وقال سبحانه إخبارا عمن سلف، وتوقيفا واحتجاجا على من جاء بعدهم وخلف : {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [ق:37]، فقال: جعلنا لهم، ولم يقل: اجعلوا، ولا تجعلوا(1). ثم قال: فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء [إذ فعل السمع والأبصار والأفئدة](2). فأراد سبحانه منهم إذ فعل لهم الأسماع أن يفعلوا هم الاستماع بها، فيستمعوا ما جاء به الرسول من أخبار من هلك من قبلهم، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشا فلم يقبل الهدى فأهلك. قال الله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [الأحقاف: 26]. فأراد إذ فعل لهم سمعا أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل فينتهوا، ويسمعوا لرسله ويطيعوا، ويسلموا للحق ويجيبوا. وكذلك إذ فعل لهم أبصارا أراد أن يبصروا بها إلى ما خلق من السموات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث؛ فيعلموا أن لهذا خالقا ومدبرا فيؤمنوا. وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم إذ أوجدها فيهم أن يفكروا، ويدبروا فيعتبروا، ويميزوا فيهتدوا. ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع والتبصير والتفكير(3)؛ إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا(4)، والممضي دونهم لكل فعل منهم؛ ولم يقل عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم}، وكيف يستمعون إذا أسمعوا(1)، ويستبصرون إذا أبصروا(2)، وينتفعون إذا فكروا؛ وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟
فتعالى من فعله غير فعل خلقه، ومن أمر عباده باتباع حقه. ألا تسمع كيف قوله(3) سبحانه، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين، فقال: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} [النحل: 30]، وقال في الفاسقين: {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [النحل:24]، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين.
ولو لم يكن العباد متخيرين، ولا مما أرادوا متمكنين، وكان الحامل لهم على أفعالهم، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين؛ لكان هو القائل لما نزل من الحق: (أساطير الأولين)، ولم يكونوا هم القائلون بما قالوا من قولهم، والناطقون بما أنطقهم، [ولم يكونوا](4) عند العدل الجواد الرؤوف الرحيم بالعباد بمذمومين، ولا عليه بمعاقبين. ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان(5) المميزين.
***
وأما ما قال: من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم قادرين على التبليغ والترك، وكان تبليغهم اختيارا منهم للطاعة على المعصية، ولرضاه على سخطه؛ فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا، أو غيروا وخانوا، أو ستروا واجبا وخالفوا؟.
قيل له: في ذلك من الحجة والحمد لله أبين البيان، وأنور القول والبرهان، ألا تعلم(6) أيها السائل(7) أن الله سبحانه لا يزكي إلا زكيا رفيعا؟، ولا يذكر بالطاعة إلا سامعا مطيعا؟، ولا بالأداء إلا مؤديا؟.
পৃষ্ঠা ২৮১