ذلك بأنك إذا طفت في الصباح بالمقاهي التي تقرب من دواوين الحكومة، رأيت طوائف من الأفندية يجلسون وعيونهم تشك كل صادر ووارد من الناس، ومن سكان الريف على وجه خاص وهم يدعون: «الأفندية اللي يجروا ورا الورقة.»
فإذا ما كانت لأحد حاجة في بعض الدواوين أتحف أحد هؤلاء بريال أو بنصفه مقدما «ليجري عنه وراء الورقة»، وسرعان ما يشمر عن ساعده، ويهبط على حضرة الموظف الذي بين يديه المسألة، أو على الصحيح في درج مكتبه، ولا يزال به حتى يستخلص الأوراق منه، ثم يمضي وراءها إلى موظف آخر ثم إلى آخر، وهكذا لا يزال يحجل بين سي مرسي أفندي، وسي عبد التواب أفندي، وسي خلة أفندي، وسي متى أفندي يلح في رجاء هذا مرة، ويضحك هذا مرة، ويروي لذاك حديثا طريفا، ويتشفع إلى آخر بأحب الناس إليه وأكرمهم عليه، حتى يفضي بالمسألة إلى الرئيس المختص، وكذلك ينتهي الأمر بسلام، ويشتري الرجل وقته ومنافعه وكرامته التي تبتذل كلما طلع على موظف بين يديه أمره يشتري الرجل كل هذا بدراهم معدودات، ويستخرج حقه من لهوات الآساد، والله على كل شيء قدير.
وبعد فلقد كان هذا كله، وكان أعجب من هذا كله في وسائلنا الإدارية إلى وقت قريب، أما الآن فلا أدري ولا أظن، فإذا كانت قد بقيت منه بقيه فأحرى بهذه النهضات القوية أن تكتسحه بين يديها، وتطهر الدواوين الحكومية من هذا التعفن الذي يضرب في مصالح الناس بهذا القدر الجسيم.
خواطر في الصيف
بين الصيف والحر
قبل كل شيء ينبغي أن نفرق بين الصيف والحر، فالصيف هو صدر من العام له من الأيام مبدأ ونهاية رسميان يعرفهما أصحاب الفلك، وتدل عليهما التقاويم، أما الحر فهو وقدة الجو وسخونة الهواء، على أن بين الصيف والحر علاقة هي أن الصيف ظرف والحر مظروف، أعني أن الحر يقع عادة في فصل الصيف، كما يقع البرد عادة في فصل الشتاء، وإن كانت تختل هذه العادة في بعض الأحيان، فيلفح الحر في هذا كما يقرس البرد في ذاك.
وإنني أنتهز هذه الفرصة فأقرر أن من التجوز الشديد تقسيم الفصول في بلادنا إلى أربعة، أسوة بكثير من البلاد الأخرى: صيف، فخريف، فشتاء، فربيع. وأقول: من التجوز الشديد؛ لأننا لا نكاد نحس هنا إلا حرا وإلا قرا، فإذا اعتدل الجو في بعض الأيام فذلك نادر لا يستقيم به القياس في الأحكام، وإلا فخبرني بعيشك أين الربيع في مصر؟ اللهم إن أكثره لمحدود في وقدة الحر، وصدره منكمش في قبضة الشتاء!
ثم أين الخريف؟ أستغفر الله، فالخريف في بلادنا أعرف من أن تلتمس له وجوه التعريف، فهذه الحميات أشكال وألوان، وهذه الأوباء صنوان وغير صنوان، من تيفود وتيفوس، ومن أنفلونزا تقصف الأعمار وتخترم النفوس.
الصيف
ولقد تسألني: أي الفصلين أحب إلى أهل مصر؟ فأجيبك من فوري غير متردد ولا متفتر: إن أحب الفصلين إلى المصريين على وجه عام هو الصيف، الموسرون والبائسون في هذا الإيثار بمنزلة سواء، وإن اختلفت فيه السبل وتباينت الأسباب والعلل.
অজানা পৃষ্ঠা