيد من النور في نسيج المادة بواسطة الجنس البشري، الذي تتألف أعضاؤه من المادة بينما تتركز الأنوار بكثافة فائقة في روحه. فعهد إلى أركونين من أراكنته باستيلاد الزوجين الأولين آدم وحواء اللذين تجمع فيهما جزء كبير من النور المحتجز في الأسفل. ولكن الإنسانين الأولين كانا غارقين في سبات الجهل غير مدركين لوميض النور في داخلهما. فلما رأى الله ما فعل الشيطان أشفق على الإنسان، فأرسل إلى آدم وحواء يسوع النوراني «وهو غير يسوع الأرضي الذي بعث رسولا فيما بعد» ليزودهما بالغنوص (= العرفان) ويفتح أعينهما على حقيقة الروح المحتجزة والمتألمة في سجن المادة ويظهر لهما أصلهما المزدوج، ثم أرسل الله إلى نسل آدم وحواء رسلا يحملون لهم المعرفة المحررة وهم: شيت ونوح وأخنوخ وشيم وإبراهيم وبوذا وزرادشت ويسوع وبولس وأخيرا ماني. ذلك أن الجهل عند المانوية، كما هو عند الغنوصية بشكل عام، هو الذنب وهو الخطيئة، والخلاص لا يتم إلا بالمعرفة الداخلية المحررة.
إن الروح العارفة التي حققت الاستنارة وأدركت أصلها النوراني، سوف تنفك من إسار دورة الميلاد والموت، وتصعد عبر عمود الصبح إلى القمر ومنه إلى الشمس فإلى النور الأعلى، تاركة جسدها إلى الأبد في عالم المادة الظلامية. وعندما تصل حدود النور تخرج لاستقبالها عذراء سماوية رائعة هي تجسيد لعرفان الفرد ولعمله الصالح، ووراءها ثمانون ملاكا مزينين بالورود يأخذون بيد الروح العارفة ويقودونها إلى جنة النور لتذوق السعادة الأبدية هناك. وأما الروح الجاهلة الراسفة في أغلال المادة فإنها تبقى في إسار دورة التناسخ حتى نهاية الدهر، وعقب كل موت يأتيها ملائكة العذاب فيوبخونها ويذكرونها بأفعالها السيئة ثم يذيقونها أصناف العذاب، وتترك بعد ذلك لتتقمص في جسد جديد، وهكذا فمن تقمص إلى آخر حتى قيام الساعة. عندما تقترب الساعة وتأتي عملية استصفاء النور إلى نهايتها، تحدث كوارث طبيعية في كل مكان، ثم يظهر مخلصان واحد يدعى ميترا المزيف وهو المخلص الدجال، وآخر هو ميترا الحقيقي الذي يقود الحرب العظمى الأخيرة بين قوى النور وقوى الظلام، والتي تنتهي بالنصر المؤزر للنور، عند ذلك يجتمع المؤمنون المبعثرون، ويتم تجديد المعبد وإنقاذ الكتب المقدسة، ويقوم ملكوت الرب على الأرض، وهو ملكوت يحكمه يسوع المسيح لفترة قصيرة من الزمن قبل أن يلتحق بالعالم النوراني. بعد ذلك تنطبق السماء على الأرض، وتندلع نيران في كل مكان تبقى مضطرمة حتى ترفع بقية ذرات النور نحو الأعلى، ويموت الجميع وتفنى أجسادهم، أما أرواحهم فتبعث إما إلى نعيم وإما إلى جحيم. أما الشيطان وزبانيته فيجمعون في كتلة سوداء هي بقية المادة الظلامية، ترمى في أعماق حفرة كونية هائلة ويسد عليها بحجر ضخم. (3) الأخلاق والعبادات
أورد الشهرستاني مقطعا مقتضبا حول الأخلاق والعبادات المانوية قال فيه: «وقد فرض ماني على أصحابه العشر في الأموال كلها ، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق، وترك الكذب والقتل، والسرقة، والزنا، والبخل، والسحر، وعبادة الأوثان، وأن يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله.» غير أن المصادر الأخرى تعطينا مزيدا من التفاصيل حول هذه النقطة. فالأخلاق والعبادات المانوية ليست واحدة بالنسبة لجميع فئات الكنيسة. لقد ذكرنا في حديثنا عن مراتبية كنيسة ماني أنها تتألف من أربع فئات رهبانية وفئة خامسة تشتمل على عامة المؤمنين. يدعى أهل الفئات الرهبانية بالمجتبين أو الصديقين، ويدعى أهل الفئة العريضة الخامسة بالسماعين. وتختلف قواعد السلوك والعبادات المفروضة على المؤمن المانوي تبعا لانتمائه إلى إحدى هاتين الشريحتين، وبشكل عام يلتزم الصديقون من الشريحة الرهبانية خمس وصايا سلوكية وأخلاقية هي: (1)
طهارة الفكر واللسان، فلا يتداول العقل إلا الأفكار الحسنة ويبتعد عن الأفكار والعواطف السيئة كالحسد والضغينة وما إليها، ولا يصدر عن اللسان إلا الصدق وكلام الحق. (2)
التزام اللاعنف تجاه الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات، فلا يقتل الصديق حيوانا ولا يقطع شجرة ولا يجني ثمارا أو يحصد غلالا. (3)
الامتناع عن أكل اللحم وشرب الخمر والتزام الغذاء النباتي. وبما أن تحضير الأغذية النباتية يتضمن خطيئة مباشرة بحق الحياة النباتية، فإن الصديقين يعتمدون على السماعين في هذه المهمة ولا يمارسونها بأنفسهم، وعندما تقدم الأغذية النباتية إلى أحد الصديقين من أحد السماعين يقبلها منه ويصلي من أجله لكي تغفر خطيئته، وقبل تناول الخبز يقول: لم أحصدك ولم أطحنك ولم أخبزك، بل فعل ذلك شخص آخر، لذا أتناولك دون إثم. (4)
العزوف عن الزواج وعن المعاشرة الجنسية، من أجل معاكسة خطة الشيطان في حبس مزيد من النور في كثافة المادة عن طريق المواليد الجدد. يضاف إلى ذلك أن المانويين اعتقدوا أن السائل الحيوي في الرجل يحتوي على قدر كبير من النور المركز، فكانوا حريصين على عدم تسرب هذا النور إلى الخارج. (5)
الفقر وعدم امتلاك أي شيء من متاع الدنيا.
إن الصديقين وحدهم هم المؤهلون للخلاص والانعتاق من دورة تناسخ الأرواح، في حال التزامهم بالوصايا وتفرغهم لحياة الزهد والتأمل التي تقود إلى العرفان. وبما أن نمط الحياة هذا يحول بينهم وبين أداء كل ما هو عملي، فقد كان على السماعين مساندتهم بالطعام والشراب والكساء وكل ما يلزمهم للتفرغ لمهامهم الروحية، وسيكون أجر المحسن منهم أن يتقمص في جسد صديق في تناسخه المقبل. وقد أحل ماني لشريحة السماعين معظم ما حرمه على الصديقين، فقد أباح لهم أكل اللحم والزواج والإنجاب وممارسة النشاطات العملية اللازمة لاستمرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفرض عليهم خمس وصايا سلوكية وطقسية، هي: (1)
مراعاة عشر قواعد سلوكية أهمها الامتناع عن الزنا، والإخلاص الزوجي، والتزام اللاعنف تجاه الكائنات الحية. (2)
تأدية الصلوات الأربعة في كل يوم، وهي صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة المغرب وصلاة العشاء، وتسبق الصلاة عملية الوضوء. (3)
تنحية العشر من أموالهم ينفق على الفقراء، ولدعم حياة الرهبنة التي يعيشها الصديقون. (4)
الصيام يوم الأحد من كل أسبوع، وصيام الشهر المقدس كل سنة، وهو الشهر الذي يسبق العيد الكبير المدعو بيما. (5)
ممارسة الاعتراف بالخطايا كل يوم اثنين أمام الكاهن. وهناك اعتراف جماعي يتلى في العيد الكبير لغفران خطايا الجماعة المانوية. (4) انتشار المانوية
انتشرت المانوية في سورية خلال حياة ماني، ومنها انطلقت إلى مصر حيث تشكلت جماعات مانوية قوية التأثير في الحياة العامة والسياسية، كما دانت إمارة الحيرة العربية بالمانوية عندما اعتنق ملكها عمر بن عدي ديانة ماني، وصار من أشد المدافعين عنها خلال فترة حكمه التي امتدت من سنة 270 إلى سنة 300 ميلادية. ومن الحيرة خرجت بعثات تبشيرية إلى جزيرة العرب، على ما يروي الجغرافي العربي ابن رستة، فوصلت حتى مكة واستمالت بعض أهلها. بينما يروي المؤرخ ابن قتيبة أن بعض القرشيين قد أحضروا هذه البدعة، كما يسميها، إلى ديار العرب. ومن مصر انتشرت المانوية إلى شمال أفريقيا وإلى إسبانيا، كما عبرت سورية إلى آسيا الصغرى واليونان وإليريا وإيطاليا وبلاد الغال، وجميع هذه المناطق كانت من أصقاع الإمبراطورية الرومانية. ولقد رأت روما في المانوية بدعة إيرانية، وفي أتباعها نوعا من الطابور الخامس الذي يعمل لصالح العدو، فابتدأ الاضطهاد المنظم للمانويين منذ عهد الإمبراطور ديوقليان الذي أصدر مرسوما يقضي بإحراق جميع المؤلفات المانوية أنى وجدت، وقتل المانويين ومصادرة أملاكهم.
ونحو الشرق توطنت المانوية في المناطق الهندية القريبة من إيران منذ حملة ماني التبشيرية الأولى، واعتنق ملك طورفان المانوية وجعلها ديانة رسمية للدولة. وبعد وفاة ماني حمل حواريوه المعتقد وتوغلوا به شرقا فصارت مدينتا سمرقند وطشقند الحاضرتين الرئيسيتين لإقليم الصغد بمثابة قاعدة انطلاق للحملات التبشيرية على طول طريق الحرير وصولا إلى الصين، حيث دخل المبشرون البلاط الصيني وشرحوا معتقدهم للإمبراطور. وحوالي عام 760م صارت المانوية الديانة الرسمية لمملكة أويغور الصينية الحدودية، التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من مناطق آسيا الوسطى، وبعد انهيار المملكة بعد قرن من الزمان، استمرت العقيدة المانوية في الصين من خلال جماعات سرية حتى القرن الرابع عشر.
ولكن الاضطهاد الذي وقع على المانوية من قبل روما أولا ثم الكنيسة المسيحية ثانيا فالخلافة العباسية، قد أدى إلى أفولها التدريجي حتى تلاشت تماما مع مطلع العصور الحديثة.
خلاصة
تعتبر المانوية بحق نموذجا كاملا عما أسميناه في مطلع هذا البحث بالثنوية المطلقة. فعالم النور وعالم الظلام أصلان قديمان أزليان ومستقلان عن بعضهما البعض. وعلى حد قول فاوست تلميذ ماني في حواره مع القديس أوغسطين: «إني أبشر أن هنالك عنصرين رئيسيين هما الله والمادة، فأعزو كل ما هو شرير إلى المادة، كما أعزو كل خير إلى الله.» وبذلك يحل المعتقد المانوي مشكلة وجود الشر في العالم بطريقة أكثر جذرية من بقية المعتقدات الثنوية. فالله ليس مسئولا بشكل مباشر أو غير مباشر عن وجود الشر، لأن هذا الشر قد نجم عن المبدأ الثاني المستقل. فلا الشيطان انبعث عن الرحمن كما هو الحال في الثنوية الزرادشتية، ولا هو مخلوق من قبل الرحمن تمرد وعصى عليه كما هو الحال في الثنوية الأخلاقية.
ورغم توكيد ماني على الأخلاق الاجتماعية وتوسيعه مفهوم السلوك الأخلاقي ليشتمل على علاقة الإنسان بجميع مظاهر الحياة، إلا أن هذه الأخلاق لا تقود في حد ذاتها إلى الخلاص، مثلما لا يقود الإيمان إليه، وإنما هي وسيلة تطهير من شأنها تحضير النفس لتحقيق العرفان، وهو الطريق الوحيد للانعتاق.
مراجع الفصل (1)
Geo Widengren, Mani and Manichaenism, New York 1965. (2)
Gerardo Gonoli, Mani-Manichaenism, in: Encyclopedia of Religion, vol. 9. (3)
Robert Haurdt, Mani and Manichaenism, in: The Other Bible, chapter 9. (4)
جيو ودينغرين: ماني والمانوية، ترجمة د. سهيل زكار، دار حسان. دمشق 1985. (5)
ابن النديم: الفهرست، تحقيق د. ناهدة عباس عثمان، الدوحة 1985، فصل المنانية، ص644 وما بعدها. (6)
الشهرستاني: الملل والنحل، دار المعرفة بيروت، المجلد الأول، الباب الثالث، الفصل الثاني.
الفصل التاسع
الكاثارية
انتشر في أرمينيا في وقت مبكر، شكل من المسيحية غير الأرثوذكسية، على يد مبشر يهودي مسيحي قدم من أورشليم يدعى عاديا، الذي بشر بعقيدة تقول بأن المسيح ليس ابن الله، بل هو كائن بشري تبناه الله وجعل منه ابنا له. ثم تطور ضمن هذه العقيدة تنويع آخر يقول بوجود إلهين أعليين لا إله واحد، الأول هو الآب السماوي الأعلى، والثاني هو خالق هذا العالم. وعندما تأسست الكنيسة الكاثوليكية عام 302م وصارت كنيسة رسمية للدولة، تم تصنيف هذه المسيحية الأرمنية في زمرة الهرطقات الكبرى. وبمرور الوقت وازدياد ملاحقة واضطهاد الفرق الغنوصية والمرقيونية، توافد إلى أرمينيا عدد كبير من أتباع هذه الفرق هربا بعقائدهم، وشكلوا تدريجيا، مع أتباع عقيدة التبني، مذهبا ذا مسحة غنوصية مسيحية عرف بالمذهب البولسي. إلا أن أباطرة بيزنطة تابعوا الضغط على هذه الجماعات وعملوا على تشريدها وتهجيرها، فنزح فريق منهم إلى البلقان وبلغاريا، وهناك تلاقحت أفكارهم مع أفكار جماعات محلية غير أرثوذكسية، ونجم عن ذلك مذهب قوي آخر عرف بمذهب البوجوميل.
يقول البوجوميل بثنوية معتدلة لا تجعل من الشيطان إلها مستقلا، بل تجعله ابنا لله خرج على طاعته وعصاه. فهم يؤمنون بإله واحد أعلى هو الإله المسيحي الطيب صانع كل ما هو خير وحسن، ويعتقدون بأن هذا الإله الطيب قد أنجب ابنه البكر لوسيفر، الذي يعني اسمه «حامل الضياء» نظرا لشدة بريقه ولمعانه، إلا أن لوسيفر هذا عصى أباه وسقط من المستوى الروحاني الأعلى بمحض إرادته الحرة التي وهبه إياها أبوه، وصار اسمه ساتانا-إيل، أي الشيطان. والبوجوميل، إذ يتبنون قصة التكوين التوراتية، فإنهم يعزونها إلى الشيطان لا إلى الله. فقد خلق الشيطان بعد عصيانه السماوات والأرض، انطلاقا من المادة القديمة المتمثلة بالمياه الأولى التي كان روح الله يرف فوقها.
مع حلول القرن العاشر الميلادي كان البوجوميل قد وطدوا أنفسهم في أوربا الوسطى، ثم بدأوا بهجوم عقائدي معاكس على مناطق بيزنطة، فكان لهم جماعات سرية في كل مكان تقريبا من آسيا الصغرى والمناطق الأخرى للإمبراطورية البيزنطية، ثم توجهوا نحو شمال إيطاليا حيث شكلت جماعات قوية منهم كنيسة جديدة خلال القرن الحادي عشر دعيت بالكنيسة الكاثارية كان للمانوية تأثير كبير على عقائدها. ومن إيطاليا انتشرت الكاثارية غربا وتوطنت بشكل خاص في الجنوب الفرنسي، حيث عاشت في حرية مطلقة وصنعت ثقافة راقية تعد من أرفع ثقافات العصور الوسطى الأوربية.
من بين الفرق الغنوصية التي عبرت المحن وعاشت حتى القرون الوسطى، كانت الفرقة الكاثارية أكثرها نجاحا وانتشارا، وأشدها خطورة على الكنيسة الرسمية من أية هرطقة أخرى. تركز الكاثاريون بشكل خاص في مقاطعة Lanuedoc في الجنوب الفرنسي، فيما بين مدينة بوردو شمالا وسفوح البيرينيه على حدود إسبانيا جنوبا، ولم تكن هذه المقاطعة في مطلع القرن الثاني عشر جزءا من فرنسا، بل منطقة مستقلة بلغتها وثقافتها ونظامها السياسي، يحكمها عدد من الأسر النبيلة برئاسة كونت تولوز وعائلة ترانسفال القوية. ضمن هذه المنطقة الواسعة التي تضم عشرات المدن من بينها ألبين ومونبلييه وتولوز ومرسيليا، نشأت ثقافة كثارية متميزة كانت الأكثر تطورا في الغرب المسيحي بعد بيزنطة. فقد انتشر فيها التعليم، ونشطت التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، وعلا شأن الشعر والشعراء، وتعلم الطلاب اللغات اليونانية واللاتينية والعربية والعبرية، وتأسست مدارس للفكر الصوفي الإيزوتيري مثل القابالا وغيرها. وكان النبلاء يرعون هذه النشاطات ويشاركون فيها، في الوقت الذي لم يكن فيه نبلاء الشمال قادرين على كتابة أسمائهم. ونظرا لقرب المنطقة من مركز الإشعاع الحضاري في الأندلس، فقد جاءتها تأثيرات عربية مباشرة، سواء عن طريق الموانئ التجارية أم عبر جبال البيرينيه.
دعيت هذه الهرطقة الوسيطية بالكاثارية
Gatharism
نسبة إلى
Cathari
التي تعني نقي أو طهور، كما دعيت بالألبينية نسبة إلى مدينة ألبين
Albin
وهي المركز الرئيسي لانتشارها في جنوب فرنسا. وقد ربط معاصروها بينها وبين الهرطقات الأسبق مثل الأريوسية والمرقيونية والمانوية. ورغم أن الكاثارية قد صارت إلى ما يشبه العقيدة الرسمية لمجتمع ونظام سياسي، إلا أنها لم تشكل كنيسة دينية بالمعنى المسيحي أو المانوي، ولم تتحول إلى أيديولوجيا دينية مصاغة في قالب منمط، بل كانت تضم عددا من الطوائف التي يتبع كل منها مرشدا روحيا ويتكنى باسمه. ورغم اختلاف هذه الطوائف في تفاصيل المعتقد والممارسة، إلا أنها تتفق جميعا حول عدد من مبادئ العقيدة، وعلى رأسها العرفان وتناسخ الأرواح والثنوية الكونية.
رفض الكاثاريون المؤسسة الدينية كوسيط بين الله والناس وكمفسر لوحي الكتاب، كما رفضوا مفهوم الإيمان واستبدلوا به مفهوم العرفان الداخلي الذي يؤدي إلى الانعتاق من دورة التناسخ. وقد استتبع ذلك عندهم رفض فكرة المسيح المخلص المتجسد، ورفض المضمون الخلاصي لواقعة الصلب، والصليب كرمز لخلاص الإنسانية، بل لقد رأوا في الصليب رمزا لأمير الظلام حاكم العالم المادي والعدو الأول لمبدأ الخلاص، ورأوا في كنيسة روما تجسيدا لسلطان أمير الظلام على العالم. ومع ذلك فقد اعتبروا أنفسهم المسيحيين الحقيقيين، واعتقدوا بمسيح سماوي لم يتجسد في إنسان، لأن الجسد الإنساني ينتمي إلى عالم المادة المظلمة صنيعة الشيطان، ومن غير الممكن للمسيح أن يلبس جسدا ويبقى مع ذلك ابنا لله.
لا يقف المعتقد الثنوي للكاثارية عند حدود الثنوية الأخلاقية المسيحية، بل يتعداه إلى ثنوية كونية تتخلل جميع مظاهر الوجود، نقيضاها مبدآن تصارعان على كل صعيد، المبدأ الأول روحاني جوهره الحب، والمبدأ الثاني مادي جوهره القوة. الأول هو الله والثاني هو الشيطان، وبما أن الخلق والتكوين هو عمل من أعمال القوة لا من أعمال الحب، فإن العالم المادي في اعتقادهم قد صنعه الشيطان، ملك الدهر وأمير هذا العالم. من هنا فإن المادة بأشكالها جميعها شر، بما في ذلك جسد الإنسان. فبعد أن انتهى أمير الظلام من صنع العالم وجاء إلى صنع الإنسان، وجد نفسه غير قادر على بث الحياة في جسد الزوجين الأولين، فعمد إلى اصطياد روحين ملائكيتين من الأعالي وسجنهما في الهيئة المادية التي صنع، فنهض أمامه آدم وحواء بشرا سويا بجسد ظلامي وروح نورانية. ولما كان ملك العالم راغبا في مزيد من احتباس الروح في المادة الكثيفة، فقد أغوى آدم وحواء وزين لهما الفعل الجنسي الذي يقود إلى التكاثر، فكانت خطيئة الإنسان الأصلية.
ولكن الإنسان قادر على إزالة أثر الخطيئة الأصلية من خلال التعرف على أصله النوراني ومقاومة كل تأثير للعالم المادي عليه، وهو في سعيه لتحرير روحه إنما يشارك في الوقت نفسه بالجهد الخلاصي الكوني، الذي يهدف إلى القضاء على مملكة الشيطان. غير أن سعي الإنسان هذا يبقى قاصرا دون مدد من الأب النوراني الأعلى، الذي شعر بالعطف نحو ملائكته الساقطة المحبوسة في أجساد بشرية مادية، وغفر للإنسان خطيئته الأصلية التي ارتكبها جهلا لا اختيارا، فأرسل ابنه المسيح لمساعدتهم على الخلاص، كما أمدهم بالروح القدس لتوجيههم وتعليمهم. هذا المسيح الابن ليس كلمة الله المتجسدة في بشر، ولم يكن له جسم مادي رغم ترائيه للناس في هيئة وشكل، بل كان أشبه بحضور ملائكي منظور ومسموع، ولهذا لم يكن له أن يصلب أو يموت أو يعاني الآلام الأرضية، رغم أنه قد تألم في الأعالي من أجل الإنسانية وتعاطف معها، ولهذا أيضا لا يستطيع الإنسان أن يلتمس المسيح في الكنائس لأنها ليست بيتا له، بل يلتمسه في هيكل النفس ويطلب عونه على الخلاص بالمعرفة. وعندما تنتصر الإنسانية على الشيطان وتخلص من ربقته، فإن هذا الانتصار لن يتوج ببعث الأجساد التي تعود للاتحاد بأرواحها، بل بتدمير الجسد مع ما يتم تدميره من عالم الشيطان في نهاية الأزمان، التي تشهد السيادة النهائية للعالم الروحاني بعد فناء العالم المادي وقهر صانعه.
تختلف ثنوية المعتقد الكاثاري عن ثنوية البوجوميل المعتدلة ، في النظر إلى طبيعة تناقض المبدأين. فالتناقض بين المبدأين لدى الكاثارية هو تناقض مطلق وتعارضهما أزلي، لأنهما مبدآن مستقلان ومنفصلان أصلا، ولم ينشأ أحدهما عن الآخر، والكاثارية في ذلك أقرب إلى المانوية من أي معتقد غنوصي آخر. فالخيار الحر لم يكن السبب في سقوط الشيطان وانفصاله عن الرحمن، لأن الشيطان كان موجودا في استقلال قديم ولم يكن للرحمن في أي وقت سلطان عليه، رغم أنه سيربح حربه تدريجيا ضده في نهاية الأزمان. وكما لم تكن الحرية سببا في سقوط الشيطان، فإنها لم تكن أيضا سببا في سقوط الإنسان، ولن تكون مفيدة في خلاصه. فالإنسان قد سقط عنوة في إسار الشيطان، ولن يتحرر من هذا الإسار حتى وإن اختار الوقوف إلى جانب الخير وقاوم الشر، بل يتوجب عليه أن يمر في دورات تناسخ عديدة، يعمل خلالها على تكميل معرفته وتطهير روحه في عالم المادة، الذي هو الجحيم بعينه ولا جحيم غيره. هذا التطهير التدريجي يتم عن طريق رفض العالم رفضا كليا ونبذ الشروط التي تجعل الوجود الإنساني ممكنا، وهذا يعني الامتناع عن الزواج والمعاشرة الجنسية التي تؤدي إلى الإنجاب، والامتناع عن أكل الحيوان لأنه نتاج عملية التناسل المادية، وعدم تملك أي شيء من متاع الدنيا وممارسة الزهد والتقشف إلى أبعد حد ممكن. وعلى النطاق الأخلاقي، على الكاثاري التزام الصدق وحسن معاملة الآخرين، وعدم إيذاء جميع الكائنات الحية.
ولما كان هذا النهج عسيرا على الناس كلهم، فقد انقسم الكاثاريون على طريقة المانويين إلى شريحتين؛ الأولى شريحة رهبانية منذورة للخلاص القريب، هي فئة الكاملين التي تلتزم السلوكيات والأخلاقيات الكاثارية بحذافيرها، وتتفرغ للتأمل والمعرفة الباطنية، والثانية هي فئة سواد المؤمنين التي تمارس حياتها الاعتيادية وتتبع سلوكيات وأخلاق كاثارية أقل صرامة، وتدعم شريحة الكاملين وتقبل توجيهها الروحي، على أمل الالتحاق بهؤلاء الكاملين في حيوات وتناسخات مقبلة. وبما أن الانتماء إلى جماعة الكاملين متاح أمام الجميع ولمن يجد في نفسه القوة الروحية اللازمة، فإن باب السماء قريب ومفتوح لكل من يشاء اختصار دورة الحياة والموت والإسراع إلى الأبدية. يتم قبول المريدين الجدد إلى جماعة الكاملين بعد طقس إدخالي خاص يؤمن عبور المريد من عالم ملذات الدنيا الفانية إلى عالم متع الروح الصافية. ومن أهم فقرات هذا الطقس عملية التعميد الروحي التي تتم بوضع يد الشيخ على رأس المريد. بعد فترة اختبار تدوم عاما كاملا يكشف الشيوخ للمريدين المقبولين عن التعاليم السرية للعقيدة المخفية عن عامة الناس، ويغدو هؤلاء أعضاء عاملين في سلك الرهبنة الكاثارية.
حوالي عام 1200م، شعرت الباباوية الكاثوليكية بأن المقاطعة الكاثارية في فرنسا وجيوبها المتفرقة المتفقة في معظم أرجاء الغرب المسيحي، باتت تشكل خطرا حقيقيا عليها، فأعد البابا لحملة عسكرية دعاها بالحملة الصليبية الألبينية، ووجهها إلى جنوب فرنسا عام 1209. كان قوام الحملة ثلاثين ألفا من الفرسان والمشاة انحدروا من الشمال الأوروبي كالإعصار نحو مقاطعة الكاثارية، وكان أجرهم ما يحصلون عليه من أسلاب وغنائم إضافة إلى صك غفران ومكان لهم في الجنة. أحرق الصليبيون الجدد الأرض، ومسحوا المدن الآمنة فسووها بالتراب وأفنوا سكانها عن بكرة أبيهم تقريبا. ففي مدينة Beziers وحدها جرى قتل خمس عشرة ألف نسمة بين رجل وطفل وامرأة، ناهيك عن عدد القتلى في عشرات المدن ومئات القرى. ويروي أحد مؤرخي تلك الحملة أن قائدها سأل ممثل البابا لديه عن الكيفية التي يميز بها الهراطقة من غيرهم في المدن المفتوحة قبل إعمال السيف بهم، فأجابه: اقتلهم جميعا واترك لله أن يميز رعيته بينهم. وقد أرسل هذا الممثل البابوي في تقريره إلى الحبر الأعظم يقول: إن السيف لم يميز ضحاياه تبعا للسن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية. ولكن هذه الحملة الألبينية الأولى لم يقدر لها أن تنتهي بسرعة رغم النجاحات التي حققتها الهجمات الأولى، وذلك بسبب المقاومة العنيفة التي أظهرها الكاثاريون وتراجعهم نحو المناطق الوعرة والصعبة والحصون المنيعة. وكان على جيش البابا أن يحارب مدة أربعين سنة أخرى، في كر وفر وعلى فترات تطول وتقصر، وذلك حتى عام 1244 عندما سقطت مدينة Monstegur وكانت آخر معقل كاثاري. وبذلك تم محو أهم وأرقى ثقافة قروسطية عن الخارطة الأوروبية المظلمة.
لم يندثر الفكر الكاثاري عقب زوال الحضارة الكاثارية في جنوب فرنسا، بل اتخذ أشكالا جديدة، وحملته إلى العصور الحديثة حركات سرية تسمت بأسماء شتى منها:
The Brothers of the Free Spirit ،
The Hussites ،
The Waldensians ،
The Anabaptists ،
The Camisard . وقد بقي نشاط الفرقة الأخيرة فاعلا حتى القرن الثامن عشر وكان لها وجود قوي في لندن. هذا ويتابع بعض مؤرخي عقائد الهرطقة تناسخ العقيدة الكاثارية، فيعزون إليها تشكيل جماعة فرسان المعبد المعروفة في الحروب الصليبية على الشرق العربي، كما يعزون إليها تشكيل طوائف الصليب الوردي التي ما زالت تعلن عن وجودها اليوم في المدن الأمريكية الكبرى وفي معظم العواصم الأوروبية، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمحافل الماسونية.
مراجع الفصل (1)
Michael Baigent, The Holy Blood and the Holy Grail, Jonathan Cape, London 1982. (2)
Cathari, in: Encyclopedia of Religion, vol. 1. (3)
Gnosticism, in: Encyclopedia of Religion, vol. 2.
الفصل العاشر
أمير هذا العالم
الشيطان في اللاهوت المسيحي
لم يبشر يسوع بإله جديد، بل كان ظاهر تعاليمه يشير على الدوام إلى إله العهد القديم. ومع ذلك فقد أحدث انقلابا داخل المؤسسة الدينية اليهودية أعظم أثرا من كل ما فعله الفكر المنحول، والفكر الغنوصي اليهودي على حد سواء. لقد أسس لعهد جديد بين الله الحقيقي وبني الإنسان جميعهم، وألغى العهد القديم عهد يهوه مع بني إسرائيل. فإله يسوع هو الألوهة السرمدية فيما وراء الزمن، وهو الواحد خالق العالم وصانع التاريخ، هو المتعالي ولكنه مرتبط مع العالم والإنسان برابطة الحب، وملتزم بخلاص العالم والإنسان منذ اللحظة التي داخل الشر فيها نسيج العالم الحسن والطيب. هو الحق والعدل، الخير ومنبع الخير، وهو فوق كل شيء إله أخلاق يأمر بها ويكافئ عليها، ولا يطلب من الإنسان سوى الإيمان والعمل الطيب، وهما المرتكزان الرئيسيان للعقيدة المسيحية.
لما كانت أهم صفات الله في علاقته بالعالم هي الحق والخير والعدل، وجميعها تنفي مسئولية الآب السماوي عن وجود الشر في العالم، فقد لجأ المعتقد المسيحي إلى حل هذه المعضلة عن طريق تبنيه لجواب قديم في صيغة جديدة، وذلك بابتكاره لأول مرة مفهوم الثنوية الأخلاقية التي تجعل للشيطان سلطانا على الحياة النفسية والمجتمعية للإنسان من دون بقية مظاهر الكون. هذه السلطة التي اكتسبها الشيطان منذ غوايته الأولى للإنسان، قد أطلقت تاريخا ديناميا يسير عبر ثلاث مراحل إلى نهاية محددة، ينتهي عندها الزمن والتاريخ وتدخل البشرية في الأبدية، كل ذلك يجري وفق خطة خلاصية أعدها الآب من البدء، وهو يسير بها الآن حتى نهايتها، لأنه: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (إنجيل يوحنا، 3: 16).
قبل أن نعمد إلى شرح مفهوم التاريخ ومراحله في اللاهوت المسيحي، سوف نتوقف عند المعلومات المتفرقة في أسفار العهد الجديد عن منشأ الشيطان وتأسيسه لمملكة الظلام والشر وعن مصيره المرتقب. (1) الشيطان في الأناجيل
لا تقدم لنا أسفار العهد الجديد رواية متسقة ومطردة عن منشأ الشيطان، لأنها اعتمدت على لاهوت للشيطان كان الفكر المنحول قد نسجه ببطء، حتى صار جزءا من العقيدة الشعبية والرسمية في فلسطين. من هنا فإن معظم الإشارات التي أوردها مؤلفو هذه الأسفار تلمح إلى ما كان السامع أو القارئ يعرفه ويألفه، مع إضافتها لظلال وألوان جديدة على تلك الصورة المألوفة.
فالشيطان ليس كائنا شريرا فحسب، وإنما هو صاحب مملكة للشر تسود في هذا العالم. وقد قارن إنجيل متى بين مملكة الشيطان هذه ومملكة الله التي ستبنى على أنقاضها بظهور يسوع المخلص. فعندما رأى الفريسيون أن يسوع يخرج الشياطين من أجسام المجانين قالوا: «هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعل زبوب رئيس الشياطين. فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم: كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته؟ ولكن إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متى، 12: 24-28). وللشيطان سلطان على هذا العالم قد دفع إليه مؤقتا وهو يتصرف به كما يشاء. فعندما أخذ الشيطان يسوع إلى البرية ليجربه أربعين يوما، ثم يئس من الإيقاع به، أخذه إلى جبل عال وأراه جميع ممالك الدنيا وقال له إن سلطان هذه الممالك ومجدها قد دفع إليه يتصرف بها ويعطيها من يشاء، فإن سجد له وهبه سلطة على العالم. نقرأ في إنجيل لوقا: «ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجده، لأنه إلي قد دفع وأنا أعطيه من أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان إنه مكتوب للرب تسجد وإياه وحده تعبد» (لوقا، 4: 5-8).
بسبب هذا السلطان الذي لإبليس على العالم، فقد دعاه إنجيل يوحنا برئيس هذا العالم، ولكن رئاسته تتضعضع مع مجيء يسوع وستنتهي في يوم الدينونة: «الآن دينونة هذا العالم. الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجا. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب الجميع إلي» (يوحنا، 12: 31). ودعاه بولس الرسول بإله هذا الدهر، لما له من سلطان على المرحلة الثانية من مراحل التاريخ: «ولكن إن كان إنجيلنا مكتوما، فهو مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2 كورنثة، 4: 3-4). وأطلق عليه بولس أيضا وعلى زبانيته لقب سلاطين وحكام الظلام: «البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد إبليس، لأن مصارعتنا ليست مع كائنات من لحم ودم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر» (إفسوس، 6: 11-13).
أما عن الاسم «الشيطان» فهو من الجذر العبري «شطن» الذي يتضمن معنى المقاومة والمعاندة، وعن الاسم الآخر «إبليس»، فهو من الأصل اليوناني «ديابولوس» الذي يعني المشتكي زورا، ومن هذا الأصل اليوناني أيضا جاءت كلمة Devil أي الشيطان، في اللغة الإنكليزية ولغات أوروبية أخرى. ويدعى أيضا بالتنين وبالحية القديمة (رؤيا يوحنا، 12: 9)، وبالأسد الزائر (بطرس، 5: 8)، وبالكذاب وأبو الكذاب (يوحنا، 8: 44)، وببعل زبوب رئيس الشياطين (متى، 12: 24). ويستخدم بولس في بعض رسائله الاسم المعروف لدينا من الأسفار التوراتية المنحولة، وهو بليعال: «لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال» (2 كورنثه، 6: 15).
يتخذ الشيطان من النفس الإنسانية والمجتمع الإنساني مجالا رئيسيا لنشاطه. يشبهه بولس الرسول بأسد يزأر على الدوام باحثا عن فريسته: «اصحوا واسهروا، إبليس خصمكم، كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه، فقاوموه راسخين بالإيمان» (1 بطرس، 5: 8-9). وهو يرسل زبانيته لتسكن في أجساد الناس وتسبب لهم أعراض الصرع والجنون (متى، 9: 34 و12: 24؛ مرقس، 9: 17-27). وهو يجرب الناس ليوقعهم في الخطيئة، سواء بشخصه أم من خلال زبانيته (1 تسالونيكي، 3: 5؛ 1 كورنثة، 7: 5) جاعلا منهم مقاومين الله ذاته (أعمال، 5: 3). وهو روح رهيب بحيله ووساوسه وخدعه (2 كورنثة، 2: 11؛ إفسوس، 6: 11؛ تيماوس، 3: 7 و6: 9)، يتخذ زي ملاك النور (2 كورنثة، 11: 4). وهو وراء الخطيئة الأصلية (روما، 5: 12 و7: 7). ومنذ أن أخضع آدم وحواء لسلطته فقد أخضع الجنس البشري لصولته الظالمة (إفسوس، 2: 1-3). في ظل هذا الوضع على الإنسان أن يختار بين الله وإبليس، بين المسيح وبليعال (2 كورنثة، 6: 15)، بين الحق والشرير (1 رسالة يوحنا، 5: 18). لأن الإنسان في اليوم الأخير سيرتبط مصيره إلى الأبد هذا أو ذاك، فالمؤمن يهزم إبليس باتحاده بالمسيح بالإيمان (إفسوس، 6: 10)، وكذلك بالصلاة: «أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم، واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل من يذنب إلينا، ولا تدخلنا في التجربة، لكن نجنا من الشرير» (إنجيل متى، 6: 9-13).
إن من يختار الله ومسيحه يكون واثقا من الانتصار، ولن ينهزم إلا من يقبل الهزيمة (رسالة يعقوب، 4: 7؛ إفسوس، 4: 27). فلقد حققت قيامة المسيح هزيمة إبليس بالفعل، ولكن المعركة لن تنتهي تماما إلا عند آخر مشهد من مشاهد تاريخ الخلاص، وذلك في يوم الرب عندما يبيد المسيح في قدومه الثاني كل قوة ورئاسة وسلطان لإبليس، ويسلم الملك للآب (1 كورنثة، 15: 24-28). وهنا يقدم لنا سفر الرؤيا، آخر أسفار العهد الجديد، صورة شديدة الحيوية والتأثير عن حرب نهاية الزمن بين الملائكة والشياطين: «وحدثت حرب في السماء. ميخائيل وملائكته حاربوا التنين، وحارب التنين وملائكته ولم يقووا، فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء. فطرح التنين العظيم، الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله، طرح إلى الأرض وطرحت معه ملائكته، وسمعت صوتا عظيما قائلا في السماء: الآن صار خلاص إلهنا وقدرته وملكه ... ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفاتيح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، قيده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكيلا يضل في الأمم فيما بعد» سفر الرؤيا مقاطع من الإصحاحين 12 و20.
أما عن أصل الشيطان ونشأته، فإن الإشارات المقتضبة في الأسفار تنسج على منوال الفكر المنحول. فالشياطين هم ملائكة عصوا وأخطئوا، على ما نفهمه من رسالة بطرس الثانية : «لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء، ولم يشفق على العالم القديم ... إلخ» (2 بطرس، 2: 4-5). وفي رسالة يهوذا نقرأ: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» 6. هؤلاء الملائكة الساقطون هم أتباع إبليس الذين تبعوه بعد عصيانه وصاروا ملائكة له بعد أن كانوا ملائكة العلي: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ... ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم ... ثم يقول أيضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته» (متى، 25: 31-41).
هذه هي أهم المعلومات التي يمكن استخلاصها من العهد الجديد عن الشيطان ومملكته ودوره ونهايته، وهي غير كافية من أجل إعادة بناء لاهوت واضح عن هذه الشخصية، رغم كل الأهمية التي أسبغت عليه باعتباره رئيس أو إله هذا العالم، والشخصية الثانية في دراما الخلق والحياة الإنسانية وصيرورة التاريخ. ذلك أن مؤلفي أسفار العهد الجديد كانوا يتوجهون إلى مؤمنين نشئوا في بيئة مطلعة تمام الاطلاع على أسفار التوراة وعلى الأسفار المنحولة، ولديهم فكرة عن لاهوت الشيطان الذي أسست له أدبيات ما بين العهدين. غير أنه مع انتشار المسيحية خارج بيئتها الأولى وبين جماعات ذات خلفيات دينية وثقافية مغايرة ومتباينة، صار لزاما على العقيدة المسيحية أن تتقدم بلاهوت متسق ومتكامل عن الشيطان، وذلك في السياق العام لعقيدة التكوين ومراحل التاريخ ونهاية الزمن. وهذا ما ابتدأت به المسيحية منذ أيام القديس أوغسطين، وساهم به تدريجيا عدد من كبار المفكرين المسيحيين، إلى أن صار للمسيحية معتقدها الناجز والمستقل عن لاهوت التوراة واللاهوت المنحول على حد سواء، رغم انطلاقها من هذين المصدرين. وهذا ما سنخصص له ما تبقى من هذا الفصل. (1-1) السرمدية، أو ما قبل التاريخ «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (إنجيل يوحنا، 1: 1-2).
منذ الأزل لم يكن سوى الله. وجود مكتمل قيوم بذاته غير مخلوق، جوهره النور، نور غير مخلوق مختلف عن النور المخلوق الذي ظهر فيما بعد، إنه نور المجد. وكان هذا الوجود بطريقة غامضة وسرية ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، هم الآب والابن-الكلمة والروح القدس. منذ الأزل كان الابن يصدر عن الآب والروح القدس يصدر عنهما معا، فهم ثالوث مجيد وإله واحد. عندما يتأمل العقل هذه السرمدية السابقة للخليقة، يصعب عليه تكوين صورة صادقة عن الحقيقة الواحدة المثلثة، لأن الابن-الكلمة لم يكن قد تجسد في يسوع، ولم يكن الروح القدس قد هبط على شكل حمامة نارية معلنا بنوة يسوع للآب، ثم تابع حضوره الفعال في توجيه البشرية نحو الخلاص. ولأن الكلمة قبل تجليه على الأرض في لحظة معينة في التاريخ، كان اللوغوس أو صوفيا التي هي حكمة الله والتي بواسطتها سيتم خلق العالم فيما بعد. وكان له شبه إنسان، وعلى هذه الصورة المثلى للإنسان الكامل السماوي سيتم خلق الإنسان الأرضي.
منذ عصور لا بداية لها كان الابن موضع حب الآب ومسرته، وكان الروح القدس بمثابة الحب الذي يغلق الدارة بينهما، دارة حب مكتملة لم ينقصها شيء ولم تكن بحاجة لأن يصدر عنها شيء، لأن أي خلق آخر لن يرقى إلى حالة تمامها واكتمالها وغناها عما عداها. فهي وجود يملأ كل مكان قبل أن يظهر المكان، وتغطي الدهر قبل أن ينطلق الزمان، غير أن دارة الحب الإلهي قد فاضت حتى جاء وقت أراد الله فيه، بحرية مطلقة ودونما سبب ملزم، أن يخلق ما سواه ، فكان أول ما صدر عنه، وبأمر من كلمته الخالقة، عالم من الأرواح الصرفة هم الملائكة. (1-2) الزمن الكوزموغوني
أول خلق الله
كان الملائكة أول ما خلق الله، وقد صدروا عن مركز النور الأسمى، وتوضعوا في تسعة أفلاك نورانية تحيط بالمركز، وفي كل فلك طبقة مراتبية كان أقربها إلى الله طبقة الكروبيم، يليها السيرافيم، فحملة العرش ، فالسيادات، فالسلاطين، فالقوى، فالأمراء، فالرؤساء، فجمع الملائكة. وجميعهم أرواح لا أبدان لها ومن جوهر النار، خالدون منذ لحظة الميلاد، ينعمون بمجد الله ويسبحونه منذ أن استيقظ وعيهم على مرأى النور العظيم. فأما الكروبيم فهم أرواح المعرفة، لهم رأس فقط عليه جناحان، وهي صورة مناسبة لتلك الأرواح المشغولة على الدوام بمعرفة الله. وأما السيرافيم، فهم أرواح الحب، لهم جسد وستة أجنحة، اثنان على الرأس واثنان على الجذع واثنان على القدمين، وهذه الصورة مستمدة من رؤيا إشعيا: «ورأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير» 6: 1-2. وأما حملة العرش فهم عجلات عرش الرب، لهم أربعة أجنحة وأربعة وجوه، والصورة هنا مستمدة من رؤيا حزقيال: «فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال، سحابة عظيمة ونار متوالية ... ومن وسطها شبه أربعة حيوانات لها شبه إنسان، ولكل واحد أربعة وجوه، ولكل واحد أربعة أجنحة، وأرجلها أرجل قائمة وأقدام أرجلها كقدم العجل، وبارقة كالنحاس المصقول، وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة» 1: 4-8.
المراتب الثلاث التي تلي هذه، وهي السيادات والسلاطين والقوى، تتوسط بين المراتب الثلاث الأولى القريبة إلى الخالق والمراتب الثلاث الأخيرة الموكلة بشئون العالم. وبينما لا يتوفر لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الفئة الوسيطة، فإن المعلومات غزيرة نسبيا حول الفئة الدنيا وهي الأمراء والرؤساء وجمع الملائكة، وجميعها تشكل حلقة الوصل العملية بين الله والعالم. فالأمراء هم الأبعد عن الشئون التفصيلية وموكلون بحفظ النظام الكوني والطبيعاني وإدارة المجالات العليا منه. وأما الرؤساء فهم القيمون على شئون الشريحة الدنيا من الملائكة، والأقرب إلى الأرض والناس، ولهم شكل محاربين متزودين بحربات وسيوف وفئوس، إضافة إلى عدد من أدوات الحرف والفنون. فهم الموكلون بتصريف شئون العالم اليومية وحفظ الحياة والمجتمع الإنساني، ومرتبة هؤلاء الرؤساء هي الأكثر ظهورا وحضورا في أسفار العهد الجديد التي تذكر أربعة من أسمائهم؛ وهم: ميخائيل ورفائيل وأوريئيل وجبرائيل، رغم وجود عدد آخر من هؤلاء الرؤساء لا نعرفهم بالاسم . وكل منهم يرأس شريحة من فئة الملائكة التي تعد بآلاف الآلاف، ولكن الملاك ميخائيل هو رئيس جمع الملائكة طرا، أو الطبقة الأوسع منها والأكثر فعالية وتدخلا في شئون الناس. وإلى جانب ذلك فميخائيل هو رسول قضاء الله وأحكامه، وله مهمات حاسمة في يوم الدينونة، فهو الذي سيقهر الشيطان ثم يقيده ويرميه في هاوية الجحيم، وهو الذي يمسك بيده ميزان الحساب الأخير. أما جبرائيل فرسول الرحمة الإلهية والبشارة الطيبة، وهو الذي حمل بشارة الحبل المقدس إلى مريم العذراء. ورفائيل هو ملاك الصحة وحامل الشفاء للمرضى. وأوريئيل هو نار الله ورسول النبوءات ومفسر مشيئة الله في عقول المختارين من أنبيائه وملهميه. ولقد من الله على كل فرد من أفراد البشر بملاك حارس من ملائكة الفئة الواسعة الدنيا، مخصص لحراسته وحمايته من قوى الشر والظلام، وذلك منذ يوم مولده، وهو يمده بحكمة وحب الآب الأعلى، كما يحمل إلى السماء صلواته.
إن الأجنحة التي يحملها الملائكة بفئاتهم وطبقاتهم جميعها، هي رمز لطبيعتهم العلوية الروحانية، ودلالة على مقدرتهم على الانتقال بشكل آني من مكان إلى آخر لأداء المهام. فالملاك ينتقل إلى حيث يفكر في الانتقال دون فاصل زمني، ولذا يمكن لعدد غير محدد من الملائكة الوقوف على رأس دبوس طالما أن الجميع يفكر برأس الدبوس، فهم ينتقلون بسرعة الفكر ويقطعون الكون من أقصاه إلى أقصاه، وفيما بين السماء والأرض دون زمن.
تمرد في السماء
لقد جاء خلق الله هذا كاملا، وكأفضل ما يكون الكمال الذي يلي كمال الله نفسه، ثم إن الله لم يضن على الملائكة بإحدى خصائصه العليا، ألا وهي الحرية. والحرية تعني الاستقلال والتسيير الذاتي دونما جبر أو إكراه ، لأنه بدون الحرية لن يكون للملائكة القدرة على الحب الذي لا يمكن منحه إلا عن رغبة وطواعية، والحب هو جوهر وجود الله، وينبغي أن يكون أيضا جوهر وجود خلقه الكامل. ولكن الحرية ليست بدون محاذير، لأن من هو حر في أن يحب، حر أيضا في أن يكره، وما إن تمنح الحرية لا يمكن التحكم في كيفية استخدامها إلا بإلغائها. ولقد عرف الله محاذير هبته للملائكة، وعرف أيضا أن هبة الحرية سوف يساء استخدامها إلى أبعد حد ممكن، ومع ذلك فقد قبل المخاطرة، لأن ما كان يخطط له من خلق عظيم يجعل من مثل هذه المخاطرة أمرا مسوغا.
والآن، فمن بين الملائكة جميعا كان المدعو لوسيفر، أي حامل الضياء، أجملهم وأروعهم خلقا، وكان من ملائكة الفلك الأول المقربين الذين يعكسون مجد الخالق وضياءه الأخاذ، وكان أفضل ما يمكن لصنعة الله البديعة أن تخلقه. فظن لإعجابه بنفسه وزهوه، أنه يستحيل على الله أن يخلق من هو أكمل منه وأعلى شأنا. منذ صحوته من العدم بهر لوسيفر بنور مجد الله فغطى وجهه بجناحيه، ثم راح مأخوذا يحدق إلى مركز النور العظيم، يسبح بحمد الله وينشد مع بقية الملائكة المقربين مجده وعظمته، وكلما حدق لوسيفر أعمق فأعمق إلى لجة الضياء ومركز الثالوث الأقدس، صار يشارك العلي رؤى المستقبل، ويتوحد بعلمه للماضي وللمستقبل، فشعر بالسعادة الغامرة والروعة البالغة لمثل هذه المشاركة، إلى أن جاء وقت عرف فيه أن الله يعد خطة لخلق جديد، ويعد فيه مكانا أعلى وأسمى من مكان الكروبيم والسيرافيم، لكائن مختلف عنهم مصنوع من مادة كثيفة لا تقارن بماهيتهم النورانية، ثم تبصر أكثر فأكثر وعرف أن الابن-الكلمة سوف يحل في جسد من طينة ذلك الكائن ويعيش بين الناس على الأرض ردحا من الزمن.
رأى لوسيفر كل ذلك بعين بصيرته، فتملكته الضغينة وملأت الأذية روحه ووجدانه، وفضل مجده الملائكي على القصد الإلهي والمشيئة العلوية، ونوى التمرد والعصيان بحرية تامة ومطلقة، رغم علمه الأكيد بما سيجره عليه عصيانه من عواقب وبما ينتظره من لعنة أبدية، ولكنه فضل السقوط واللعنة على فقدان عزته ومجده الملائكي، وإظهار الخضوع لكائن أقل منه نورانية وروحانية. أدار لوسيفر وجهه عن نور الله رافضا المشاركة في خطة الخلق المقبل ونتائجها، وفر نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وتبعه عدد كبير جدا من الملائكة الذين وقفوا في صفه وارتأوا رأيه، فقادهم بعيدا عن دائرة الرحمة حيث وضعوا أنفسهم في خدمة العدم بدلا من خدمة الوجود، وراحوا يتحفزون من أجل تخريب خطة الخلق، وإفساد الإنسان الذي كرمه الله وفضله عليهم. وهكذا تحول لوسيفر إلى إبليس، الملاك المظلم، وتحول ملائكته إلى شياطين، فنظمهم في مراتبية سفلية من تسع طبقات تناظر الطبقات التسع العلوية التي نفروا منها. لقد ظهر الشر على المستوى الروحاني، ولكنه ما زال شرا مشلولا عاجزا يتولد ويتلاشى في عالم الظلمة الخارجية، غير قادر على التحقق واقتحام عالم الأنوار، ينتظر خلق العالم المادي، وسيد ذلك العالم، لينقض عليه ويثأر منه.
والآن، فوق مياه العمر العظيم، المادة البدئية التي تنطوي على ممكنات الكون المقبل، كان العالم الروحاني يتماوج في اتساقه وكماله، حيث الثالوث المقدس في المركز وحوله تسعة أفلاك تتوضع فيها آلاف مؤلفة من الأرواح الملائكية، ثم عمد الآب إلى خلق العالم بواسطة كلمته الابن-اللوغوس. في اليوم الأول خلق النور المادي، وهو مختلف عن النور العلوي غير المخلوق، نور الثالوث ونور الملائكة، وميز الله النور عن الظلمة فدعا النور نهارا ودعا الظلمة ليلا. في اليوم الثاني خلق قبة السماء الدنيوية وبها فصل مياه الغمر بين مياه تحتية ومياه فوقية. في اليوم الثالث خلق الأرض تحت نقطة المركز من القبة السماوية، وجمع المياه التحتية إلى مكان واحد فشكلت بحار الأرض، وفي مركز الأرض صنع حفرة الجحيم التي تحيطها تسعة أودية، كما أنبت من الأرض كل عشب وبقل وشجر ذي ثمر. في اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والنجوم ووزعها في سبعة أفلاك، ووراء الفلك السابع صنع كويكبات خط السمت أبراج القبة. وكانت الشمس وقتها في برج الحمل، في الموضع نفسه الذي ستكون فيه يوم الفصح عند خلاص العالم بدم حمل الله. في اليوم الخامس خلق طيور الجو وكائنات البحر. في اليوم السادس خلق حيوانات البر، كما خلق الإنسان آخر أعماله المبدعة. جبل الله آدم من تراب الأرض ثم نفخ فيه من روحه فصار آدم نفسا حية، وبذلك تم التجسد الأول للحق في الخلق. أما التجسد الثاني فسيكون في يسوع الذي حملت به مريم من الروح القدس، فهو آدم الثاني. نصب الله آدم سيدا على الأرض وجعله متسلطا على جميع كائناتها وسخر له زرعها ونباتها طعاما له، ثم عرض عليه حيوانات البرية كلها وطيور السماء كلها ليرى ماذا يدعوها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وحيوانات البرية جميعها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. في اليوم السابع استراح الخالق من عمله الذي عمل جميعه.
عصيان على الأرض
كان آدم تجسيدا للكمال الإنساني الذي أراده الله، ورغم جبلته المادية فقد ولد خالدا مثل الملائكة لا يطاله الفناء، وكان مثلهم أيضا حرا مستقل الإرادة. ثم غرس الله في عدن في وسط الأرض جنة تماثل الجنة السماوية وأسكن فيها آدم، وخلق من ضلعه امرأته حواء، ثم أمرهما أن يأكلا من شجر الجنة كلها إلا شجرة معرفة الخير والشر، فعاشا في انسجام تام مع الطبيعة التي تمدهما بما يحتاجان إليه دون عمل أو عناء، إلى أن تدخل إبليس. تسلل إبليس إلى الجنة في هيئة الأفعوان والتف على جذع شجرة المعرفة، وكانت حواء قريبة من المكان فنظرت إلى الشجرة بثمارها البراقة وإلى الأفعوان يطوق جذعها فراقها المنظر ودنت، فقال لها إبليس هامسا كما تفح الأفعى: أحقا قال الله لا تأكلا من شجر الجنة كلها؟ فقالت حواء: بل نأكل من شجر الجنة كلها، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقال الحنش: لن تموتا، ولكن الله عارف أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان مثله عارفين الخير والشر، فرأت حواء أن الشجرة بهجة للنظر وجيدة للأكل، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضا فأكل. عندما وصل علم معصية الإنسان إلى الخالق، نطق باللعنة الكبرى على الأفعوان إبليس، وعلى الإنسان وعلى عالم الطبيعة برمته، لأن الإنسان كان رأس هذا العالم وسيده، فأخرجه من الجنة إلى الأرض التي جبل منها ليعمل فيها ويكد ويشقى، لأنه من تراب وإلى تراب يعود ، وبسقوط الإنسان سقط معه العالم بأكمله وانفصل عن مجد الله.
1
هذه هي الخطوط العامة لما جرى في الزمن الكوزموغوني، أو المرحلة الأولى من تاريخ الكون والإنسان. فلقد خلق الله العالم كاملا ونقيا وخلق الإنسان في أحسن تكوين، ولكن الإنسان استخدم حريته في معصية خالقه مثلما فعل لوسيفر والملائكة الساقطون معه، وكما طرد إبليس وملائكته من السماء النورانية العليا، فقد طرد آدم من مثال الجنة السماوية على الأرض وخرج إلى العراء والغربة. وأكثر من ذلك فقد انتقل الوجود الأرضي بأكمله من عالم المجد إلى عالم اللعنة المقيمة، وأسلم إلى يد الشيطان في انتظار قدوم المخلص.
هذه القصة التي أوردناها أعلاه سواء بتسلسلها أم بمضامينها، لا تشكل نصا مقدسا وليست جزءا من أسفار العهد الجديد، ولكنها كما أشرت في البداية من نسج آباء الكنيسة الذين فسروا إشارات الكتاب المقدس في عهديه، وربطوها بتفاصيل من الأسفار التوراتية المنحولة. من هنا يأتي اختلاف المصادر المسيحية في بعض النقاط المفصلية من هذه القصة، وخصوصا مسألة خلق الملائكة وهل تم هذا الخلق قبل خلق العالم أم خلال مراحل الخلق الستة، ومسألة عصيان لوسيفر ودوافعه. فالقديس توما الإكويني يرى أن الملائكة قد ظهرت إلى الوجود مع العالم المادي وليس قبله، لأن وجودهم مرتبط بوجود العالم المادي، لا مستقلا ولا قائما بذاته. بينما ترجح غالبية الآراء الأخرى أسبقية خلق الملائكة على خلق العالم. وبخصوص عصيان إبليس فإن وجهة نظر بعض المفكرين المسيحيين تنسج على منوال أسفار منحولة معينة، فتقول بأن لوسيفر لم يتمرد لما رآه من مستقبل الإنسان ومكانته العالية، بل لأن غروره دفعه إلى الاعتقاد بقدرته على الارتقاء إلى مقام يعادل مقام العلي . فلقد نظر إلى ألقه الذي لا يعادله ألق آخر، ولم ينظر إلى مصدر هذا الألق ومنشئه، فقال في نفسه: أرغب في أن أكون سيدا أعلى ولا أريد أحدا فوقي. فأيده أتباعه قائلين: بلى، نرغب في رفع عرش مولانا ليبلغ عرش العلي. عند ذلك طوح به العلي خارج دائرة النور، وتبعه من والاه مديرين وجوههم عن بؤرة النور، فانطفأ بريقهم وصاروا كفحم خامد.
2
ويقدم القديس ديونيسيوس وجهة نظر حول طبيعة الملائكة جديرة بالتوقف عندها. فهو يفسر بعض فقرات العهد القديم التي يرد فيها تعبير «أبناء الله»، أو التي نفهم منها وجود آلهة أخرى حول يهوه، بأنها تشير إلى الملائكة. فالملائكة هم أبناء الله، وهم في الوقت ذاته آلهة لأنهم في حالة حب وتوحد مع خالقهم. من هذه الفقرات: «أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا» التكوين 6. «لأنه من يعادل الرب في السماء؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟» المزمور 89. «يا رب، إله الجنود، من مثلك رب قوي، وحقك، من حولك؟» المزمور 86. «أي إله عظيم مثل الله؟» المزمور 77. «الله قائم في مجتمع الله. في وسط الآلهة يقضي» المزمور 88. «لقد قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم» المزمور 88.
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية الفرق بين ديانة وثنية تؤمن بإله واحد أعلى خالق للكون وخالق أو أب للآلهة الأخرى الثانوية، وبين معتقد توحيدي يؤمن بإله واحد خالق للكون وخالق للملائكة من أبنائه. نقرأ في نص مصري قديم يسبح بحمد الإله الأعلى ما يأتي: «أبو البدايات. أزلي أبدي دائم قائم. خفي لا يعرف له شكل وليس له من شبيه. لا تدركه العقول، خفي عن الناس وعن الآلهة. يلد ولم يولد. ينجب ولم ينجبه أحد، خالق ولم يخلقه أحد. خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون. أبو الآلهة، رحيم بعباده ... إلخ.» ونقرأ في نص أكادي رافديني: «أنت المولود الذي أنجب نفسه بنفسه، أنت الرحم الذي أنجب كل شيء. الأب الذي أنجب البشر وأنجب الآلهة ... وليس لك بين الآلهة من شبيه ... إلخ.»
3
إن الخط الفاصل بين الوثنية والتوحيد مسألة فيها نظر. والديانات الوثنية تنتظر قراءة عصرية لها باعتبارها «عهدا قديما»، إن جاز التعبير، للديانات التوحيدية. (1-3) عصور الظلام أو مرحلة التمازج
لقد عرف الله الذي يطال علمه البدايات والنهايات، أن الحرية التي أعطاها للوسيفر ولآدم سوف يساء استخدامها، وأن العالم سيقع فريسة للموت والفساد نتيجة عصيان الكائنات العاقلة، ولكنه كان يضمر خطة لتخليص الإنسان في الوقت المناسب، دون الإخلال بمبدأ الحرية الذي ارتضاه للوعي المستقل عنه. سوف يهبط الأقنوم الثاني في الثالوث ليغدو إنسانا لأمد معلوم، فيدخل في زمن الناس وفي دورة الحياة والموت، ليخلص خلقه من اللعنة القديمة، وهكذا كان. ولد الكلمة من رحم العذراء، وتجلى في هيئة يسوع الناصري فعاش على الأرض وشارك الناس الألم والمعاناة، ثم مات على الصليب من أجل خلاصهم، وبذلك افتدت الذبيحة الإلهية، وهي القربان الكامل، الإنسان فخلصته من الموت الذي جلبته خطيئة آدم، وفتحت أمامه بوابة الأبدية. فالمسيح هو معنى التاريخ وليس نتاجا له، ولهذا السبب فقد جاء تجسده في منتصف الزمن لا في بدايته ولا في نهايته، ليكون بمثابة محور التاريخ الذي يضفي على البداية والنهاية معناهما.
انطلاقا من هذه الرؤية إلى التاريخ، لم يكن اللاهوت المسيحي ينظر إلى الأحداث السابقة على الميلاد إلا باعتبارها فترة مظلمة، لم يعرف الناس خلالها الله إلا من خلال ظلال قائمة لا تعكس مجده الحقيقي، بما في ذلك كامل الفترة التي تغطيها أحداث العهد القديم (= التوراة). فالتاريخ يبدأ بآدم، ثم يبدأ بداية جديدة بيسوع المسيح الذي هو آدم الثاني. وما الزمن الفاصل بين هاتين البدايتين إلا شكلا من أشكال الجاهلية الإنسانية، كان العالم خلاله ينتظر قدوم المخلص. وهكذا فقد عكس ميلاد يسوع مبدأ السبب والنتيجة في الصيرورة التاريخية، فبدلا من أن يقرأ الحاضر على ضوء الماضي باعتباره نتيجة منطقية له، صار الحاضر الذي هو تجسد المسيح، ونتائجه، مفسرا للأحداث الماضية كلها التي صارت تفهم على ضوء هذا الحدث. وصار التاريخ يقرأ ويفسر من ميلاد المسيح صعودا نحو البدايات، ومنه هبوطا نحو نهاية الزمن. أما أحداث أسفار العهد القديم فقد تحولت من تاريخ يقص أحداثا متتابعة ذات معنى وقيمة في حد ذاتها، إلى سلسلة من الرموز والإشارات التي تبشر بالمسيح وكنيسته، وتم تبني القصص التوراتية في حدود صلاحياتها كأنماط ونماذج أولى لدورة حياة المسيح المقبلة.
من هذا المنظور، تغدو قصة التكوين والخطيئة، وسلسلة أنساب آدم، وتاريخ شعب يهوه المختار من إبراهيم والآباء الأولين إلى الخروج من مصر ودخول كنعان إلى سقوط أورشليم والسبي فالعودة وبناء الهيكل، تغدو كلها بمثابة دراما شبحية تستبق ظهور المسيح وتعلم عنه. إن قصة قايين وهابيل غير المسوغة منطقيا، تغدو في التفسير المسيحي استباقا لما جرى بين اليهود وجماعة المسيح. قايين الذي قتل أخاه هو الشعب اليهودي وهابيل هو المسيح وكنيسته. لقد رفض الرب قربان قايين الذي هو تقدمات اليهود وقرابينهم عبر تاريخهم، وقبل قربان هابيل الذي هو نموذج مسبق عن موت المسيح على الصليب. وصعود أخنوخ إلى السماء في الإصحاح الخامس من سفر التكوين هو استباق لصعود المسيح بعد قيامته. وملكي صادق كاهن الله العلي هو استباق ليسوع كاهن السماوات الأعلى. وقبول إبراهيم التضحية بابنه إسحاق هو استباق لتضحية الرب بابنه الوحيد. والأسباط الاثنا عشر من أبناء يعقوب الذين انحدرت منهم كنيسة المسيح هم استباق للحواريين الاثني عشر الذين انحدرت منهم الكنيسة. ونزول يعقوب وأبناؤه إلى مصر هو استباق لفرار العائلة المقدسة من بطش الملك هيرود. وخروج موسى بشعبه من مصر وتحريرهم من العبودية هو استباق لتحرير المسيح للإنسانية من ربقة الشيطان وسلطان الموت. والفترة التي قضاها بنو إسرائيل في الصحراء هي استباق لفترة كفاح المسيحية، بين واقعة التجسد والقدوم الثاني للمسيح الذي يعلن نهاية الزمن ودخول المؤمنين إلى الجنة الموعودة.
ووفق هذه الطريقة في النظر إلى أحداث العهد القديم باعتبارها نماذج سابقة وشبحية للأحداث الحقيقية التي ستلي، فإن اللاهوت المسيحي نظر إلى أهم عناصر لاهوت العهد القديم، وهي مؤسسة القربان ومؤسسة الشريعة، باعتبارهما وعدا بالخلاص ولكنها لا تقدم في حد ذاتها خلاصا. فالقربان اليهودي وقوامه نحر الماشية على مذبح الهيكل لا يكفي لعقد الصلة المقطوعة مع الخالق، لأن الإرادة الإنسانية التي حرفتها الخطيئة، ليس بمقدورها تحقيق استسلام خالص وفعلي للإرادة الإلهية، ولا بد من انتظار القربان الوحيد الحقيقي القادر على إرجاع العالم إلى رحمة الله، عندما يتجسد الكلمة في إنسان ويقوم ذلك الإنسان -الإله بأعظم فعل طاعة ومحبة يمكن تصورها، فيقدم نفسه طواعية إلى الموت ويتمم على هذا النحو عمل الفداء، وذلك بعبوره هو أولا من عالم المادة والموت إلى عالم الروح والخلود. إن الله لم يسمح بخطيئة آدم ونتائجها إلا لأن يسوع المسيح كان قمينا بالانتصار عليها.
أما عن مؤسسة الشريعة، فإن المسيحية ترى أن ما فرضه يهوه على موسى من شرائع هو أثقل من طاقة الإرادة الإنسانية على الالتزام بها، وأنها قد فرضت لكي تدين الخطأة، وذلك بوضع معيار للسلوك لا يمكن تحقيقه، وبذلك تعمل الشريعة على إكثار الخطيئة لا على قمعها. يقول بولس في رسالته إلى أهل رومية: «وأما الناموس فقد دخل لكي تكثر الخطية، ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدا، حتى كما ملكت الخطية في الموت، هكذا تملك النعمة بالبر، بالحياة الأبدية بيسوع المسيح» (رومية، 5: 20-21). من هنا فقد أبطل تجسد المسيح الشريعة واستبدل سر النعمة بها، التي هي مدد من عند الله يجعل الإرادة المؤمنة بالمسيح قادرة على إتيان ما هو فوق طاقتها البشرية. الإنسان لا يتبرر إلا عن طريق الإيمان بالمسيح لا بقوة الأعمال بحسب الشريعة، كما يقول بولس: «وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودا له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح» (رومية، 3: 21). لهذا فقد أعتق الذين هم في المسيح من الشريعة: «لأن ناموس روح الحياة في يسوع المسيح قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت» (رومية، 8: 2). إن اليهود الذين يحوزون الشريعة ويطلبون بواسطتها البرارة هم خطأة كالوثنيين سواء بسواء (رومية، 2: 17-24). وحتى إذا نظرنا إليها من وجهتها الأخلاقية، فإن الشريعة تعطي معرفة الخير، ولكن ليس القدرة اللازمة على صنعه (رومية، 9: 30-31). إنها بدلا من أن تخلص البشر من الشر تكاد تغمسهم فيه، وتعدهم للعنة لا يستطيع إنقاذهم منها سوى المسيح بحملها على عاتقه (رسالة بولس إلى أهالي غلاطية، 3: 10-14). وإن المسيح الذي حرر الإنسان من الخطيئة (رومية، 6: 1-19) يحرره أيضا من وصايا الشريعة (رومية، 7: 1-6). وبذلك يكون قد أنهى النظام المؤقت، لأن المسيح نهاية الشريعة (رومية، 10: 4). وهو الذي يجعل المؤمنين يبلغون البر بالإيمان (رومية، 10: 5-13).
ويلخص المقطع البليغ الآتي لبولس، كل موقف المسيحية من مسألة الشريعة والإيمان: «لأني مت بالناموس لأحيا لله. مع المسيح صلبت فأحيا، لا أنا بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد إنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. لست أبطل نعمة الله، لأنه إن كان بالناموس بر فالمسيح إذا مات بلا سبب» غلاطية 2: 20-21.
إن الفترة الفاصلة بين السقوط وميلاد يسوع، هي إذن فترة انتظار وترقب للمخلص الذي سيحرر العالم والإنسان من الظلام ومن اللعنة. وهي بشكل ما فترة سيادة الشيطان على العالم. فهو رئيس هذا العالم بحسب إنجيل يوحنا، 12: 31، وهو إله هذا الدهر بحسب بولس، ومع زبانيته هم رؤساء وسلاطين وولاة هذا العالم وعلى ظلمة هذا الدهر. وينجم عن هذا الوضع أن كل مولود إنساني من أبناء هذه الفترة الوسيطة السابقة على ظهور المسيح، واقع تحت سلطان أمير الظلام وراح تحت لعنة الخطيئة الأصلية التي جلبها آدم على ذريته. ولكن ظهور المسيح قد قسم البشر إلى أبناء هذا العالم، أو هذا الدهر، وأبناء النور (لوقا، 16: 8). لأن الله بيسوع قد: «دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب» (رسالة بطرس الأولى، 2: 9). «ولأنه نجانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابنه لكي نشاطر القديسين ميراثهم في النور» (رسالة بولس إلى كولوسي، 1: 12-13).
في الفترة الوسيطة من التاريخ، العالم مدان والإنسان مدان، لأنهما شريكان في سر الشر الذي يعمله الشيطان خلال هذا الدهر: «فقال لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعد، أما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة» (يوحنا، 7: 6-7). «العالم كله قد وضع في الشرير (= الشيطان)» (رسالة يوحنا الأولى، 7: 19). ولذلك إنه عالم خداع تثقل عناصره على الإنسان وتستعبده. فالإنسان قبل ظهور المسيح كان مثل الوارث القاصر الذي وضع تحت وصاية وكلاء إلى الوقت المؤجل من أبيه، وكما أن هذا الوارث القاصر هو بمثابة العبد مع كونه صاحب الأرض، كذلك الإنسان المستعبد من قبل قوى الشر رغم أنه وارث هذا العالم (غلاطية، 4: 1-3). وهو في كل خطوة مدعو من قبل الشيطان إلى الخطيئة، وهذه الدعوة إلى الخطيئة هي ما يطلق عليه العهد الجديد اسم التجربة. فلقد سمح الله للشيطان بالتجربة ولكنه ترك للإنسان منفذا منها: «لم تصبكم تجربة إلا بشرية، ولكن الله أمين. الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا» (1 كورنثة، 10: 13). ولهذا يدعو المؤمن ربه عند كل صلاة أن ينجيه من الشيطان ولا يوقعه في التجربة: «لا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير.» (1-4) ملكوت الرب أو مرحلة الفصل
ميلاد المخلص وافتتاح الملكوت «في الشهر السادس، أرسل جبرائيل، الملاك من الله، إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك. مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. قالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله ... قالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك» (لوقا، 1: 26-33). «أما ولادة يسوع فكانت هكذا: لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا، ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله لكي يتم ما قيل من النبي القائل: هي ذي العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (متى، 1: 18-23). «وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى (مقاطعة) اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته ... وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (خان المسافرين)» (لوقا، 2: 1-7).
وهكذا عند منتصف الليل، وعند أول الانقلاب الشتوي، حيث تصل الشمس أدنى مدى لها في الانخفاض مستعدة لصعود ذروة السمت مرة أخرى، وقع الحدث الذي هو بؤرة الزمن. لقد ولدت العذراء ابنا فالتقت عنده السرمدية بالزمن، لأنه إله حقيقي وإنسان حقيقي. وهنا تتابع الأدبيات غير الرسمية وصف الحدث بالطريقة الملحمية المعتادة في الأدبيات الدينية الأخرى. فعند ولادة يسوع هدأت الطبيعة وكأنما سكن نبضها لوهلة، وسرى في أرجائها وحي ينبئ كل عناصرها بأن الكلمة قد تجسد في الزمن وفي التاريخ. لقد أوحي إلى كل فصائل الخلق من الأحجار والصخور عند أسفل سلم الموجودات، وإلى الملائكة في أعلاه، وتضعضعت أساسات معبد روما الكبير، وذلك وفقا لنبوءة عرافة دلفي بأن المعبد سيبقى قائما حتى تلد العذراء ابنا. وأوحي إلى المياه وينابيع الأنهار التي فاضت زيتا بدل الماء، وإلى النباتات حتى أن الكرمة أورقت في الشتاء وحملت عناقيدها. وأوحي إلى الحيوانات والطيور فصاح الديك عند منتصف الليل. وأوحي إلى الملائكة فهبطت من عليائها وأحاطت بمكان الميلاد حتى حول ألقها الليل إلى نهار. وما أن عبرت فترة الصمت الشامل في الطبيعة حتى اندفع الملائكة في السماوات وعلى الأرض ينشدون: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة.
4
فيما عدا الإشارات القليلة التي أوردها إنجيل لوقا عن طفولة يسوع، فإن الأناجيل الرسمية تصمت صمتا تاما عن نشأة يسوع الأولى ويفاعته، وتفتتح قصتها بالمشهد الأول الذي نرى فيه يسوع وهو رجل مكتمل في الثلاثين يأتي إلى يوحنا المعمدان، نبي ذلك الوقت، ليتعمد على يديه بماء الأردن، وعند خروجه من الماء يهبط عليه الروح القدس معلنا عن هوية يسوع ومفتتحا رسالته. نقرأ في إنجيل لوقا: «وإذ كان الشعب ينتظر، والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، أجاب يوحنا الجميع قائلا: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى، الذي لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سوف يعمدكم بالروح القدس، ونار» (لوقا، 3: 15-16). وبينما يسوع خارج من الماء: «وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (متى، 3: 16-17).
لقد افتتح هبوط الروح القدس على يسوع المرحلة الثالثة من مراحل التاريخ، وهي مرحلة الفصل بين الخير والشر المتمازجين في المرحلة السابقة، وقد شبه يوحنا المعمدان عملية الفصل هذه بعملية تنقية بيدر القمح من التبن الذي يخالطه. فالمسيح المقبل هو: «الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره وبجمع القمح إلى مخزنه، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ» (لوقا، 3: 17). ويشبه يسوع مهمته بعملية تنقية القمح من الزوان الذي زرعه الشيطان في وسط الحقل لإفساد الزرع: «يشبه ملكوت السماوات إنسانا زرع زرعا جيدا في حقل. وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة ومضى. فلما طلع النبات وصنع ثمرا، حينئذ ظهر الزوان أيضا فجاء عبيد رب البيت وقالوا له: أتريد أن نذهب ونجمع الزوان؟ قال: لا، لئلا تقتلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه، دعوهما ينميان معا إلى وقت الحصاد ، وفي وقت الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أولا الزوان واحزموه حزما ليحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني» (متى، 13: 24-30). كما يشبه يسوع مهمته أيضا بعملية تمييز الجداء السود عن الخراف البيض: «ومتى جاء ابن الإنسان ... يجتمع أمامه الشعوب، فيميز بعضهم عن بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم» (متى، 25: 31-34).
ولكن الشيطان لم يكن ليسمح لعملية الفصل أن تنطلق بهذه السهولة، فما إن طلع يسوع من نهر الأردن حتى أقبل عليه وكشف له عن هويته كأمير لهذا العالم، ثم عرض عليه أن يدفع إلى يديه ما أعطي من سلطان على العالم، لأنه يستطيع التصرف به ووهبه لمن يشاء: «ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. بعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا، فتقدم إليه المجرب وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا. أجاب وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب، أنه يوصي ملائكته بك ... قال له يسوع: مكتوب أيضا أن لا تجرب الرب إلهك» ... ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس لك أعطي كل هذا السلطان ومجدهن (أي مجد الممالك) فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع. فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ... ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين» متى: 4، ولوقا: 4.
ابتدأ يسوع مهمته بأن أعلن عن نفسه باعتباره مسيح الرب، ولكنه كان حذرا على الدوام من أن يفهم من ذلك أنه المسيح السياسي الذي كان اليهود ينتظرونه ليعيد مجد مملكة داود الضائع. فبعد أن رجع من البرية حيث صام واعتكف أربعين يوما: «جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى، ودخل المجمع حسب عادته السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعيا النبي، ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: «روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبلة.
5
ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم» (لوقا، 4: 16-21).
بعد هذا، اتخذ يسوع من قرية كفر ناحوم مركزا لبث دعوته ونشر رسالته، فكان يعلم في مناطق الجليل ويصنع المعجزات، ويظهر سلطانه على عالم الأرواح فيخرج الشياطين مع أجسام المجانين، ويشفي العاهات والأمراض المستعصية، كما وأظهر سلطانه على الحياة والموت وذلك بإحيائه للموتى. وعندما كان يوحنا المعمدان في السجن بأمر من الملك هيرود أغريبا، المتصرف بمنطقة الجليل، سمع بأعمال يسوع فأرسل اثنين من مريديه لسؤال يسوع أهو حقا المسيح: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون» (متى، 11: 2-5). ثم إنه سأل تلامذته الذين تبعوه ومشوا معه في جولاته: «ماذا يقول الناس عني؟» وذلك لكي يكشف لهم هويته ويطلعهم على حقيقة من هو. «فقالوا: قوم (يقولون) يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا (النبي) وآخرون إرميا (النبي) أو واحد من الأنبياء. قال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أنت هو المسيح ابن الله الحي. فأجاب يسوع وقال له طوبى لك يا سمعان. إن دما ولحما لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السماوات» (متى، 16: 13-16). وفي أكثر من مناسبة ألمح يسوع إلى أنه المسيح: «انظروا، لا يضلكم أحد؛ فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح، ويضلون كثيرين» (متى، 24: 4). وفي مشهد محاكمته يسأله رئيس الكهنة: «أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ فقال يسوع: أنت قلت» (متى، 26: 63-64). وفي حوار يسوع مع المرأة السامرية عند بئر الماء: «قالت له المرأة: أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء. فقال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو» (يوحنا، 4: 25-26).
ويرتبط بلقب «المسيح» اللقب الآخر «ابن الله»، والذي يرد في اتصال معه أو استقلال. فعندما مشى يسوع على الماء ليلحق بتلاميذه في السفينة، سجدوا له قائلين: في الحقيقة أنت ابن الله (متى، 14: 32-33). وفي مشهد محاكمة يسوع، وقف مرقس «قام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع ... وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ قال يسوع: «أنا هو» (مرقس، 14: 63). وكان يسوع يشير إلى الله بقوله أبي أو أبي الذي أرسلني. فعندما شفى مريضا في يوم السبت، طلب اليهود قتله لأنه مارس عملا في اليوم المقدس. فقال لهم يسوع: «أبي يعمل الآن، وأنا أعمل، فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال إن الله أبوه معادلا نفسه بالله» (يوحنا، 5: 17-18). وعندما شفى رجلا أعمى منذ ولادته بأن وضع طينا على عينيه قال له: «أتؤمن بابن الله؟ أجاب الرجل وقال: من هو يا سيد حتى أؤمن به؟ قال له يسوع: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو. فقال: أؤمن يا سيد، وسجد له» (يوحنا، 9: 35-38).
وتتعدد في إنجيل يوحنا الأقوال التي يطابق فيها يسوع بينه وبين الآب: «أنا والآب واحد» (10: 30)، و«إن الآب في وأنا فيه» (10: 38)، و«ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي، لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضا، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه. فقال له فيليبس: يا سيد، أرنا الآب وكفانا. قال يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيليبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب، كيف تقول أنت أرنا الآب؟ ألست تؤمن إني في الآب والآب في» (14: 1-10). «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح. قال له اليهود: ليس لك خمسون سنة بعد، أرأيت إبراهيم؟ قال لهم يسوع: الحق أقول لكم، قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (8: 54-58).
والمسيح ابن الله يدعى أيضا ابن الإنسان. وتعبير «ابن الإنسان»، كما صادفناه في سفر دانيال وفي كتابات ما بين العهدين، يشير إلى حقيقة قديمة ومثال سماوي يتجلى في العالم على هيئة إنسان. وفي العهد الجديد يشير التعبير إلى الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس متجل في العالم على هيئة إنسان.
6
نقرأ في إنجيل متى: «فكما يجمع الزوان ويحرق بالنار، هكذا يكون انقضاء العالم. يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون من النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (متى، 13: 41-42). وعندما جاءوا إليه بمشلول ليشفيه قال له: «يا بني مغفورة لك خطاياك. وكان قوم من الكتبة هناك جالسين يفكرون في قلوبهم لماذا هذا هكذا يتكلم بتجديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟ فقال لهم: لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيهما أيسر، أن يقال للمفلوج مغفورة لك خطاياك أم يقال له قم احمل سريرك وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا» (متى، 9: 1-8). وعندما تقدم إليه واحد من الكتبة: «وقال له: يا معلم أتبعك أينما تمضي. قال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه» (متى، 8: 19-20). ويسوع يفضل لقب ابن الإنسان على لقب المسيح، كما نقرأ عند مرقس: «فقال لتلاميذه وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان ينبغي له أن يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة ويقتل، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مرقس، 8: 29-31).
وترتبط بلقب ابن الإنسان صورة مخلص العالم الذي يفدي الجنس البشري بموته، ويسفك دمه لمغفرة الخطايا، ثم يقوم من الموت ليصعد إلى المكان الذي أتى منه، في انتظار قدومه في نهاية الأزمنة: «فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا» (يوحنا، 6: 62). «خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم. وأيضا أترك العالم وأذهب إلى الآب» (يوحنا 61: 28). «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم، إن من القيام هنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته» (متى، 16: 37-38). «وأيضا أقول لكم، من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا على سحاب السماء» (متى، 26: 64). «وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير» (لوقا، 21: 25-27). «وليس أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء: ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا، 3: 13).
التعاليم
بعد أن تعمد يسوع على يدي يوحنا المعمدان ونزل عليه الروح القدس ثم خرج من تجربة الشيطان منتصرا، انطلق إلى الجليل يعلم ويبشر. وهذه أولى كلماته وفقا لمرقس: «وبعد أن أسلم يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس، 1: 14-15). وبذلك يعلن يسوع عن جوهر رسالته التي هي رسالة أخروية، ترتكز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من الشيطان، الذي كان حتى كرازة يسوع سيدا على الأرض. فبعد أن كان سلطان العالم مدفوعا إلى إبليس الذي قال ليسوع: «لك أعطي هذا السلطان كله لأنه قد دفع إلي وأنا أعطيه لمن أريد»، فقد آل السلطان الآن إلى يسوع: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (متى، 28: 18). «لأجل هذا أظهر ابن الله، لكي ينقض أعمال إبليس» (رسالة يوحنا الأولى، 3: 8). «الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده» (يوحنا، 3: 35). «وإذا كنت بروح الله أطرد الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متى، 12: 28). فملكوت الله، أو ملكوت السماوات، هو الحقبة الأخيرة من تاريخ العالم، والتي ستشهد تجلي مجد الله هنا والآن، بعد أن كان محجوبا خلال فترة الظلام التي شهدت سيادة الشيطان. وتعبير «ملكوت الله في داخلكم» الوارد في إنجيل لوقا 17: 12، يعني ملكوت الله هو بينكم الآن: «ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هوذا هنا أو هوذا هناك، لأنها ملكوت الله في داخلكم» (لوقا، 17: 21).
ولكن يسوع قدم منذ البدء مفهومه الخاص لملكوت الله، وميزه بحدة عن المفهوم السائد لدى يهود عصره، الذين كانوا ينتظرون مسيحا سياسيا من سلالة داود، يعيد مجد إسرائيل ويخضع جميع الأمم تحت قدميها، ثم يسلم الحكم إلى يهوه. فملكوت يسوع ملكوت روحاني، وكان متحفظا تجاه لقب المسيح وفضل عليه دوما لقب ابن الإنسان، لما للقب المسيح من تداعيات سياسية ، كما أنه تحفظ تجاه لقب الملك ولم يقبله إلا باعتبار ما سيأتي من صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب، لأن مملكته ليست مملكة أرضية بل مملكة روحانية. وعندما سأله بيلاطس في المحكمة عما إذا كان ملك اليهود، لم ينكر اللقب تماما وإنما أعطاه بعدا روحانيا: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي هنا. قال له بيلاطس: أفأنت إذا ملك. أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا ولدت أنا، ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق» يوحنا 18: 37-36. لقد كان يسوع في إجابته على سؤال بيلاطس واضحا كل الوضوح ودقيقا في تحديده لمفهومه عن الملك، كما كان منسجما مع مواقفه السابقة. فعندما تبعته الجموع بعد معجزة تكثير السمك والخبز ونادوا به ملكا هرب وتوارى عن الأنظار: «وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويخطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده» (يوحنا، 6: 15).
إن مفهوم يسوع عن ملكوت الله هو عصر تتم فيه معرفة الناس الآب، ويمد إليهم يده لتخليصهم من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان أمير الظلام. فالملكوت رابطة روحية تجمع المؤمنين إلى بعضهم وتجمعهم إلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدت بينهما. وإذا كان الملكوت قد حل بظهور المخلص، وموته الطوعي فداء للبشرية الخاطئة، فإن هذا الملكوت سوف يستمر ردحا من الزمن كاف لتنقية عناصر الخير من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة على العالم. عندما سيعود ابن الإنسان على غمام المجد في اليوم الأخير ليختتم الزمن ويفتتح الأبدية.
وعلى عكس ملكوت الرب اليهودي، فإن ملكوت يسوع يشمل جميع الأمم والشعوب. ولقد أكد في أكثر من قول له عدم أهلية اليهود لدخول هذا الملكوت، رغم اعتقادهم القديم بأنهم أصحابه الشرعيين: «وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت «أي اليهود» فيطرحون إلى الظلمة الخارجية» (متى، 8: 12). وأيضا: «لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» (متى، 21: 43). وهو يقول لليهود صراحة بأنهم لم يعرفوا الله قط، وإن أباهم الحقيقي هو إبليس: «لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضا ... أنتم من أسفل، أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت إنكم تموتون في خطاياكم ... أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ... الذي من الله يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم من الله ... أبي هو الذي يمجدني الذي تقولون إنه إلهكم ولستم تعرفونه، وأما أنا فأعرفه» (يوحنا، 8: 18-24، و44-47، و54-55).
ولكن إذا كان ملكوت الله حاضرا هنا والآن، فكيف للإنسان أن ينتمي إليه ويخلص من ربقة الشيطان؟ إن ما تبقى من تعاليم يسوع تدور حول الإجابة عن هذا السؤال. وهي تدور حول أربعة عناصر هي: (1) الأخلاق. (2) الإيمان. (3) المحبة. (4) الشريعة الجديدة.
بعد أن ابتدأ يسوع يكرز ببشارة الملكوت، كان أول من انضم إليه أربعة هم: سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا. وكان يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويشفي كل مرض، فتبعته جموع كثيرة، ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل وجلس، وهناك ألقى أولى مواعظه الأخلاقية، وهي المعروفة بموعظة الجبل، وفيها يحدد الخطوط العامة للأخلاقية المسيحية. الموعظة تشغل في إنجيل متى كامل الإصحاحات الخامس والسادس والسابع. وهذه مقتطفات منها: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ... قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل فإنه يكون مستوجبا الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك عليك شيئا، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك. قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه. سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن سخرك ميلا واحدا فامش معه ميلين اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ... احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروا إليكم ... وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء ... لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء ... لا تدينوا كي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي تكيلون به يكال لكم ... اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم ... كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هذا بهم ... ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليل هم الذين يجدونه.»
ولكن الأخلاق وحدها لا تكفي، بل لا بد من الإيمان بيسوع مسيحا ومخلصا: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يوحنا، 3: 36). «الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد» (يوحنا، 3: 18). «من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الأبد» (يوحنا، 11: 25-26). «فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله» (يوحنا، 6: 28-29). «الحق أقول لكم، إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية» (يوحنا، 6: 47). «الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك فينتقل» (متي 17: 20).
ومع الأخلاق والإيمان هناك المحبة: «وصية جديدة أنا أعطيكم. أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا تحبون أيضا بعضكم بعضا» (يوحنا 13: 34). «أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا، هكذا ينبغي لنا أيضا أن نحب بعضنا بعضا ... الله محبة. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه ... إن قال أحدكم إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن الله الذي لم يبصره» (رسالة يوحنا الأولى، 4: 11-20). وعندما سأل يسوع واحد ناموسي ليجربه قائلا: «يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟ قال له يسوع: تحب الله إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. والثانية مثلها، تحب قريبك كحبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» (متى، 22: 35-40).
أما عن شريعة يسوع الجديدة، فإن يسوع، وهو يعلن إنجيل الملكوت، يفتتح نظاما دينيا جديدا كل الجدة. فالشريعة والأنبياء أمر ينتهي مع يوحنا المعمدان (لوقا، 16: 16). ورغم أن يسوع قد قال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل»، وهو قول ينبغي عدم أخذه بحرفيته، فقد ألغى يسوع شريعة العهد القديم بجرة قلم عندما قال: «السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس، 2: 27)، وذلك في رده على الفريسيين الذين رأوا تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون بين الزروع لسد جوعهم. وعندما احتج الفريسيون على يسوع لأن تلاميذه لا يصومون، قال لهم إن خمر الإنجيل، وهي شريعة يسوع، لا يمكن صبها في أوعية قديمة هي شريعة العهد القديم: «ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلا فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أردأ، وليس أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف» (مرقس، 2: 21-22). وعندما دخل يسوع المجمع «وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت. قال للرجل الذي له اليد اليابسة: قم في الوسط، ثم قال لهم: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا، فنظر حوله إليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مد يدك، فمدها، فعادت صحيحة كالأخرى » (مرقس، 3: 1-5). وعندما رأى اليهود أن بعضا من تلاميذه يأكلون بأيد غير مغسولة، لاموه على عدم تقيدهم بالشرعية. فقال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجسه، لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان ... لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة» (مرقس، 7: 14-21)، وفي قوله المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى، 9: 13) يقوض مؤسسة القربان اليهودي في شريعة موسى، ويعلن سدى الطقوس التوراتية مؤسسا لطقوس تقوم على القلب لا على الدم. لقد تجاوز موسى ولم يعد للهيكل اليهودي ما يسوغ بقاءه. وهذا ما يعلن عنه صراحة في خطابه للمرأة السامرية التي ظنت أنه نبي يهودي: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، وأما نحن فنسجد لما نعلم.» ثم يتابع فيقول إن الخلاص لا يتم قبل التخلص من اليهود: «... لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا، 4: 19-23).
لقد كان اليهود يحملون نير الشريعة، أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو نير هين وخفيف. قال يسوع: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هين وحملي خفيف» (متى، 11: 28-30). ففيما عدا الصلاة اليومية البسيطة التي تؤدى كل يوم لمرة واحدة بكلمات قليلة، لم يؤسس يسوع إلا لطقسين اثنين هما العماد والإفخارتسيا (= القربان المقدس).
لم يكن طقس العماد، أو المعمودية، بالطقس الجديد. فقد كان يوحنا المعمدان يعمد بالماء من أجل التوبة وغفران الخطايا، وكان يسوع من بين من تقدموا للاعتماد على يديه، جاعلا نفسه بين الخطأة كأي إنسان آخر، لكي يحمل خطيئة العالم على كاهله ويموت فيما بعد لأجل خلاص هذا العالم. ولكن المعمودية المسيحية التي فرضها يسوع تتخذ معنى إضافيا، فهي علامة الميلاد الجديد وبوابة الدخول إلى كنيسة المسيح. إنها بالنسبة للعهد الجديد بمثابة الختان في العهد القديم، كلاهما علامة على العهد. كما أنها شرط الخلاص، مثلها مثل الإخلاص والمحبة والإيمان: «الحق أقول لكم، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله ... وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض «مقاطعة» اليهودية، ومكث معهم هناك، وكان يعمد» يوحنا 3.
أما طقس الإفخارتسيا فقد أسس له يسوع في عشائه الأخير مع تلاميذه. والكلمة يونانية، وتعني من حيث المبدأ العرفان بالجميل وإبداء الشكر. وفي العهد الجديد استخدمها يسوع عند افتتاحه تناول الطعام، فهي نوع من صلاة الشكر لله على نعمه: «وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ» (يوحنا، 6: 11)، ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره إلى السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ» (متى، 14: 19). وفي مشهد العشاء الأخير نقرأ في إنجيل متى: «ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر ... وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبر وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متى، 26: 26-28). ونقرأ عند يوحنا: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير ... من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه» (يوحنا، 6: 54-56). بهذا الطقس يتم اتحاد المؤمنين بالمسيح. ومن خلال آلامه وموته وقيامته يعبرون معه من عالم الخطيئة عالم الشيطان إلى عالم الحرية والسعادة، عالم الرحمن، من عبودية الموت إلى رحاب الأبدية.
مراحل الملكوت واليوم الأخير
اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان، كما اكتملت الأزمنة وافتتح عصر الملكوت. فالملكوت قائم الآن، كما علم يسوع في أكثر من قول له: «أما تقولون إنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم ارفعوا وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد، والحاصد يأخذ أجره ويجمع ثمارا للحياة الأبدية» (يوحنا، 4: 35-36). ولكن لا يزال هناك وقت يفصل افتتاح الملكوت عن تحققه كاملا، وهو الوقت الذي يناضل خلاله كل من تحدوا بالمسيح قوى الشيطان، عاملين على تطوير الملكوت والوصول به إلى غايته الأخيرة: «يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها. وقال لهم مثلا آخر: يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع» متي 13: 31-33.
هذه الفترة الوسيطة من تنامي الملكوت، تمتد فترة غير محددة عقب موت وقيامة يسوع، وتنتهي بالمجيء الثاني في اليوم الأخير. لقد ظهر الابن في مجيئه الأول على هيئة إنسان هو يسوع الناصري ابن مريم، وأما في مجيئه الثاني فسيأتي إلها ديانا ينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالما جديدا يرثه المؤمنون: «فإن ابن الإنسان يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله» (متى، 16: 27). ولقد ألمح يسوع أكثر من مرة إلى قرب المجيء الثاني: «الحق أقول لكم إن من القائمين هنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته» (متى، 16: 28). إلا أنه ترك في أقوال أخرى موعد هذا المجيء مفتوحا: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السموات، إلا أبي وحده»، ولهذا فهو يدعو المؤمنين إلى السهر والترقب والتزود لذلك اليوم: «اسهروا إذا، لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم. واعلموا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. لذلك كونوا أنتم أيضا مستعدين، لأنه في ساعة لا تظنون، يأتي ابن الإنسان» (متى، 24: 36-44).
ومع ذلك، فقد أعطى يسوع بعضا من علامات الساعة وإشاراتها: «تقدم إليه تلاميذه قائلين: قل لنا متى يكون هذا، وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجاب يسوع ... سوف تسمعون بحروب وأخبار حروب. انظروا ولا ترتاعوا، لأنه لا بد أن تكون هذه كلها، ولكن ليس المنتهى بعد، لأنه تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن، ولكن على هذه كلها مبتدأ الأوجاع ... الذي يصير إلى المنتهى فهذا يخلص. ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة، شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى ... فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئا، والذي في الحقل فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه. وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام ... بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماء تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وحينئذ تنوح كل قبائل الأرض ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه» (متى، 24: 3-30).
ويتحدث يسوع عن مسحاء كذبة يظهرون قبل اليوم الأخير فيضلون الناس: «لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين» (متى، 24: 4-5). وفي رسائل الحواريين يجري الحديث عن مسيح مزيف أو دجال يظهر في آخر الزمن ويدعى نقيض المسيح أو ضد المسيح: «يا أيها الأبناء هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون. من هنا تعلم أنها الساعة الأخيرة» (رسالة يوحنا الأولى، 2: 18). «أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من عند الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم إنه يأتي، والآن هو في العالم» (رسالة يوحنا الأولى، 4: 1-3). ويطور بولس في رسائله شخصية الدجال ويعدد ألقابه، فيدعوه ابن الهلاك والمقاوم والأثيم، وجميعها من ألقاب الشيطان. والدجال يأتي قبل المجيء الثاني للمسيح فيحاكي هيئته في مجيئه، وموعده الخاص المعين من الله، ويصنع آيات ومعجزات فائقة تدفع ضعفاء الإيمان إلى مواكبته والانصياع إليه. وهو الآن محجوز بقوة مجهولة، ولكنه سوف ينطلق من مكان احتجازه لينجز آخر هجوم لقوى الشيطان في هذا العالم. وعندما يظهر المسيح سوف يبيده بنفخة من فمه ويبطله بظهور مجيئه الثاني (2 تسالونيكي، 2: 3-11). وفي سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، هنالك مشهد رؤيوي يصف ظهور الدجال على هيئة وحش طالع من البحر، أعطاه إبليس قدرته وعرشه وسلطانا عظيما ولهذا الوحش سبعة رءوس كتب على كل واحد منها كلمة كافر أو مجدف. فصنع عجائب وأعطي سلطانا على الأرض اثنين وأربعين شهرا، فسجد له ولإبليس كل من ليس منذورا للخلاص (رؤيا يوحنا 13).
واليوم الأخير هو يوم الدينونة الذي يشهد بعث الموتى من قبورهم، ونشورهم إلى الحساب حيث يقفون أمام ديان العالم، ابن الإنسان، الذي تجمع أمامه كل الشعوب فيميز بعضهم عن بعض ويقيم المباركين عن يمينه، وهؤلاء هم أهل اليمين، ويقيم الملاعين عن يساره، وهؤلاء هم أهل الشمال: «ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم ... ثم يقول للذين عن يساره اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته ... فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية» (متى، 25: 31-46). «إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين، لأنك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان» (متى، 12: 36-37). «هكذا يكون في انقضاء العالم، يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من الأبرار ويطرحونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان» (متى، 13: 49-50).
ولدينا في إنجيل لوقا حوار حول واحد من أهل الجحيم وآخر من أهل الجنة، يعطينا صورة عن أحوال ساكني هذين العالمين. فقد: «كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفها. وكان هناك مسكين اسمه لعازر طرح عند بابه مضروبا بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني. فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني أيضا ودفن. فرفع عينيه وهو في العذاب ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يا أبي إبراهيم، ارحمني وأرسل لعازر ليبل إصبعه بماء ويبرد طرف لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم: يا بني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك (استوفى) لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب» (لوقا، 16: 19-25).
ويصف يسوع في إنجيل لوقا حياة أهل النعيم بأنها أشبه بحياة الملائكة. فعندما جاء قوم من الصدوقيين الذين ينكرون القيامة والمعاد، وسألوه عن امرأة تزوجت سبعة أخوة على التوالي ماتوا جميعا، فلمن تكون المرأة من بينهم يوم القيامة؟ فأجاب يسوع: «أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون. ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر، والقيامة من الأموات، لا يزوجون ولا يزوجون، لأنهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله، إذ هم أبناء القيامة» (لوقا، 20: 27 35). كما أنه وعد الأبرار بالجلوس على مائدته السماوية ليأكلوا ويشربوا: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل» (لوقا، 22: 28-30). وهؤلاء يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم: «حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (متى، 13: 43). وهم يشربون بصحبة المسيح من نتاج الكرمة: «وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديدا في مملكة أبي» (متى، 26: 29).
فإذا انتقلنا إلى الكرازة الرسولية وجدناها تعطي تفاصيل أخرى بخصوص قيامة الموتى ومصيرهم. فعند بولس، فإن الراقدين المؤمنين سيقومون على صوت نفخة الصور ويخطفون لملاقاة المسيح الهابط على سحب الغمام: «لأننا إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدون، بيسوع سيحضرهم الله أيضا معه ... لأن الرب بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله، سوف ينزل من السماء، والأموات في المسيح سيقومون أولا، ثم نحن الأحياء الباقين سوف نخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. هكذا نكون كل حين مع الرب » (1 تسالونيكي، 4: 14-17). وهناك يرى المنعم عليهم وجه الله: «أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو» (رسالة يوحنا الأولى، 3: 2).
ورغم توكيد بولس على بعث الأجساد في اليوم الأخير، إلا أنه يقول لنا إن هذه الأجسام المادية بعد بعثها سوف تلبس حلة نورانية سماوية : «هكذا أيضا قيامة الأموات: يزرع - الجسم - في فساد ويقام في عدم فساد، يزرع في هوان ويقام في مجد، يزرع في ضعف ويقام في قوة، يزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا ... وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس صورة السماوي أيضا» (1 كورنثة، 15: 44-42 و49). وينفخ الملائكة في الصور سبع مرات، وعند الصور السابع يستيقظ الموتى في أجساد لا ينالها الفساد، كما تتغير أجساد من كان حيا أيضا: «في لحظة، في طرفة عين، عند البوق الأخير، فإنه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغير، لأن هذا - الجسد - الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت.» وبذلك يتم انتصار المسيح على الموت وعلى العالم الأسفل: «فحينئذ تصير «تتحقق» الكلمة المكتوبة: ابتلع الموت إلى غلبة. أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية» (1 كورنثة، 15: 43-55).
في سفر الرؤيا، ليوحنا اللاهوتي، وهو آخر أسفار العهد الجديد، لدينا تفاصيل عن اليوم الأخير مكتوبة بأسلوب رؤيوي رمزي، مما عهدناه في الأسفار الرؤيوية الأخرى، نقتطف منها المقاطع الآتية: «ونظرت، وإذا زلزلة عظيمة حدثت، والشمس صارت سوداء كمسح من الشعر، والقمر صار كالدم، ونجوم السماء سقطت إلى الأرض كما تطرح شجرة التين سقاطها إذا هزتها ريح عظيمة. والسماء انفلقت كدرج ملتف، وكل جبل وجزيرة تزحزحا عن موضعهما، وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأقوياء وكل عبد وكل حر أخفوا أنفسهم في المغاور وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال وللصخور اسقطي علينا وأخفينا» 6: 12-16. «ثم حدث سكوت في السماء نحو نصف ساعة، ورأيت سبعة الملائكة الذين يقفون أمام الله وقد أعطوا سبعة أبواق ... ثم إن سبعة الملائكة الذين معهم سبعة الأبواق تهيأوا لكي يبوقوا. فبوق الملاك الأول فحدث برد ونار مخلوطان بدم وألقيا على الأرض، فاحترق ثلث الأشجار واحترق كل عشب أخضر. ثم بوق الملاك الثاني فكأن جبلا عظيما متقدا بالنار ألقي إلى البحر، فصار ثلث البحر دما ومات ثلث الخلائق التي في البحر وأهلك ثلث السفن. ثم بوق الملاك الثالث فسقط من السماء كوكب عظيم متقد كمصباح، ووقع على ثلث الأنهار وعلى ينابيع المياه، ومات كثيرون من الناس من المياه لأنها صارت مرة. ثم بوق الملاك الرابع فضرب ثلث الشمس وثلث القمر وثلث النجوم. ثم بوق الملاك الخامس فرأيت كوكبا سقط من السماء وأعطي مفتاح بئر الهاوية، ففتح بئر الهاوية فصعد دخان من البئر كدخان أتون عظيم، ومن الدخان خرج جراد على الأرض فأعطي سلطانا كما للعقارب وعذابه كعذاب عقرب إذا لدغ إنسانا. وفي تلك الأيام سيطلب الناس الموت ولا يجدونه ... ثم بوق الملاك السادس فسمعت صوتا قائلا للملاك: فك أربعة الملائكة المقيدين عند نهر الفرات العظيم، فانفك أربعة الملائكة المعدون للساعة لكي يقتلوا ثلث الناس ... وأما بقية الناس الذين لم يقتلوا بهذه الضربات فلم يتوبوا عن أعمال أيديهم ... ثم بوق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين» 11: 9-15. «ثم نظرت، فإذا سحابة بيضاء وعلى السحابة جالس شبه ابن إنسان، على رأسه إكليل من ذهب وفي يده منجل حاد، وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم إلى الجالس على السحابة: أرسل منجلك واحصد لأنه قد جاءت ساعة الحصاد إذ يبس حصيد الأرض. فألقى الجالس على السحابة منجله على الأرض فحصدت الأرض. ثم رأيت آية أخرى في السماء، سبعة ملائكة معهم سبع ضربات أخيرة لأن بها أكمل غضب الله ... وسمعت صوتا عظيما من الهيكل قائلا لسبعة الملائكة: امضوا واسكبوا جامات غضب الله على الأرض ... فسكب الملاك الأول جامه على الأرض فحدثت دمامل خبيثة على الناس، وسكب الملاك الثاني جامه على البحر فصار دما، ثم سكب الملاك الثالث جامه على الأنهار والينابيع فصارت دما، ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأحرقت الناس بنارها ... ثم سكب الملاك الخامس جامه على عرش الوحش (= الدجال) فأباد مملكته، ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير الفرات فنشف ماؤه، ثم سكب الملاك السابع جامه على الهواء فحدثت رعود وبروق وزلازل عظيمة فزالت لجزر والجبال، ثم نزل برد ثقيل من السماء على الناس» 16: 1-17. «ورأيت ملاكا نازلا من السماء معه مفتاح الهاوية وسلسلة عظيمة على يده، فقبض على التنين، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان، قيده ألف سنة وطرحه الهاوية وأغلق عليه،
7
وختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد، حتى تتم ألف السنة، وبعد ذلك لا بد أن يحل زمانا يسيرا ...» بعد ذلك يقيم المسيح مملكته على الأرض ويعيش مع المؤمنين ألف سنة: «ثم متى تمت ألف السنة، يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (وهم) جوج وماجوج ليجمعهم للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر. فصعدوا على عرض الأرض وأحاطوا بمعسكر القديسين وبالمدينة المحبوبة، فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم، وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت ... ثم رأيت عرشا عظيما أبيض و(رأيت) الجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع، ورأيت الأموات صغارا وكبارا واقفين أمام الله ... وسلم البحر الأموات الذين فيه، وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما، ودينوا كل واحد بحسب أعماله. وطرح الموت والهاوية في بحيرة النار» 20: 1-14.
خلاصة
لا تنشأ أية عقيدة دينية في فراغ ثقافي تام، ولا بد للعقيدة الجديدة من أن تستوعب الفكر الديني السائد في الثقافة التي نشأت فيها، فتستفيد منه ومن المفاهيم والصور والنماذج الراسخة في الضمير الشعبي، لتصب أفكارها الجديدة فيها فتعطيها معاني وأبعادا جديدة، ثم تتجاوزها نحو تركيب مغاير كل المغايرة. فالمسيحية هي نتاج الفكر التوراتي المنحول
8
الذي قصرت ثورته الدينية الصامتة «كما دعوناها» عن زعزعة المؤسسة الدينية اليهودية رغم تأثيره البالغ فيها. ولكن الفكر المسيحي كما تبلور في الأناجيل وفي كرازة الرسل، وخصوصا بولس، قد تجاوز أصوله في ذلك الفكر المنحول مثلما تجاوز أيضا الفكر التوراتي، فأسس لعقيدة أصيلة ذات طابع إنساني كوني قل مثيلها في تاريخ الدين.
الفصل الحادي عشر
الرحمن والشيطان في المعتقد الإسلامي
يقوم المعتقد الإسلامي على الإيمان بالله إلها أوحد وخالقا أوحد، ويتبع هذا الركن الأساسي في إيمان المسلم عدد آخر من أركان الإيمان، تفصلها لنا الآية 136 من سورة النساء:
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا . غير أن هذا الإيمان وحده لا يكفي لإسلام المرء، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح وتجليه على أرض الواقع من خلال السلوك الأخلاقي القويم، ويتضح لنا مدى اقتران الإيمان بالأخلاق، في النص القرآني، من تكرار ورود كلمة «الإيمان» وتصريفاتها المختلفة، في ارتباط مع العمل الصالح. وذلك كقوله تعالى:
وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى (الكهف: 88).
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة (البقرة: 82).
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات (الطلاق: 11). لقد ورد الإيمان بالله مقترنا بالعمل الصالح حوالي خمسين مرة في النص القرآني «والإيمان بالله أينما ورد يتضمن حكما الإيمان برسوله وبالكتاب الذي نزل على رسوله.» وورد مقترنا باليوم الآخر حوالي ثماني عشرة مرة، وبالكتب السماوية والرسل والملائكة حوالي عشر مرات. وهذا يدل على أن المسلم الذي ينطق الشهادتين لا يصح إيمانه إلا إذا تجلى في السلوك الأخلاقي أولا، وبالإيمان باليوم الآخر ثانيا، ثم بالكتب السماوية والرسل والملائكة ثالثا.
لا يشكل الإيمان بالشيطان عنصرا من عناصر العقيدة القرآنية، ولكن الاعتقاد بوجوده ودوره في حياة الفرد والجماعة أمر مفروض على كل مسلم. فالشيطان عدو للإنسان يتربص به عند كل زاوية وباب ليضله عن سبل الحق:
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (البقرة: 208).
إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا (الإسراء: 53).
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء (البقرة: 268).
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (النساء: 60).
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء (المائدة: 91).
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل (النمل: 24). فلقد أخذ الشيطان على نفسه عهدا، منذ أن خلق الله آدم، بالإيقاع بالإنسان وتزيين المعصية له وحرفه عن سبل الحق والخلق القويم:
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (الأعراف: 16-17).
رغم ما يبدو من شبه ظاهري بين الشيطان في المعتقد القرآني وشيطان العقائد الثنوية، فإن فحوى المعتقد القرآني يختلف عن فحوى الثنويتين الجذرية والمطلقة في نقطة مبدئية حاسمة، وهي أن الشيطان في الإسلام ليس ندا للرحمن ولا حتى بصورة مرحلية مؤقتة، ولذا فإنه لا يتمتع بالسلطة أو القوة اللازمتين للخلق، أو للتدخل في مظاهر خلق الله وإفسادها:
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (النحل: 17).
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (لقمان: 11). كما يختلف فحوى المعتقد القرآني عن فحوى الثنويات الأخلاقية في نقطة حاسمة أخرى، وهي أن الشيطان ليس مبدأ كونيا للشر، وليس حاكما على مملكة للشر تقف في مواجهة مملكة أخرى للخير، كما أنه ليس متصرفا بشئون هذا العالم، يتصرف به كما يشاء خلال الفترة الوسطية من التاريخ. فالخير والشر احتمالان مجردان وخياران أخلاقيان سيرهما الله لبني البشر ليكونا موضوعا للحرية التي وهبها، تمييزا لهم وتكريما على بقية الكائنات غير العاقلة:
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (الأنبياء: 35).
ورغم سلطة الشيطان على المجال الأخلاقي وحده من دون بقية المجالات، فإن مقدرته على التأثير في هذا المجال محدودة أيضا، لأن سلطانه يقتصر على الأشخاص الذين اتخذوا خيارهم وانحازوا إلى جانب الشر، فهو يعاضدهم ويزيد في غيهم. أما من اختار جانب الخير فلا سلطان للشيطان عليه. وهذا ما تنص عليه آيات كريمة عديدة:
إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (النحل: 99-100).
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (الإسراء: 65).
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (الحجر: 42).
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان (سبأ: 20-21).
وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم (إبراهيم: 22).
وإننا لواجدون في مؤدى قول الشيطان أعلاه :
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم
خلاصة مفهوم الخير والشر في المعتقد القرآني. فهذان النازعان موجودان في النفس الإنسانية ولا يأتيانها من خارجها:
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها (الشمس: 7-10). أمام هذه المحنة الكبرى يقف الإنسان بكل عزة وكرامة تليق بخليقة الله على الأرض، ليكافح الشر في نفسه وفي خارجها، ويسير بالتاريخ نحو غاية سامية، والخروج به من عالم المتناقضات إلى عالم الخير الكامل.
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره (فاطر: 39). لقد قبل الإنسان ما وهبه الله من وعي ومن حرية وتحمل مسئولية هذه الهبة، وما عليه سوى السير في درب التاريخ الشاق ليثبت أهليته لعطية ربه:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (الأحزاب: 72). أي ظالما لنفسه بقبوله هبة الله، جاهلا بعواقب موقفه البطولي هذا. لقد رفض الإنسان أو يكون جمادا، أو حيوانا مشترطا بغرائزه، أو ملاكا مسيرا لا إرادة له، وفضل ما تسبغه عليه الحرية من تميز على جميع خلق الله، وما تعطيه هذه الحرية من مغزى ومعنى لحياته، فكان عليه أن يتحمل كل وطأة وجور التاريخ، قبل أن يحقق انتصارا بعيدا ولكنه مؤكد بعون الله وعطفه.
بعد أن ابتلى الله الإنسان بالخير والشر، وقبل الإنسان أمانة الوعي الحر والمسئول، لم يكن الله ليقف موقف الحياد تجاه خلقه، فهو الخير المحض، وهو الذي يحفظ خلقه المؤمن من شرور إبليس:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (يوسف: 64). وتتجلى رحمة الله ولطفه بعباده في عونه لهم ومدهم بالقوة أمام إغواء الشيطان، وتزيين الخير لهم:
اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير (الحج: 77).
وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام * إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا (الأنفال: 11-12).
ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (النساء: 83).
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (الأعراف: 200).
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (الأعراف: 201). فالله يريد الخير لعباده، وما يأتيهم الشر إلا من أنفسهم:
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (النساء: 79). ولكن المبادرة يجب أن تأتي من الإنسان أولا:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد: 11).
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (الجاثية: 15).
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (الانشقاق: 6).
إن دور الشيطان كوكيل للشر وحافز عليه دور ثانوي، وهو لا يستطيع ممارسة سلطانه إلا على من جنح للسيئة واختار الشر، عند ذلك يغدو الشيطان وليه وموجها لخطاه. فالشر ينبع من النفس أولا ثم يتفاقم بعون الشيطان:
بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون (يوسف: 18).
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه (ق: 16).
وكذلك سولت لي نفسي (طه: 96). من هنا فإن كيد الشيطان ضعيف إذا لم يكن عند الفرد قابلية مسبقة لتلقي الكيد:
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (النساء: 76). وهو رغم استقلاليته الظاهرية، إلا أنه خاضع للرحمن، يأتمر بأمره متى شاء، فيرسله على من ضل ليزيده ضلالا:
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (الزخرف: 36-37).
ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا * فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (مريم: 83-84). وهو رغم دعوته إلى الكفر، إلا أنه يبطن الإيمان والخضوع لرب العالمين:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين (الحشر: 16). وها هو يعلن لمن اتبعه أنه يكفر بإشراكهم له مع الله في الطاعة:
ما أنا بمصرخكم
1
وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (إبراهيم: 22).
فالإنسان مخير في سعيه، وهو الذي يحدد مصيره بنفسه:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا (الإنسان: 3). ولو شاء الله لأتى بخلق مؤمن منذ البداية، ولكنه ارتضى للإنسان مكانة متميزة، وأعلنها للملائكة عندما أمرهم بالسجود لآدم، وذلك إشعارا منه لجميع خلقه بأن الوعي يسمو على كل ما في الكون:
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (يونس: 99).
ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا (الأنعام: 107).
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (الأعراف: 11).
ولكن سعي الإنسان وكدحه إلى ربه لن يقيض له النجاح بغير مدد من عند الله وعون. وخلاص الإنسان في النتيجة هو منة علوية، ورحمة من الله الذي التزم بخلاص البشرية منذ البداية:
لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا (الفرقان: 16).
وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله (التوبة: 111).
إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى (الليل: 12-13).
فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (غافر: 55).
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله (الأعراف: 188).
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (آل عمران: 74).
ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله (الأنعام: 111).
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (التوبة: 27).
ولكن يدخل من يشاء في رحمته (الشورى: 8).
وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (التكوير: 29).
يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (المائدة: 16).
سوف تتضح هذه الأفكار أمامنا بشكل أوسع وأدق من خلال تقصينا لمفهوم التاريخ في القرآن الكريم، وهو المفهوم المركزي الذي يدور حوله تعليم القرآن من أوله إلى آخره. فالآيات والسور تتلى لتروي للمؤمنين قصص البدايات والنهايات، خلق العالم وخلق الإنسان، سير الأولين ومن تلاهم إلى يوم الدين. فالتاريخ هو المسرح الذي تتجلى فيه مشيئة الله وقصده الخلاصي. فهو منذ أن تاب على آدم بعد معصيته، ملتزم بتخليص خليفته وهدايته إلى سبل العيش القويم، وإلى الحياة السرمدية، بعد عصور الامتحان الطويلة.
يتحرك التاريخ عبر ثلاث مراحل تعقب الحالة السابقة على التكوين عندما لم يكن سوى الله والعرش والماء. (1) الخلق والتكوين (1-1) السرمدية
لا يوجد في القرآن الكريم سوى آية واحدة تصف الحالة السابقة على الخلق، وهي الآية السابعة من سورة هود:
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا (هود: 7). فقبل ظهور العالم لم يكن سوى الماء والعرش وخالقهما، ثم خلق الله السماوات والأرض على ست مراحل متتابعة. وأما هدف الخلق فهو الإنسان الذي أخلفه الله في الأرض ليظهر جدارته بهذه الخلافة، ويبذل ما هو صالح لنفسه ولبقية كائناتها التي سخرها الله له، مثلما سخر له بقية مظاهر الكون والطبيعة.
وقد ورد في تفسير الكشاف لهذه الآية ما يلي: «أي خلقهما في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا. وفي ذلك حث للعباد على التأني في الأمور، فإن الله الأقدر على خلق الكائنات بلمح البصر قد خلقها في ستة أيام. وكان عرشه على الماء: أي وكان العرش قبل خلقهما على الماء. وفي هذا قال الزمخشري: أي ما كان تحته خلق. وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض.»
2
وقال الطبري: إن الله قد خلق العالم من هذا الماء البدئي: «إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين.»
3 (1-2) خلق العالم
لا تعطي الآيات الكريمة المتعلقة بالخلق والتكوين جدولا زمنيا لتتابع أعمال الخلق، وإنما يكتفي معظمها بالحديث عن خلق السماوات والأرض إجمالا في ستة أيام واستواء الخالق بعد ذلك على العرش، ومنها:
إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش (الأعراف: 54).
إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر (يونس: 3).
الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا (الفرقان: 59).
هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم (الحديد: 4).
ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (ق: 38). وكلمة لغوب في الآية الأخيرة تعني التعب. وقد ورد في تفسير القرطبي أن في الآية الكريمة ردا على اليهود الذين زعموا أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه تعب فاستراح في يوم السبت.
4
على أننا نفهم من آيات معينة أن خلق الأرض قد تم أولا:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم (البقرة: 29).
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها
5 (فصلت: 9-12). وقد جاء خلق الأرض مناظرا لخلق السماء، ففي الأعلى سبع سماوات، وفي الأسفل سبع أرضين:
الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن (الطلاق: 12).
أما عن خلق بقية المظاهر الكونية والطبيعانية، فقد تم خلال هذه الأيام الستة، ولكن دون الإشارة إلى ترتيب معين في أسبقية الظهور :
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور (الأنعام: 1).
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره (الأعراف: 54).
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (يس: 40).
وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم (فصلت: 12).
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا (يونس: 5).
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (إبراهيم: 33).
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (الصافات: 6).
والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى (الأعلى: 4-5).
وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (طه: 53).
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء (الروم: 48).
وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه (الحجر: 22).
وقد جاء خلق الله هذا تاما وكاملا، وسيبقى كذلك إلى اليوم الموعود. فالعالم كله حسن وخير، يسير وفق الخطة التي وضعها الله له، ولا سلطة للشيطان عليه:
الذي أحسن كل شيء خلقه (السجدة: 7).
فتبارك الله أحسن الخالقين (المؤمنون: 14).
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه (لقمان: 11).
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت (الملك: 3).
وكل شيء عنده بمقدار (الرعد: 8).
الشمس والقمر بحسبان (الرحمن: 5).
والسماء رفعها ووضع الميزان (الرحمن: 7). وهذا يعني أن ما يبدو من اضطراب في عمليات الطبيعة أحيانا مثل العواصف والأعاصير والفيضانات والزلازل والبراكين، هو جزء من نظام الطبيعة ذاتها، لا اختلال في ذلك النظام. كما أن الله يسخر بعض هذه الظواهر كأدوات عقاب على الأقوام العاصية التي فسدت وتحللت فيها الأخلاق والمعاملات:
فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم (الإسراء: 69).
فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات (فصلت: 16). والشيء نفسه يقال عن المخلوقات المؤذية بطبيعتها وعن الأمراض والأوبئة. وبتعبير آخر، فإن كل ما يبدو حولنا من تعارضات ذات طبيعة قطبية، هو جزء من النظام الخفي لصيرورة العمليات الكونية والطبيعانية. (1-3) الملائكة
لا تفيدنا آيات الخلق والتكوين عن ترتيب ظهور الملائكة في خطة الخلق، ولكننا نعرف أنها كائنات سماوية ذات قوى متفوقة تحيط بعرش الله وتسبح بحمده.
6
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم (الزمر: 75).
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض (الشورى: 5).
ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته (الرعد: 13).
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم (غافر: 7). ومن أهم صفاتهم الانصياع التام لخالقهم، فهم مسيرون لا مخيرون:
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (التحريم: 6).
وللملائكة عدد متنوع من الوظائف فهم رسل بين السماء والأرض:
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا (فاطر: 1). ويتصلون بالأنبياء والمختارين لإبلاغهم مشيئة الرب:
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب (آل عمران: 39).
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (آل عمران: 42). وقد ذكر القرآن الكريم من أسماء الملائكة: جبريل وميكال ومالك. وجبريل هو الذي حمل الوحي إلى الرسول محمد:
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله (البقرة: 97). والملائكة تحمل رحمة الله إلى المؤمنين:
إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة (فصلت: 30). ومنهم أولياء وحفظة على المؤمنين:
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة (فصلت: 31).
كلا بل تكذبون بالدين * وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون (الانفطار: 9-12). ولكل فرد من أفراد البشر اثنان من هؤلاء الملائكة الحافظين يرافقانه طيلة حياته، واحد عن يمينه وآخر عن شماله:
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد
7 (ق: 17-18).
ومن الملائكة من يرسله الله ليعاضد المؤمنين في القتال:
إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (الأحزاب: 9). ومنهم موكلون بقبض أرواح البشر عندما تحين المنية:
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم (النساء: 97).
ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم (الأنعام: 93).
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (الأنفال: 50). فوق هذه الزمرة من الملائكة التي تقبض الأرواح رئيس تدعوه الآية بملاك الموت دون أن تذكر اسمه:
8
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (السجدة: 11). ومنهم خزنة للنار وخزنة للجنة (الزمر: 71-73). فملائكة الجنة تيسر أسباب السعادة لأهل الجنة، بينما تقوم ملائكة الجحيم على تعذيب المجرمين (الواقعة: 17-27، التحريم: 6).
وللملائكة في يوم القيامة دور هام يلعبونه:
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك (النحل: 33).
يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين (الفرقان: 22). وللملائكة أجنحة يختلف عددها على ما يبدو باختلاف طبقاتها:
جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع (فاطر: 1). على أن هذا لا يضفي الصفة المادية على الشكل الملائكي، والبشر لا يقدرون على رؤيتها، في حال تجليها، إلا في هيئة إنسانية عادية:
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون * ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (الأنعام: 8- 9). وكلمة «رجل» في هذه الآية الكريمة تدل على الإنسان لا على جنس الذكر، لأن الملائكة لا جنس لها. (1-4) الجن
الجن هم فريق آخر من الكائنات غير المادية، خلقها الله قبل الإنسان من عنصر النار:
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم (الحجر: 26-27).
وخلق الجان من مارج من نار (الرحمن: 15). إن تعبير «نار السموم» وتعبير «مارج من نار» في الآيتين السابقتين يدلان على النار الصافية التي لا يخالطها دخان. وهذا يعني أن الجن مخلوقون من نار غير أرضية، فهم طاقة صافية لا أجساد لها، ومع ذلك فإنهم يسكنون المجال الأرضي وينقسمون إلى أمم وشعوب، شأنهم في ذلك شأن البشر. ومثل البشر أيضا، هم مخيرون وعرضة للامتحان عبر صيرورة الزمن:
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا (الأنعام: 130).
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها (الأعراف: 179).
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها (الأعراف: 38). ثم إنهم في النهاية مطالبون بالإيمان برسالة الإسلام:
وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (الأحقاف: 29).
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (الجن: 1-2).
ويبدو أن الآلهة التي عبدها البشر من دون الله كانت من الجن الكافر:
وجعلوا لله شركاء الجن (الأنعام: 100).
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (سبأ: 40-41). وللجن شياطين تغويهم مثلما للإنس:
شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة (الأنعام: 112-113).
ولدينا في سورة النمل نموذج عن القوة فوق الطبيعانية التي للجن، وذلك في قصة ملكة سبأ مع سليمان. فلقد سمع الملك سليمان بخبر ملكة سبأ، فأرسل إليها يدعوها للإيمان بالله وترك عبادة الشمس والكواكب، فأرسلت إليه هدايا ثمينة ولم تجبه للإيمان، فرد سليمان هداياها إليها وعزم على السير لمحاربتها، ولكنها بادرته بالسير لزيارته، قبل أن تصل الملكة أراد أن يريها آية تدفعها إلى الإيمان. ولما كان سليمان متسلطا على الجن، يأتمرون بأمره:
ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه (سبأ: 12)، فقد دعا الجن وسألهم أيهم قادر على إتيانه بعرش الملكة من بلدها قبل أن تصل:
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل (سورة النمل: 38-40). (1-5) خلق الإنسان وسقوطه
بعد أن فرغ الله من خلق السماوات والأرض عزم على خلق الإنسان، فأطلع الملائكة على نواياه:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم * وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (البقرة: 29-30). ثم خلق الله آدم من تراب الأرض الممزوج بالماء، مثلما تصنع الآنية الفخارية:
خلق الإنسان من صلصال كالفخار (الرحمن: 14).
إنا خلقناهم من طين لازب (الصافات: 11). والطين اللازب هو الطين اللزج الرخو، وكذلك الحمأ المسنون:
ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (الحجر: 26). وقد تولى الله خلق آدم بيديه لا بكلمته، على ما نفهم من خطابه لإبليس بعد ذلك:
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (ص: 75). وقد ورد في التفاسير أن الله تعالى جبل آدم من تراب الأرض فعجنه بماء فصار طينا لازبا، أي متلاصقا يلتصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأ مسنونا، أي طينا أسودا، ثم صورة كما تصور الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إذا نقر صوت.
9
وبعد أن انتهى الخالق من صنع جسد آدم نفخ فيه من روحه:
وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه (السجدة: 7-9). وبذلك صار آدم نفسا حية، يجمع في تركيبه عنصرين: الأول مادي ينتمي إلى الأرض، والثاني روحاني، هو قبس من روح الله ذاته.
هذا التكوين الخاص الجامع بين المادة و«الروح»، هو الذي جعل آدم مميزا على بقية الكائنات التي خلقها الله، ومفضلا على الملائكة والجان. ولكي يظهر الله للملائكة فضل آدم عليهم، فقد علمه أسماء جميع مخلوقات الأرض، ثم عرضهم على الملائكة لينبئوه بأسمائهم فعجزوا، ولكن آدم فعل:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (البقرة: 31-32). عند ذلك أمرهم الله بالسجود لآدم سجود تبجيل وتكريم:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (البقرة: 34).
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (الأعراف: 11-13).
أسكن الله آدم في الجنة، ثم خلق منه زوجة له، وقال لهما أن يأكلا من كل شجر الجنة عدا شجرة معينة،
10
وحذرهما من غواية الشيطان الذي صار عدوا لهما بعد عصيانه وطرده. والنص لا يصف كيفية خلق المرأة ولا يطلق عليها اسما معينا:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها (النساء: 1).
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (الأعراف: 19).
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (طه: 117-119). ولكن الشيطان الذي حلت عليه لعنة ربه بسبب آدم، جاء إلى آدم ووسوس إليه مزينا له الأكل من الشجرة:
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا (طه: 120-124).
وفي آية أخرى يوسوس الشيطان إلى الزوجين معا:
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (الأعراف: 20-24). ولكن رحمة الله ترافقت مع غضبه، فما لبث طويلا حتى غفر للإنسان خطيئته:
فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (البقرة: 36-37).
نلاحظ من الآيات الكريمة التي أوردناها أعلاه عددا من النقاط الأساسية التي تميز الرواية القرآنية عن الروايات الكتابية الأخرى. فالشيطان قد وسوس إلى آدم أولا، ثم إلى الزوجين معا، ثم إن الاثنين قد أكلا من الشجرة، دون الإشارة إلى من كان البادئ بالأكل والمحرض عليه. وبذلك فقد برأ القرآن الكريم المرأة من التحريض على المعصية الأولى، وألقى اللوم على الطرفين معا، ثم إن الله لم يلعن الإنسان بسبب معصيته، ولم يلعن الأرض بسببه، بل طرده من الجنة إلى الأرض ليحصل فيها قوته بالكد والعتب. وأعلن منذ البداية التزامه بهدايته وخلاصه:
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة: 38). كما أن الله قد سامح الإنسان وغفر له ذنبه ما إن دعاه وطلب غفرانه. وهذا يعني أن مفهوم الخطيئة الأصلية غير موجود في المعتقد القرآني، وأن نسل الإنسان لم يرث خطيئة آدم لينوء بها عبر تاريخه، بل هو قادر على تحقيق خلاصه بمجرد الإيمان بالله تعالى والإخلاص له. (1-6) إبليس
كان إبليس من الملائكة على ما تفيده صيغة الاستثناء المستخدمة في قصة سقوطه، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس. ولكننا في سورة طه نجد أنه من قوم الجن ولم يكن من الملائكة. ويبدو أنه كان رئيسا على الجن، على ما يذهب إليه بعض المفسرين.
11
أما لماذا كان بين الملائكة عندما أمرهم ربهم بالسجود لآدم، فإن النص يصمت عن هذه المسألة ولا يذهب أبعد من ذلك:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (الكهف: 50).
وعندما حلت عليه لعنة ربه بسبب عجرفته وتكبره وعصيانه، وآذن بهلاك مؤكد ، طلب التأجيل إلى يوم القيامة:
إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (ص: 71-85).
لم يكن عصيان إبليس واتخاذه جانب الشر بالأمر المهم في صيرورة تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية. فالشر لا يصدر عن إبليس بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الواعية والحرة والمسئولة. كما أن نهاية التاريخ مقررة ومقدرة سلفا، وهي جزء لا يتجزأ من خطة الله في الخلق، ولم يكن لمعصية إبليس أو خطيئة الإنسان أي أثر على هذه الخطة. ونحن إذا نظرنا إلى الآيات الكريمة المتعلقة بالخلق والتكوين نجد في معظمها قد ربط الخلق بالنهاية، لأن العالم مخلوق لأجل مسمى:
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى (الأحقاف: 3).
وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى (لقمان: 29).
وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت (الجاثية: 22). فالعالم مخلوق لأجل الإنسان، وهو المسرح الذي يحقق فيه خياراته عبر صيرورة التاريخ. ورغم أن مسيرة الزمن والتاريخ مرسومة مسبقا في خطوطها العامة، إلا أن ما يجري في هذا التاريخ هو مسئولية الإنسان.
ضمن هذه الخطة المتكاملة التي تجمع الجبرية في صيرورة التاريخ، والحرية في نشاط الإنسان ضمن هذا التاريخ، لا يلعب الشيطان إلا دورا ثانويا، وليس العهد الذي أخذه على نفسه بغواية بني البشر بذي أثر حقيقي على خطة الرحمن. نقرأ في سورة الإسراء:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (الإسراء: 61-65). ونقرأ في سورة الأعراف:
قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (الأعراف: 14-18).
باشر إبليس مهمته فورا، وبعد إغوائه لآدم وزوجته عمد إلى ضلالة فريق من الجن «أو الملائكة» فانحازوا إلى جانبه وتحولوا إلى شياطين تعمل كجند تحت إمرته:
وبرزت الجحيم للغاوين (الشعراء: 91).
فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون (الشعراء: 94-95). كما صار له ذرية ونسل تقفوا أثره:
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (الكهف: 50). وكلمة «ذرية» في هذه الآية الأخيرة قد تعني نسلا بالمعنى الحرفي للكلمة، وقد تعني النظائر والأشباه، وذلك كقوله تعالى:
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء: 27). فأخوة بعض البشر للشياطين هنا ليست أخوة فعلية، بل أخوة معنوية.
وهكذا ابتدأ الشيطان والإنسان تاريخهما معا، ودخلا المرحلة الثانية من التاريخ، مرحلة الامتحان الكبير. (2) مرحلة الامتحان الكبير
قال تعالى:
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون * إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (الدخان: 38-40).
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون (الروم: 8). فالإنسان هو معنى العالم وغايته، وإليه أوكل الله الأمانة الكبرى التي لم يحملها أحد من خلق الله، وإن عليه خلال المرحلة الثانية من التاريخ أن يثبت جدارته بهذه الأمانة ويصل بها إلى هدفها الأخير، وهو تنقية النفس الإنسانية من شوائب البشر، وتحقيق الخيار الوحيد اللائق بالجنس البشري، خيار الحق والخير، ليكون أهلا للدخول في السرمدية. وهو رغم مسئوليته الكاملة عن مصيره، فإنه ليس وحيدا في خضم الامتحان، لأن الله يقف على الدوام إلى جانب من تولوه في صراعهم مع نوازعهم ومع الشيطان، ويحارب الباطل بالحق:
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق (الأنبياء: 16-18).
منذ أن طرد الله آدم من الفردوس أعلن عن مقصده في التاريخ، والتزامه بهداية الإنسان وخلاصه من عالم التجربة والمحنة إلى حياة الأبدية:
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة (الأعراف: 27).
ومن يؤمن بالله يهد قلبه (التغابن: 11).
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم (يونس: 9).
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات (البقرة: 256-257).
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (الأعراف: 35).
ثم أرسلنا رسلنا تترى (المؤمنون: 44).
خلال المرحلة الثانية ينشط إبليس وجنوده فيضلون ويفسدون، ولكن الله الأمين على عهده ووعده، يتابع صلته بالبشر ليجنبهم مهاوي الشيطان:
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد: 25).
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل: 36).
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (إبراهيم: 4).
قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها (يونس: 108).
تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين (لقمان: 2-3). ولكن هذه المرحلة تميزت بعزوف معظم الناس عن الهداية، وعدم الإصغاء لصوت الحق:
كلما جاء أمة رسولها كذبوه (المؤمنون: 44).
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (الحجر: 10-11).
يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (يس: 30).
ولكن حسرته تعالى على العباد تنقلب إلى غضب ونقمة، عندما يستفحل الظلم والضلالة والخطيئة:
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون
12 (الأعراف: 4).
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم (القصص: 58).
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (الكهف: 59).
وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (القصص: 59). ومع ذلك فإن رحمة الله تسبق غضبه:
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (القصص: 59).
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى (فاطر: 45).
هذا الصراع المفتوح بين الخير والشر لن يستمر أبدا، لأن الزمن يسير نحو نهاية محتومة ومقررة سلفا في صلب الخلق الأول. ولسوف ترجح كفة الخير في الهزيع الأخير من التاريخ، الذي يتوج باستئصال شأفة الأشرار ووليهم إبليس:
ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون (المجادلة: 19). والهزيع الأخير من التاريخ يبتدئ بالبعثة المحمدية. (3) البعثة المحمدية ونهاية التاريخ (3-1) خاتم الأنبياء
قال تعالى:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين (الأحزاب: 40).
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا (سبأ: 28). قبل البعثة المحمدية كان الله يختص كل أمة برسول. أما وقد اقترب الزمن من نهايته،
13
وجاءت مرحلة الفصل الأخير بين الخير والشر، فقد خاطب الله الناس كافة، كل الشعوب والأمم، وبعث رسوله برسالة عالمية شاملة ليكون آخر الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات:
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب (إبراهيم: 52).
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (الجاثية: 20).
الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم (إبراهيم: 1).
هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور (الحديد: 9). لقد بينت الرسالة المحمدية لجميع الناس، وللمرة الأخيرة، الحد الواضح بين الهدى والضلالة، وما زال هنالك وقت للاختيار قبل أن يأتي يوم الفصل:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها (البقرة: 256). ولسوف يشهد هذا الهزيع الأخير من التاريخ فلاح القصد الإلهي في تخليص البشر:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (النصر: 1-3). أما من بقي وليه الشيطان فموعده الساعة، يوم تتم هزيمة الشيطان وجنده وأتباعه:
سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (القمر: 45-46). (3-2) الساعة واليوم الآخر
تتخذ الرسالة المحمدية طابعا آخرويا واضحا، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن الكريم من آية أو عدد من الآيات التي تذكر باليوم الآخر وبقيام الساعة. لقد بلغ عدد مرات ذكر «الآخرة» و«اليوم الآخر» في الكتاب حوالي 140 مرة، وذكر «الساعة» حوالي 48 مرة. وذلك إضافة إلى التعابير الأخرى التي تحمل الدلالة نفسها مثل «الغاشية» و«الواقعة» و«القارعة» و«الآزفة» و«اليوم الموعود» و«يوم الوعيد» و«الموعد» و«الميقات» وغيرها. فاليوم الآخر هو تجسيد لعدالة الله الحقة، وكل تعاليم القرآن تصب في النهاية في تعليم واحد، هو آخر الزمن ونهاية التاريخ.
يفتتح اليوم الآخر بالساعة الرهيبة التي تزعزع الأرض وتشقق السماء وتبعثر النجوم وتفيض البحار. هذه الساعة قريبة، ولكن موعدها لا يعلم به سوى الله:
يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي (الأعراف: 187).
وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (الزخرف: 85).
وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (الأحزاب: 63).
وما يدريك لعل الساعة قريب (الشورى: 17). فهي تأتي بغتة دون إنذار:
أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (سويف: 107).
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة (الحج: 55).
بل تأتيهم بغتة فتبهتهم (الأنبياء: 40). يسبق الساعة ثلاث إشارات: هي الدخان ودابة الأرض التي تكلم الناس، وخروج شعب يأجوج ومأجوج:
فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم (الدخان: 10-11).
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (النمل: 82).
حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (الأنبياء: 96-97). ويأجوج ومأجوج هم القوم الذين حجبهم ذو القرنين وراء سد كبير اتقاء أذاهم (الكهف: 94-97). وهم قبل الساعة ينقبون السد ويخرجون للفساد في الأرض.
ينتبه الأحياء من غفلتهم على صوت بوق عظيم تضطرب له الأرض وتفزع الكائنات:
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله (النمل: 87). ويأتي صوت البوق أشبه بصيحة واحدة لا متقطعة ولا متكررة:
وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (ص: 15). يلي ذلك عدد من الكوارث الطبيعية والكونية:
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (الحاقة: 13-16).
إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجرت (الانفطار: 1-3).
إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها (الزلزلة: 1-5).
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه (الزمر: 67).
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت (التكوير: 1-4).
إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع * يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا (الطور: 7-10).
يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما (المعارج: 8-10).
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى (الحج: 2).
ثم ينفخ في البوق مرة ثانية فيفنى
14
كل من بقي حيا بعد تلك الكوارث:
ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله (الزمر: 68).
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (يس: 29).
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (الرحمن: 26-27). بعد أن يموت الجميع، ويستوي من مات حديثا مع من مات منذ آلاف السنين، ينفخ في البوق مرة ثالثة، فيبعث الموتى من مرقدهم، وتعود إليهم الأرواح التي فارقتهم:
ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (الزمر: 68).
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (يس: 51).
خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر (القمر: 7).
قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (يس: 52). ثم ينفخ في الصورة مرة رابعة فيجمع الناس إلى مكان الحشر:
يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا (النبأ: 18).
ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (الكهف: 99).
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (يس: 53).
وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (الكهف: 47).
عند ذلك ينزل الله من السماء آتيا مع السحاب:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور
15 (البقرة: 210).
ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (الفرقان: 25).
وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية
16 (الحاقة: 16-17).
كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا
17 (الفجر: 21-22).
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
18 (القيامة: 22-23).
إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
19 (المطففين: 13-15). عندما يعرض الناس على الواحد القهار من أجل الحساب:
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (الحاقة: 18).
وبرزوا لله الواحد القهار (إبراهيم: 48).
وعندها تبرز صحف أو كتب الأعمال التي كان الملائكة يسجلون فيها أعمال كل فرد خلال حياته:
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (الكف: 49).
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا (الإسراء: 13-14).
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (يس: 12). ومع إبراز صحف الأعمال ينقسم المحشورون إلى أهل اليمين وأهل الشمال:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (الواقعة: 27).
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (الواقعة: 41).
فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا (الانشقاق: 7-9).
وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية * ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه (الحاقة: 25-29).
بعد استلام صحف الأعمال، يتجه المحشورون إلى ميزان الحساب المنصوب:
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة (الأنبياء: 47).
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم (الأعراف: 8-9).
فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية
20 * وما أدراك ما هيه * نار حامية (القارعة: 6-11). بعد اختبار الميزان يتجه أهل اليمين إلى نعيم مقيم، ويتجه أهل الشمال إلى عذاب السعير. (3-3) أحوال الجنة وأحوال النار
للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله (آل عمران: 15). وللجنة أبواب تستقبل أهلها وفق طبقاتهم، وعليها خزنة موكلون بشئونها:
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (الزمر: 73). وللجنة درجات:
ولمن خاف مقام ربه جنتان
ذواتا أفنان (الرحمن: 46، 48).
ومن دونهما جنتان
فيهما عينان نضاختان (الرحمن: 62 و66). وفيها أنهار من ماء عذب وأنهار من لبن وعسل وخمر:
فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم (محمد: 15). ولكن خمر الجنة لا يسكر:
يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (الصافات: 45-47).
يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون (الواقعة: 17-19).
يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون (المطففين: 25-28).
وأهل الجنة لا يعملون ولا يكدون، بل يأتيهم رزقهم دون سعي أو مشقة، وليهم فيها أزواج مطهرة:
جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا * لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا (مريم: 61-62).
إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم (يس: 55-58).
أولئك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * في جنات النعيم * على سرر متقابلين (الصافات: 41-44).
ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون (الواقعة: 21-24).
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم (الأعراف: 44).
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (الأعراف: 50).
ولجهنم أيضا أبواب تستقبل أهلها حسب طبقاتهم، وعليها حفظة يديرون شئونها:
وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (الحجر: 43-44).
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (الزمر: 71). ولها أيضا درجات تتسلسل صعدا من الأسفل إلى الأعلى:
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (النساء: 145). فإذا اقتربوا منها سمع عن بعد صوت غليان النار فيها، مثلما يغلي صدر الغضبان من الغيظ، وسمع لها شهيق وزفير:
وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (الفرقان: 11-12).
إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (الملك: 7-8). فإذا رأى الكافرون ما هم فيه من عذاب ندموا وطلبوا فسحة من الوقت يرجعون خلالها إلى الحياة الدنيا ليعملوا صالحا، ولكن هيهات، فإقامتهم هنا أبدية:
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (الأنعام: 27).
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد (هود: 106-107).
ومن صنوف العذاب التي يلقونها على يد ملائكة العقاب:
فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (البقرة: 24).
عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (التحريم : 6)
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب (النساء: 56).
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (غافر: 71).
إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا (الإنسان: 4).
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (الحج: 19-22).
لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها (فاطر: 36). وفي مقابل طيبات رزق الجنة، فإن لأهل النار طعاما أيضا:
إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم (الدخان: 43-45).
إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون (الصافات: 64-66). (3-4) الخلق الجديد
ورد في الآية 107 من سورة هود التي أوردناها أعلاه، أن الذين شقوا هم في النار
خالدين فيها ما دامت السموات والأرض
وفي هذا دلالة على أن العالم لن يفنى عقب يوم القيامة، وإنما يتم تجديده بعد الدمار الشامل الذي حل به. ويدعم هذا التفسير الذي نتقدم به هنا الآيات الكريمة التي تتحدث عن «الخلق الجديد». ففي بعض هذه الآيات يرد تعبير «الخلق الجديد» للدلالة على إعادة خلق الموتى وبعثهم، وذلك كقوله تعالى:
إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط (يونس: 4). وكقوله:
وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد (الرعد: 5). ولكن تعبير الخلق الجديد يرد في مواضع أخرى للدلالة على إعادة خلق العالم. وذلك كقوله:
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (العنكبوت: 20).
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده (الأنبياء: 104).
أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (يس: 81). من هنا، فإن الجنة والنار اللتين لم يحدد النص صراحة مكانهما وموضعها، قد تكونان في هذه الأرض الجديدة، خصوصا وأن بعض الآيات تنص صراحة على أن المؤمنين يرثون الأرض في اليوم الآخر:
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء (الزمر: 74).
كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين * ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء: 104-105).
أي إن الله يخلق بعد تدمير السماء والأرض سماء جديدة وأرضا جديدة، تدخلان في السرمدية مع المؤمنين، الذين يسقيهم ربهم شرابا طهورا، هو شراب الخلود في عالم انتفت منه التناقضات والتعارضات، بعد أن توقف التاريخ وصب تيار الزمن في الأبدية. (3-5) في الحديث الشريف
لقد التزمنا فيما سبق من هذا الفصل نص القرآن الكريم، من دون الأحاديث النبوية الشريفة،
21
ولكننا سوف نتوقف فيما يلي من نهاية هذا الفصل عند أحاديث نبوية مختارة في موضوع الساعة واليوم الآخر، وذلك بسبب تطرقها إلى مسائل لم ترد في النص القرآني، وذلك مثل أشراط الساعة وعلاماتها، وعودة المسيح، والمهدي، والدجال، وحروب آخر الزمن، والموت وعذاب القبر. وذلك مع التحفظ على قبول هذه الأحاديث باعتبارها ممثلة للعقيدة الإسلامية.
الموت وعذاب القبر «إن أحدكم إذا مات، عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار. فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة.»
22 «القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد.»
23 «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع وقع نعالهم، إذا انصرفوا أتاه الملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة. وأما الكافر فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: لا دريت ولا تليت. ثم يضرب بمطرقة من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه.»
24
وهناك حديث طويل عن عمل الميت يأتيه في صورة رجل حسن أو في صورة رجل قبيح، نقتبس بعض أجزائه: «ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب، فيقول أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول من أنت فوجهك الحسن يجيء بالخير، فيقول أنا عملك الصالح. فيقول رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن كان العبد كافرا يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، فيقول أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك القبيح يجيء بالشر، فيقول أنا عملك الخبيث، كنت بطيئا عن طاعة الله سريعا في معصيته فجزاك الله شرا. ثم يفتح له باب من النار، ويمهد له فرش من النار.»
25
عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة فسألت رسول الله عن عذاب القبر فقال نعم، عذاب القبر حق، قالت فما رأيت رسول الله، بعد، صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.»
26
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي قال: «إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى إن البهائم لتسمع أصواتهم.»
27
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله بعدما غربت الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب في قبورها.»
28
أشراط الساعة
عن عائشة رضي الله عنها: «سمعت رسول الله يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، قلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أن ذلك تام. قال إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة فتتوفى كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم.»
29
وورد في أحاديث أخرى «يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر.»
30 «إن الله يبعث من اليمن ريحا ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته.»
31
بعد أن يرحم الله المؤمنين من فتن الساعة وأهوالها يعم الشرك ويفقد الإيمان وتنتشر الفوضى في كل مكان: «والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم.»
32 «ويل للعرب من شر قد اقترب، قطعا كالليل المظلم. يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا. يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل. المتمسك بدينه يومئذ كالقابض على الجمر.»
33 «إن بين يدي الساعة أياما ينزل فيها الجهل، ويرفع العلم، ويكثر الهرج أي القتل.»
34 «ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول في أي شيء قتل.»
35 «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا.»
36
حروب آخر الزمان «وتقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين.»
37 «إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر. وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة.»
38 «إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم مال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام. قلت: الروم تعني؟ قال نعم، ويكون ذلكم القتال ردة شديدة.»
39 «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله.»
40
ويخرج من أقاصي الأرض شعب يدعى يأجوج ومأجوج، بعد أن نقب السد الذي بناه ذو القرنين، فتشق جيوشهم الطريق وصولا إلى ديار الإسلام: «فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع وعليها هيئة الدم. فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فيبعث الله إليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها.»
41
المسيح والمسيح الدجال
الدجال في الحديث الشريف ، رجل من بني آدم، ضخم الجثة، أكرد الشعر، أعور العين اليمنى، وعينه اليسرى شديدة الضوء كأنها كوكب دري، مكتوب على جبهته كافر. يأتي الدجال من المشرق فيدعي الصلاح، ثم يدعي النبوة ويقول إنه المسيح، ثم يدعي الألوهية. يدخل كل ديار الإسلام عدا مكة والمدينة فهما محرمتان عليه. يجري الحق سبحانه وتعالى على يديه معجزات باهرة، لأن الله جعله فتنة للناس يبتلي بها العباد. من معجزاته إحياء الموتى وإظهار خصب الأرض الجرداء بدعوته، وإمحال الأرض الخضراء بمشيئته، وإسقاط المطر بإشارته، ومعه صورة جنة ونار يريهما لمن يشاء. ينادي على الصحراء أن تخرج كنوزها فتتبعه كنوز الأرض جميعا، فيهلك من يتبعه من المرتابين والمنافقين، وينجو من يكذبه ويبطل حيله من المؤمنين. يلبث في الأرض أربعين يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وبقية أيامه مثل أيام الناس.
بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل عند الموضع الذي يدعوه الحديث الشريف بالمنارة البيضاء شرقي دمشق، فينفخ عيسى على الكفار فيبيدهم، ونفسه يمتد إلى حيث ينتهي بصره. فيهرب الدجال ويتبعه عيسى حتى يدركه عند باب مدينة اللد فيقتله هناك. والأحاديث الشريفة في موضوع الدجال عديدة وطويلة جدا، نسوق فيما يأتي أقصرها: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته من الأعور الكذاب. ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور. مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤها كل مسلم.»
42 «إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تعقلوا. إن المسيح الدجال قصير أفحج، جعد، أعور مطموس العين، ليست بناتئة ولا حجراء. فإن التبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور.»
43 «يقتل ابن مريم الدجال بباب لد.»
44 «الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان، يتبعه قوم كأن وجوههم المجان المطرقة.»
45 «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة.»
46
بعد أن يقتل المسيح عيسى بن مريم الدجال ويفني أتباعه، يحكم الأرض بالعدل فترة يسود خلالها الأمن والسلام والإيمان. ورد في الحديث الذي رواه النواس بن سمعان عن ظهور المسيح وقتله للدجال: «فبينما هو كذلك - أي الدجال - إذ بعث الله المسيح بن مريم عليه السلام. فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين
47
واضعا كفيه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ. فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه.»
48
وفي حديث آخر: «ينزل ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويرجع المسلم، ويتخذون السيوف مناجل، ويذهب حمة كل ذات حمة، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها، حتى يلعب الصبي بالثعبان فلا يضره، ويراعي الغنم الذئب فلا يضرها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرها.»
49 «وإنه - أي عيسى - نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه. رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل. فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع - أي يرفع - الجزية.»
50
وعلى ما ورد في أحاديث أخرى، فإن المسيح ابن مريم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون.
كما تظهر في آخر الزمن شخصية فذة أخرى يدعوها الحديث الشريف بالمهدي: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني - أو من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا.»
51 «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ويملك سبع سنين.»
52
انتهى
إميسا (حمص)
كانون الثاني (يناير) 2000
الخاتمة
يا عبد،
إذا رأيتني في الضدين رؤية واحدة،
اصطفيتك لنفسي.
النفري
1
من كتاب المخاطبات، فقرة 26
قائمة المصادر والمراجع
مراجع البحث
Barnstone, W. edt. The Other Bible, Harper, New York 1984.
Baigent, M. The Holy Blood and The Holy Grail, Jonathan Cape, London 1982.
Byoce. Mary, Zoroastrians, Rotledge, London 1985.
Budge. Wallis, Egyptian Rligion, Rotledge, London 1975.
Budge. Wallis, Osiris, Dover, New York 1973.
Budge. Wallis, Ods of The Egyptains, Dover, New York 1969.
Campbell. Joseph, Occidental Mythology,
Charlesworth. J. H. edt, The Old Testament
Dally. Stephanie, Myths From Mesopotamia, Oxford 1991.
David. A. Rosalie, The Ancient Egyptians, Rotledge, London 1982.
Fox. M, and Sheldrake. R, The Physics of Angeles, Harper, San Francisco 1996.
Golb. Norman, Who Wrote the Dead Sea Scrolls, Scribner, New York 1995.
Gonoli. Gerardo, Mani, Manichemanism. In: Encyclopedia of Religion.
Gonoli. Gerardo, Zoroastrianism. In: Encyclopedia of Religion.
Grand. R. M, The Apocryphon of John. in: W. Barnston, edt, The Other Bible.
Haurdt. R, Mani and Manicheanism. In: W. Barnston, edt, The Other Bible.
Isaac. E, Ethiopic Apocalypse of Enoch. In: The Old Testament Pseudepigrapha, vol.1.
Jacopsen. Th. The Treasures of Darkness, Yale, New Haven 1976.
Kee. H. C. Testament of The Twelve Partriarchs. In: The Old Testament Pseudepigrapha, vol.1.
Lurker. Manfred, The Gods and Symbols of Ancient Egypt, Thames and Hudson. London 1984.
Metzger. B. M. The Fourth Book of Ezra. In: The Old Testament.
Noss. McMillan, London 1969.
Robenson. J. M. edt, The Nag Hammadi Library, Harper, New York 1972.
Tigay. J. H. The Evolution of the Gilgamesh Epic, University of Pennsylvania 1982.
Wisse. F, The Apocryphon of John. In: The Nag Hammadi Library.
Widengreen. Geo, Mani and Manicheanism, New York 1965.
Watts. Allan, Myth and Ritual in Christianity, Thames and Hudson, London 1983.
Wintermut. O. S, The Book of Jubilees. In: The Old Testament Pseudepigapha, vol. 2.
Zaehner. R. C, The Dawn and Twilight of Zaroastrianism, London 1961.
Zaehnr. R. C. Hinduism, Oxford 1984.
Zimmer. H. Myths and Symbols in Indian Art and Civilization, Prencenton 1974.
موسوعات
New Larousse Encyclopedia of Mythology, Hamlyn, London 1977.
Encyclopedia of Religion, McMillan, London 1978.
New Encyclopedia Britanica, 15
th
edition.
مراجع باللغة العربية
ابن النديم: الفهرست، تحقيق د. ناهدة عباس عثمان، الدوحة ، 1985م.
جيو ويدنغرين: ماني والمانوية، ترجمة د. سهيل زكار، دار حسان، دمشق، 1985م.
جبور، باسم ميخائيل: ملحمة أتراحاسيس، رسالة دكتوراه محفوظة في جامعة حلب.
السواح، فراس: مغامرة العقل الأولى، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1976م.
السواح، فراس: «جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة»، دار علاء الدين، دمشق، 1996م.
الفغالي، د. بولس: كتابات قمران، الرابطة الكتابية، بيروت، 1997م.
شويتزر، ألبير: فكر الهند، ترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق 1994م.
سومر، أندريه دوبون: كتابات ما بين العهدين، ترجمة موسى الخوري، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1998م.
الكتاب المقدس، العهد القديم والعهد الجديد.
القرآن الكريم.
অজানা পৃষ্ঠা