مقدمة
أيام في الريف
أعظم يوم في تاريخ العالم
في الهجرة
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
يسر الإسلام
في الحروب
كتاب مفتوح
كتاب مفتوح
رمضان
অজানা পৃষ্ঠা
سعد الرجل
غدوة وروحة
بين الحرب والسلام
كيف نتقي أهوال الحرب
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
إصلاح
في الإصلاح أيضا
في الطفولة المشردة
في الإجراءات
خواطر في الصيف
অজানা পৃষ্ঠা
في التليفون
كيف نمشي في الطرق
الانتقام اللذيذ
بين الصفارة والريف
الأفندي
في الضمير العام
فن الإعلان
التأمين على الموت
شركة تنشيف الريق
بين الأدب والحرب
অজানা পৃষ্ঠা
عبرة العبر
أسعفوا التاريخ
قبلة
مأساة
مسألة
كيف كان الشباب يزوجون (1)
كيف كان الشباب يزوجون (2)
الأدب الفج
ذكريات
مهم الأديب في الشرق
অজানা পৃষ্ঠা
عباقرة الفن
تقاليد الفن في مصر
فن الحزن
الموسيقى المصرية
بلاغة التلحين
في السياحة
الحكاءون (1)
الحكاءون (2)
الحكاءون (3)
مع ذبابة
অজানা পৃষ্ঠা
عواطف
علي إبراهيم في المرآة
أحب أولادي وأكرههم
الشحاذون المودرن
الكذب الفني
مقدمة
أيام في الريف
أعظم يوم في تاريخ العالم
في الهجرة
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
অজানা পৃষ্ঠা
يسر الإسلام
في الحروب
كتاب مفتوح
كتاب مفتوح
رمضان
سعد الرجل
غدوة وروحة
بين الحرب والسلام
كيف نتقي أهوال الحرب
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
অজানা পৃষ্ঠা
إصلاح
في الإصلاح أيضا
في الطفولة المشردة
في الإجراءات
خواطر في الصيف
في التليفون
كيف نمشي في الطرق
الانتقام اللذيذ
بين الصفارة والريف
الأفندي
অজানা পৃষ্ঠা
في الضمير العام
فن الإعلان
التأمين على الموت
شركة تنشيف الريق
بين الأدب والحرب
عبرة العبر
أسعفوا التاريخ
قبلة
مأساة
مسألة
অজানা পৃষ্ঠা
كيف كان الشباب يزوجون (1)
كيف كان الشباب يزوجون (2)
الأدب الفج
ذكريات
مهم الأديب في الشرق
عباقرة الفن
تقاليد الفن في مصر
فن الحزن
الموسيقى المصرية
بلاغة التلحين
অজানা পৃষ্ঠা
في السياحة
الحكاءون (1)
الحكاءون (2)
الحكاءون (3)
مع ذبابة
عواطف
علي إبراهيم في المرآة
أحب أولادي وأكرههم
الشحاذون المودرن
الكذب الفني
অজানা পৃষ্ঠা
قطوف البشري
قطوف البشري
تأليف
عبد العزيز البشري
مقدمة
أما أهله الأقربون وذوو مودته من الأصدقاء والخلان، فيذكرونه كما كانت الخنساء تذكر صخرا أخاها، وتذوب أنفسهم حسرات كلما ذكروه، حتى يكاد الحزن ينتهي بهم إلى اليأس ، كما كانت الخنساء تلقى وتشقى كلما ذكرت أخاها صخرا، وكما صورت الخنساء ذلك أحسن تصوير وأبعده أثرا في النفوس وأشده وقعا في القلوب حين قالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
অজানা পৃষ্ঠা
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
صنع الله لأهله الذين يذكرونه حين تطلع الشمس وحين تزول وحين تهوي إلى مغربها، ولأصدقائه الذين يذكرونه في تلك الساعات التي كانوا يلقونه فيها، في ساعات العمل وجه النهار، وفي ساعات الفراغ من آخر النهار، وفي تلك الساعات الحلوة من أول الليل حين يتخفف الناس من أعمال النهار وأثقاله، وحين يرسلون أنفسهم على سجيتها، فتفرح وتمرح، وتعبث وتمزح، وتخوض في كل فن من فنون القول، وتجول في كل ميدان من ميادين التفكير.
فقد كان عبد العزيز رحمه الله أبا برا، وأخا وفيا، وصديقا حميما، وكان من أجل هذا كله محببا إلى النفوس، أثيرا في القلوب، عزيزا على الأهل والأصدقاء جميعا.
والشمس تشرق وتغرب في كل يوم، والليل يغمر الكون وينجلي عنه كل يوم أيضا، وفي اختلاف الليل والنهار وفي تتابع الأيام والأشهر والسنين ما يجلو عن النفوس غمراتها، ويفرج عن القلوب حسراتها، ويعزي الأحياء عن الأموات، وينسي الأحياء بعضهم بعضا. ولكني أعتقد أن اختلاف الليل والنهار، وتتابع الأيام والأشهر والسنين، وتعاقب الأحداث الجسام والخطوب العظام، واشتغال الناس بما يسرهم وما يسوءهم من شئون الحياة - كل ذلك وأكثر من ذلك ليس من شأنه أن يعزي عن عبد العزيز أهله الأقربين وذوي مودته من الأصدقاء والأخلاء؛ فقد كان عبد العزيز رحمه الله من هذه القلة القليلة النادرة التي امتازت بخفة الروح وعذوبة النفس ورقة الشمائل، والتي ظفرت من هذه الخصال بحظ غريب في طبعه وفي جوهره ومادته، إن صح هذا التعبير، بحيث لا يبلو الإنسان أقله إلا كلف به أشد الكلف، وافتتن به أشد الافتتان، وأصبح لا يستطيع له نسيانا، ولا يجد عنه سلوا مهما يلم به من الخطوب، ومهما يختلف عليه من الظروف.
وقد عرفت أنا من هذا الطراز قلة قليلة استأثر الله ببعضها، وأرجو أن يطيل الله بقاء بعضها الآخر. ومن هذه القلة التي آثرها الله بجواره الكريم ثلاثة نفر كانوا أخلاء فيما بينهم، وكانوا أصدقاء لكل من عرفهم أو اتصلت به أسبابهم من الناس، وهؤلاء الثلاثة هم: شاعر النيل حافظ إبراهيم، وكاتب النيل عبد العزيز البشري، وطبيب النيل علي إبراهيم.
كلهم كان عذب النفس، حلو الروح، كريم السجية، مهذب الطبع، مترف الذوق، مرهف الحس، رقيق الشمائل. وهم من أجل ذلك كانوا متوادين متحابين، لا يفترقون إلا ليلتقوا، ولولا أن خطوب الحياة كانت تفرقهم على كره منهم لما آثروا على اجتماع شملهم شيئا. وكانوا على ذلك أصدقاء للناس جميعا، لا يعرفون البغض ولا تطمئن نفوسهم إليه؛ لأن نفوسهم خلقت من معدن الحب وفطرت على سجية الإخاء والوفاء وحسن المعاشرة؛ ولذلك لا أعرف أحدا من الذين عرفوا هؤلاء الثلاثة - وما أكثر من عرفهم ووصل أسبابه بأسبابهم - قد تعلق على واحد منهم بكلمة مؤذية أو خطة مؤلمة أو عمل يحزن أو يسوء. وإنما نحن نذكرهم جميعا فيمزق الأسى قلوبنا، وتفرق اللوعة نفوسنا، ولا نكاد نذكرهم مجتمعين أو متفرقين حتى يأخذنا الشجا لفقدهم، وتبتسم نفوسنا الباكية لما تذكر من أعمالهم وأقوالهم، فهم كانوا ابتساما على ثغر الحياة في مصر مهما يكن حظ الحياة في مصر من العبوس والحرج ومن النكر والضيق.
وهم كانوا كغيرهم من الناس يحسنون ويسيئون، ولكنهم لم يسيئوا تعمدا للإساءة قط، ولم يسيئوا إلا كانت إساءتهم - مهما تقس في أول أمرها - مصدر رضا وغبطة وفكاهة ودعابة بعد وقت يقصر أو يطول.
وكلهم نفع الناس في حياته كأحسن ما يستطيع الإنسان أن ينفع الإنسان، وكلهم وجد في نفع الناس لذة ومتاعا، ولم يحفل بما جنى الناس عليه ولا بما جرعوه من فنون الألم وضروب الشقاء. كانوا لا يغضبون إلا ليرضوا، ولا يبتئسون إلا ليبتهجوا، ولا يعبسون إلا ليبسموا. فطرت نفوسهم على التفاؤل أو خلقت نفوسهم من التفاؤل، فلم يعرف التشاؤم إليها سبيلا، ولم يلق الناس منهم إلا خيرا.
كان حافظ يمتع الناس ويحيي نفوسهم بشعره الرائع، وكان علي إبراهيم ينفع الناس ويحيي نفوسهم وأجسامهم بفنه البارع وعلمه الواسع وتفوقه الرفيع، وكان عبد العزيز يسحر قلوب الناس ويستهوي ألبابهم، ويملك عليهم أمرهم، وينسيهم صروف الحياة، ويعزيهم عن آلامها بمحضره دون أن يتكلم، فإذا تكلم فقد كان يرقى بهم من عالم إلى عالم، وينقلهم من حياة إلى حياة، فإذا كتب ونشر فقد كان يأخذ عليهم سبل الإعجاب، ويضطرهم إلى أن يقرءوا ويقرءوا منفردين قد خلوا إليه دون غيره من الناس، فإذا لقي بعضهم بعضا تحدثوا عما قرءوا ثم أعادوا القراءة، ثم أخذوا يذهبون من الإعجاب بما يقرءون كل مذهب، يسلكون من هذا الإعجاب سبل الجد وسبل الفكاهة، وربما شغلوا أنفسهم بذكر عبد العزيز في مجلسهم كله حتى يتفرقوا ولم يقضوا منه العجب.
অজানা পৃষ্ঠা
أما أهله الأقربون وذوو مودته من الأصدقاء والخلان، فيذكرونه مصبحين ويذكرونه ممسين، لا ينسونه ولا يتعزون عنه، فليس إلى نسيانه أو إلى التعزي عنه سبيل.
وأما هذه الكثرة الكثيرة من المثقفين الذين لم يلقوه ولم يستمتعوا بمحضره، ولو يقولوا له ولم يسمعوا منه، ولم ينعموا بفكاهته الحلوة ودعابته الرائقة ونادرته الحاضرة، وإنما سمعوا عنه من بعيد أو قرءوا له بين حين وحين؛ فإن أمرهم معه كأمرهم مع غيره من الكتاب والشعراء والعلماء، يستمتعون حين يتاح لهم المتاع، ويرضون عما استمتعوا به عجلين، ثم ينصرفون إلى غيره عجلين أيضا، يطلبون إليهم كثيرا أكثر مما يطيقون، ولا يعطونهم من أنفسهم إلا قليلا أقل مما يستطيعون.
إن المثقفين جميعا يؤمنون بأن حافظا كان شاعرا فحلا، وبأن عبد العزيز كان كاتبا ممتازا، وبأن علي إبراهيم كان جراحا متفوقا. قد أقروا ذلك في أنفسهم، وسجلوه في قلوبهم، وآمنوا به عن علم أو عن غير علم، ثم لم يزيدوا على ذلك، فكم عدد الذين يطيلون القراءة فيما نظم حافظ، وما كتب عبد العزيز، ويطيلون التفكير فيما امتاز به علي إبراهيم.
لم يمض ربع قرن على وفاة حافظ ، والناس يعدونه الآن شاعرا من الشعراء البارعين كما يعدون الشعراء القدماء، ولم تمض إلا أعوام قليلة على وفاة عبد العزيز والناس يعدونه كاتبا مجيدا كما يعدون غيره من الكتاب القدماء، ولم يدر العام بعد على وفاة علي إبراهيم والناس يؤمنون له بالتفوق في الجراحة والطب، ثم لا يزيدون على ذلك شيئا.
وقد يكون هذا ملائما لطبيعة الأشياء، فالموت يلغي الزمن بالقياس إلى الموتى، ومن مات مات. وافهم من هذه الجملة ما تستطيع أن تفهم. مات بالقياس إلى نفسه، ومات بالقياس إلى أكثر الناس، وربما مات بالقياس إلى أشد الناس اتصالا به وقربا منه. مات ولم تبق منه إلا هذه الذكرى التي تظل مضطرمة متأججة في بعض القلوب حتى تخمد حين تكف هذه القلوب عن الخفقان، وتظل في سائر القلوب أشبه شيء بهذه الأسماء التي تكتب على اللافتات، ينظر الناس إليها أحيانا، ويمرون بها معرضين عنها في أكثر الأحيان. لا يتعمدون النظر إليها إلا إن احتاجوا إليها ليستعينوا بها على التماس ما يبتغون من طريق، فالذين يؤرخون الأدب الحديث سيتعمدون تذكر حافظ وعبد العزيز وإطالة التفكير فيهما، والذين يؤرخون الجراحة الحديثة سيتعمدون تذكر علي إبراهيم وإطالة الوقوف عنده، وأولئك وهؤلاء سيقفون عند هؤلاء الأشخاص كما يقف المتجول في مدينة القاهرة عند هذه اللافتة أو تلك ليتبين طريقه إلى الغاية التي يريد أن يصل إليها.
ولست أدري أخير هذا أم شر، ولكني أعلم أنه الحقيقة الواقعة من جهة، وأكاد أعتقد أنه العقوق، وأن هذا النوع من العقوق قد ركب في طبائع الناس، فهم يسرعون إلى نسيان من أحسن إليهم، وهم يضيعون على أنفسهم بهذا النسيان منافع كثيرة ومتاعا عظيما. وآية ذلك أنك تقرأ الأثر القديم الذي مضت عليه القرون الطوال من آثار الأدباء والعلماء، فتجد اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، وترثي للذين لم يقرءوا هذا الأثر من هذه الأجيال التي لا تحصى؛ لأنهم لم يقرءوه ولم يستمتعوا به، فالذين لا يقرءون اليوم حافظا ولا عبد العزيز قد دفعوا إلى هذا العقوق الذي ركب في طبيعة الناس، فأضاعوا على أنفسهم شيئا كثيرا، ما أجدرهم - لو أحسنوا التفكير والتقدير - أن يستدركوه ولا يفرطوا فيه.
وقد كنت من المفتونين بحديث عبد العزيز حين يتحدث، ومن المفتونين بآثاره حين يكتب، وقد توسلت إليه حين أزمع نشر «المختار» أن يأذن لي بتقديمه إلى الناس، وشهد الله ما تكلفت ولا تزيدت، وشهد الله ما جاملت وما صانعت، وإنما علمت فقلت بعض ما علمت، ورضيت فقلت أيسر ما يوجبه الرضا.
وإني لأراني مع عبد العزيز في تلك الغرفة التي كان صديقنا علي عبد الرازق قد استأجرها في ربع من ربوع خان الخليلي، وكنا نلتقي فيها حين نتفرق عن دروس الفقه وحين يرتفع الضحى لنقرأ بعض كتب الأصول أو بعض كتب البلاغة، وكان عبد العزيز يلهينا بدعابته وفكاهته عن جد البلاغة والأصول، ثم لم يلبث أن ضاق بهذا الجد فانسل كما تنسل الشعرة من العجين، ودون أن يلقى كيدا. وأقمنا نحن على هذا الجد ننفق فيه حياتنا، ونزعم لأنفسنا أننا كنا نغذو به العقول والقلوب، وإني لأراني مع عبد العزيز وعلي عبد الرازق في هذه الغرفة نفسها بعد أن نصلى العصر، نقرأ معا كتاب الكامل للمبرد، نحصل بهذه القراءة الأدب كما كنا نحصل البلاغة والأصول بقراءة الضحى. وكان مزاح عبد العزيز وتندره يصرفاننا عن هذا التحصيل كما كانا يصرفاننا عن ذاك. ثم لم يلبث أن انسل من هذا التحصيل كما تنسل الشعرة من العجين ودون أن يلقى كيدا؛ ذلك لأنه، رحمه الله، كان أقل الناس حبا للاستقرار وميلا إلى الإمعان في طريق واحدة.
فطر على حب التنقل، على حب التنقل المادي والمعنوي جميعا، فكنت تراه مصبحا في هذا الحي من أحياء القاهرة في الأزهر أو قريبا منه، فإذا صليت الظهر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة ملما بدار الكتب أو قريبا منها في قهوة من قهوات باب الخلق، فإذا صليت العصر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة في قهوة من القهوات التي كان الأدباء يختلفون إليها في حي الأزبكية، فإذا صليت العشاء الآخرة رأيته في غير حي من أحياء القاهرة، تلقاه عند آل عبد الرازق في عابدين، وتلقاه عند غيرهم من ذوي المكانة والجاه، وقد تلقاه في قهوة من قهوات الناصرية مع جماعة من الأدباء صدرهم حافظ إبراهيم رحمه الله.
كل ذلك حين كنا طلابا قبل أن تشب الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تتغير الدنيا ويتحضر هذا الجيل من أجيال المصريين بعد انقضاء الحرب الأولى وشبوب الثورة الوطنية واشتجار الخلاف بين السعديين والعدليين، وانتقال مركز النشاط لهذا الجيل إلى مكان آخر من مدينة القاهرة، فكنت ترى عبد العزيز في ذلك الوقت في «بار اللواء» أثناء الأصيل، وفي «الكافيه ريش» حين يقبل الليل، وفي الأهرام أو غير الأهرام من دور الصحف حين يتقدم الليل، وربما رأيته أثناء النهار أو أثناء الليل عند هذا العظيم أو ذاك من عظماء العدليين.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم تتغير الدنيا مرة أخرى، ويأتلف المختلفون ويتفق المختصمون، فإذا عبد العزيز يغشى مجالس السعديين وأنديتهم كما كان يغشى مجالس العدليين وأنديتهم. ولكنه على كل هذا التنقل وعلى كل هذا الاضطراب بين أحياء القاهرة كان يثبت على مكان واحد يختلف إليه مهما تكن الظروف والأحداث ليلقى فيه علي إبراهيم وأصحابه ساعة من ليل.
وفطرت نفسه على حب التنقل المعنوي، فكان يشارك في علوم الأزهر طائعا أو كارها، وماذا يصنع وهو ابن شيخ الإسلام وقد سلكه أبوه رحمه الله مع الأزهريين في نظام واحد. وكان يشارك في أدب القدماء وفي أدب المحدثين، وكان يلم بالأدب الأجنبي إلماما قصيرا من بعيد. وكان يحاول أن يتعلم اللغة الفرنسية ويعرف منها أطرافا ويتندر بها في حديثه العذب. وكان قد أدمن قراءة «الأغاني»، ففصح لسانه إلى أبعد غاية من غايات الفصاحة، وآثر في حديثه جزالة اللفظ، وأعانه صوته المتين المليء على التضخيم والتفخيم والترصين. وكان من أروع ما يروعك حين تسمع إليه متحدثا بلغة الجاحظ وأبي الفرج أن تستخفك اللفظة الفرنسية قد انزلقت من بين هذا الكلام العربي الرصين المتين من حيث لا تدري أنت ولا يدري هو.
ثم يريد الله أن تعدو العوادي، وأن تدلهم الخطوب، وأن نفقد عبد العزيز على غير توقع لفقده، وإذا نحن نحرم هذا المتاع الغريب النادر الذي كنا نجده حين نتحدث إليه ونستمع له، وإذا نحن مضطرون إلى أن نستحضر حديثه بقراءة ما ترك لنا من الآثار، نقرأ ويخيل إلينا أننا نسمعه يتحدث، فنجد في ذلك مزاجا غريبا من اللذة الأليمة والسرور الحزين.
ثم يتحدث إلي أحد أصدقائي ذات يوم بأن لعبد العزيز آثارا لم تجمع في كتاب، نشر بعضها في المجلات وأذيع بعضها في «الراديو» وأعد بعضها للنشر أو للإذاعة، وكان عبد العزيز يهيئها كلها لتجمع في سفر أو سفرين، فأعجله الموت عن ذلك، فلا أكاد أسمع هذا النبأ حتى ألح على صديقي في أن يصل الأسباب بيني وبين هذه القطوف، فيتاح لي ذلك، فلا أقرأ ولا أستقصي، وإنما أزمع نشر هذه الفصول؛ وفاء بما لهذا الأديب العظيم من حق، ورعاية لما لهذا الصديق الكريم من حرمة.
لا أقرأ ولا أستقصي إجلالا لآثار عبد العزيز أن تقرأ أو تستقصى قبل أن تقدم إلى المطبعة، فقد كان راضيا عنها، وهذا يكفي. ثم تطبع هذه القطوف وترسل إلي في فرنسا، فأخلو إليها في هذه القرية النائية من قرى الجبل أياما، فلا أشك في أني لم أخطئ حين وثقت برأي عبد العزيز في قطوفه، فهي الأدب كل الأدب، وهي الفن كل الفن، وهي الكلام الذي يجمع إلى رصانة الأدب القديم وجزالته خصب الأدب الحديث وثروته. وهي على ذلك كله - إذا ضمت إلى ما جمع من آثار عبد العزيز - صورة فذة لا نظير لها في الأدب المعاصر، فهي فصل مستقل من تاريخنا الأدبي، يصور لونا من ألوان هذا التاريخ لا نجده عند كاتب آخر من كتابنا المعاصرين، لا أكاد أستثني منهم إلا صديقنا المازني.
فعبد العزيز أشد كتابنا المعاصرين عكوفا على حياتنا المصرية، وعلى حياة القاهرة خاصة، وعلى حياة الطبقة الوسطى من أهل القاهرة بنوع أخص، وهو أشد كتابنا نفوذا إلى دقائق هذه الحياة وسرائرها، وأشدهم تمثلا لخلاصتها، قد خالطت نفسه، ومازجت دمه، وانطلقت على لسانه حين كان يتحدث، وجرت مع قلمه حين كان يكتب، فهي أصدق مرآة وأصفاها للحياة المصرية في عصر الانتقال. وقد كان عبد العزيز رحمه الله يحب أن يصور المعاصرين ويجلو صورهم في فصول رائعة كانت تنشر بعنوان «في المرآة» ثم جمعت بعد ذلك في سفر أرجو ألا يكون قد انقطع من أيدي الناس.
فاقرأ «قطوفه» هذه، فسترى في كل فصل من فصولها مرآة مصقولة صافية صادقة أدق الصدق، لا تعكس صورة فرد من الأفراد، وإنما تعكس صورة بيئة من البيئات، أو جماعة من الجماعات، أو لون من ألوان التفكير المصري، أو فن من فنون السيرة المصرية في هذا الطور أو ذاك من أطوار الحياة، فإذا فرغت من قراءة هذه «القطوف» فقد استقرت في نفسك صورة كاملة شاملة دقيقة لحياة مصرية ذهب أكثرها وبقي أقلها، ولحياة مصرية جديدة ناشئة لم يتم تكوينها بعد، ولكن عبد العزيز سبق بذكائه النافذ وملاحظته الدقيقة إلى التنبؤ بحقائقها وبما سيختلف عليها من الأطوار.
وكنت أقدر أن رعاية حرمة الأدب والوفاء بحق الصديق هما اللذان قد دفعاني إلى نشر هذا السفر، فإذا أنا أقرأ ثم لا أشك في أني قد أهديت بنشره طرفة من أقوم الطرف وأشدها إمتاعا إلى المثقفين من قراء العربية عامة وإلى الشباب منهم خاصة، فما أعرف أن كاتبا من الكتاب المعاصرين أتيح له من التوفيق مثل ما أتيح لعبد العزيز في هذه الفصول التي تسجل من حياتنا ما كاد يضيع، وتسجله في أروع لفظ وأبرعه وأجزله وأمثله. وما أشك في أن كثيرا من هذه القطوف لو ترجم إلى بعض اللغات الأوربية لفتن به كثير من أهل الغرب فتونا.
ولو علمت أني أستطيع أن أشير على وزارة المعارف فتسمع مني وتقبل مشورتي لأشرت عليها في أن تجعل كتب عبد العزيز البشري، وهذا الكتاب منها خاصة، بين الكتب التي تدرس في المدارس الثانوية، فما أعرف أقدر منه على تحبيب الأدب العربي إلى الشباب وتزيينه في قلوبهم، وإقناعهم بأن لغتنا الفصيحة القديمة تستطيع أن تؤدي من المعاني والأغراض ما تقتضيه الحياة الحديثة دون أن يمسها من ذلك نصب أو لغوب.
رحم الله عبد العزيز، وهيأ للأدب العربي من يقوم مقامه، ولولا الثقة بالله لقلت كما قال الجحاف في العصر القديم: «وما أراه يفعل»، ولكن قدرة الله وسعت كل شيء، ورحمته وسعت كل إنسان، فليعوض الله من عبد العزيز خيرا، وليسبغ الله على عبد العزيز رحمة ونعمة وثوابا.
অজানা পৃষ্ঠা
طه حسين
ميرولس - يوليو 1947
أيام في الريف
لقد طال عهدنا بالريف حتى كاد ينكرنا وحتى كدنا ننكره، ولست أزعم أنني ولدت في الريف أو أنني نشأت فيه، على أنني كنت أكثر من انتيابه والعيش فيه كلما تهيأ لي انتيابه والعيش فيه، ولكن الدهر الماكر قد قطع السبب إليه فحرمني غشيانه سنين عددا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإذا نحن قلنا: الريف؛ قلنا: الطبيعة، أو أدنى الأشياء إلى الطبيعة، والطبيعة، مهما يكن لون حياتنا هي مصدرنا، وهي اللاصقة بخلقنا، وإذا رددنا ساعة إلى نفوسنا، لم نجد غير الطبيعة بين أيدينا وعن الأيمان والشمائل جميعا، ولقد يبعد بنا طول العيش في المدن، ولقد يمعن بنا في شتى السبل حتى ننسى الطبيعة أو نكاد ننساها، ويرجح الظن بأنه قد انحسم بيننا وبينها كل سبب، وانقطعت جميع وشائج الرحم، ولا نزال منها على هذا، ولا تزال منا على ذاك إلى أن نغشى الريف، فإذا السبب موصول، وإذا الرحم ما برحت واشجة، وإذا العطف يعتلج في الصدور، وإذا الحنان يترقرق في النفوس، وإذا لهوات القلوب تتفتح، فلو أمكن لها لحست هذه الطبيعة حسوا.
وهل كان عجبا أن يحس المرء أبلغ الغبطة والأنس، إذا آب إلى أمه الحنانة الرءوم بعد طول النوى؛ مهما يكن قد ضرب في الأرضين وتقلب في شتى الأقطار، وعايش أصناف الخلق، وتوسم مختلف الوجوه، وهفا قلبه إلى من هفا من الناس؟
اللهم إن عيش الطبيعة هو الموصول بفطرنا، واللاصق بطباعنا لأننا - كما قلت - عنها صدرنا ، فإذا أحال المقام في المدن أساليب عيشنا، ولون في فنون حياتنا، وأوال لنا صورا من صور، وأبدل مناهج متعنا بمناهج أخر فإن شيئا من هذا لم يقطع ما بيننا وبين الطبيعة، ولم يخرجنا منها أو ينزعها منا وإنما يشغلنا عنها، فإذا نحن طالعناها لم يزل شأننا على الحالم إذا استيقظ، والغريب إذا آب واستقر به القرار بين الأهل والصحاب!
وكذلك كنت من الطبيعة حين هبطت الريف، وامتد بصري في الآفاق وأحاط بي الزرع والماء، وما كدت أسلخ بضع ساعات حتى استشعرت أنسا كأنني كنت في وحشة، ووجدت من الألف ما يجد الآئب من الغربة، وما لي لا أجد هذا وأستشعر هذا، وقد رجعت إلى أصلي ونزعت إلى طبعي، وخلعت عن نفسي كل كلفة، وامتلختها من كل ما غرست من تصنع استكرهت عليه مناهج تلك الحياة، وما أجدر الطبيعة بأن تقهر الصنعة وإن طال بها الزمان!
هذه سماء كبيرة بعيدة الآثار، وهذه أرض مبسوطة تشقها الأنهر والترع، وتنعطف فيها الجعافر والخلجان، وقد لبست حلتها الخضراء فأصبحت نهيا للعيون من حسن وجمال.
ثم هذا الفلاح جاهد في حرث الأرض وفلحها، ولا زال كدأبه معها، ولا زالت كدأبها معه من الزمان القديم: كلما غذاها بالسماد ورواها بالماء، أمدته بالخير ووصلته بالنعماء.
অজানা পৃষ্ঠা
ولعل أول صناعة عالجها الإنسان في هذه الحياة هي استنبات الأرض واستخراج ما تجود به من ألوان الثمرات، وستظل على التحقيق هذه الصناعة قائمة إلى غاية الزمان.
عاش الفلاح للأرض وعاشت الأرض للفلاح، وعاشت كلاهما للخلق أجمعين.
هذا عيش الريف في النهار، فإذا جن عليه الليل نامت الطبيعة ونام معها الإنسان والحيوان، فلا تسمع فيها حسا إلا ما نسمع من نباح كلب أو عواء ذئب، أو نقيق ضفدع، ولقد تسمع في بعض الليل عزيف بندقية يطلقها بعض عسس القرية، أو حراس البيادر - الأجران - أو الزروع إذا أدركت الثمار، فإذا كانت الليالي قمراء، تجاوبت الكروان بالتنغيم والتغريد، وأطالت الأنفاس بالشدو والترديد.
وناهيك بليالي القمر في الريف، هذا وجهه قد تغرد في الأفق جميعه ، تفرد ملك لا يشركه أحد في الحكم والسلطان على أنه مفيض على الأرض ما أعطاه الله من حسن وبهاء، وهذه منحه المتصلة من اللجين المذاب، وقد ديغت بخضره النبات، فخرج من اجتماعهما لون هو سحر في السحر وفتنة في الفتنة، منظر وإن كان يوحي بالشعر لا يتعلق بوصفه الشعر، يضيء النفس ويملأ الصدر ألين الفرح وأرفقه، ويحرك عواطف حلوة لذيذة هادئة، دونها ما ترى في أمتع الأحلام.
يحرك في صدرك ألوانا من العواطف تشعرك بأنك بت أسعد الناس عواطف، وإن كانت جديدة لا عهد لك بها من قبل، سرعان ما يعتريك الشعور من قرارة نفسك، بأن هذا هو الشيء الذي طالما حاولت الاستشراف له، فتحول بينك وبينه ظلمة النفس واختلال أداة الحس، بما جشمتها من كلفة في وسائل الحياة.
فإذا كانت ليالي السرار، فالأفق كله كتلة واحدة من الفحم الحالك السواد، هيهات أن ينفذ فيه النظر، ولو أبى فتر من الأفتار:
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
1
صدق الله العظيم.
هذا حديث موجز عن الطبيعة ماثلة في ريف مصر، أما الحديث عن الفلاح المصري في هذه الأيام، فمما يردع ويهول: فقر لا يعد له فقر، وبؤس لا يلحقه بؤس، مال غائب، ومطالب لا تبرح حاضرة، ومن أين للمسكين بالمال يواتي به بعض الحاجة أو يدافع المطالب الملحة من كل جانب؟
অজানা পৃষ্ঠা
هذه غلات أرضه مكدسة بين يديه، لا يجد لها في أسواق الأرض منصرفا ولا مفيضا، لقد سجنتها الحرب وأبطل حركتها الكساد العام.
هذا شأن ملاك الأرض ومستأجريها، كبارهم وصغارهم في ذاك بمنزله سواء، فكيف بالأكرة والمتكسبين بكد الأبدان؟
أما أولاد الفلاحين فشخوص وأشباح بالية تغدو وتروح في أسمال بالية، تكشف من الأبدان أكثر مما تستر، وتبدي من اللحوم - أستغفر الله - بل من العظام والجلود أعظم مما تحجب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وكيفما كانت الحال، فإنك قل أن ترى الفلاح مع كل ذلك ، متسخطا أو مهتاج النفس، بل إنك لتراه راضيا برغم حزنه الشديد!
ولعل مرد هذا الرضا إلى أن آماله كلها مجموعة في أرضه، وأرضه لم تخنه ولم تخلف له موعدا، ولقد أقبلت عليه من فنون الغلات بما تقبل به كل عام، فإذا كان بؤس من أثر حصار أو كساد عام، فذلك ما لا شأن لأرضه به على كل حال، نسأل الله تعالى اللطف بالعباد، فهو القادر على أن يجعل لنا من هذا الضيق مخرجا، ويبدلنا من هذه الشدة فرحا:
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ، ولن يغلب عسر يسرين كما روي عن الرسول الأعظم
صلى الله عليه وسلم .
بقي ما يظن أن يتأذى به المهاجرون في الريف من منكر الأصوات، ووالله لقد رضينا أن نسمع عامة الليل والنهار نباح الكلاب، وعواء الذئاب، ونعيب الغراب، وطنين الذباب، وما شئت من نقيق ونهيق، وثغاء ومواء وفحيح وخوار،
2
على أن تعفى آذاننا من ... صفارة الإنذار!
অজানা পৃষ্ঠা
أعظم يوم في تاريخ العالم
لا شك عندي في أن أعظم يوم في تاريخ العالم على الإطلاق، هو اليوم الذي هاجر فيه محمد
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه من مكة إلى المدينة، فإذا كنت في حاجة إلى دليل، فسيطالعك بعد قليل.
يرى المستعرض لتاريخ الأديان ودعوة الرسل أنها جازت بمراحل ثلاث، طوعا لتطور الإنسان من البساطة والغفلة والوحشية إلى أن أصبح كفؤا للحياة المفكرة المدبرة التي تطلب السمو، وتنشد السعادة في ظل الأمن والنظام.
الطور الأول:
ففي الطور الأول كانت بعثة الرسل مقصورة على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والأمر بأمهات الفضائل، والنهي عن كبريات الرذائل، كما كان وعيد المخالفين الكائدين وتقذيعهم وإرسال العبرة بهم بالغا غاية الروعة في الفتك والعطف والتنكيل.
فلقد أهلك الله قوم نوح، بعد إذ عصوه وتحدوا دعوته، بإغراقهم أجمعين.
قال تعالى:
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
অজানা পৃষ্ঠা
1
ومن هؤلاء المخالفين من أهلكوا بالريح العاصفة.
قال تعالى:
وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية .
2
وقال تعالى:
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر .
3
وأما ثمود فأهلكوا بالصواعق والزلازل.
قال تعالى:
অজানা পৃষ্ঠা