وقد كنت في الجهود القليلة جدا، التي بذلتها في مجال النقد الأدبي والفني أميل إلى اختيار الزاوية الرابعة، أي دراسة «الشكل»، إيمانا مني بأنها الزاوية التي تخدم الأدب من حيث هو أدب، والفن من حيث هو فن، ولا تخدمهما من حيث هما وسيلتان لعلم نفس، أو لعلم اجتماع، أو لإبداع أدبي جديد.
وعلى ضوء هذا الذي فرشته فرشا عريضا، أذكر الخطاب الذي ورد إلي من السيد بهاء درويش (ليسانس فلسفة)، وقد أرسله على أثر قراءته عن اتجاهي في النقد، كما شرحته في كتابي «قصة عقل»، وفيه يقول:
جاء في كتابكم «قصة عقل» موقف من النقد الأدبي لكم، فهمت منه أنكم تذهبون إلى أن النقد الأدبي لا بد أن ينحصر في الأثر الأدبي، كائنا ما كان هذا الأثر، فندرس النص ذاته، بغض النظر عن مؤلفه وظروفه، فأمام الناقد تشكيلات لفظية تنحصر كل مهمته في تحليلها. وهنا نقول: إن الفنان نفسه - أديبا كان أم نحاتا أم موسيقارا - هو من نتاج المجتمع والبيئة والعصر الذي يحياه، فالقطعة الأدبية أو الصورة المرسومة، قد تدخلت عوامل كثيرة جدا في إخراجها، ففهم الحياة النفسية والاجتماعية للفنان، يساعد الناقد مساعدة كبيرة، في تحليله للأثر الأدبي.
ترى لو أنك قرأت انشغال سقراط بتحديد معاني «الحرية» «المساواة» «الخير» «الشر» دون أن تعرف أن هذا التحديد قد كتب قبل الميلاد، ألم تكن لتسخر من هذا الذي يشغل نفسه بتحديد معان معروفة عند الناس؟ أم أنك كنت تكتفي بالانشغال بتحليل هذا الأثر كناقد أدبي؟ ألم يأت حكمنا على عظمة هذه الآثار من معرفتنا بأن سقراط حاول أن يصلح ما أفسد السوفسطائيون، ومن معرفتنا الكاملة بالعصر الذي عاشه؟ ولو لم تكن تعرف الزمن الذي كتبت فيه هذه الآثار، وقيل لك إنها وليدة الساعة، فأين كنت تصنفها؟ هل تعتبرها أثرا أدبيا أو فلسفيا؟
انتهى كلام صاحب الخطاب، ونحن نقول:
واضح أن صاحب الخطاب لو كان ناقدا أدبيا، لاختار لنفسه الزاوية التي يحاول فيها الناقد أن يستشف من النص المنقود نفسية مؤلفه من جهة، وظروف مجتمعه ساعة تأليفه من جهة أخرى، ليزداد فهما للنص الذي ينقده، وليس في ذلك بأس، فأظنه قد رأى من شرحنا للزوايا الأربع المحتملة للموقف النقدي أن اختيار الناقد لزاوية منها، لا يعني إلغاء الزوايا الأخرى، إنما هو يتركها لسواه إذا شاءوا. ولقد قلت عن نفسي إنني في النقد الأدبي أختار تحليل النص ذاته بغض النظر عما وراءه، وذلك يشبه أن أدقق في الخيوط التي نسجت بها قبل شرائها، ويجوز لغيري أن يهتم بألوانها لا بخيوط نسجها.
ولا أريد أن يفوتني تنبيه صاحب الخطاب إلى أنه خلط بين الأدب والفلسفة، وذلك حين يسوق لي مثلا من تحليلات سقراط لمعاني ألفاظ بعينها، ثم يسألني: هل كان يمكن أن نغض النظر عن الزمن الذي عاش فيه سقراط؟ وأنا أجيبه بأن ناقد الأدب في موقف مختلف؛ لأنه بينما سقراط يعرض علينا «أفكارا»، فإن الأدب يقدم لنا «أشكالا»، فإذا أعجبتك الهندسة التي رصت بها فروع شجرة وأوراقها، فهل يشترط أن تعرف متى بذرت لهذه الشجرة بذرتها؟
وأعود مرة أخرى إلى الخطاب؛ لأذكر ما ورد في بقيته، ففيها يقول: «وبالنسبة للنقطة التي ذكرتها سيادتكم قائلا:
إن الفن هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. ذلك لا اختلاف عليه، ولكن لماذا يكون من يقول حقيقة عامة، يعد قوله بعيدا عن الفن الرفيع؟ أتراك بموجب هذا تحكم على هذا البيت من الشعر بالبعد عن الفن الرفيع، لكونه يقرر حقيقة تقريرية:
السيف أصدق أنباء من الكتب
অজানা পৃষ্ঠা