في حده الحد بين الجد واللعب.
انتهى كلام صاحب الخطاب في هذه التكملة، ونحن نقول: إنك لو عرفت ما لا بد أن تعرفه عن خصائص الأدب (والفن بصفة عامة)، وهو أنه لكي يكون أدبا على الإطلاق، فيتحتم أن تكون مادته قد صيغت في «شكل» أي «فورم» يختاره الأديب، أقول إنك لو عرفت ذلك، فربما لم تكن لتسأل هذا السؤال؛ لأن بيت الشعر الذي ذكرته، ما كان ليكون شعرا في الأساس، إذا لم تكن مفرداته قد صيغت في هذا النظام الخاص، ووقعت في هذا الوزن الخاص، فهذا وذاك يكونان «الشكل» الذي هو جواز المرور المبدئي لدخوله في دنيا الفن، وبعد ذلك يجيء سؤال آخر هو: هل هو من الفن الرفيع؟ ولماذا؟ فلو كنت أنا لأسلط عليه منهجي في النقد، لركزت انتباهي في المفردات، وطريقة تركيبها بعضها مع بعض، فلماذا - أولا - اختار أبو تمام لقصيدته تلك البحر البسيط؟ ثم انظر - ثانيا - في الثنائيات الواردة في البيت ، السيف والكتب، حده الحد، الجد واللعب، فهي ثنائيات غنية بإيحاءاتها، ثم ألحظ - ثالثا - تآزر الحروف المتجاورة في إحداث النغم، مثل تجاور السين والصاد، وتكرار حرف الحاء، وتجاور الباء والباء، وهكذا.
لكنني لا أتنكر للزوايا الأخرى التي ننظر منها إلى هذا البيت؛ لأنها بكل تأكيد تزيدني له فهما، فمثلا إذا عرفت أن «الكتب» المذكورة هنا لا يقصد بها الكتب على إطلاقها (كما يظن معظم المرددين لهذا البيت)، وإنما هي كتب التنجيم؛ وذلك لأن المعتصم حين أراد الحرب مع الروم، ولم يكن الروم على استعداد في ذلك الوقت للحرب، دسوا له منجما يقول له إن حساب النجوم يدل على أنه لو حارب الروم في ذلك الوقت خسر الحرب، وربما أحدث هذا القول شيئا من التردد عند المعتصم، وهنا أنشد له أبو تمام قصيدته التي هذا البيت مطلعها، ومعناه كما هو واضح، أن النبأ الصادق في نتائج الحرب مع الروم، هو حد السيوف، لا في نبوءات المنجمين، أقول إن معرفتي لهذه الخلفية التاريخية - أي الاجتماعية - تزيدني وضوحا في تقدير البيت من حيث دلالته الفعلية، لكننا حتى لو لم نعلم عنه هذه الخلفية التاريخية، يظل «بشكله» الفني شعرا رفيعا. وأظن صاحب السؤال يستطيع أن يرى «تفرد» الشاعر في تركيب بنائه اللفظي.
والآن فلأجمع أطراف حديثي، لأترك القارئ بنتيجة يسهل حفظها في الذاكرة، ليعود إليها كلما شاء، إما ليأخذ بما فيها، وإما ليعارضها، وتلك النتيجة هي أن حياتي قد علمتني أن مدينة الفكر كثيرة الأبواب، بمعنى أن الموضوع الواحد يمكن للفكر أن يتناوله من عدة جهات، دون أن تجيء الأحكام على الجوانب المختلفة مناقضا بعضها لبعض، بل هي قد تكون متكاملة يقوي بعضها البعض.
حوار على الورق (1)
تراكمت عندي أسئلة القراء، ولم يعد لي بد من الإجابة على بعضها، فبعد أن كان ظني في العلاقة بين الكاتب والقارئ، أنها كالطريق ذات الاتجاه الواحد في حركة المرور، مقيما ذلك الظن على ظن آخر أعم وأسبق، وهو أن الكاتب إنما يضع نفسه على الورق، سواء وجدت تلك النفس من يتلقاها لقاء حسنا أو لقاء سيئا، أم لم تجد، فظلت منشورة على ورقها كالسلعة الكاسدة في سوق البيع والشراء، ولكن لماذا سبق إلى وهمي ذلك الظن في طبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ؟ حدث ذلك - ربما - تأسيسا على مبدأ عندي، أفرق به بين العلم والفن، كائنا ما كان الفرع المعين من فروع المعرفة العلمية، وكائنة ما كانت الدرجة التي يكون بها الفن فنا، فالعلم عام والفن خاص، ومن هنا كان من يتقدم إلى الآخرين بما يزعم أنه حقيقة علمية، مسئولا أمام هؤلاء الآخرين عن إقامة برهان الصدق إذا ما طلب إليه ذلك، وأما من يستخدم وسيلة من وسائل الفن - كتابة أو غير كتابة - ليخرج إلى العلانية شيئا من ذات نفسه بعد أن كان مطويا في جوانحها، فلا ينبغي لأحد أن يسأله: كيف ولماذا؟ فمن شاء فليستقبل تلك الذات التي أعلنت عن نفسها، ومن شاء فلينصرف عنها. ذلك كله هو بعض الظنون التي كانت تساورني - وما زالت تساور - عن طبيعة الكتابة بنوعيها: العام والخاص، وإذا كان القارئ لهذه السطور، ممن تعقبني فيما كتبت وأكتب، لأدرك في غير عسر أنني ألجأ مرة للصنف الأول من الكتابة، وذلك حين أرى أن الفكرة المعروضة من حقها أن تستقل بذاتها؛ لأنها لا شأن لها بخصائص ذاتي، وذلك هو «العلم»، ثم ألجأ مرة أخرى إلى الكتابة من الصنف الثاني، وذلك حين أريد للرأي المعروض أن يكون أقرب إلى «الرؤية» الشخصية، التي لا تلزم أحدا بقبولها، وقد يتمتم القارئ لنفسه هنا قائلا: لكنك يا أخانا تكتب ما تكتبه في الصحف وفي الكتب، وفي ذلك ما يتضمن الاعتراف بأنك إنما قصدت بالكتابة إلى آخرين، وليس من حقك أن تشغل هؤلاء الآخرين بما هو ذاتي خاص. وجوابي على ذلك هو أن الأمر هنا يشبه القطعة الفنية معروضة في معارضها، لا أكثر ولا أقل، فقد تجد من يقف عندها متذوقا متقبلا، وقد تجد من يعرض عنها، وفي كلتا الحالتين يظل الفنان واثقا بفنه المعروض.
وبعد هذا التمهيد، أعود فأقول إن أسئلة القراء قد تراكمت ولم يعد لي بد من الإجابة على بعضها، وقد جعلت أساس اختياري هو ما أتصوره مثيرا لاهتمام كثيرين، سكتوا عن السؤال، لكنهم على رغبة في الإنصات إلى الجواب.
وأبدأ بسؤالين يسألان عن «القراءة» إما عن قراءتي أنا، ماذا قرأت وأقرأ؟ وإما عن قراءة السائل نفسه ماذا تكون وكيف تكون؟ عن الحالة الأولى يسأل السيد طه حسين سليمان قائلا: «في حياة كل أديب شخصية وكتاب، أثرا في مجرى حياته، فهل تتفضلون بذكرهما لجيل الشباب؟»
والجواب هو أن المؤثر كان أكثر من شخصية واحدة وأكثر من كتاب واحد، فلقد كانت العشرينيات من هذا القرن، هي الأعوام التي أحسست فيها بصحوة لما يكتب وما يقال في دنيا الثقافة، وكانت دنياي الثقافية عندئذ مليئة بالفرسان، لكن ثلاثة منهم تميزوا عندي من سواهم، هم: طه حسين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل، فكنت لا أترك حرفا واحدا مما يكتبونه إلا وطالعته في حينه أو أرجئه إلى الإجازة الصيفية إذا شاءت لي ذلك ضرورات المذاكرة والامتحان، وبين هؤلاء الثلاثة كانت الأولوية لطه حسين، لا لأنني وجدته أغزر فكرا من زميليه، وإلا فلست أشك في أن تلك الغزارة أولى بها العقاد أولا وهيكل ثانيا، لكن المسألة هنا هي مسألة كاتب وسحر كتابته، وأعود بك إلى ما ذكرته لك عن الكتابة عندما تكون فنا، وعندما تكون أقرب إلى العلم الذي يستند إلى إقامة الحجة والبرهان، على أنني إذ أقول إن هؤلاء الثلاثة هم الذين ارتسموا أمامي مثلا أعلى أنشد بلوغه أو بلوغ ما يقرب منه، فلست أعني أنني ألزمت نفسي بشيء معين مما قالوه، أو بأسلوب معين مما استخدموه، ولكنها هي «الوقفة» العامة هي التي تمنيتها. وبعبارة أخرى رأيت فيهم كاتبين، فتمنيت أن أكون كاتبا.
وأما الكتاب الواحد - بين عشرات الكتب التي قرأتها في تلك الفترة من حياتي - فقد أجده أمرا عسيرا أن أحدد كتابا بعينه، لكنني قد أشير إلى كتابين، على ما بينهما من تباين شديد، وهما «جمهورية أفلاطون» و«في الأدب الجاهلي » لطه حسين، أما أولهما فقد وجدته - وما أزال حتى هذه الساعة أجده - كنزا تغترف منه ما تغترف، ويظل هو الكنز الذي كان، فلا الزمان يبليه، ولا الرجوع إليه تنتهي أسبابه، وربما كان مما يعلل منزلة تلك المحاورة في نفسي، هو ما طبعني ربي عليه من شغف التفكير الفلسفي ومنهجه، وأما ثاني الكتابين، فليست مادته في ذاتها هي التي كانت لها الفتنة، بل هو النهج الفلسفي مرة أخرى، ثم هو - فوق ذلك - إزالته لشعور الرهبة الذي يتولانا كلما مسسنا شيئا من حياة القدماء، فإنني ممن لا يريدون الرهبة أمام شيء في مجال الفكر، ويريدون أن يخضعوا كل فكرة للتحليل والتمحيص. ولعل هذه الرغبة عندي هي نفسها التي جعلتني بعد ذلك من أتباع فلسفة التحليل، كما شرح منهاجها برتراند راسل، وكما طبقها أنصار التجريبية العلمية.
অজানা পৃষ্ঠা