خرج فوجد أمواله جميعا تحت الحراسة، والبقية الباقية من أموال زوجته، بل إن أموال خديجة وضعت تحت الحراسة، وصدر الأمر الخاص باسم حرم المرحوم راشد برهان. ولست أدري هل ارتجفت يد المارد الرعديد، وهو يضع تحت الحراسة أموال ميت أصبح في ذمة الله، أم أنها كانت ثابتة متبجحة؟ أغلب الأمر أنها لم ترتجف؛ فالرجفة لا يبتعثها إلا بقية من آدمية، وهيهات! ولو عرفوا الحق لتبين لهم أن خديجة لم ترث عن زوجها شيئا، وإنما كان مالها هو ما بقي لها عن أبيها، ولكن ما الفرق؟! والعجيب، ولو أن أي شيء لم يكن عجيبا في ذلك الزمن، أن أمر الحراسة يقول «حرم المرحوم». كيف تجرأ مصدر الأمر، وخط كلمة توحي بالرحمة؛ ليوقع بها قرارا لا يتصل بأي رحمة؟! إن أغلب مواد القانون تقضي بأن يعاقب المذنب بغرامة قدرها كذا من المال، أو بسجن قدره كذا من الشهور أو السنين. فالغرامة المالية إذن تستوي عند القانون مع العقاب الجسماني، وهكذا يصبح الاستيلاء الكامل على مال شخص ما حكما بالإعدام المدني، وبلا محاكمة.
ومن عجب أن يصدروا حكما بالإعدام المدني على شخص مات فعلا! كيف يريدون أن يقتلوا من مات؟ القانون يسمي هذا الجريمة المستحيلة؛ لأن القتل لا يكون إلا لحياة، ولا سبيل لأحد أن يقتل ميتا، ولكن ذلك العهد لم يكن شيء مستحيلا عنده .
لم يأبه أسامة، وإنما عاد إلى مكتبه، وواصل طريقه في الحياة، وواصلت الحياة طريقها إلى جانبه؛ صعبة عنيفة، ولكنها شريفة، وتسير. •••
حين تفجر الحق في مصر، وحين أعاد الحكم أموال الناس إليهم، وحين انشرخ الظلام عن الصباح، وحين عادت الحياة إلى الحياة أحس أسامة أنه استطاع أن يجتاز الأزمة الطاحنة: ربما استطاع أبي أن يركب الموتسيكل السيدكار، وربما عجزت أنا أن أجد في بعض الفترات دراجة أتنقل عليها، ولكن أبي استطاع أن يسير فوق الأزمة على موتسيكل، واستطعت أنا أن أسير عليها بقدمي.
ولم ينكس أبي رأسه، ولم أنكس أنا رأسي للطغيان. عجبا! ألم يكن هو أنا وأنا أربأ بشرفي أن يدنسه ذهب الطغيان أو يذله تعذيبه؟ من يدري؟! لعل روحه تلبستني! أو ربما، لا أدري، ربما كنت أنا شجاعا! من يدري؟ من سيذكر أنني لم أنحن، لم أنافق، لم أذل؟ وماذا يعنيني أن يذكر ذلك أحد؟ يكفي أنني أنا أذكر هذا لنفسي. وحسبي فوق الحسب أنني أستطيع أن أواجه نفسي، لا أخافها ولا أستخزي.
الفصل الخامس والعشرون
قال شهاب: اليوم نعود. - نعم نعود. - لقد انتصرت مصر. - إني أحس أن أمي التي ماتت ذهبت إلى الأبد، وعادت لي أم جديدة شريفة مثل هذا الانتصار؛ أم لا صلة لها بتلك التي تشردنا لنبتعد عنها. - هناك أبونا. - لعلنا نجده قد تغير. - لا أظن. - وهل كنت تظن أن مصر ستنتصر؟ - اسمع، لماذا لا نتغير نحن؟ - كيف؟ - إن أبانا لم يشعرنا أنه يحبنا. - فهل أشعرناه نحن أننا نحبه؟
ونظر باسل إلى أخيه طويلا، وراحت ابتسامة تنداح على شفتيه، لتعلو إلى وجنتيه ثم إلى جبهته، وخيل إليه وهو ينظر إلى أخيه أنه كأنما ينظر إلى مرآة، ولف الأخوين عبير مصري، له ذلك الأريج الخاص الذي لا يعرفه إلا من نبت في أرض مصر ومن ماء النيل، ترن في أذنيه منذ ولادته: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
অজানা পৃষ্ঠা