166

ولقد فاتني أن أقول لك: إن المعددات منهن المحترفات ومنهن الهاويات، وإن جماعات الهاويات ليفعلن هذا احتسابا أو مجاملة لأهل الميت، أو مصانعة لعواطفهن إذا كان الدهر قد امتحنهن أيضا في كريم، أما الندابات فلا يكن إلا محترفات.

ولكي تعرف مبلغ فن الحزن في مصر والإسراف في إذكاء عاطفة الأسى والشجن، أنك كنت إذا سعيت صباح يوم الخميس في أي حي من أحياء العاصمة، رأيت الجماعات من النساء عليهن السواد وقد ضربن بالخمر السود على رءوسهن وعوارضهن، وفي أيديهن المناديل السود، وهن يمشين على غير هدى، حتى تصادفهن مناحة فينزلقن إليها، ما يعرفن الميت أو الميتة ولا لهن عهد بأحد من أهلهما أبدا، وذلك كلة انتهازا للفرصة السعيدة في البكاء الحار وسفح الدمع السخين.

ولقد تجاوز فن الحزن المصري نطاق التبكي على الموتى إلى سائر مواجع النساء، حتى لترى كثيرات ممن يطلبن المناحات إنما يطلبنها ليعولن ويطرحن أثقالا من الدموع على ما لا سبب له إلى الموت ولا إلى الأموات، فما تكاد النائحة تؤذن بفترة الاستراحة

entr’acte

بعد الفصل، حتى تقبل عليها النساء من كل جانب فيلقين في حجرها بالدراهم، ويدعوها العامة «النقوط» هذه تسألها أن تقول فيمن هجرها زوجها وهذه فيمن اتخذ عليها الضرة، وهذه فيمن مال بخت بنتها بزواجها من المضار غير الكفء، أو بكيد حماتها وكثرة إيذائها، وتلك في خيبة سعي ولدها وأخرى في سرقة حليها، وما ادخرت من المال في الدهر الأطول لليوم الأسود ... إلخ.

وعند النائحة المعددة الكفء ما يزكي نار الأسى على كل هذا، ويستدر الدمع الغزير، فإذا لم يكن حاضرها شيء منه ارتجلته ارتجالا، حيث تصيح صاحبة الشأن صياحا متداركا، أو تبكي وتنشج حتى تسكن عاطفتها وترضى!

والآن، والآن فقط لقد تفطنت إلى أنني ظلمت صديقي الجليل القدر الدكتور طه حسين فيما لعلي قد عزوت إليه من قريب أو من بعيد، تجاهله قيام فن للحزن متين القواعد، ثابت الأصول، مفصل الفصول، فالدكتور طه «بك» أجل من أن يتجاهل شيئا ليعاز صاحبه في الحوار!

وأكبر الظن أن الدكتور على علمه الواسع بفن الحزن القديم، وعلمه الضيق بفن الحزن القائم في مصر إلى الآن، لم ير شيئا منهما قادرا على أن يؤدي مطالب العصر الحديث، وكذلك أسقطهما من الحساب؛ لأن العصر الحديث عصر الجماعات والشركات والقوميات لا عصر الفرديات التي لا تتجاوز أقطار الأشخاص، هو العصر الذي ينبغي أن تندب فيه المواقف العامة وتبكي المنافع القومية، وهذا حق لا ريب فيه وهذا هو الأشبه بتفكير أمثال الصديق العظيم.

بقي أن الدكتور مع هذا تراه يتهاون فن الحزن، ذاهبا إلى أنه يكفي أن ينظر المرء في الحياة المصرية، ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما رأى حتى يجد في هذا النظر وهذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.

لا يا سيدي الدكتور، فليس الأمر بهذا الموضع من اليسر اليسير فكلنا ينظر في الحياة المصرية، وكلنا يعود إلى نفسه فيفكر فيما رأى ومع هذا فلم يشق أحد منا حنجرته بصيحة، ولا صك له خدا، ولا تبادر له دمع غزير ولا رقيق!

অজানা পৃষ্ঠা