الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الثاني والعشرون‏

الفصل الثالث والعشرون‏

الفصل الرابع والعشرون‏

الفصل الخامس والعشرون‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل العاشر‏

الفصل الحادي عشر‏

الفصل الثاني عشر‏

الفصل الثالث عشر‏

الفصل الرابع عشر‏

الفصل الخامس عشر‏

الفصل السادس عشر‏

الفصل السابع عشر‏

الفصل الثامن عشر‏

الفصل التاسع عشر‏

الفصل العشرون‏

الفصل الحادي والعشرون‏

الفصل الثاني والعشرون‏

الفصل الثالث والعشرون‏

الفصل الرابع والعشرون‏

الفصل الخامس والعشرون‏

نقوش من ذهب ونحاس

نقوش من ذهب ونحاس

تأليف

ثروت أباظة

الفصل الأول

هي قصة ذات عروق بعيدة في أغوار الزمن، لست بطلا من أبطالها ولكنني أحب أن أحكيها. كيف أحكيها وأنا لست واحدا من أبطالها؟ هل يهمك كثيرا أن أكون من أبطالها ما دمت سأرويها لك؟ لن أقول لك إنها من واقع الحياة فلا أحب أن أكون سخيفا إلى هذا الحد، ولكنني في الواقع لست أدري إن كنت أنت تحب الرواية من واقع الحياة أم من واقع الخيال. يقول الروائيون: إن أهم شيء في العمل الفني أن يكون مقنعا، ولا يهم من بعد المصدر الذي يصدر عنه، ولكن الحياة حين تؤلف لا تحاول أن تقنع، إنها تؤلف وتنفذ مؤلفها على الحياة، وعلى صلات الناس بعضهم ببعض، وعلى بدايات حياتهم وعلى نهايتها، ولا يعنيها في شيء أن تكون مقنعة أو غير مقنعة. والناس؟ الناس جميعا في كل مكان شهود في كل قصة وأبطال في كل قصة، وقد تلهيهم الأحداث عن محاولة الفهم، وقد يفكرون، والذين يفكرون هم الأغبياء؛ لأنهم لن يبلغوا من تفكيرهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم من طمأنينة، بل هم سيزدادون حيرة وقلقا، بل قد يزدادون سخطا وتبرما، ولا تعنى الحياة في كثير أو قليل بحيرتهم أو قلقهم، أو سخطهم أو تبرمهم.

تجرب فيهم وما يعلمون

كتجربة الطب في الأرنب

ولكن هل تجرب فيهم الحياة حقيقة كتجربة الطب؟ إن الطب حين يجرب يحاول أن يصل إلى نتيجة معينة من تجربته، فإلى أي نتيجة تحاول أن تصل الحياة؟ يبدو أنني سأصبح غبيا كهؤلاء الذين يفكرون! عادة ساذجة عادة التفكير هذه، وكلما ازداد التفكير عمقا يكون صاحبه أكثر سذاجة.

فالأذكياء وحدهم هم الذين يعرفون ألا أمل أن يصلوا بتفكيرهم إلى نتيجة مؤكدة واضحة المعالم، ولكن هناك أنواع من التفكير لا بأس بها؛ منها ذلك التفكير الجاد الخطير الذي كان يستغرق راشد بك برهان، وهو جالس بمكتبه الضخم في سرايه الواقعة بشارع خيرت. كان راشد بك يريد أن يسافر إلى أوروبا، وهو يبحث عن مواعيد السفن المسافرة، وهو حريص على أن يسافر على أول باخرة؛ فقد تشوق إلى باريس وإلى أصدقائه هناك. ولست في حاجة إلى ذكاء لتعلم أن هؤلاء الأصدقاء إنما هن صديقات، ولكن الحشمة تحتم أن نكتبها أصدقاء، إنهن كثيرات هؤلاء الأصدقاء. كان اليوم هو السبت، وقد وجد راشد بك سفينة في طريقه إلى مرسيليا في يوم السبت الذي يليه، وكان لا بد له أن يبلغ السيدة والدته عن هذا السفر؛ حتى تشرف على تجهيز ملابسه، وترى ما الذي يحتاج إليه قبل أن يسافر، وكان لا بد له أيضا أن يستقل القطار إلى التفتيش ليلقي نظرة نهائية على حسابات الزراعة، ويأخذ ما حصله حمزة أفندي البلاشوني من إيراد الأرض. وقام راشد بك إلى والدته، وراح يصعد السلم إلى الطابق الأعلى في هدوء وفي تفكير عميق. كان السلم يفضي إلى بهو عريض شامخ الأعمدة عميق الفخامة، تقوم فيه الأرائك الضخمة عليها القطيفة المزركشة القادمة من جنوا، وكانت والدته قد أنشأت لنفسها في هذا الطابق غرفة للجلوس تستقبل فيها صديقاتها، وكانت أمه جلفدان هانم أفندي تحب أن تجلس في هذه الغرفة، حتى وإن لم يكن لديها صديقات تستقبلهن. وهكذا لم يكن راشد بك محتاجا أن يتخلى عما يفكر فيه ليتجه إلى الغرفة، إنما هو يقصد إليها دون ومضة من تفكير، إنه يعلم أنه سيفتح الباب وسيراها في كرسيها الكبير المجاور للمرآة التي تواجه الباب، يعلم ذلك ولم يفكر فيه. لقد كان مشغولا بما يحتاج من نقود في باريس، وبما سيجده عند حمزة أفندي البلاشوني. ويفتح الباب، أمه بجانب المرآة، والمرآة ما زالت تواجه الباب. ولكن، ما هذا الجمال الذي يقف بجانب صورتي في المرآة؟ من هذه؟ كيف لم أرها قبل اليوم؟ وكيف كان يمكن أن أراها؟ طبعا سترفع اليشمك إلى وجهها، لقد بقيت العينان، تكفيني العينان، جمال الدنيا كلها في هاتين العينين! لم يحس راشد بك بالأعين الأخرى التي تعلقت به، ولا أحس بعيني أمه التي أدهشها وقوفه بعد تأكده من وجود حريم معها، لم يحس شيئا من هذا، وإنما ظل رانيا إلى العينين اللتين تطلان من فوق اليشمك، وطالت به الوقفة حتى اضطرت الأم آخر الأمر أن تقول: فيه حاجة راشد بك؟

وانتبه راشد بك فجأة، لينحني قائلا وهو يقفل الباب: عفوا هانم أفندي.

ويعود إلى مكتبه ويجد جدول البواخر ينتظره، فيطويه في هدوء ويضعه في الدرج الأسفل من مكتبه، ويمد رجليه على المكتب، ويزيح طربوشه إلى الوراء ويستغرق مفكرا في لا شيء. •••

حين يسمع أقدام السيدات تعبر فناء السراي، يقف إلى الشباك وينظر إليهن وهن يركبن العربة التي تجرها أربعة خيول مطهمة، ولم يلتفت إلى العربة ولا إلى الخيول وإنما تثبت نظره على التي تسير خلفهن جميعا، فلم يشك لحظة أنها أصغرهن، وأنه لا بد لها أن تكون خلفهن جميعا، إن قوامها أكثر جمالا من عينيها. أكان لا بد أن يكون لهذه السراي سلم للحريم وآخر للرجال؟ أكنت أريد أن أراها عن قرب؟ وماذا ينفع القرب؟ إن جمالها لا يحتاج إلى كثير من إنعام النظر، إنها جميلة، أو هي فاتنة لا شك في ذلك، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أخطبها؟ هكذا مرة واحدة؟ وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟ - هانم أفندي. - إنها ابنة عثمان باشا فكري. - لا يفوتك شيء. - وقفتك أمام الباب كانت طويلة. - عيناها. - نعم جميلة. - أنت موافقة؟ - لا مانع.

سكت راشد بك ولم يسأل أمه عن شيء. وعم يسأل؟ ابنة عثمان باشا فكري، الأمر إذن لا يحتاج إلى سؤال. أما ثروته فمعروفة، كانت ألفي فدان بقي منها بضعة فدادين بعد البذخ الذي كان يعيش فيه، وراشد بك لا يحتاج إلى مال؛ فثروته لا يحصيها العد، وإن كان هو يجيد إحصاءها ويعرف كل خافية منها، وعثمان باشا رجل ذو مكانة مرموقة في الحياة المصرية، ولا شك أنه تولى ابنته بالتربية المعهودة، فهي تجيد التركية والفرنسية وعزف البيانو واختيار الملابس واستقبال الناس وتنسيق الأثاث وإعطاء الأوامر للخدم، ولا داعي إذن للسؤال، ولكن أمه. - لم تسأل عن خديجة؟! - اسمها خديجة؟ - يقولون إنها متحررة في آرائها. - كم عمرها؟ - بينك وبينها خمس عشرة سنة تقريبا. - أنا لست كبيرا. - ولست صغيرا. - ست وثلاثون سنة اكتمال الرجولة. - وعشرون سنة بداية الأنوثة. - ولكنها ابنة عثمان باشا فكري. - الأنوثة لا شأن لها بعثمان باشا فكري. - ما رأيك؟ - لن نجد خيرا منها. - فلماذا المناقشة إذن؟ - أريدك أن تعرف. - إذن؟! - أخطبها لك.

الفصل الثاني

المفروض أن أروي لك في هذا الفصل موقف خديجة من هذه الخطبة، ويمكن أن أروي لك هذا الموقف بطرق عدة. فمثلا أستطيع أن أقول إن خديجة كانت تحب ابن خالتها عزت بهادر الذي نشأ معها منذ الطفولة الأولى، وكان يقاربها في السن. وما دمنا نتكلم عن هذه الطبقة من الناس؛ فالمفروض أن أقول لك: إنه يهوى ركوب الخيل ويجيده، وإنه طلق اللسان - بالفرنسية طبعا - وإن لغته العربية لا تكاد تستقيم، وإنه ممشوق القوام تافه العقلية لا يفكر إلا في أتفه الأمور وأسخفها، وأكون بذلك سائرا وراء كل من كتب عن هذه الطبقة.

أو كان من الممكن أن أقول لك مثلا إن عثمان باشا فكري دخل إلى ابنته، فقال لها: أبشري يا خديجة، عندي لك أعظم خبر . - صحيح يا بابا؟

وطبعا حين تقرأ «بابا» لا بد لك أن تشدد الباءين، فهكذا تنطقها ممثلات السينما في أفلامنا العربية. نرجع الآن إلى الحوار الذي كان المفروض أن أقدمه إليك، يقول الأب وقد تهلل وجهه بالفرح: جاءك عريس لا مثيل له في مصر.

وهنا كنت سأحتار كيف أكمل المشهد، هل ستطرق خديجة في حياء؟ أم تراها كانت ستقول: من؟

وعلى الحالين، كان عثمان باشا يقول: راشد بك برهان.

وكنت سأحتار أيضا كيف تتصرف خديجة بعد هذا، هل كانت ستسأل أباها عن العريس وأحواله جميعا من شكل وعمر؟ وطبعا لا داعي للسؤال عن الشهادة أو الثقافة، فقد كانت هذه الأشياء في ذلك الحين بعيدة عن مجال السؤال عند السيدات، وتوشك أن تكون كذلك عند الرجال أيضا.

أم تراها كانت ستطرق حياء وخجلا، وتقول الجملة التي لم يستطع كاتب حوار أن يغير منها شيئا على طول السنين: اللي تشوفه يا بابا؟

ولعلي كنت سأخرج من هذه الحيرة بوسيلة أكثر يسرا وأقرب إلى منطق الأمور، فأجعل خبر الخطبة ينتقل إلى الابنة عن طريق أمها، وأنتهز هذه الفرصة لأقدم إليك كل ما لم تعرفه بعد عن شاكر بك برهان على لسان الأم.

ولكن ما العجلة في تعرفك على شاكر برهان؟ ولماذا لا نتكلم عن خديجة قليلا؟ فأنت لم تعرف عنها إلا أن عينيها جميلتان، ولكنك أنت لم تعرف مثلا أن قوامها فارع رشيق لا تطغى عليه نحافة، ولا يفرط عليه سمن، وهي ذات شعر ناعم إذا أطلقت عنانه هدر على كتفيها في عربدة طاغية، وجبينها عريض فيه ذكاء، وعيناها اللتان عرفت أنهما جميلتان فيهما جرأة، وفيهما تطلع إلى المستقبل في وثوق الذكر وفي فتور الأنثى، وأنفها دقيق مائل قليلا إلى الخد الأيمن، هذا الميل الذي يراه بعضهم جمالا، ويراه بعض آخر عيبا في جمالها الفاتن. وإن كنت من الذين يحبون أن يوصفوا بالمثقفين، فلعلك تحب أن تعرف شيئا عن ثقافتها. قرأت كورني وراسين وفولتير وهيجو وفلوبير وروسو، حتى اعترافات روسو قرأتها، وقرأت شكسبير مترجما ، وقرأت ديكنز وهاري وتولستوي وديستويفسكي. أظنك عرفت الآن أنها كانت تحب القراءة وكانت تعبد الشعر، فقد كانت تحفظ روايات كورني وراسين جميعا، وتحفظ كثيرا من شعر هيجو، ولم تكن تميل كثيرا إلى مضحكات موليير. كانت القراءة عندها هي الوسيلة التي تفتح لها النافذة على عالم لم يكن من الممكن أن تخالطه أو تندمج فيه؛ فقد كان الحريم جزءا منفصلا عن المجتمع في ذلك الحين يحركنه من داخل البيوت، ولكنهن لا يشاركن في حركاته.

وكانت خديجة شأن كل فتاة تعرف أنها ستتزوج في يوم الأيام، وكانت تعتقد أنها ستتزوج رجلا مثقفا تستطيع أن تشترك معه في أحاديث طويلة عن الشعر والأدب، وكانت الخشية تخالجها أن يكون هذا المثقف ذا ثقافة عربية وإنجليزية، وليس ذا ثقافة عربية وفرنسية، فالمثقفون في ذلك العهد كانوا جميعا يجمعون إلى العربية ثقافة أجنبية أخرى، ولم يكن الغنى في ذاته أمرا ذا بال عند خديجة؛ فالغنى عند الأغنياء شيء مفروض يعتقدون هم أنه طبيعي، يصاحب التكوين البيولوجي لأجسامهم، فالمال عندهم شيء من المقرر وجوده، كما يوجد لهم عينان وأنف وشفتان. ولكن الثقافة هي التي كانت نادرة الوجود، فإذا وجدت فهي عميقة راسية الأصول بعيدة الأغوار. وقد كانت خديجة لا تتصور أن يكون خطيبها غير مثقف، ولم يكن تفكيرها هذا مجافيا للصواب؛ فإن والدها الذي أتاح لها هذا التثقيف لا يقبل أن ينالها شخص لا يقف مع ما بلغته من دراسة على درجة واحدة، فإن تفاوتت الدرجة فليكن هو في العليا لا في السفلى. وهي في سذاجتها الثقافية نسيت أن للمال عند الأغنياء نداء ولغة يفهمونها جميعا دون اتفاق بينهم، فمن الطبيعي ألا يتزوج الغني إلا ذات ثراء، ومن الطبيعي أن يسارع الثري بقبول الغني خطيبا لابنته.

وهذا الاتفاق غير المكتوب بين الأغنياء يتضمن أن كل شيء غير الثراء يمكن اغتفاره أو تجاهله.

وهكذا لم يكن عجيبا أن يقبل عثمان باشا فكري خطبة راشد بك دون ريث من تفكير، وخصوصا أنه أصبح غنيا سابقا، ولكنه ما زال يحمل اللقب «غني».

ومن الطبيعي أيضا أن تقبل خديجة الزواج، فهي تعلم أنها نهاية محتومة لحياة البنت في بيت أبيها، أو بداية محتومة لخلية جديدة من الحياة.

والاسم الذي تقدم لخطبتها اسم شهير في عالم الثراء وليس شهيرا في عالم الثقافة، فقد كان المجتمع في ذلك الحين لا يلقي ستارا من التجاهل على أي مهتم بالثقافة، فلو كان على جانب منها مهما يكن ضئيلا لذاع صيته، بل إن الحياة كانت تتيح لمن يهوى شراء الكتب أن يصبح شهيرا في عالم التثقيف، حتى وإن لم يقرأ هذه الكتب. وقد كان أغلب هذا النوع من الهواة يكتفي من الهواية بالشراء دون القراءة، فالقراءة لها ناس وشراء الكتب له ناس آخرون، والذين يقرءون لا يهمهم مطلقا طريقة الطبع التي يهتم بها الشراءون، كل ما يعني أهل القراءة أن تكون الحروف واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض، وقد يكون هذا الوضوح في ذاته سببا في رخص الكتاب لا في غلو سعره.

ولا تنتظر مني أن أفيدك كثيرا في الشروط التي لا بد منها ليكون الكتاب تحفة أثرية ذات شأن، فأنا من ذلك النوع الساذج الذي يحب أن يقرأ ولا يهمه أن يقتني.

على أية حال، لم يكن راشد من القراءين أو الشرائين المدمنين، وإن كان ملما بكثير من الكتب، وكان غنيا مدمنا للغنى، وإن كانت خديجة في آمال اليقظة وأحلام النوم ترجو أن يكون زوجها مثقفا يحب كورني وراسين أو المتنبي وشوقي على الأقل، إلا أن هذه الآمال وتلك الأحلام لم تكن شروطا أساسية في اختيار رجلها، فقد كانت ثقافتها تتيح لها قدرا من الذكاء تعرف به أنها هي لا تملك من حرية الاختيار القدر الكافي الذي يسمح لها أن تضع الشروط، ولو توفرت هذه الحرية؛ فما كانت لتجعلها تضع هذه الشروط. فهذه الآمال والأحلام لم تكن إلا خواطر تهفو إلى النفس أو تهفو إليها النفس، ولكن خديجة تعلم كل العلم أنها أمل لا يزيد، أو حلم مصيره المؤكد التيقظ على الحقيقة.

وهكذا أعفتني خديجة من الحيرة التي خشيت أن تتولاني أمامك في بداية الفصل، ولم توجه إلى أبيها إلا سؤالا واحدا: هل أنت راض عنه؟ - وأين أستطيع أن أجد مثله؟ - أمرك إذن.

لم تسأل كم عمره، فالمجتمع لم يكن قد أتاح بعد للفتاة أن تسأل عن عمر زوج المستقبل، وإذا كانت امتنعت أو منعتها التقاليد أن تسأل هذا السؤال الطبيعي المعقول، وهي أيضا لم تكن تحب ابن خالتها عزت، فالطرق إذن جميعها مغلقة دون أي أسئلة أخرى، بل لعلها لم تكن تحتقر أحدا في حياتها قدر احتقارها لهذا العزت، فهو فراغ تجسم في هيكل إنساني يعنى كل العناية بشاربه وشعر رأسه، ولكنه لا يبذل أقل عناية برأسه هذا من داخله، فإن رأيته رأيت تمثالا، وإن حادثته وجدت التمثال خيرا منه.

فأنا إذن لا أستطيع أن أقيم عقبة من أي نوع تمنع زواج خديجة من راشد، وتم الزواج.

الفصل الثالث

لو كان المتزوج أحدا آخر غير راشد، لكان من الطبيعي أن يكون شهر العسل في مصر، ولكن راشد يحب أن يذهب إلى أوروبا، ويحب أن يبهر زوجته بالحياة الباذخة التي يعيشها، والفتاة على ثقافتها في بواكير العمر ومطالع الحياة، فهي برعم يريده راشد أن يتفتح على يديه، وهو صاحب الخبرة الواسعة عن الورود التي لا تعرف الذبول، ولا يدركها ما يدرك الورود من شحوب.

يريدها امرأة كاملة المعالم يدعو إلى بيتها كبار الناس، فيبهرهم من بيته غنى وافر يصاحبه الذوق الرفيع، وهو يعلم منها أنها في بيت أبيها كانت تهتم بالكتاب، ولكنه أيضا كان يقدر أن التي تهتم بالكتاب تستطيع أن تهتم بكل شيء، وهو يريدها في حجرة نومه امرأة ناضجة خبيرة عالمة بما يرضيه، ويطمئن غرور الرجل فيه ونزوته في وقت معا.

وهو يريدها إذا ذهبت لمجتمع من النساء أوقعت في نفوسهن الحسرة والغيرة أو الإعجاب والإكبار، ويريد منها أن تكون أنموذجا للأناقة.

طراز عجيب راشد، فهو قد نال من التعليم المنتظم قدرا ربما اعتبره البعض ضئيلا، وخرج بعد ذلك إلى الحياة، فإذا هو يصاحب الحياة صحبة عميقة لصيقة، ويوغل فيها إيغالا رفيقا في بعض الأحيان، وفيه عنف شديد في بعض آخر من الأحيان، عرف الناس في كل متجه من متجهات الحياة، ودرس من القانون ما يعنيه من القانون، فإذا هو يفوق عتاة المحامين ومشاهيرهم، وضارب في بورصة الأوراق المالية والقطن فانسكب عليه المال يزيده غنى، وأصبح راشد شخصية مرموقة في المجتمع المصري تضطر الأنظار أن تلتفت إليه، فلم يكن التعليم المنتظم هو المصدر الوحيد للثقافة في ذلك الحين، بل إن المحامين كانوا يعملون بغير شهادة من الحقوق في ذلك الزمان. وقد اختار راشد من الثقافة ما يرى أنه يحتاج إليه؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يتقن الفرنسية، لا ليقرأ بها كورني وراسين، وإنما ليقرأ بها العقود وليضارب بها في البورصة، وليجتذب بها الأصدقاء من الفرنسيين، وتعلم الإنجليزية وأتقنها، ولكن شكسبير وملتن وهاردي وديكنز كانوا لا يعنون عنده شيئا إلا أسماء يرددها على مسمع الإنجليز الذين يتعرف عليهم.

قد كان نوع الثقافة التي يتمتع بها راشد من فصيلة أخرى بعيدة كل البعد عن تلك الثقافة التي أتقنتها خديجة، حتى لنستطيع القول في ثقة إنه من الطبيعي أن كلا منهما كان يعتبر الآخر غير مثقف.

وراشد يعتبر الحياة عملا ومتعة، وهو يمازج بينهما في مقدرة بارعة، فلم يكن عجيبا أن يصحب زوجته إلى باريس. كان راشد يريد أن يستغني بزوجته عن كل نساء العالمين؛ ولهذا كان يريد فيها كل نساء العالمين.

لم تكن خديجة تتصور أن ترى هذا الذي رأته في فرنسا، وكان أبعد شيء عن ذهنها أن ترى هذا الذي رأته مع زوجها بالذات؛ فالأيام القليلة التي قضتها معه في بيته في مصر طالعتها منه مهابة لم تر في حياتها رجلا يتمتع بها، فحديثه أمر وإن تسربل بالرجاء، ورأيه نهائي وإن تزيا بالتواضع، نوع من المهابة لا يعرفه إلا صاحب الموهبة الكبيرة التي تجعل صاحبها كبيرا.

وفي الباخرة إلى باريس: تعرفين أنني عشت سنوات بلا زواج؟ - نعم. - كان طبيعيا أن أعرف نساء أخريات . - ما دام قبل الزواج، فهذا شأنك. - طبعا أنا لا أستأذن منك عن شيء صنعته في الماضي. - فلماذا تخبرني؟ - لا أريد أن أخفي عنك أولئك اللواتي عرفتهن في فرنسا. - أتريدهن أن يكن صديقات لك وأنت متزوج؟ - اسمعي يا خديجة، أنا في صداقاتي الفرنسية لم أكن أعرف إلا فتيات الملاهي. - إذن؟ - أنا أريد منهن أن يكن تسليتك في فرنسا. - إذن؟ - سنذهب إلى الأماكن التي يرقصن فيها، وسيقبلن علي وقد يقبلنني. - يقبلنك؟! - وماذا يهمك؟ - لا أريد. - كنت أستطيع أن أخفي عنك هذا، وأذهب بك إلى أماكن أخرى، وأزورهن دون علمك؟ - لا بأس، فلنذهب إليهن. - سيصبحن أداة تسلية لك. - أنت عندي الآن كل نساء العالم، وستجدين أنت عندي كل نساء العالم، وأنا لا أحب أن أعد بأشياء سأنفذها، فإني أحب أن يكون التنفيذ هو الوعد، وتحقيقه في وقت معا.

وكان عند الوعد والتنفيذ.

ورأت فرنسا، رأت منها باريس وغير باريس.

كانت في خيالها مسرح أحداث الروايات، ومعاني حب، وحدائق هوى، ونسمات قصص لبلزاك ودوديه وفلوبير وغيرهم، وكانت في أنحاء خيالها رؤى مجنحة لا يحيط بها تعريف واضح، كانت تبدو في خفي الوعي منها أحلاما يشملها ضباب فهي بلا وضوح، وتكسوها أستار شفيفة فهي في نفسها عميقة ولكن بلا معالم، موجودة ولكن بلا تثبت، سماوية أحيانا لعوبا أحيانا أخرى، أو أرضية مسرفة في عمق الواقع لما صنعه بها زولا وفلوبير وستندال والآباء الأوائل للواقعية الوليدة.

ثم رأتها وغاص بها زوجها في عميق حناياها، فازداد في عينيها جمالها ولم ترفض نفسها فيها، فهي واقعية إن أسرفت في الفجور، فهي تعنى في الوقت نفسه بتجميل هذا الفجور حتى يصبح نوعا من المتع البشرية التي تلتئم مع طبيعة الحياة في باريس، لا ترفضها باريس ولا من يزور باريس، حتى إذا خرجت عن باريسها هذه أصبحت تهتكا تعافه النفس وترفضه وتحتقر كل من يلم به.

رأت الغواني اللاتي كن صويحبات زوجها، وقبلن زوجها أمامها، فلم تحس لذعة غيرة في قبلهن.

لم تحس أن اللواتي يقبلنه نسوة عرفهن، وإنما أحست أن ماضيه هو الذي يقبله. وكانت قد بدأت تحب زوجها، فهي تحب أن يرضى عنه ماضيه كما يرضى عنه حاضره، وكما ترجو أن يرضى عنه مستقبله.

والغريب أن فتاة منهن طلبت أن تجلس معها في جلسة خاصة، كانت قد أحست من لقاء هذه الفتاة بزوجها أنها أقربهن إليه.

وقالت لها الفتاة عجبا: أنت زوجته؟ - نعم. - حقا؟ - وأي عجيب في ذلك؟ - أردت أن أتأكد. - أنا زوجته. - أتعرفين كيف يظل زوجك؟ - أعرف كيف أخلص له. - هل أنت سخيفة إلى هذا الحد؟ - هل الإخلاص سخف؟ - الإخلاص مفروض لا يحتاج الرجل أن يكافئ زوجته عليه. - ماذا؟ - طبعا أنت مندهشة أن تسمعي هذا الكلام مني. - لا، أبدا. - بل أنت مندهشة. - لنفرض. - اسمعي، لقد كنت فتاة زوجك فترة من الفترات. - ربما أدركت ذلك من لقائك به. - إن ما نصنعه في الكباريه ليس هو الحب، إننا حين نحب لا نهب هذا الحب إلا لواحد، وكان زوجك يغيب عني فترات قد تصل إلى سنة، ومع ذلك لم أكن أهب حبي لأحد طوال فترة غيابه. - ولكن؟! - إن ما نهبه للزبائن إنما هي أجسامنا فقط، افهمي ما أقول، أنا أتكلم عن الحب. - متى كان هذا؟ - لم تتغلب علي واحدة من زميلاتي، أنت فقط التي تغلبت علي. - أتكرهينني؟ - لم يكن من الممكن أن يتزوجني، فهو شرقي وأنا أعرف ظروفه. - أشكرك. - أتعرفين كيف تحافظين عليه؟ - ربما. - إن لم تكن لك بضاعة إلا الإخلاص، فأغلب الأمر أنني سأستقبله قبل أن تمر على زواجكما بضعة أشهر. - الواقع أن هذه هي البضاعة الوحيدة التي أعرفها. - إذن فسأعلمك.

وعلمتها.

لقد رأت باريس، وتعلمت في أهم جامعات الحياة على أعظم أساتذة الحب والمتعة ومعرفة الرجال.

ولم يكن ما رأته من باريس وحدها هو حصيلة علمها، إنما ما رأته من زوجها كان أعظم، هذا الرجل المهيب الذي سمعت عنه في فترة الخطبة أن رجال المال العتاة لا يخشون أحدا في البورصة قدر خشيتهم منه، هذا الرجل الذي استطاع بهيبته الذكية الخارقة الذكاء أن يجعل حمزة البلاشوني، وكيل أعماله في الدائرة الزراعية، رجلا في غاية الأمانة، كان هذا الوكيل كما سمعت عنه يقول إن الإنسان حين يسرق أي صاحب مال يعرف أنه قد يفصل من عمله، فإن كان صاحب المال قاسيا غاية في القسوة فقد يذهب به إلى السجن، أما مع راشد بك فلا يعرف أي مصير ينتظره، فهو خليق أن يصنع به كل ما لا يتوقعه أحد.

راشد هذا ينكشف في ملاهي باريس عن هذا الشخص الذي يستطيع في مقدرة فائقة أن يجعل كل لحظة معه متعة، حتى يصبح الجالسون والجالسات جميعهم وجميعهن مغمورين في فترة من الحياة مليئة بالحياة، تلفهم سعادة غامرة تزلزل أعماق أعماقهم، فيزداد غوصهم في لحظاتهم، لا يريد أحد منهم أن يفكر فيما كان يصنع بأمسه أو فيما قد يصنعه به غده، وراشد هو روح هذه الغمرة الطاغية من الإمتاع وهو الينبوع أو هو إن شئت الشلال الهادر بالإسعاد، وهو في الوقت نفسه يستطيع أن يجعل كل فرد من الموجودين يعتقد أنه هو لا راشد سبب هذه السعادة وهذا الإمتاع. كيف استطاع هذا الرجل المهيب أن يكون خبير متعة لا يدانيه في خبرته المتخصصات من فتيات الملاهي في باريس أو أصحابهن؟

وتومض في ذهن خديجة فكرة تعمل فيها النظر، وتوشك أن تؤمن بها: إن معرفة الإنسان كيف يكون سعيدا، وكيف يعتصر لحظات السعادة اعتصارا لا يبقي من رحيقها على قطرة، موهبة لا تتأتى إلا لعبقري يعرف كيف يعيش، ويعرف من مسالك الحياة في جدها ولهوها ما لا يعرفه أبناء الحياة مجتمعين.

والذي لا تعرفه خديجة أن راشدا ترك في مصر مشكلة يضيق بها أشد الضيق تهدر قدرا من ماله، ولكنه مع ذلك أقنع نفسه بأنها مسألة هينة ميسورة، وأنها لا تستحق حتى أن يؤخر سفره من أجلها.

لقد اغتاله صديق له في عشرة آلاف جنيه.

والذي لا تعرفه أيضا أن سبب اغتيال صديقه لهذا المبلغ هو زواجه منها، ومعرفته لسيدة من سيدات مصر لها أهمية كبرى في المجتمع المصري، والذي لا تعرفه أيضا أنه فجع في صديقه وفي ثقته به فجيعة إن لم تزد على فجيعة المال، فهي تستوي معها.

ولكن أهذا الحديث يناسب لحظات المتعة التي يعتصرها راشد، ويسقيها صرفا غير مشوبة لزوجته الحبيبة خديجة؟ سننسى كل هذا الذي يضيق به راشد، ونتيح له ما أتاحه لنفسه من شهور صاخبات بالهناءة في ربوع فرنسا جميعا.

وعرفت خديجة عن زوجها شيئا لم تكن تتوقع أنه يتخلق به، فهو لا يلعب القمار مطلقا، قد يشرب مع الشاربين، ولكنه لا يقرب مائدة القمار. - ولكنك تضارب في البورصة. - البورصة خبرة وبعد نظر مالي، ولا يصاب فيها الإنسان إلا إذا حدثت أشياء لم تكن في الحسبان، ولكن القمار تسليم أموالي كاملة ليد غير أمينة ولا مخلصة ولا صديق لها، وهي أيدي الحظ. أنا لا أقبل هذا لكرامتي ولا لثقافتي ولا لعقلي. - فهل المقامرون جميعهم أغبياء؟ - بل إن كثيرا منهم أذكياء. - فما لهم يقامرون؟ - لقد أخطئوا الطريق إلى المتعة، فتلمسوها على مائدة القمار، أما أنا ... - لا تكمل، لقد رأيت، نعم إن أحدا لا يعرف طرق المتعة كما تعرفها أنت. - ولكن هناك شيئا لم أقله. - وهو؟ - وهو أنني مع كل هذه المتع ظللت مخلصا لك، لا أهب نفسي إلا لك. - وهذا حق أيضا.

الفصل الرابع

لماذا يتوقف العقل عند بعض الناس، ويتصرفون تصرفات حمقاء، مع أنهم من ذوي العقل الراجح الذي استطاع أن يمكن لهم وينزلهم منزلة محترمة عند الناس؟

لو أن أحدا سأل زكريا باشا حسام الدين على سبيل الاستشارة: ما رأيك في زيجة الزوج فيها فات الخمسين منذ ست سنوات، وهو يحث الخطى نحو الستين، والزوجة فيها تمشي الهوينى إلى العشرين من عمرها لم تكملها؟ لكان جوابه متسما بالعقل والرزانة وبعد النظر؛ فالمسألة لا يختلف فيها عقلان على شيء؛ أن الرجاحة أو على الأقل لا ينعمان بالغباء الشديد.

ولكن العجيب أن زكريا باشا حسام الدين هو نفسه تزوج الآنسة سهير ممدوح كريمة ممدوح عزت باشا. أما زكريا باشا فهو مستشار في محكمة الاستئناف عرف بعلمه الواسع بالقانون، بل وعرف أيضا بحبه للأدب، وكثيرا ما كانت أحكامه قطعا أدبية يتغنى بها المحامون خاصة الذين صدر الحكم في صالحهم، وهو موسع عليه في الرزق، واسع الأفق، عميق النظرة؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يصبح وزيرا. وقد سر بهذا؛ لأنه كان يفكر منذ زمن أن يترك القضاء الجالس إلى القضاء الواقف. ولعله في ذلك تأثر بالقصة التي تروى عن أحد مشاهير المحامين في فرنسا، وكان ابنه يعمل في القضاء، وكانت سمعة ابنه أيضا عظيمة، فقد عرف عنه أنه من أحسن القضاة. وفي يوم سأل أحد الصحفيين المحامي: لماذا تعمل أنت في القضاء الواقف، بينما يعمل ابنك في القضاء الجالس؟

فأجاب المحامي الذكي: لو استطاع ابني الوقوف ما جلس.

وأغلب الأمر أن الأب كان يريد ابنه أن يعمل معه في المكتب الكبير، ليظل محتفظا بمكانة المكتب بعد وفاته، والراجح أن الابن كان يفضل العمل في القضاء بطبيعة مواهبه أيا ما كان الأمر، فالمؤكد أن زكريا باشا تأثر بهذه القصة، وأراد أن يقف عن كرسي القضاء ليصبح محاميا واثقا من عمله القانوني، ومن لغته في وقت معا.

وهكذا جاء تعيينه في الوزارة خير طريق يخرج منه إلى مقاعد المحامين. كان زكريا باشا قد تزوج في أول حياته نعيمة هانم شهاب بنت مجدي باشا، وقد أنجب منها ابنهما عدلي.

ولكن زكريا باشا كان يحب النساء، وكان بارعا في الحصول عليهن، والطريق تجمع أصحاب القصد الواحد، فلم يكن عجيبا أن يجمع طريق النساء بين الباشا زكريا والبك راشد، فكانت صداقة قوامها الأول، وقد يكون الأهم، النساء.

ولكن «راشد» صاحب مصالح كبيرة، والباشا زكريا حين ترك الوزارة إلى المحاماة أصبح يتمتع بنفوذ كبير، وأصبحت الأبواب التي لا تفتح لغيره من المحامين تفتح له. ولراشد عين يقظى كعين الصقر تدري أين يكمن الخير لها، فقضايا راشد تنتقل إذن من تلقاء نفسها إلى مكتب الباشا، وتزداد الصداقة توثقا.

لعلك الآن تعجب إن ذكرت كل شيء عن الباشا أو أكاد، ولم أذكر شيئا عن زوجه الأولى نعيمة هانم شهاب ، ولا عن زوجه الثانية الآنسة سهير حمدي.

وما كان لي أن أذكر شيئا عن واحدة منهن دون تفصيل لا يقبل الإجمال؛ فنعيمة هانم شهاب هي الابنة الوحيدة للغني الشهير مجدي باشا شهاب، وهي سيدة علمها الغنى أن تأمر فتطاع، وليس زكريا باشا بأقل منها غنى أو أدنى حسبا، وإنما تعلقه بالنساء وعلمه بأنه لا شك سيخونها جعله يسمح لها بأن تأمر فتجاب، وأن تبدو وكأنها هي رجل البيت. وكان ذكاء زكريا ومعرفته أنه آخر الأمر يستطيع دائما أن يفعل ما يريد داخل البيت أو خارجه يجعله يتيح لها هذا المظهر المتأمر الصلب تفرح به هي، ولا يخسر هو شيئا.

ولكن شيئا واحدا فات زكريا باشا، وما هذا بعجيب؛ فالأذكياء أيضا تفوتهم أشياء.

لقد استولت نعيمة هانم على ابنهما عدلي منذ ولادته، فهي وحدها صاحبة الشأن في تربيته وهي التي تدخله المدرسة، بل إنها هي التي اختارت له الكلية التي يدخل إليها، والعجيب أن هذه الكلية لم تكن الحقوق التي تخرج فيها أبوه، والتي تخرجت فيها الغالبية العظمى من وجوه البلاد ووزرائها وحكامها. لقد اختارت له كلية الهندسة وقد نشأ عدلي فكرة من أمه وخطرة منها وإشارة من يدها، فهو لا يعرف أن يختار ولا يريد أن يعرف، فالذي لم يعرف الحرية يوما لا يفكر فيها، بل لعله إذا منحها تمثلت له شيئا بغيضا لا يطيقه ولا يحتاج إليه. فالاختيار في الحياة شيء صعب ومهمة شاقة لا يتعرض لها إلا من لا يتمتع بأم كأم المهندس عدلي التي تختار عنه كل شيء يتعلق به، وكل طريق ينبغي له أن يسير فيه.

وحين تخرج عدلي في كلية الهندسة اختارت له نعيمة هانم زوجته وتزوجها، وكان عدلي على غناه دميم الخلقة، وأصبح بفضل السيدة والدته كريه الخلق ضعيفا تافها. وحين تزوج وانسلخ كيانه عن كيان أمه في السكن وخلا به وبزوجته بيت تجلى على حقيقته البشعة أمام زوجته؛ أنه لا يجيد في الحياة إلا أصناف الطعام، فما كان له في بيت أبيه بعد أمه إلا الطاهي يلازمه فتعلم عنه أصول الطهي حتى أجادها، وأحس بالرضاء عن نفسه واطمأن أنه صاحب موهبة، وسبحان رب العرش في علياء سمائه؛ يهب لكل عبد من عباده مهما يكن تافها شيئا تطمئن إليه نفسه أنه يملك ما لا يملكه الآخرون.

وربما كانت هذه الموهبة بالنسبة لزوجته في الأيام الأولى من زواجهما مثار ضحك ومزاح، ولكن ويل للزوجة وللزوج معا إذا تبينا أن الضحك والمزاح إنما هما جد كل الجد، وأن عبقرية المهندس ليست في شيء إلا في طهو أصناف الطعام.

ضاقت الزوجة راوية بزوجها أشد الضيق، ولما كان لا بد للضيق أن يتمثل في عمل؛ فما هو إلا شهر أو بعض شهر حتى كان عدلي مطية وزوجه راكبتها، ويبدو الأمر من النظرة السطحية أن مثله في ذلك مثل أبيه، ولكن وهلة من إنعام النظر سرعان ما تعود بها العين الخبيرة أن هدوء أبيه عن ذكاء وعن محاولة لإعفاء ما يصنعه خارج البيت. أما هدوء الابن فعن غباء؛ ولأنه لا يعرف إلا أن يكون هادئا. وحلت الزوجة محل الأم ولم يقم بينهما أي خلاف، فراوية ذكية تعرف كيف تبدو أمام حماتها دائما طيعة ذلولا، لا تخالف لها أمرا أو ترد لها كلمة، فملكت بذكائها الأم والابن جميعا.

وهكذا وقع زكريا باشا في خطأ لم ينجه منه ذكاؤه المتوقد، وبدلا من أن يكون ابنه جديرا بأن يحمل اسمه أصبح هزوة لكل هازئ، وأغلب الأمر أن زكريا باشا أراد لابنه أن يلهي زوجته عنه، فيستطيع هو أن ينصرف إلى نسائه ما شاء له الانصراف؛ فإن زوجته تعرف عنه ميله للنساء، بل لقد حدث بينهما حادث تدافعت أصداؤه في مصر جميعا، يوم أن دعت زوجته سيدات كثيرات في ليلة شاع فيها الأنس والسرور، بمناسبة عودتها من الأراضي الحجازية، بعد أن حجت بيت الله وزارت قبر نبيه.

وكان الباشا يوم ذاك في البيت، ولكنه كان في حجرته بعيدا عن مجتمع النسوة.

لم تكن نعيمة هانم تعرف أن صديقتها صالحة هي رفيقة الباشا في هذه الأيام، فلم يكن عجيبا أن تدعوها. وكم كانت المفاجأة صعبة حين تفقدت صالحة في أثناء الحفل، فلم تجدها فإذا خادمتها مبروكة تشير لها بإصبعها إلى أعلى، وتصعد نعيمة هانم إلى حجرة الباشا، فتجدها خالية فتكمل صعودها إلى السطح، لتجد صالحة في أحضان زوجها، وإذا بها تصرخ صراخا يتعالى على صوت المغنية في الطابق الأدنى، وإذا بها تخلع حذاءها، وتنهال به على معالي الباشا، وكان يومذاك وزيرا جديدا. وتصبح القصة حديث مصر جميعا، وتطلق صالحة من زوجها، وتنقطع صلة الباشا بها.

ولكن الباشا لا يستطيع العيش من غير أخرى، ويتعرف في هذه الأيام على المستشار ممدوح بك عزت، وهو رجل اقترب من المعاش، وذهب إلى معالي الوزير يرجوه أن يسعى له أن ينال رتبة الباشوية، وهو في طريقه إلى مقاهي المعاش.

وممدوح بك عزت رجل تزوج وهو كبير السن من سيدة مات عنها زوجها، هي السيدة نبوية الباجوري، وقد أنجبت لزوجها فتاة كان عمرها يوم ذهب والدها إلى وزير العدل يدور حول العشرين.

في غمرة التقرب الذي يسعى به ممدوح بك إلى معالي الوزير دعاه إلى الغداء في منزله، وهناك رأى الباشا لأول مرة بيت ممدوح بك، ورأى أيضا ابنة ممدوح بك. أما البيت فكسير متواضع يدل على أن سعادة المستشار شريف وفقير، وأما البنت فتدل على أن سعادة المستشار أحسن اختيار زوجته، وأن الله جعل الابنة تشبه الأجمل في والديها.

راقت سهير في عين الباشا، ولكن هذه فتاة في حضن أبيها، فلا سبيل إليها أو على الأقل الطريق الذي تعود أن يسلكه لا يصلح معها، مع هذه الفتاة ليس هناك إلا طريق واحدة. - سعادة الباشا، ابنتك سهير غاية في الجمال. - لا تنس يا معالي الباشا أن صدور الرتبة منك يوشك أن يكون براءة للباشوية، فأنت الوزير المختص باقتراح الرتب للمستشارين. - سعادة الباشا أنا أعرف اختصاصاتي كل المعرفة. - إذن؟ - أظن جلالة الملك لا يرضى أن يكون أبو زوجتي «بك». - ماذا؟ ماذا قلت معاليك؟ - أنا يا أخي أخطب ابنتك لنفسي. - هذا شرف يا معالي الباشا. - ولي شرط. - أنا تحت أمر معاليك. - أن يظل الزواج سرا حتى أجد الفرصة مناسبة لإعلانه.

وتم الزواج، ونال ممدوح باشا رتبة الباشوية.

لم يكن عجيبا أن يقبل ممدوح بك أو باشا خطبة ابنته، فقد كانت المناصب والرتب ذات شأن أسطوري في ذلك الزمان، ولكن العجيب أن شخصا في ذكاء زكريا باشا يخطب فتاة تصغر ابنه بعشر سنوات. من المؤكد أنه ما كان ينصح أي إنسان ينتصحه أن يفعل ما فعل، ولكن الإنسان دائما يظن أنه شيء آخر غير الناس، وأن ما لا يجدر بغيره يجدر به؛ فزكريا مثلا كان يظن أن شبابه دائم، وأن الجاذبية التي يتمتع بها تستطيع أن تعوض سهير عن فتوة العشرين، وأن اللقب والمكانة أهم بكثير من تقارب السن.

ولم يكن الأب يسأل ابنته في شأن زواجها؛ ولهذا لم تحاول سهير أن تمتنع، فما دام أبوها قد اختار لها هذا فلا ترد إرادته، ولكنها في شبابها المتفتح كانت تعرف الطريق الذي فرشه لها أبوها برتبة الباشوية التي نالها.

وظل الزواج سرا.

شخص واحد كان الباشا يصحبه إلى بيت زوجته الجديدة، هو راشد بك برهان، فقد عرف فيه الباشا قدرته الفائقة على سكب حياة كاملة في لحظات متعة. وقد كانت السرية التي تحيط بالزواج تجعل الصلة بينه وبين زوجته يحيط بها جو المغامرات الذي كان يحيط بصلاته مع رفيقاته السابقات. وقد كان الزواج يحصن العلاقة إذا هي افتضحت من أن تلوك الألسنة اسمه كما لاكتها في حادثة الحذاء، وفي أحداث أخرى مشابهة.

أعجب راشد بزوجة الباشا وأعجبت به، رأت فيه الشخص الذي تستطيع معه أن تمارس شبابها وتحس بجمالها الآسر مقدرا عند خبير نساء. وهو وإن كان يكبرها في السن، إلا أن الفارق أقل من ذلك الفارق الذي يفصلها عن زوجها.

أحست سهير في عيني راشد الإعجاب، وكانت تعلم أنه لن يقدم على مغازلتها على مرأى من زوجها، فالزوج لماح الذكاء، وراشد يعرف مقدار لماحيته وذكائه. إذن فلتقدم هي.

حين انتهت السهرة، وحان الموعد لراشد أن يترك الزوجين، قام واستأذن وصافح الباشا وصافح سهير، وإذا بشيء أدرك أنه ورقة تتكور في يده، فيطبق عليها يده.

ويقرأ راشد على ضوء سيارته الداخلي: «تعال غدا في الساعة السابعة، الباشا لن يأتي غدا.»

ويضع الورقة في جيبه ولا يتولاه عجب كثير، فقد كان يعلم أنه إذا لم يقم هو بدور العشيق لهذه الزوجة الشابة فسيقوم غيره، ولا بأس أن يخون صديقه الذي ائتمنه على حريمه، فهو خير ألف مرة من غيره، فقد يكون هذا الغير محبا للظهور، وقد يكون شابا فيه رعونة الشباب وزهوه، فيفتضح من أمر الباشا ما ينبغي أن يكون سرا.

فهو إذن يقوم بدور العشيق لزوجة صديقه؛ حماية لعرض هذا الصديق أن تنتاشه ألسنة حداد، وفي ميدان السياسة يباح كل شيء.

ذهب إلى بيته في هذه الليلة، فاستقبله بدوي خادمه الجديد بعد أن أحال خادمه السابق على المعاش. فقد كان عم محمدين، كما كان يسميه، قد بلغ من الكبر عتيا، فطلب إليه أن يظل في البيت يشرف على المأكل والمشرب ويترأس الخدم، دون أن يقوم بأي عمل، وطلب إليه أيضا أن يستقدم خادما له جديدا يقوم على خاصة شأنه، ويتولى شأن ملابسه. فكان بدوي.

خلع راشد حلته وألبسه بدوي الجلباب، واستلقى راشد على سريره. لقد بدأت مغامرة جديدة. لم يكن إلى ذلك الحين قد رأى خديجة، بل إنه لم يرها إلا بعد ذلك بحوالي عامين استمرت فيهما علاقته بسهير، وطبعا لم يعرف الباشا شيئا، فكان كثيرا ما يقضي مع الزوجة وزوجها السهرات. •••

اغتالت البورصة فهمي عبد الحميد، صديق راشد اللصيق وجاره في الأرض الزراعية، وشح المال في يده، وأوشك أن يبيع عزبته المجاورة لأرض راشد الواسعة، فاستدعاه راشد: كم تحتاج؟ - لماذا لا تشتري أنت العزبة؟ - هذا كلام فارغ. - المبلغ كبير. - ولكن البورصة لا تستمر على حال واحدة. - وهي أيضا بلا قلب. - إذا كانت خانتك اليوم وأعطت غيرك، فليس بعيدا أن تخون غيرك في غد وتعطيك. - إذا أعطتني أشتري أرضا أخرى، أو أسترد منك الأرض. - أنا لن أشتري. - ابحث عن مشتر. - وأنت لن تبيع. - غير معقول أن تسلفني مبلغا كبيرا كهذا. - إذا لم أحتمل أضمنك في البنك. - أريد عشرة آلاف جنيه. - عندي. - أبيع العزبة أحسن. - العزبة تساوي أكثر من هذا، خذ.

وأعطاه شيكا بالمبلغ، وكتب فهمي كمبيالة مستحقة الدفع عند الطلب، وضعها راشد في حافظة نقوده. •••

في سهرة عند الباشا أو عند سهير أيهما شئت، قال راشد: معالي الباشا، عندي خبر لا بد أن أقوله. - وهل تحتاج إلى مقدمات؟ - ولعل سهير هانم يهمها أن تعرفه أيضا. - خيرا؟ - ربما أصبح من العسير علي أن أكثر من زيارة معاليك بعد ذلك. - إذن فالخبر هام حقيقة. - أنا أيضا سأتزوج.

واربد وجه سهير هنيهة، ولكن سرعان ما استجمعت قوة الأنثى. - ألف مبروك.

وقال الباشا: نعرفها؟ - يا معالي الباشا لو كنت تعرفها ما تزوجتها أنا أبدا.

وقهقه الباشا بصوت مرتفع.

وتبسمت سهير، وقال راشد مستطردا: نعرف أباها، وإلى هنا والمسألة سليمة والحمد لله. - من؟ - ابنة عثمان باشا فكري. - لقد اخترت. - حقا يا باشا؟ - سمعت عنها كل خير. - الحمد لله، معاليك متأكد أنه سمع فقط؟ - نعم، نعم، لا تخف. وماذا تريدنا أن نقدم لك هدية لهذا الزواج؟ - معاليك خير من يختار. - إنني أعد لك مفاجأة منذ بضعة أشهر، أظن أنها تصلح هدية لزواجك. - هل لي أن أسأل؟ - الآن أستطيع أن أقول لك. - عظيم. - أنت تعرف صلتي برئيس الوزراء. - نعم، ولو أنك رفضت أن تشترك في الوزارة. - الوزارة بالنسبة لي خسارة كبيرة، فهي تجعلني أترك الشركات التي أعمل بها. - ربما كنت على حق. - اعتذرت عن عدم قبول الوزارة، ولكن تستطيع أن تعتبرني مشتركا فيها، فرئيس الوزراء يستشيرني دائما، وقد طلبت أجرا لاستشارتي هذه. - طبعا استشارة زكريا باشا لا بد أن تكون مكافأتها كبيرة. - لقد طلبت لك الباشوية. - حقا؟ - وأظن أن اسمك سيظهر في إنعامات العيد.

لم يبق إلا أشهر قلائل، تصبح راشد باشا برهان. - اسمح لي أن أقبلك يا معالي الباشا. •••

حين ذهب إلى بيته راح خادمه الجديد إدريس يخلع عنه ملابسه، فقد غضب عم محمدين على بدوي، واتهمه بأن يده طويلة وحرامي، فطرده وجاء بإدريس بدلا منه، ولم يكن راشد بك يرد لعم محمدين أمرا يأمره في البيت، فقد كبر على يديه وهو يعتبر مربيا له.

لاحظ إدريس أن راشد بك سعيد حالم، وإن كان لم ينطق بحرف واحد، وبينما هو يخلع عنه بنطلونه إذا بعم محمدين: سعادة البك.

وقال راشد في نفسه بعد بضعة أشهر: ستقول سعادة الباشا، يا عم محمدين. - نعم يا عم محمدين. - فهمي بك تحت. - الآن؟ - لما رأى دهشتي، قال إنه يريدك في شيء مهم. - اللهم اجعله خيرا. ألبسني يا بدوي، آسف أقصد يا إدريس.

وحين لبس قال لمحمدين: هات دفتر الشيكات من درج الدولاب يا عم محمدين. ونزل راشد إلى حجرة مكتبه. - خيرا يا فهمي؟ - أين الكمبيالة؟ - يا رجل، أمن أجل هذا تأتي في هذه الساعة؟! - إن الحديث الذي أريدك فيه لا تصلح له إلا هذه الساعة. - هل رد الدين يحتاج إلى هذه الساعة؟ - إني سأرده نعم، ولكن ليس بالطريقة العادية. - ماذا؟ - معي ورقة تحتاج إليها. - وهل تريد أن تبيعها لي؟ - نحن نعمل في البورصة، وأنت قلت: إن البورصة لا قلب لها. - ولكن نحن لنا قلوب. - نحن أبناء البورصة. - بل نحن أبناء الإنسان. - المهم، ألا تريد أن ترى الورقة؟ - لا بأس.

وأخرج فهمي الورقة وفتحها لحظة، ثم أقفلها وأعادها حيث كانت.

ودارت الدنيا براشد، واستمر فهمي: إنك على وشك الزواج، وفضيحة كهذه تقضي على زواجك. - هل هذا معقول؟ - وقد عرفت أنا بتحرياتي أن الباشا تزوج سهير ممدوح، وطبعا الورقة منها. - أيمكن هذا؟! - تصور لو وقعت الورقة في يد ابنه عدلي، لقد جن حين أخبرته أن أباه تزوج، وحاول أن يخبر أمه، ولكنها في مرض الموت ولا تعي شيئا. - أهذا فهمي الذي يكلمني؟ - تصور أن عدلي ينوي رفع دعوى سفه على أبيه؟! فكر في أثر هذه الورقة في القضية. - فهمي، المبلغ لا يهمني، وسأعطيك الكمبيالة، ولكن كيف تصنع أنت هذا؟ - ألم أقل لك إن البورصة لا قلب لها؟ - ولكن أنا أيضا ابن البورصة وأنا ... أنا ... - أعرف ما تريد أن تذكره من شهامتك، ولكن الناس معادن، أنت شهم وأنا نذل، أظن أن هذا يوفر عليك كثيرا من الكلام. - هات الورقة. - هات الكمبيالة. - لك حق، فأنت تظن الناس جميعا مثلك، نتبادلها في وقت واحد.

وتمت المبادلة. - هل اطمأننت الآن؟ - كنت أستطيع أن أطلب ضعفي هذا المبلغ، وكنت ستدفع. - الآن اعلم أنك أنت الذي ستدفع، وستدفع أضعاف ما أخذت. - أتظن ذلك؟ - سترى.

الفصل الخامس

وهكذا سافر راشد إلى أوروبا مع عروسه وفي ذهنه كثير يشغله، فقد ترك زوجة زكريا باشا نعيمة هانم بين موت وحياة، وابنه عدلي كاد يجن من خبر زواج أبيه، وهو لا يجد من أمه أذنا أو فهما ليبثها هذا الخبر، فتقضي على هذا الزواج قضاء مبرما، وهو وإن كان قد تجاوز الثلاثين إلا أنه غبي قاصر العقل هزيل التصرف، وليس ببعيد أن يرفع دعوى السفه على أبيه، فجهله يحول بينه وبين معرفة هزل هذه القضية وعدم جديتها. وكل ما يعرف عن أبيه أنه زوج أمه الذي يطيعها في كل شيء، ولو كان على شيء مهما يكن هينا من الذكاء، لعرف أن أباه لا يطيع أمه إلا في تافه الأمور، فلو قد فكرت أن تتعرض لآرائه الفقهية أو السياسية، لكان له معها شأن آخر.

وليس راشد بالذي يفكر هذا التفكير جميعه في شأن زكريا لمجرد الاهتمام بأمره، وإنما خشي أن يشغله شأن ابنه هذا عن السعي إلى الباشاوية التي وعده بها.

وهو يخشى أيضا أن تؤلبه سهير عليه، فقد قطع علاقته بها تماما منذ ذلك اليوم الذي أعلنها فيه أنه سيتزوج، وللسيدات إلى هذه الأمور مداخل لا يلج منها سوى ذكائهن.

ولكنه مع كل ذلك كان يفضل السفر فهو لا يحب أن يظهر أحدا على اهتمامه برتبة الباشوية، ثم لا تأتي، وهو يفضل أن يعرفها الناس من المرسوم لا منه، وأن له أصدقاء خلصا، وهو يخشى - وإن كان يعرف نفسه - أن تفلت منه كلمة تنبئ عما يدور بنفسه من آمال.

وقد حرص راشد ألا يخبر زوجته بما ينتظر، فالرتبة عند السيدات لها مكانة خاصة، وهو يخشى ألا تأتي فتهتز مكانته في نفسها.

لم يستطع شيء من هذا جميعه أن يحول بينه وبين أن يعيش الساعة في فرنسا ساعات مكثفة من البهجة، يشيعها من نفسه إلى قلب زوجته، وإلى قلب كل من يشاركهما في لياليهما أو في بياض نهارهما.

فهو من أولئك القلة التي تعرف لكل لحظة حقها، فلا يعدو التفكير على المتعة، ولا تعدو المتعة على العمل.

وهو أيضا كان يعلم أن ليس في القاهرة شيء يستطيع أن يفعله، فالانتظار وحده ليس عملا.

أما عن فهمي؛ فإنه لم يبت ليلته التي زاره فيها ليعرض سفالته إلا وقد أعد له عدته، وعرف تفاصيل ما سيفعله بشأنه، ولم يكن الموعد الذي حدده قد جاء بعد.

حين عاد راشد إلى القاهرة في أوائل سبتمبر، كان الباشا قد أعلن زواجه من سهير بعد أن ماتت نعيمة، وأصبح الباشا يخرج مع زوجته في كل مكان.

وكان عدلي قد رفع دعوى السفه على أبيه، فجعل من نفسه أضحوكة بين الناس. فإن كان لا بد من دعوى ترفع، كان الأجدر أن يرفعها الأب العالم الذكي على ابنه الغبي الجاهل.

وكان زكريا باشا كبيرا كشأنه، فاكتفى بإرسال أصغر محام في مكتبه، وهو يعلم أن مهمة المحامي غاية في السهولة واليسر. ولم يكن عجيبا ألا يفكر زكريا باشا في حرمان ابنه من الميراث، وما كان أيسر من هذا بالنسبة إليه، ولكن لعله بروح القاضي العادل، والفقيه القانوني قد أدرك أنه هو الذي أهمل شأن ابنه وجعل منه هذا السخيف الذي أصبحه بما هيأت له أمه من مجالس فارغة مع نسوة جاهلات، وما هيأه له طاهي المنزل من ثقافة مطبخية.

ولم يشأ زكريا أن يعاقب ابنه على خطأ ارتكبه هو نحوه، ويعتبر نفسه مسئولا عنه.

وبقدر ما كانت أحاديث القاهرة تسخر من سخافة عدلي، بقدر ما كانت تكبر موقف أبيه وتعاليه عن الصغار، وعن أن يجعل نفسه في كفة ميزان مع ابنه السخيف.

كان العيد قد اقترب وذهب راشد إلى القرية ومعه زوجته، وراح يوزع على الفلاحين الملابس والنقود مضاعفة هذا العام، مدعيا أنها من أجل زوجته، فانطلقت الألسنة تدعو لها وله بكل هناء، وإن كان هو في خبيء نفسه يدبر لأمر ويعد له بهذه المنح عدته.

ظهرت أسماء الذين أنعم عليهم برتبة الباشاوية، وانفجر الخبر في البلدة حيث أحب راشد أن يكون، ففي الريف تصبح الأفراح والأحزان أكثر جلاء ووضوحا من المدينة.

في الريف ينطلق الفرح فيصبح في كل بيت، توشك تراه في الشمس وفي القمر وفي الزرع، وعلى وجوه الأنعام، مع زغاريد النساء ورقص الرجال وقرع الطبول وهتاف المزمار.

وأعاد راشد المنح مرة أخرى بمناسبة الباشوية، وركب سيارته مع زوجته ليقيد اسمه في دفتر التشريفات، ثم ليذهب بعد ذلك فورا إلى زكريا باشا ليشعره أنه يعرف الفضل لأهله، وأخبره زكريا باشا بالأسماء التي ينبغي أن يمر بها ليقدم الشكر؛ مثل رئيس الوزراء ورئيس الديوان وكبير الياوران وغيرهم.

لم يمكث الباشا راشد في القاهرة أكثر من يومين، ثم أخبر خديجة أن لديه عملا في القرية وقد يضطر أن يغيب بها يومين، ولم تكن الزوجات إلى ذلك الحين يناقشن رغبات أزواجهن، وخديجة لها من ثقافتها ما يجعلها تعرف تماما متى يجمل بها أن تسأل ومتى ينبغي لها ألا تتدخل؛ فهي تدرك أن أعمال زوجها ليست مجال أسئلة لها أو تدخل.

وهكذا أخذ حضرة صاحب السعادة راشد برهان باشا طريقه إلى قريته.

الفصل السادس

في زيارته الأولى سأل: متى نجمع القطن؟ - بعد بضعة أيام. - والعزب التي تجاورنا؟ - بعدنا. - كلها؟ - كلها؛ نحن أول من زرعنا القطن في الجهة. - عظيم. سأحضر معكم الجمع هذا العام. - نزداد شرفا يا سعادة الباشا.

في زيارته الثانية ركب راشد حصانه وراح يمر بأرضه مع حمزة البلاشوني وكيل زراعته. وبدا وكأن «راشد» أخطأ الطريق فمر على حدود الأراضي المجاورة، وسأل حمزة: كم فدان قطن هذه؟ - ثلاثمائة فدان.

ولم يعقب.

وحين عاد إلى البيت قال لحمزة: أريد متولي الفراش. - سعادتك تقصد متولي صاحب الفراشة؟ - نعم. - سعادتك تنوي أن تقيم لنا ليلة بمناسبة الباشوية؟ - ستكون ليلة وأنت بطلها. - يا ليت يا سعادة الباشا لو كنت أعرف كيف أغني لغنيت للصبح. - ستغني يا حمزة. ستغني للصبح ولكن بأصوات أخرى. - سعادتك تتوقع أن أفهم؟ - مؤقتا المطلوب ألا تفهم.

وسأل متولي صاحب الفراشة: كم كلوب عندك؟ - أمرك يا سعادة الباشا. - أريد ثلاثين. - أمرك، سعادة الباشا. - خذ، اشتر ما ينقصك وحين تنتهي الليلة خذها لك. - ربنا يطيل عمر سعادة الباشا. - متى تكون مستعدا؟ - عندما تأمر. - الليلة. - أمرك.

وقال لحمزة: أريد كل نظار العزب. - أمر سعادة الباشا. - بعد ساعة. - أمرك. - ومعهم الخولية. - أمرك سعادة الباشا.

قال لهم راشد: أريد أطفالا وشبابا ونساء في سن جمع القطن.

وقال حمزة: كم تريد؟ - لو كنت أريد عددا ضئيلا ما جمعت كل هؤلاء الرجال، أريد كل من تستطيعون أن تجمعوه. وأريد عربات نقل وجمالا وحميرا أيضا بقدر ما تستطيعون.

ونظر الرجال بعضهم لبعض وقال أحدهم: القطن عندنا لا يستحق الجمع الآن. - لا عليك يا حاج جودة ستعرف كل شيء في حينه. أنا أعرف أن أحدا لم يفتح في الجمع حتى الآن. كم نفرا تستطيع أن تجيئني به؟ - أمرك، أستطيع أن أحضر أكثر من مائتين؛ فالجميع الآن لا يصنعون شيئا. - وهذا بالضبط ما قصدت إليه. - وهو كذلك.

وراح كل ناظر وكل خولي يدل بعدد الأنفار التي يستطيع جمعهم، واكتمل العدد ألفا ومائتين، أدرك الباشا أنهم لن يتجاوزوا الألف وهذا ما أراد. - متى تستطيعون أن تحضروهم؟ - إن أردت الآن. - أنا فعلا أريدهم الآن. إن انتظرنا إلى الغد فشل كل الترتيب الذي أصنعه. - أمرك. - متى تحضرون؟

نظر الحاج جودة حوله لحظة ثم قال: صفار شمس يا سعادة الباشا.

وأمنت الأصوات على الموعد.

قبل أن تغرب الشمس كانت الأرض الفضاء الواقعة أمام سراي راشد باشا برهان تغص بالناس، منهم من جاء تلبية للطلب، ومنهم من جاء ليعرف السر وراء هذه الدعوة الغريبة للناس والأنعام جميعا. وفي نفس الوقت كان الباشا مجتمعا مع حمزة ونظار العزب في حجرة مقفلة لم يسمح لغيرهم بدخولها. وسأل الباشا حمزة: هل خفر العزب معكم؟ - طبعا. - هل معهم أسلحتهم؟ - طبعا. - كم بندقية عندنا؟ - كان عندنا عشر بنادق اثنتان منهما الآن في الإصلاح. عندنا الآن ثمان. - لا بأس، ما سأقوله الآن سينفذ دون أن يعرف أحد في الخارج شيئا إلا وأنتم في المكان الذي أحدده. - أمرك. - ستأخذون الأنفار جميعا إلى أرض فهمي عبد الحميد.

ونظر الرجال بعضهم إلى بعض، وأكمل الباشا: في ساعة زمن سينزل الجميعة الغيط، مع كل جماعة كلوب وحول الأرض الخفراء مع بنادقهم؛ يهددون فقط لا أريد عنفا، وقد تكتمت الخبر وأعتقد أن أحدا لن يأتي إليكم، وفهمي عبد الحميد غير موجود، وحين يأتي ستكونون قد جمعتم القطن.

الأكياس يا حمزة التي أتينا بها لقطننا أنا اشتريتها لهذه العملية. - أمرك يا سعادة الباشا. - تخرجون وتأخذون الأنفار دون أن تقولوا إلى أين حتى يجدوا أنفسهم أمام القطن يا حمزة، هذا أجر مضاعف للأنفار وكافئ كل من يبدي همة.

الناس في القرى لا يسمحون لفرصة كهذه أن تمر دون أن يعرفوا أعماق أعماق الأسرار التي تقف وراءها، إنهم واثقون أن هذا المشهد الذي يرون سيصبح تاريخا يتحاكون به ويجعلون منه على الأيام بصمة كعام الفيل الذي خلده التاريخ. فكل حدث ضخم في القرية عام فيل، ونراهم يقولون ... في سليقة مواتية، وكان هذا قبل حكاية الباشا وفهمي عبد الحميد بأسبوع أو بعدها بشهر، وهكذا ستصبح علامة زمنية يرويها أب إلى ابنه وابن إلى حفيده.

فهيهات هيهات أن يتركوا الجموع تذهب ولا يقصوا أثرها ويتبعوها إلى حيث تذهب، وإن كانت جهنم هي المقصد والمتجه.

وهكذا تجمع مئات آخرون حول الجميعة الذين أنافوا على الألف، وساروا يتبعهم كل من رآهم، حتى إذا بلغوا أرض فهمي وقف حمزة وألقى أوامره في حسم وفي اختصار، وتفرقت الأضواء، وأحاط الخفراء بالأرض، وتسلم كل نفر خطا وبدأ جمع القطن. ووقف المتفرجون لحظات وقد عقدت الدهشة ألسنتهم ولكنهم ما لبثوا أن تبينوا مقدار الجرأة والابتكار في هذا الذي يحدث، وهم مطمئنون أن سندهم الباشا؛ فما لهم لا يشاركون فيما أخذ فيه الجميعة، وتصبح روايتهم ذلك مؤيدة بأنهم جمعوا مع من جمع؟ وتمكنوا أن يجمعوا ثلاثمائة فدان، بدءوا فيها بعد أذان المغرب وانتهوا منها وصلاة العشاء ما زالت حاضرة.

حتى السرقة في القرى توقت بأوقات الصلاة. وهكذا نستطيع أن نقول إنه حين وجبت صلاة الفجر كان قطن فهمي عبد الحميد في مخازن راشد باشا برهان مستقرا، وكأنه فيها منذ أيام طويلة. •••

أصبحت هذه القصة أحدوثة المديرية كلها يتناقلونها بشيء أثير من الدهشة. فراشد حسن السمعة لم يمد يده في حياته إلى ما ليس له، وفهمي عبد الحميد ليس فوق مستوى الشبهات، وهكذا سرعان ما ابتدعت الإشاعات قصة عن السبب وصدقها الناس.

فالناس لا يحكمون على أحد من حادثة واحدة، وإنما هم ينظرون في ماضيه جميعا، ويقارنون ويقدمون الحيثيات، ثم يصدرون الحكم.

لقد أكل فهمي عبد الحميد على راشد مبلغا من المال، وأبى أن يرده إليه؛ فلم يجد راشد أمامه سبيلا إلا هذا، فهو لا يحب أن يستلب أحد أمواله، ما دام هو لا يحب أن يستلب أموال أحد.

وهكذا أصبح فهمي عبد الحميد المجني عليه ظالما لا مظلوما، ولا إشفاق عليه؛ فهو الذي صنع اسمه هذا وسيرته تلك بين الناس، فليس عجيبا أن يكون هذا هو حكم الناس عليه. وأن من يقدم على ما أقدم عليه نحو شخص أكرمه وأقال عثرته وحفظ عليه ماله وأرضه، ليس غريبا عليه أن يكون اسمه بين الناس غير كريم. فهذا الاسم يتكون عند الناس من أشياء صغيرة غاية في الصغر، يأتيها ذو النفس اللئيمة عن غير قصد ويستقبلها الناس في كثير من الأحيان، وبنوع من النفور قد لا يعرفون سببه، وليس غريبا أن تسمع من الناس عن فلان منهم أنهم لا يرتاحون إليه، وربما عجزوا عن إبداء الأسباب إن سألتهم أسبابا، فهمي عبد الحميد هو هذا الفلان من الناس عند الناس.

عرف أهل المديرية مما تواتر عن هذه الحادثة أن «راشد» في القرية، فتوافدوا إليه من كل البلاد يهنئونه بالباشوية ويسخرون من فهمي عبد الحميد، وربما حاول أصدقاؤه المقربون أن يعرفوا منه ما دعاه إلى ما فعل، ولكنه كان يقول في حسم: هو يعرف وهذا يكفي.

وقصد إلى بيت راشد باشا مدير المديرية والمأمور والحكمدار، وقال الباشا المدير: جاءتنا شكوى من فهمي عبد الحميد.

وقال راشد في نوع من التجاهل: خيرا. - لا تحاول معنا تجاهلا؛ فقد حققنا الشكوى. - مم يشكو؟ - المهم أن كل رجاله رفضوا أن يشهدوا ضد أي أحد من رجالك. فأشجع من فيهم الذي قال: ناس لا نعرفهم. وأغلبهم قال: ليسوا من الناحية ولا من الجهة. - ما زلت لا أعرف عم تتحدث يا سعادة الباشا! - والله وأنا الآخر لا أعرف عم أتحدث! اطلب لنا القهوة يا سعادة الباشا. - إنها عادة تأتي دون أن أطلبها يا سعادة الباشا، شرفت، شرفت يا سعادة الحكمدار، وأنت يا سعادة البك المأمور. - انتهزنا الفرصة لنهنئ سعادتك بالباشوية. - أكرمك الله يا سعادة الحكمدار، إن شاء الله نهنئك بها قريبا.

والتفت إلى الباشا المدير: سعادة الباشا يحب النارجيلة. - وقد أحضرتها معي في السيارة. أتأمر بإحضارها؟ - لا يا سعادة الباشا، في هذه المرة ستشرب في نارجيلة أخرى، ومعها دخان استقدمته لسعادتك خصيصا من تركيا.

وصفق راشد باشا، وأصدر أوامره، وما لبثت أن جاءت شيشة ذات مبسم من المرجان، وقد أحكم عليها دخان واضح الفخامة، وما هي إلا أن جذب منها الباشا المدير جذبة؛ فإذا هو يقول: سعادة الباشا، ليس في مصر رجل مثلك يعرف كيف يحيي الناس في أناقة وترفع.

ويضحك الجميع.

لقد كانت ملاحظة المدير غاية في الصدق. فمن يستطيع أن يقول إن مديرا عظيما يرشى بنرجيلة؟ إنما هي هدية من ناحية الثمن لا تساوي شيئا ثم هو يقدمها إليه على الملأ، والرشاوى لا تقدم على الملأ. إنما هي هدية تحمل في طواياها أن مقدمها يهتم بمن سيقدمها إليه، ويبحث عما يسره من الهدايا ويقدمها إليه.

ذكي سعادة الباشا الجديد، ذكي لا شك في ذلك.

الفصل السابع

شهيرة سيدة عجيبة. إنها ابنة عم خديجة، وأبوها وجدي باشا عزت، وقد تظن أني أخلط الأنساب فجعلت أخا عثمان باشا فكري اسمه وجدي باشا عزت! ولو أنك سألت واحدا من أبناء هذا الجيل لعلمت أن المدارس في ذلك العهد العهيد من الزمن كانت تسمي تلاميذها بأسماء تركية غير تلك التي يردون بها إلى المدرسة، ولم تكن هناك شهادات ميلاد في ذلك الحين.

فوجدي باشا عزت هو أخو عثمان باشا فكري كما شاءت المدرسة أن تسميه. وإن كان عثمان باشا فكري قد نال الباشوية عن طريق غنى سابق تبدد فأصبح أقرب إلى الفقر؛ فإن وجدي باشا عزت نال الباشوية عن طريق السياسة، فقد كان عضوا بالتجمعات البرلمانية التي كانت تسمى المجلس التشريعي أو مجلس شورى القوانين، ولم تمهله الحياة أن يرى مجلسي البرلمان اللذين نبتا عن دستور عام 1923م، وكانا يسميان مجلس النواب ومجلس الشيوخ. ولكن وجدي باشا ترك مع ذلك سيرة طيبة، وترك أيضا بقية من مال تجعل ابنته شهيرة تنسلك بشيء من الصعوبة والعسر مع طبقة الأغنياء، إلا أنها كانت تعيش عيشة سمحة، لا عنت فيها ولا إرهاق.

وكانت شهيرة تستطيع أن تستغني باسم أبيها وبما تركه من مال عن تعلقها بأصحاب الألقاب وأصحاب الشهرة؛ فهي مثلا لم تزر خديجة إلا زيارات نادرة، تستر بها واجبات القرابة. فلم يكن راشد ذا شهرة في المحيط الذي تحيا فيه شهيرة، وابنة عمها لا تمثل عندها إلا أنها ابنة باشا، وباشا غير ذي شهرة، بل وغير ذي مال أيضا.

وهكذا لم تجد شهيرة داعيا أن تزورها، حتى إذا نال راشد الباشاوية أصبحت شهيرة لا تترك بيت خديجة، بل وأصبحت لا تخفي عنها سرا من أسرارها.

كانت شهيرة تجد متعة في نطق كلمة باشا، وتحس لها مذاقا في فمها وموسيقى في أذنها، وتكاد تشم لها رائحة فواحة العبير في خياشيم أنفها. ونفس هذا الشعور من النشوة كان يلفها إذا ذكرت اسما من أسماء المشاهير في أي متجه تحققت له الشهرة فيه. وإني لأعجب لها ولا شك أنك ستعجب معي أن النساء الشهيرات في عالم الليل وفي غير ما يشرف المرأة أن تشتهر به كن يثرن في نفسها نوعا من التوفز، حتى إذا تعرفت بواحدة منهن اتخذت منها صديقة مقربة توشك لا تفلت يوما لا تزورها فيه أو تتصل بها.

رحبت خديجة بصداقة ابنة عمها الجديدة. والحقيقة أن شهيرة أنيسة الجلسة، طيبة الحديث، يمر معها الوقت لا تكاد جليستها تحس به. وقد سعدت شهيرة أن توثق صلتها بجلفدان هانم والدة راشد باشا، وقد كان الجميع يناديها هانم أفندي، كما سمعت ابنها يناديها في أول هذا الحديث الذي أسوقه إليك.

فكلمة هانم أفندي ذات رنين عند شهيرة، بل إنها تجد في نطقها أنها تختلف عن الأخريات اللواتي لا يعرفن سيدة يقلن لها هانم أفندي. ولا يهمها أن سبب هذه التسمية آت من أن السيدة جلفدان كانت ابنة لإحدى حريم السلطان عبد الحميد وزوجها لواحد من أتباعه، وقد خطبها زوجها والد راشد من تركيا، وشفع له غناه، فنسي أصهاره أو أرادوا أن ينسوا أنه ليس إلا فلاحا لا يرقى إلى سمواتهم.

ليس شيء من هذا يقع موقع الأهمية عند شهيرة، المهم أن تقول هانم أفندي، والمهم أن هانم أفندي أحبتها، وتجمع الجلسة ثلاثتهن. - ألا ترين طريقة لقريبتك هذه؛ شهيرة هانم؟ - ما لها، هانم أفندي؟ - لا تريد أن تأتي لنا بمولود.

وكانت خديجة تحب حماتها حبا طاغيا، فهي قد تركت لها شئون المنزل تصنع فيه ما تشاء، وقد قدرت لها خديجة هذا، فجعلت إشارتها أمرا؛ فهي تنفذ لها أوامرها قبل أن تنفذها لزوجها؛ ولهذا لم تكن أحاديث حماتها عن الإنجاب تثير في نفسها شيئا مما يغضب له النساء عادة إذا طالعتهن الحموات بمثله. وعلى كل حال فقد كان لها مع حماتها في يومها ذاك شأن آخر. - وهل بيدي هانم أفندي؟ - كل شيء بأمر الله هانم أفندي. - ولكن يا ابنتي يا شهيرة إنها لا تريد أن تسمع كلاما في هذا الشأن. علينا أن نحاول . - نعم في هذا أنت محقة هانم أفندي، ماذا جرى لك يا خديجة؟ لا بد أن نحاول، أعرف داية. - اسكتي يا شهيرة. - ألا تريدين حتى أن تسمعي؟ - هانم أفندي، إني حامل، وأنا أخبرك الآن قبل أن أخبر الباشا. وسقط الصمت على الحديث المتحمس، وارتسمت ابتسامة على فم خديجة، واندلعت دهشة وفرحة في عيني جلفدان، وانعقد لسان شهيرة. لحظات بدت بطيئة، ولكنها لحظات، ثم انتفضت هانم أفندي إلى دولاب نقودها، وقبضت منه قبضة وصاحت: يا بنات، يا فهيمة يا وهيبة يا سنية يا حبيبة.

وتقاطرت الخادمات إلى السيدة الكبيرة. - خذن، خذي أنت وأنت وأنت، زغردن زغردن جميعا، افتحن الشبابيك، افتحن الشبابيك أنا آمر بهذا، افتحن الشبابيك وزغردن ولا تتوقف منكن الزغاريد حتى يأتي الباشا ويسمعها منكن.

وأخذ الضحك السعيد بمجامع خديجة، وأحست شهيرة لأول مرة أنها لا تجد شيئا تقوله أو تفعله.

وخرجت جلفدان هانم من الحجرة، وراحت تصدر الأوامر أن يبلوا الشربات، وطلبت محمدين وأمرته أن يفرق عيشا ولحما عند مقام السيدة زينب وسيدنا الحسين.

وقالت شهيرة لخديجة في اهتمام: جاءني عريس. - من؟ - سامي حسنين. - ابن خالتك؟ متى جاء من أوروبا؟ - منذ شهر. - أخذ الشهادة؟ - في الهندسة. - وأنت ما رأيك؟ - تريدين الحق؟ - أريد الحق. - هو بلا شخصية. - بالنسبة لك ليس هذا عيبا. - ماذا تعنين؟ - أنت لا تحبين أن يكون هناك رأي بجانب رأيك. - وهو أيضا فقير. - وهذا أيضا أحسن لك. - أعوذ بالله منك. - أنت غنية، وغناك وفقره سيجعل كلمتك دائما هي النافذة. - دمه ثقيل. - يخف. - يعني؟ - توكلي على الله.

وارتفعت الزغاريد فعرفتا أنها تستقبل الباشا بالبشرى.

الفصل الثامن

انصبت أخبار القطن على فهمي عبد الحميد ترادفها الدهشة والعجب، ولعل بعض الندم ألم به. وسأله الناس، فتظاهر بأنه مظلوم وإن لم يبد سببا. خشي أن يختلق سببا فيحل به عقاب آخر وخشي أن يقول الصدق فيحتقره الناس، لقد أدرك أن راشد قد اصطنع ما ليس من خلقه ليرد عليه تصرفه. لقد انتهب هو أموال راشد آمنا، إلا أن راشد لن يتخذ نفس الطريق ليسترد أمواله.

لم يستطع فهمي عبد الحميد أن يذهب إلى راشد بعد الحادث بفترة قصيرة، وإنما آثر أن يترك الأيام تنسي الناس ما حدث، وآثر أن يشعر راشد أنه انتقم فلا يجاريه في الحديث. حتى إذا مر من الوقت ما أراد فهمي أن يمر ذهب إلى راشد في بيته في مصر؛ فقد حرص ألا يرى رجال راشد ورجاله ذله وانكساره، خاصة بعد أن عرف ما كان من زيارة المدير ورجال الإدارة لبيت راشد بالبلدة.

وفي القاهرة: لم أتوقع هذا! - لأني عشت عمري كله أكرمك وأكرم جوارك. - فلماذا لم تكرم خطئي؟ - أنا لا أستطيع أن أكرم سفالتك؛ لا إكرام عندي للسفالة. - كلنا في الهوى سوا يا سعادة الباشا. - كذبت. - حين تستحل صلة غير شريفة بصديق قريب لك تسمي هذا خلقا؟ - أنا غير مستعد أن أدافع عن نفسي أمامك. - ولقد حميتك أن تدافع عن نفسك أمام زكريا باشا. - لو كنت أعطيتني الورقة دون استغلالها لجاز لك أن تقول هذا. - وما البأس أن أستغلها وأنا في فقري هذا؟ - لقد وقفت إلى جانبك في فقرك، وأنا لم أطالبك. - فرصة لاحت لي. - فرصة قذرة. - ألا يجوز لي وأنا ابن البورصة أن أستغل ضربة حظ؟ - لقد صنعت أنت هذه الضربة واشتريتها من خادم لي. - كيف عرفت؟ - الأمر لا يحتاج إلى ذكاء، ولو كنت ذكيا حقا لقدرت ذكاء الآخرين. - لكل منا أن يبحث عن مصالحه أينما وجدت. - ولكن يجب علينا أن نكون على شيء من الخلق. - يا سعادة الباشا، إننا نلعب على مائدة واحدة. - ربما أكون قد أخطأت ولكنني أعرف أنني كنت مخطئا وقد تبت. إنني منذ تزوجت لم أخن زوجتي. - ولا خنت صديقا لك. - رددت خيانة أحدهم ولم أخنه. - يا سعادة الباشا لقد خنتك في مالك وخنت أنت صديقك في عرضه؛ فلا أعتقد أنك الشخص المناسب للحديث عن الشرف. - أنت خنتني في مالي وفي إكرامي لك. - لم تذهب بعيدا عما ذهبت إليه. - أما أنا فقد تبت. - الله وحده يعلم ما في القلوب. - ولكننا نحن البشر نعرف الظاهر من الأعمال. - ظاهر الأعمال أنك استوليت على قطني بغير حق. - أليس لي حق عندك؟ - أمام القانون لا حق لك. - لو كان القانون يعطيني حقي ما لجأت إلى تحطيمه. - وترى هذا عملا شريفا؟ - ألم تقترح أنت ألا نتكلم عن الشرف؟ - هذا حقك. وماذا تنوي أن تفعل؟ - أما أنا فقد فعلت. - يخيل إلي أن عملك لم ينته. - لن أسمح لك بزراعة أرضك حتى أسترد مالي الذي عندك. - أكتب لك كمبيالة جديدة. - معنى الكمبيالة أنني أقبل تسليفك وأنا لا أقبل. في هذه المرة لا بد أن أسترد أموالي نقودا مثل الذي أعطيتها لك. - ولكن .. ولكن هذا مستحيل. - لماذا؟ لقد غطيت خسارتك بالمبلغ الذي أعطيته لك، ثم كسبت من أسهم الشركة الخديوية مبلغ عشرين ألف جنيه، وكسبت من صفقة اتحاد البنوك ثلاثين ألف جنيه. لو لم أكن أعرف أنك تستطيع رد أموالي لبحثت عن طريقة أخرى لاستردادها. - تعرف عني كل شيء. - لقد قلت الآن إننا نلعب على مائدة واحدة. - نخصم ثمن القطن وأعطيك الباقي لك. - أي قطن؟ - راشد بك! - باشا إذا سمحت! - راشد باشا، أتنوي ...؟ - لقد نويت. - وهل هذا معقول؟ - وهل ما فعلته معقول؟ - إن لي أولادا، هذا حرام عليك!

وهل لا بد أن يكون لي أولاد حتى أنال حقي؟ وعلى كل حال يا سيدي اطمئن، فإن ابني في الطريق.

فمن أجل خاطره إذن يا سعادة الباشا ارحمني! أعرف أنك قادر، ولكنني أعرف أيضا أنك تعفو إذا قدرت. - بشرط واحد. - لقد أحضرت معي المبلغ. - اسمع يا فهمي، سأقبل المبلغ الذي أحضرته على أن ننسى كل شيء حدث بيننا في هذه الفترة. - هذا شرط أبحث أنا عن تحقيقه إذا رفضت أنت. - وهو كذلك، هات المبلغ. - شكرا يا سعادة الباشا، ألف شكر.

الفصل التاسع

جاء المولود الأول لراشد باشا، وقد حلا له أن يسميه اسما عربيا عريقا؛ فسماه أسامة. وحاولت هانم أفندي أن تعترض لتخلد اسم أبيها نيازي، ولكنها وجدت من ابنها إصرارا. وقد صاحب مجيء أسامة فرح كبير في الأسرة، استبشرت خديجة، واستبشرت به هانم أفندي، ولم يجد راشد باشا بأسا أن يستبشر به أيضا، فقد تحدد يوم زواج شهيرة من ابن خالتها سامي حسنين. وكان اليوم محددا بعد ميلاد أسامة بعشرة أيام، وقد تصادف أن تم تحديد الموعد والميلاد في يوم واحد.

وفي المساء، وبعد أن استطاعت خديجة أن تسمر مع المهنئين وهي في سرير ولادتها، قالت شهيرة: والله لا أتزوج حتى تستطيعي أنت حضور فرحي. - هل جننت يا شهيرة؟ - أكون مجنونة لو فعلت غير هذا.

وهكذا تجدد تحديد الموعد على يد الطبيب الذي أشرف على ميلاد أسامة، فالأطباء في ذلك الحين كانوا يشرفون على الولادة ولا يقومون بها؛ فإنه لا ينبغي للسيدات أن يلدن بمشهد من رجل حتى ولو كان طبيبا. فكان الطبيب يحضر الولادة جالسا مع الرجال، وكانت الداية التي يرشحها الطبيب هي التي تقوم بعملية الولادة نفسها، فإذا حدث خلل يستدعي تدخل الطبيب فإنه حينئذ يتولى بنفسه العمل مباشرة. فقد كان ذلك الجيل لا يؤمن أن الوقاية خير من العلاج، ما دامت هذه الوقاية ستحطم عرفا عريقا كانكشاف الحريم على غير الزوج. وقد كان راشد جديرا أن يحطم هذا العرف لولا أن الطبيب طمأنه أن الولادة ستكون طبيعية، وأنه لا يوجد ما تخشى عواقبه. لم يكن راشد من هؤلاء الذين يحبون أن يحطموا التقاليد لمجرد تحطيمها، وإنما كان يحطمها إذا تعارضت مع منطق الأمور ومعقوليتها، وإن قضاءه شهر العسل في أوروبا والطريقة التي أظهر بها زوجته على باريس، لتدل على أنه لا ينتمي لهذا الجيل الذي يسلكه فيه زمانه ومولده وأسرته.

ولعل من العجيب أن راشد كان بهذا التحضر العقلي في خاصة شأنه، وأن يحافظ في نفس الوقت على العرف والتقاليد محافظة صماء، إذا لم تكن تتعارض مع رغباته وأهوائه ومزاجه الخاص.

فصلاته النسائية في مصر قبل الزواج مستورة، لا يعرف عنها أحد شيئا، ولولا خطأ نسيان لما أتيح لفهمي ما أتيح له من الحصول على هذه الورقة.

أما صلاته النسائية في باريس فقد كانت صاخبة عربيدة، يستره في علانيتها أن أحدا لا يعرفه هناك.

كان راشد شخصين متناقضين، وهما مع ذلك متوائمان في نفسه، متفاهمان لا يعارض واحد منهما الآخر، ولا يعترض أحدهما على ما يأتيه الثاني، كتوءمين اختلفت أخلاق كل منهما عن الآخر، وتألفهما في الوقت نفسه الحب العميق والإعجاب. كان كل من الراشدين في نفس راشد يعجب براشد الآخر، ويحبه، ويشيد في همسه به، ولولا خشية أن يقال نرجسي يحب نفسه لأعلن عن حب الراشدين أحدهما للآخر المكتوم في نفسه، التي تبدو أمام الناس راشدا واحدا. بل لقد كان هذا الحب المكتوم هو في ذاته صانع الشخصين وسر حياتهما معا.

كان راشد العربيد يعجب براشد الجامد الصلب المحافظ على التقاليد المعتني بملبسه عناية تقليدية، فلا ينسى أن يمسك العصا، وأن تكون الياقة منشاة، انقلب طرفاها إلى أعلى وتوسطها رباط عنق أنيق يتوسطه هو الآخر دبوس ماسي عريق.

ويعجب راشد العربيد براشد في المحافل العامة، رافضا اختلاط الرجال بالنساء، ورافضا عمل المرأة، إلا أن تكون خادما بالمنازل، ورافضا كل ما تريد الحضارة أن تدخل به إلى العصر.

ويعجب راشد العربيد براشد مقيم الصلاة في مواقيتها وذاهبا إلى المسجد من يوم الجمعة، حتى إذا كان في القرية سبقته السجادة ليصلي عليها. وإذا عرف في القرية أن شابا من شبابها يغازل امرأة أو يحاول أن يعتدي عليها، استقدمه وانهال عليه ضربا؛ حفاظا على الشرف، وردعا لكل من يحاول أن يحطم تقاليد الدين وعرف الآباء والأجداد.

ويعجب راشد العربيد براشد فاتح بيته في القاهرة والريف كل ليالي رمضان، ومشاهير المشايخ يتبادلون قراءة القرآن، ويؤم البيتين الناس يباركون هذا العرف العظيم، الذي يصر راشد أن يحافظ عليه.

أما راشد هذا التقليدي فهو يعجب براشد العربيد في كل ما يأتيه راشد العربيد، سواء كان ما أتاه تاريخا لا يعود أو واقعا يعيش فيه. وسواء كان ذلك في باريس مفضوحا هناك محبا لإعلان العربدة حيث لا يعرف أحد من ذلك العربيد، أم في القاهرة يأتي من يأتيه من النساء في محافظة على التقاليد وفي عربدة صامتة وقور لا تتفاضح ولا تعالن، وإنما تستمتع في داخلها فتحتوي المتعة جميعا غير ذائعة ولا بادية. ولكل من الصخب والصمت والعربدة والوقار متعته في نفس راشد.

ولكن راشد حين جاء أسامة أحس أن راشدا ثالثا وفد على الراشدين، وأحس أن هذا الثالث لن يجعل الأمور تجري فيما تعودت أن تجري فيه.

كان «راشد» براشديه يحس أنه حر، وأن لديه من المال ما يكفيه لإرضاء نفسه، فيرضي بها الراشدين جميعا.

كان المال عنده وسيلة يحقق بها ما تصبو إليه نفسه، سواء كان هذا الذي تصبو إليه مرحا ومتعة، أم كان تعاظما ووقارا، فملبسه دائما أفخم ملبس، وأثاث منزله أعظم أثاث، وسيارته أحدث طراز.

والمال متعة لا مثيل لها ما دام عند صاحبه وسيلة لغاية.

والمال نقمة لا تماثلها نقمة إن أصبح هو في ذاته غاية لا وسيلة، وهدفا لا طريقا، وأملا لا سبيلا لأمل.

أي شيطان ركبه فجعله يظن أنه ينبغي له أن يترك لابنه مالا أكثر مما يملك.

لقد أحس فجأة أنه لا بد له أن يضاعف الثروة التي ورثها؛ حتى يرضي ابنه هذا الذي ما زال في سنوات الرضاع.

أصحيح أحس بهذا، أم تراه هيأ لنفسه أن يحس هذا الإحساس؟ هل يقلب الأبناء آباءهم رأسا على عقب؟

أيمكن لهذا الطفل الذي يلوح طيفا قادما على المستقبل لم تكتمل معالم وجهه أو جسمه، مشروع الإنسان هذا، يستطيع أن يقلب شخصا في جبروت راشد، وفي اكتمال عناصره من شخص يريد المال ليستمتع به إلى شخص يريد المال للمال؟! أنا لا أصدق. أغلب الظن أنها رغبة خفية في نفسه تبحث لها عن باب يبدو مشروعا، لتنقلب حقيقة، ولتجعل من صاحبها الذي عاش سيدا للمال عبدا من عبيد المال. فالذي يريد المال ليعيش به يظل سيدا لماله ولزمنه، فإذا أصبح المال في ذاته هو الغاية لذاته لا لما يحققه لصاحبه من عيش رغيد؛ ينقلب المال حينئذ سيدا شرها قاسيا جبارا متسلطا بلا رحمة؟ ومن أين الرحمة وهو جماد بلا عاطفة ؟ ومن أين وهو هو أكبر أعدائه العاطفة، وباسمه هذا المادي تسمت كل المذاهب البعيدة عن روحانية البشر وعن إنسانية الإنسان؟ إنه يمثل الجانب الصلب الحاقد البشع في البشرية جميعا.

أكان راشد في دخيلة نفسه يريد الغنى للغنى، وليمتع نفسه بمتعه الظاهرة والخافية، حتى إذا جاء أسامة بدا ما كان يخفيه؟

من يستطيع أن يقول؟ علماء النفس هؤلاء أبعد الناس عن معرفة النفس، وشر ما يخادع النفس نفس وصاحبها؛ تلهو به، وتعميه عن حقائقه، وتجليه عن مواقفه من الحياة، ويظن بذاته غير حقيقة ذاته، ويمضي إلى مسالك من الحياة لا تطيقها نفسه ولم تهيئه لها. فهو، ما عاش، متخبط وإن ظن بنفسه العلم والثبات، فإن صادفه شيء من النجاح ظن أنه عرف الطريق، وهيهات هيهات أن يعرف. فإن كان ذلك الفيلسوف قد طلب إلى الإنسان أن يعرف نفسه في كلمتين «اعرف نفسك» كأنهما بديهية من البديهيات، فقد كان يدري أو لعله لم يكن يدري أنه بهاتين الكلمتين قد طلب إلى الإنسان أصعب ما تطلبه الحياة من الإنسان.

مسكين أسامة؛ اتخذه أبوه سببا، وما كان سببا، وجعل من مجيئه مستدار حياة، وما يدري أسامة ولو درى لجثا على ركبتيه لأبيه يرجوه أن يظل كما عاش حياته سيد المال لا عبد المال.

إذا أصبح المال هو الهدف انعدم الهدف، فالأرقام لا تعرف نهاية، وما دمت لا تعرف لهدفك نهاية فأنت ومن لا هدف له سواء، وويل لإنسان انعدم من حياته الهدف. بل لعل الذي يحياها مصادفة يترك لأيامها أعنة قياده ومتجه أحلامه ومسار آماله؛ أعظم سعادة من إنسان جعل جمع المال هو الهدف وهو الحياة. فإن هذا الإنسان المسكين جهل أو أراد أن يجهل أن الهدف قد انعدم في حياته وأنه كان قد وضعه أمامه. فالمال المال والسعار السعار، والحياة إذن جحيم لا ينتهي إلى نعيم، ونيران لا برد لها ولا سلام، والإنسان يومئذ يجهل الرقم الذي يريد أن يقف عنده، فإن قدره وبلغه أغراه المال بما بعده، وتنهار حياة الإنسان تحت نعال المال ، ويصبح السيد عبدا وباختياره.

الفصل العاشر

خسر عدلي القضية ضد أبيه، وربما كان يعلم أنه سيخسرها على أية حال، فإن كان عقله قد حال دون هذه المعرفة فالذي لا شك فيه أن راوية زوجته كانت تعرف ذلك، وإنما حلا لها أن يصبح اسم الباشا وابنه على كل لسان. فالحياة مع عدلي راكدة، وراوية ليست خائنة بطبيعة تكوينها؛ فهي لم تخن زوجها ولا تنوي أن تخونه، وهي لهذا ضيقة بحياتها معه ضيق ملالة، وهو نوع من الضيق يجعلها تبحث دائما عن تسلية، قد تكون هذه التسلية كبيرة كقضية الباشا أو صغيرة كانضمامها إلى مجموعتين من السيدات، إحداهن للحديث وهذه تضم خديجة وشهيرة، ومجموعة أخرى للعب الكونكان لعبا لا تلقي فيه بكثير من الأموال؛ فهي ليست مغامرة بطبيعتها، وهي تعلم مقدار الغنى الذي انسكب على زوجها بعد وفاة أمه، خاصة وأن أباه في ترفعه أبى أن يأخذ نصيبه من تركة زوجته، وترك ذلك النصيب لابنه الذي رفع عليه دعوى السفه؛ فزاد هذا من إكبار الناس لزكريا ومن احتقارهم لعدلي. على أية حال لم يكن هذا الغنى سببا يجعل راوية تنفق المال فيما لا يفيد؛ فهي تقدر أن ابنتها التي جاءت بها والتي لا تنوي أن تجيء بغيرها لن تغفر لها تبديد أموال أبيها. وقد كانت ابنتها هالة هي كل شيء في حياتها.

فما دامت حياتها قد خلت من الزوج فلا أقل من أن تعمرها لابنه.

وهكذا استطاعت رواية أن تتواءم مع حياتها وتقبلها، وتخلق فيها المتعة التي حرمتها بزواجها من هذا الأبله.

وقد كان عدلي خليقا أن ينعم بحياته هو أيضا، فهو يستطيع دائما أن يجد أصناف الطعام التي يطهوها، ويستطيع دائما أن يجد مجالس النساء ويشاركهن الحديث. كان يستطيع هذا جميعه ولكن قضية أبيه حطمت كل المتع التي كان يستطيع أن يخلقها لنفسه. لقد وهم أن القضية ستحطم سمعة أبيه، فإذا هي لا تمس أباه في شيء، وإنما تحطم حياته هو تماما.

لقد وجد نفسه بين أصدقائه مجال سخرية لاذعة ، كانوا يخفونها عنه فأصبحوا يبدونها، بل لقد وجد السيدات من صديقات أمه يشحن عنه بحديثهن. حتى لقد أحس فجأة أنه لا يجد في حياته شيئا أو إنسانا، زوجه لا تحدثه إلا بصيغة الأمر، وهو بأوامرها هذه مطمئن أن شئون البيت لا تحتاج منه إلى رعاية.

ولكن هو؛ هو عدلي ماذا يصنع بحياته؟ إن أموال أمه كلها عمارات؛ فهي لا تحتاج إلى إدارة، وإنما هي الدائرة يذهب منها موظفان كل شهر يجمعان الإيجارات ثم لا شيء بعد ذلك، وهو يذهب إلى دائرة أمه كل يوم ولكن بلا عمل.

تاه عدلي في الحياة، وتاهت به الحياة. لا يرافقه في التيه الممتلئ بالحسرة إلا صديقه عزت بهادر. لعلك لا تذكره، فقد مر ذكره عليك مرورا لا بريق فيه ولا إمعان.

وماذا بي أن أمعن عنده النظر، والحياة نفسها خلقته في عجلة، فلم تجعل له عمقا يقف عند محب للتعمق؟

إنه ابن خالة خديجة، وكان طبيعيا أن تقوم بينه وبين عدلي هذه الصداقة التي تجمع السخفاء والضائعين في مواكب التفاهات، يزيدهم الغنى تفاهة ولا يستر عليهم حقيقة أمرهم. ومن عجب أن تصحب فضيحة عدلي مع أبيه فضيحة لعزت في الدوائر التي تحيط بهما.

كان عزت على صلة بسيدة طلقت حديثا من زوجها، وأعجبها جمال عزت، وربما أعجبها أيضا فراغه. فالسيدات في أحيان كثيرة يستطعن أن يعجبن بما لا يعجب به آخرون. ولم يكن عزت في صلته بهذه السيدة يطلب منها وفاء أو ولاء، فلقد عرف أنها اتصلت بعد أن عرفته بباشا عجوز أرغمته ظروف خارجة عن إرادته أن يعمل في الحياة السياسية؛ فإذا هو يتصدر منصبا خطيرا وليس له في نيل منصبه سابقة فضل، ولا عرف عنه الذكاء، لا قدر الله، وإنما هو منصب يتمنى كل حزب أن يكون شاغله من أعضائه. وحتى لا يزيد هذا المنصب الخلافات بين الأحزاب استقر الرأي أن يشغله شخص لا ينتمي إلى أي حزب، ولا يعرف عنه أنه يميل إلى حزب بعينه. وبين شخصيات مصر جميعا لم يكن هناك إلا عبد المحسن باشا وفيق؛ فشغل المنصب.

وتعرف في إحدى الحفلات بنجاة طلبة، وفي خبرة أدركت نجاة أنه طلبتها؛ فعزت وإن يكن غنيا إلا أن غناه ليس بالقدر الذي يتيح لها أن تنال ما تشاء، أما عبد المحسن باشا فغناه لا نهاية له.

كان الباشا في السبعين من عمره، وحين خرج من هذا الحفل كان موعد لقائه بنجاة قد تحدد.

والتقيا.

كانت نجاة حاملا منذ لقائها الأول بالباشا، وكانت قد أخبرت عزت أن يحدد موعدا مع طبيب يعرفانه ليخلصهما من الجنين في شهره الأول، ولكن بعد أن تعرفت بالباشا اتجه رأيها إلى تفكير آخر. - أنت لا تعرف منذ متى وأنا أحبك. - هل كنت تعرفينني؟ - ومن في مصر لا يعرف عبد المحسن باشا وفيق؟ - لم أكن أتصور أن سيدة في جمالك تحب رجلا في ... - لا تكمل! إن أجمل سيدات مصر يتمنين منك نظرة. - أنت تبالغين؛ إنني رجل عجوز. - عجوز؟ أنت عجوز؟ فليسألني من لا يعرف وأنا أدله على الخبر اليقين. - فأنت ترين أنني ... - شاب في العشرين؛ صحة تأكل الحديد، ولكن هناك شرط. - اؤمري. - تحتفظ بهذه الصحبة لي أنا وحدي. - أنت تعرفين أن زوجتي ماتت. - وأنا من أين أعرف، ربما لك زوجات أخريات تخفيهن. - زوجات بالجمع؟ - صحتك هذه لا يكفيها عشر نساء. - طمأنك الله. - احلف. - أحلف. - أنا لا أصدقك. - لا تصدقين يمين الباشا؟ - أنت معي لست الباشا، إنك هنا الولد الشقي الذي لا أضمن كلمة من كلامه. - وماذا تريدين حتى تضمني؟ - هناك حكاية لم أتأكد منها، إذا تأكدت سأخبرك ما الذي أريده. ••• - اليوم لا بد لنا من حديث. - أنا تحت أمرك. - لا بد أن نتزوج. - ماذا؟ - لا شك أنك سمعت. - لماذا؟ - أولا هذا هو الوضع الطبيعي. فأنا سيدة مطلقة، وأنت مهما تكن فأنت غريب، ومقابلتي لك ستثير الأقاويل. - ولكن مركزي .. ماذا سيقول الناس إذا أنا تزوجت؟ - أتخاف أن يقال تزوج بسنة الله ورسوله ولا تخاف أن يقال اتصل بسيدة عن غير طريق مشروع؟ - ولكن .. ولكن. - ولكن ماذا؟ أنا لست من أسرة بسيطة . - هذا مؤكد، فأنا أعرف المرحوم والدك، وليس هذا هو الاعتراض مطلقا، إنما أخشى أن يضحكوا من رجل في السبعين. - سنك هذا شأني أنا وحدي، وأنا وحدي التي أعلم حقيقة سنك حين تخلو بنا الحجرة. - يا حبيبتي. - ومع كل هذا فأنا لم أقل لك الخبر المهم. - وهناك أيضا خبر مهم. - إني حامل! - ماذا؟ - الذي حصل.

لقد عشت مع زوجتي أكثر من خمس وأربعين سنة ولم أنجب منها فأرا. - ولكنك في شهور قلائل ستنجب مني طفلا، وإني واثقة أنه سيولد بهذه الشوارب التي تحلي وجهك، والتي يرسمها رسامو الكاريكاتير بدلا منك. ويقهقه الباشا من فرح أو من سعادة أو من النكتة؛ فقد اختلط عليه الأمر ولم يعد يدري.

ويعود إلى الجد لحظة. - ولكن اسمعي .. اسمعي. - قل. - ألا يحسن أن يكون الزواج عرفيا؟ - ولماذا؟ - أنت تعرفين أن ثروتي كبيرة والطامعون فيها كثيرون، وإذا عرفوا أنني تزوجت سيرفعون دعوى سفه علي، إذا كان الولد الأهبل عدلي رفعها على أبيه وهو أبوه، وإذا كانت دعوى السفه رفعت على زكريا باشا عبقري السياسة والقانون؛ ألا ترفع علي؟ أما الزواج العرفي المستور فأنت تنالين به حقوق ابنك. - بعد الشر. - اسمعي الكلام، ومع ذلك لا يشعر به أحد. - أنا موافقة.

وتم الزواج بشهادة عبود عبد القادر السفرجي، وسمهان عبد المولى السائق.

واستطاع الحمل بعد ذلك أن يظهر للعيان في غير خجل، وقد أصبح هذا الحمل مزحة صويحبات نجاة تشاركهن السخرية منه، كما أصبح حديث الدوائر التي لا عمل لها إلا الحديث.

وعدلي وعزت يضحكان مع الضاحكين.

وقبل أن يفرح الباشا بقدوم ابنه انتقل إلى العالم الآخر، وانفجرت قضايا الميراث.

والعجيب أن الطفل جاء نسخة طبق الأصل من عزت، فقد أبت السماء أن تشارك الخاطئين في جريمة اختلاط الأنساب. والأعجب أن عزت أصبح هو الذي يدور مع نجاة عند المحامين ليتمكن من إثبات بنوة ابنه إلى رجل آخر، ولكن شهادة الميلاد على كل حال قد كتبت اسم الطفل وجدي عبد المحسن وفيق. وذهبت الشهادة في طريقها القضائي، واستمرت علاقة عزت بوضعها هذا العجيب واستمرت معها القضايا توشك لا يبين لها نهاية، فالثروة ضخمة، وأبواب الطعن والتلاعب بالقانون هيهات أن تعرف حدا تقف عنده.

وهكذا أصبح عزت مثل عدلي سخرية الساخرين، فما بعجيب أن توثق بينهما الصداقة، وكلاهما غني وكلاهما فارغ بلا عمل.

في هذا الفراغ وفي هذا الشعور من كل منهما أنهما يعيشان الحياة، ولا يعيشانها، بدأ ذهابهما إلى السباق يكون منتظما، وبدأ أيضا جلوسهما إلى مائدة القمار يكون يوميا.

ويحدث ما لا يتوقعه أحد؛ تحاول راوية أن تمنع زوجها من اللعب، فإذا هي ولأول مرة تواجه من عدلي عصيانا.

كيف استطاع أن يعصي؟ لم يكن القمار قد تمكن منه إلى درجة الإدمان، ولكنه أحس فجأة أنه يجب أن يعصي. ويحدث شيء آخر لا يتوقعه أحد؛ لقد بدأ عدلي يتوارى بقبحه في جمال عزت، ويبحث عن النساء ويحاول أن يتعرف بهن، فإن رفضته واحدة لا تطيق قبحه قبلته أخرى يغريها ماله.

ليس لعزت زوج ولا ولد رسمي؛ فهو حر يفعل بماله ما يريد، أما عدلي فله ابنته وله زوجته، إن ذهب عنه هذا المال فأي مصير يمكن أن ينتظرهما أو ينتظرانه؟

أصبحت راوية تنظر إلى الحياة في هلع، وأصبحت فجأة تتمنى أن تعود إلى حياة الملالة، ولكن ما زال هناك أمل يمكن أن تلجأ إليه. وما لها لا تحاول؟

الفصل الحادي عشر

أصبحت سهير ممدوح حرم الباشا رسميا، وتصدرت بيت زوجها، وأحست بمكانها هذا الجديد وخشيت العيون الرواصد حواليهما، سواء كان ذلك في المنزل أو في خارجه، فأمرها اليوم وهي الزوجة الرسمية التي تصحب الباشا في كل مجتمع غير أمرها في بداية الزواج يوم كانت تتستر عن العلن. لقد كان شعورها يومذاك يغريها بهذه الصلة التي أتاحتها لراشد، فقد كانت تحس أنها عشيقة وليست زوجة، أما اليوم فالوضع مختلف كل الاختلاف، وما دامت هذه الصلة بينهما وبين راشد قد مرت لم تلكها الألسنة فالحمد الله، وأصبح لا بد لها أن ترعى مكانتها الجديدة ومستقبلها.

ولهذا لم تجد بأسا أن تلبي دعوة راشد لزوجها إلى العشاء، ولم تجد بأسا أن توطد صداقتها بخديجة. وبطبيعة الحال وجدت شهيرة في اسم زكريا باشا ذلك الطنين الذي تهواه، فسعت إلى صلتها هذه بسهير تزيدها ثبوتا ورسوخا، وقد وجدت سهير فيها خير صديق؛ فهي تماما التي تصلح لصداقتها، فإن تكن الثقافة والقراءة والاطلاع قد أفسدت عقل خديجة وجعلتها في جلوسها إلى السيدات تبدو غريبة، وإن بذلت غاية الجهد أن تبدو موائمة مع الجلسة؛ فإن شهيرة سيدة كما يجب أن تكون السيدات التي تحبهن سهير؛ حكايات الآخرين والتعليقات الخبيثة أحيانا والفاجرة أحيانا أخرى والذكية الطريفة غالبا.

كان أقصى أمل تسعى إليه سهير أن تأتي لزوجها الشيخ بمولود، وقد سألت الأطباء فوجدت أن ما تحلم به أمر يمكن الحدوث.

وهكذا ازدادت صلتها بشهيرة توطدا، فهي رفيقتها إلى كل المظان التي يمكن أن تحقق أملها، وحذار أن توحي إليك هذه الجملة بتفكير غير شريف؛ فهي فعلا تريد مولودا لزكريا على أن يكون زكريا أبوه، فهذه المظان هي الأطباء غالبا، وفي أحيان قليلة تكون هذه المظان بيوت الله؛ تتلمس البركة عند المشايخ الأطهار وآل البيت. وفي مرة واحدة صحبتها شهيرة إلى أحد السحرة ولم تكررها؛ فقد خشيتا أن يغضب الباشا إذا علم.

وكان حمق شهيرة سببا رائعا لتكون زيارتها للأطباء طبيعية، وكانت صداقتها لسهير تجعل رفقتها بهذه الطبيعة نفسها.

وقد دلت بعض دلائل لا تكفي للتأكد أن أمل سهير وشيك التحقيق. •••

كانت راوية تريد أن تقصد إلى سهير مباشرة ولكنها لا تعرفها، وقد خشيت من لقاء خشن ستكون سهير معذورة فيه بعد الذي فعله عدلي مع أبيه.

ولم تفكر راوية كثيرا وإنما قصدت إلى خديجة؛ فهي تعرف حسن مدخلها للأمور وذكاءها وحكمتها عند التقدير. - مطلب غريب سأطلبه منك. - على كل حال أنا لست غريبة، وتستطيعين أن تطلبي مني ما تشائين بلا استثناء. - حتى ولو كان مطلبا شاذا؟ - إن لم تقصدي صديقتك المخلصة بالمطلب الشاذ فمن تقصدين؟ - أريد أن أصلح ما بين عدلي وزكريا باشا. - أرى مطلبك حكيما وعاقلا ، بل ورائعا أيضا. - أنت تعرفين أن عدلي انغمس في القمار، وقد فشلت معه كل وسائلي، ويخيل إلي أن شعوره بغضب أبيه عليه هو الذي يجعله يندفع هذا الاندفاع. - اسمعي، إن تفكيرك كله صائب، ولكن لي رأيا. - قولي. - أنا سأسافر غدا إلى الحجاز مع الباشا لنحج، ولن يتاح لي أن أقابل زكريا باشا إلا بعد عودتي، ولكن لي رأيا. - وما هو؟ - ما سبب خلاف عدلي مع الباشا؟ - زواج الباشا. - سأترك الحقائب وأنزل معك الآن إلى سهير أعرفك بها، وسترين أنها تستحق كل خير. - أتظنين ذلك؟ - هلمي بنا. •••

كانت سهير جالسة مع شهيرة، وأصبحت كل دقيقة تمر على سهير دون أن يحدث جديد فيها يدنيها من أملها، وكانت السيدتان تتوقعان أي زيارة إلا أن تكون راوية.

ولكن سهير سيدة تعرف كيف تستقبل من يأتي إلى بيتها، حتى وإن لم يكن متوقعا، بل حتى وإن لم يكن كريما معها.

قالت راوية: أظن يا سهير هانم لم تكوني تتوقعين هذه الزيارة مني. - على العكس، كنت أتوقعها من زمن بعيد.

وقالت شهيرة: طالما قلت لك إن سهير مندهشة أنك لم تأتي إليها. - كنت خائفة يا سهير هانم. - أظن هانم هذه ليست في محلها. - أنت مكان حماتي. - ولكني أقاربك في السن، ونحن أقارب، وقد فرحت بهذه الزيارة فرحا لا تستطيعين أن تتصوري مقداره؛ فقد كان بعد ابن الباشا وبعدك عنه ينغصني دائما، وليس له في الدنيا إلا أنت وزوجك. - البركة في حضرتك. - أنا لا أستطيع أن أعوضه عن ابنه وزوجة ابنه التي هي في مكان ابنته، وحفيدته التي لم يرها حتى الآن.

وقال خديجة في ذكاء لبق: يا أختي لقد أحضرتني بلا مناسبة. لا لزوم لي في هذه الجلسة أبدا. - لم أكن أعرف أن سهير هانم ...

وقالت سهير مقاطعة: هيه؟! - سهير لطيفة إلى هذا الحد.

وقالت خديجة: وعرفت أروح أنا لأكمل حاجات السفر.

وقالت شهيرة: حج مبروك يا ستي، والله لولا الذي أحمله لذهبت معك.

وقالت خديجة: فلماذا لا تأتين أنت يا سهير، وها أنت لا تحملين شيئا؟

وقالت شهيرة في تخابث مقصود: وكيف عرفت؟

وقالت خديجة في فرحة مندهشة: ما هذا؟ أصحيح هذا الكلام؟

وأطرقت سهير، وقالت شهيرة: ولماذا يا ستي، ألسنا مثل الأخريات؟

وتحمست خديجة: ردي يا سهير، صحيح هذا؟

وقالت سهير في جمجمة: والله أخشى أن أقول نعم وأنا لم أتأكد بعد. - يا أختي قولي نعم ولا يهمك. ألف مبروك.

وقالت راوية في فرح صادق، فهي تتمنى أن تنجب سهير؛ فوجود طفل لها سيجعلها تزداد حبا لابنتهما هالة: ربنا يجعل دخلتي عليك مبروكة إن شاء الله، ولو كانت غيرك، وأنت أول مرة ترينني فيها، لظننت أنني فرحانة من وراء قلبي، وأنني كنت أتمنى أن يفوز زوجي بثروة أبيه، ولكن المال والحمد لله كثير ولا ينقصنا، وليس لنا إلا هالة، ولا ننوي أن نجيء بغيرها، وكم أتمنى أن يأتي لها منك عم قريب من سنها، فيصبح لها كأخ من دمها ولحمها تستطيع أن تعتمد عليه! وفرحي بهذا الخبر فرح واحدة أحبتك من أول زيارة، وفي نفس الوقت تريد أخا لابنتها، فصدقيني أنا فرحانة. - يعلم الله يا راوية لقد صدقتك، وأنا لم يكن يهمني أن يكون المولود ولدا أم بنتا، ولكن بعد الذي قلته أصبحت أتمنى أن يكون ولدا. - سأدعو لك عند شباك النبي إن شاء الله يا سهير، وسيكرمك الله بإذن الله.

أفوتكم بعافية.

هل أرسل لك السيارة يا راوية؟

وردت سهير: سيارتنا ستوصلها، لا تحملي هما. •••

حين قصت سهير على زكريا باشا ما حدث: ألم تعرفي إن كانت جاءت بعلم عدلي أم بغير علمه؟ - هي لم تقل، ولكن الذي أتصوره أنها لم تقل له. - أنا أمامي حل واحد. - ما هو؟ - أنا أستطيع أن أعين عدلي في وظيفة خارج القطر. - خارج القطر؟! - نعم، مثل فرنسا أو سويسرا؛ فهو مهندس، وعليه أن يمارس هذا الذي تعلمه في المدارس، ليحس أنه يصنع شيئا في الحياة. - ولكن يا زكريا إن له ابنة، فكيف يكون الأمر؟ - هذا ما أريد الكلام فيه. - ماذا تريد؟ - أريد أن أربي أنا البنت . - وما له! - أنا أعرف أنك تتمنين طفلا، وحفيدتي عندك ستكون مثل ابنتك. - أنا أريد أن أربي حفيدتك لأنها حفيدتك، لا لأني أريد طفلا. - وما البأس أن تجمع هالة بين صفتين؛ حفيدتي وابنتك في وقت واحد؟ - أنا عندي طفلي ولست ... - ماذا؟ ماذا قلت؟ - كنت أريد أن أتأكد قبل أن أقول لك، ولكن ليس من المعقول أن تعرف صاحباتي وأنت ... - هل أنت جادة؟ - وهل يمكن أن أهزر في مثل هذا؟! - وهل أنت متأكدة؟ - أكاد.

وجم زكريا باشا وجلس مفكرا. - ماذا يا زكريا؟ أكثير علي طفل منك؟ - يا سهير فكري في الحكاية. ما هذا الكلام الذي تقولين؟ - والله أنا زعلت. - يا بنتي لقد ظلمتك حين تزوجتك، وبهذا الطفل يكون ظلمي لك قد تضاعف. - وهل شكوت لك؟ - سهير، أنا لا أحتاج أن أسمع منك شكوى حتى أعرف الحقيقة. - الحقيقة أنك تخاف أن يغضب عدلي إن جئت له بأخ، فأنت مهما يفعل بك تحبه. - اسمعي يا سهير، عدلي أنا ظلمته لأني شغلت بنفسي وبالسياسة، ولم أعن أقل عناية بتربيته؛ ولهذا أنا أشفق عليه. أما الطفل الجديد فأنا أحبه أكثر من عدلي، لأني لن أرى منه ما رأيته من عدلي، حتى لو أصبح في خلق عدلي فإن الحياة لن تتيح أن أرى منه شرا. أما تفكيري الذي رأيته ووجومي فهو أنني أهملت ابني الأول بزحمة الحياة، وها أنا ذا سأهمل ابني الثاني بفعل الموت. - زكريا، ماذا تقول؟ - لقد جاوزت الخامسة والسبعين يا سهير، فكيف يمكن أن تتيح لي الحياة تربية ابن ما زال جنينا في عالم الغيب؟ - أهذا ما يحزنك؟ - ومع ذلك فأنا لست حزينا؛ ففرحك بطفلك يجعلني فرحا به أنا أيضا. كل ما في الأمر أنني أفكر، أعجب على رجل في مثل سني أن يفكر؟ - اتركها على الله يا زكريا. - إن الله سبحانه لديه الكثير الذي يشغله، هل كان لا بد لرجل مسن أن يشغله هو أيضا بطفل يأتي به وهو في آخر العمر؟ - لا تحاول أن تفكر لله أيضا يا زكريا. - أستغفر الله العظيم . - أستغفر الله العظيم.

الفصل الثاني عشر

لم يكن ذهاب راشد إلى الحج خطرة عابرة، ولكن الحقيقة أنه مع كل العربدة التي صخبت بها حياته مؤمن عميق الإيمان، وهو منذ تزوج استطاع أن يجعل من خديجة أنسه الصاخب حين يشاء، وزوجته حين يقتضي الأمر، فهو تائب.

وحين أتى إليه أسامة أراد أن يقفل من كتابه صفحات يخشى في فترات ملل أن يغرى بفتحها ويعود إليها.

فصحب خديجة واتجه إلى بيت الله، واستلم أركان الكعبة، وتغشاه ذلك الرهب الأمين الذي يعرفه من يعرفون الله، وانسربت من عينيه الدمعات، والتفت إلى خديجة تظلها صفحة البيت الحرام، فرأى في وجهها الخشوع حيا فواحا بأريج من العطر، حسب للحظات أنه يراوحها من سموات صاحب البيت، واستغفر الله وأطرق. وظلت هي رانية العينين إلى الكعبة يوشك من يراها أن يظن أنها تستشف من وراء الأشياء وجه عزيز كريم.

طافا وأديا مناسك الحج، وانتقلا إلى بيت النبي، وما إن وقف في رحابه راشد حتى ذهل عن الدنيا وتولته خفقة أرعشته؛ فإذا هو بكاء وبكاء، يكاد جسمه يستحيل إلى عبرات، وارتمى على أعتاب النبي كأنه صديق قديم يلقي بنفسه إلى أحضانه، وراح يصيح: هذا مكان الخطائين يا رسول الله فاشفع، اشفع فربما أخطأنا لتشفع.

وأحست خديجة أن بينها وبين النبي سببا؛ فهي سمية حبه الأول، وحضن رسالته الدفيء، وهي منذ عرفت الحياة تركع في إيمان وتسجد في صدق مع نفسها ومع الله. إن القبر الذي أمامها يضم من الدنيا أحب الدنيا إليها، ويضم من الآخرة وسيلتها إلى أجمل ما تعد به الآخرة من لقاء وجه الله.

نسي راشد أن بجانبه زوجته، بل نسي أنه زوج، ونسي أن له ابنا ينبغي أن يدعو الله له في هذه السدة الزكية.

ونسيت خديجة أنها في صحبة زوجها، بل ذهلت عما يحيط بها، ونسيت وهي الأم ابنها.

حتى إذا هدأ بعض الروع من الزوج والزوجة أشار المطوف في هدوء صوته، وكأنه أمر عادي ليس له ما له من جلال وسمو.

هنا كان ينزل الوحي على رسول الله.

وانتفض راشد وكأنما مسه المس. هنا، هنا التقت السماء بالأرض، أكرم سماء بأكرم من في الأرض في آخر لقاء عرفه الكون. هنا انقلبت موازين العالم من الجبروت إلى المساواة، ومن العزة بالإثم إلى عبادة رحمن السموات والأرض، ومن الفجور إلى العفة، ومن الوهم إلى الحقيقة، ومن عبث الحياة والموت إلى مجد الدنيا والآخرة، ومن الحضيض إلى القمم الشامخات. ارتمى بجانب مكان الوحي وراح ينظر إليه في خشوع وحب، ثم استجمع وقام فصلى صلاة لله، وحين ختم الصلاة أفاق إلى خديجة تنهي صلاتها هي أيضا.

لقد زار راشد العالم أجمع، ولكن شيئا لم يزلزل كيانه جميعا كما زلزل في رحاب الله وفي حضرة النبي الأعظم، ليس متصوفا وإنما هو مؤمن، فما هذا الذي لقف نفسه جميعا وهزها، فانتفضت كشجرة في بواكير حياتها تناوحتها ريح عاتية تقتلع شم الأشجار وعواليها، ولكن العجيب أنه أحس شجرته ازدادت ثبوتا في سموات الإيمان وفي أحضان الخلود.

أحس أنه يريد أن يذوب تخشعا وحمدا لله أنه مؤمن، فبهذا الإيمان تفجرت في نفسه هذه الإشعاعات النورانية فعانق نوعا علويا من السعادة، لم يعرفه في أية لحظة من لحظات حياته، عربيدة كانت هذه اللحظات، أم لحظات مؤمنة قانتات.

مساكين أولئك الذين لا إله لهم ولا دين ترسو على شواطئه الآمنة الجازعات من أيامهم، والهالع من مضطرب حياتهم، يقطعون حياتهم هباءة هائمة، تقطعت أواصرها بأصولها، وانعدمت طرقها إلى المستقبل، لا تدري من أين ولا تدري إلى أين، باختيارها ألقت بنفسها إلى الضياع، فشمل الضياع ماضي حياتها ومستقبلها وما بعد المستقبل.

ودع راشد وخديجة الأراضي المقدسة، واستقبلتهما على الباخرة جماعة من الأصدقاء.

وحين استقر بهما المقام في بيتهما بالقاهرة أقاما حفلا كبيرا، دعوا إليه من تعودا أن يدعوهم، ولكن الرهط المدعو فوجئ بشيئين، لو لم يكن الداعي هو راشد لكانت المفاجأة أعظم وطأة وأشد غرابة؛ لقد أقام راشد بمناسبة حجه وحج وزوجته إلى بيت الله الحرام حفلا غنائيا أحيته أم كلثوم، والأعجب من ذلك أن الخدم داروا في الحفل بكئوس الويسكي والكونياك وكل ما تعود راشد أن يقدمه في ولائمه، الشيء الجديد الوحيد الذي خجل أن يعمله في يومه هذا أن يشارك أصدقاءه في شرب الخمر.

الفصل الثالث عشر

انقلب زكريا باشا إلى إنسان آخر بعد أن وهب الله له يحيى، وجاءت حفيدته هالة لتعيش معه بعد أن سافر أبواها إلى سويسرا، ليعمل عدلي مهندسا في شركة عالمية للكهرباء.

لم يصبح زكريا باشا ذلك الرجل الوقور الذي لا ينطق كلمة إلا بعد أن تمر بمئات المرشحات في عقله الكبير وثقافته الواسعة، التي جمعت ثقافة السياسة والقانون والأدب والمجتمع جميعا في بوتقة واحدة، هي رأس ذلك الرجل.

أصبح الآن لا يغادر بيته فرحا بعبط الطفل الوليد، وسذاجة الطفلة التي تتحطم على شفتيها الكلمات.

والأعجب من ذلك أنه حين يجلس في مجتمعه لا يفوته أن يذكر شيئا من ضحكات ابنه أو بكائه، وشيئا آخر من انقلاب الكلمات إلى ألغاز على لسان حفيدته.

أصبح الرجل الذي لم يهتم بابنه في بواكير الشباب، فجعله يخرج إلى الحياة مثقفا ثقافة امرأة جاهلة أو ثقافة أمه على أكثر تقدير؛ يحاول اليوم أن يثقف ابنة هذا الابن أعظم ثقافة، بل إنه في تعجله للأيام وفي خشيته أن تعاجله بالنهاية قبل أن ينفذ لابنه وحفيدته ما يهفو إليه، راح يحاول محاولات تدعو إلى السخرية أن يثقف يحيى نفسه وهو على كتف أمه أو كتف مربيته.

ويوم تصبح سن هالة صالحة لأن تذهب إلى المدرسة، يذهب هو شخصيا معها إلى مدرسة السكركير، وتشعر الراهبات بأهمية الطفلة عند جدها، ويقصد هو أن يؤكد هذا الشعور، فيذهب بعد ذلك كل أسبوع ليكون على متابعة تامة لتقدم حفيدته في الدراسة.

وتدرك سهير أن في إرضائها لهالة إرضاء للباشا فتحرص على أن تدللها دائما. ولم تكن سهير غبية، فلا يفوتها أن تجعل الطفلة تخاف جدها حتى لا تكون حياتها كلها تدليلا، ويحمل الباشا مسئولية التأديب بقلب خافق، ولكنه يدرك أنه لا بد من ذلك لتكون هالة كما ينبغي لها أن تكون.

ويوم يصبح يحيى صالحا للذهاب إلى المدرسة يقضي الباشا ليلة بيضاء، فلا يزوره النوم حتى بواكير الصباح.

لقد عاش حتى دخل يحيى إلى المدرسة، فما الذي يخبئه الغد لهذا الطفل؟ وأي مصير يلقى إليه إذا هو ذهب إلى لقاء ربه قبل أن يشب الطفل ويصبح جديرا بمواجهة الحياة مواجهة جديرة بالحياة وبإنسان الحياة؟ لقد كان شبح عدلي يخيف زكريا باشا، فهو يخشى أن يصبح الأخ مثل أخيه، بل أشد ما يخشاه أن يصبح عدلي مسئولا عن يحيى ويحيى يعد قضيبا لينا يسهل تشكيله، وويل ليحيى إذا شكله أخوه على شكله هو.

إن سهير طيبة سمحة النفس، وقد ينفع هذا في أن يجعل يحيى نقي الضمير قريبا إلى نفوس الناس، ولكن هذا بالتأكيد لا ينفع يحيى في أن يكون مثقفا؛ فليست سهير على شيء من الثقافة. ليتها كانت مثل خديجة! إن راشد لا شك مطمئن على ابنه، فقد جاء به وهو في سن باكرة، ثم هو لا يخشى عليه الغد إذا اختار هذا الغد أن يسلك راشد طريقه إلى الله. طالما نادينا بأهمية تعليم المرأة وظنوا بنا الظنون، وحسبوا أننا بما ندعو إليه نحاول أن نتقرب إلى الغرب في عماية ودون نظر إلى ديننا وتراثنا، وأنا لا أعرف في الدين شيئا يمنع تعليم المرأة، بل إن ديننا أول دين جعل لها كيانا وذمة مالية مستقلة عن ذمة الزوج.

أهذا وقته؟ من ليحيى في غده؟

لقد جاوزت العمر، وأنا أعلم أني اليوم أقف على مشارف الجانب الآخر من الحياة.

أرأيت؟ لا يستطيع العقل أن يحل كل المشاكل، لا بد من هذه الغرفة المضيئة من الإيمان لنحيا بها، فلولاها لجزعت أيامي كلها، وقضيت ما بقي لي من الحياة مجنونا ملهوفا على مستقبل ابني هالعا من الغد، وحينذاك أبدد أيامي الباقية في الخوف، ويسلمني الخوف إلى سوء الرأي. ليس لي إلا أن أكل الأمر إلى الله، والموت والحياة بيده، وبهذا الموت أو الحياة يتحدد مصير ابني يحيى وحفيدتي هالة. إذن ، فهل نحن مخيرون أم مسيرون؟ نحن لا نتحكم في مولد أو موت، وإذن؟!

ما بين هذين نحن فيه مخيرون، ومصير يحيى ألا يرتبط ارتباطا وثيقا بموتي وحياتي؟ أهو بعد هذا مسير أم مخير؟

لقد اخترت أنا أن أجيء به وأنا في هذه السن، وهذا في ذاته اختيار، ثم حين يشب عن الطوق هو مخير فيما يفعل، أهو مخير أم تحكمه تربيته، وكيف سار نهجه في الحياة، وكيف رباه من رباه، ولكن الذي رباه أيا كان سواء كنت أنا أم كانت أمه أم كان أخاه قد اختاروا له الطريق، فالاختيار إذن يحكم حياته، سواء كان ذلك اختياره هو أم اختيار من أشرف على نشأته. لا يعقل أن السماء وهي العدل المطلق تجبر الإنسان ثم تحاسبه، لا محاسبة إلا مع الاختيار، وبهذا يختلف جبار السماوات والأرض، وهو العدل في قمم العدل الشامخة، وبين الجبارين في الأرض الذين ينزلون حكمهم على من لا يملكون الاختيار.

أجبر واختيار ومدرسة يحيى غدا، وأنا لا أدري ما مصيره وما مستقبله؟

إنني تاركها إلى الله، وهل بيدي إلا أن أتركها لله؟

ومن يدري لعل يحيى ... أعوذ بالله! ليس لي غير الله. أنا لم أقصر. ولكنني قصرت؛ أتزوج في هذه السن وآتي به أيضا ثم أزعم أنني لم أقصر!

لقد أخطأت. وابني - لهفي عليه - هو الذي سيتحمل الخطأ لا أنا.

أخطأت مع عدلي حين أهملت شأنه.

وأخطأت مع يحيى حين جئت به. وحسبي الله!

ولكن أكنت أملك ألا أجيء به؟

طبعا.

وأمه؟

ما شأنها؟

ما ذنبها؟ إنها شابة وتريد أن تصبح أما.

فليكن إذن أبو ابنها غير هذا الكهل الذي هو أنا.

الخطأ يبدأ يوم تزوجتها.

إذن.

لا سبيل لي إذن. لقد أخطأت وعلي وحدي - يا ليت علي وحدي - يقع العبء، وإنما ولدي هو الذي سيحمل العبء، ولا ذنب له فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الفصل الرابع عشر

نظرت شهيرة إلى ابنتها طويلا. لم تكن تدري لهذه النظرة سببا، وإنما هي ألقت عينها على بهيرة ثم ثبتتها ، يحسب من يراها أنها نظرة بلهاء خالية من أي معنى، إلا أن نظرها اتجه إلى هذا المتجه ثم شرد ذهنها وهي في هذه اللحظة، ولكن لو انزاحت عن الإنسان فيها ما يتغلف به الإنسان من أسرار لرأينا في جوانحها هلعا على ابنتها، أو إذا شئت الدقة في التعبير - وما لك لا تشاء، ما دمت قد التزمت أنا أن أقص عليك، وأن أكون دقيقا حين أخاطبك - كان هلع شهيرة على نفسها لا على ابنتها. لقد قبلت زواجها من سامي وحسبت أن الزوج بلا شخصية هو أصلح زوج لها، ثم ما لبثت أن تبينت أن الزوج بلا شخصية لا يصلح للحياة مطلقا؛ فهو ما يلبث مع الأيام أن يصبح شيئا بلا طعم ولا لون ولا رائحة، قد يكون مريحا لزوجته، ولكنها تلك الراحة التي تسعد بها المرأة من خادم في البيت، وتشقى بها غاية الشقاء من زوج يفترض المجتمع أن يكون هو السيد.

وسامي مسكين، لا يستطيع أن يكون سيدا أبدا، فالسيد لا بد أن يكون مهيأ بخلقه الشخصي، أو بما له، أو بهما جميعا.

يمكن أن يكون السيد سيدا أو رجلا ذا وجود، إذا كانت الطبيعة قد وهبت له هذا السر العجيب الذي يجعل الإنسان معتزا بأنه إنسان، وبأن الله كرمه على العالمين؛ فلا ينبغي له أن يذل الإنسان الذي كرمه الله فيه.

يمكن أن يكون رجلا ذا وجود إذا استطاع أن يروض أقدامه أن تسير على هذه الشعرة الواهية، التي تفصل بين الإنسان الذي يحافظ على كرامته، وبين الإنسان التافه الذي يحاول أن يحجب تفاهته بغروره.

وتلك موهبة ينميها البيت والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وليس من الحتم أن يكون المرء غنيا لتنمو هذه الموهبة، وإنما من الحتم أن يكون هذا الإنسان نابتا بين أناس يعرفون كيف يكرمون أنفسهم، وكيف يكونون كراما على الناس؛ يستغنون عن الغنى بالعفة، وعن الغرور بلين الجانب وحسن المعاشرة.

وقد يستطيع المال أن يحجب عيوب الشخصية المتلاشية، ولكن قليلا ما يحجبها، ثم ما يلبث الأقربون أن يدركوا الحقيقة، ويسقط حجاب المال، وتبقى الشخصية الزائلة.

وكان سامي يجمع بين الشخصية الضائعة وبين قلة المال، وابتكر لنفسه أيضا عدم العفة؛ فهو يريد أن يلبس أحسن ملبس ويأكل أحسن مأكل، ولا يجد حرجا من نفسه ولا من كرامته أن يلقي بهذا الثقل أيضا على زوجته، غير مكتف أنها تقوم بشأن البيت وحدها.

وقد يكون عيب سامي هذا شيئا لا يصيب إلا خاصته الأقربين ومن يلاصقونه في الحياة، ومن أقرب إليه من زوجته؟ ومن ألصق به منها؟! ولكن ألا يكفي أن يصاب منه هؤلاء؟ وما الناس جميعا إذا كان هؤلاء لا يكنون له الاحتقار؟

حين تسقط قيمة الزوج عند زوجته يصبح كل شيء لها مباحا. ربما تكون شريفة الجوهر، وربما تكون هي نفسها أبية تنأى بشرفها عن الألسنة اللاهية التي تتميز بالمجتمع؛ لتجعل السر فيه جهرا، والخفي علنا، والخبيء شهيرا، والمستور مفضوحا.

ولكن زوجا كزوج شهيرة كفيل بأن يجعلها تنتقم منه، حتى ولو كان عرضها هو أداة الانتقام، وقد تنازعها الرغبة عن العفة، وقد تتغلب العفة آخر الأمر، أو قد تنتظر المرأة انتظارا غير لهيف وغير مكترث ولكن انتظار ترقب، وقد تعرض لها سانحة الخيانة وقد تتردد وقد تقبل أيضا.

كانت شهيرة وهي تنظر إلى ابنتها في هذه الفترة التي تتردد فيها، والتي توشك فيها أن تقبل.

وكان الذي يعرض الفرصة صديقا لزوجها، جمعت بينهما صداقة طبيعية؛ فهو رئيس زوجها في العمل، ويتمتع سامي برضاء شكري بك الكيلاني؛ فهو يحسن أن يكون مطيعا.

ومرض سامي بضعة أيام فزاره شكري، ورأى شهيرة فتوثقت الصداقة بين شكري بك الكيلاني و... وسامي.

وكان طبيعيا أن تؤدي هذه الصداقة أن يطلب شكري بك شهيرة هانم كل يوم، ويتحرى أن يكون هذا الطلب وسامي في مكان العمل.

وتنظر شهيرة إلى ابنتها بهيرة.

أي غد ينتظرك؟!

أب موجود بلا وجود.

وأم لا تمنع غير زوجها أن يتصل بها، ولا ترى بأسا أن توغل العلاقة إلى أبعد من ذلك.

بهيرة، أي مصير ينتظرك؟!

الفصل الخامس عشر

نزل راشد باشا من سيارته والتفت إلى السائق عبده خليل في هدوء: سيأتي أحدهم لتسلم السيارة، سلمها له. - أمرك سعادة الباشا.

ودخل راشد باشا إلى حجرة مكتبه، وجلس إلى المكتب البالغ الأناقة الذي ينتمي إلى عهد لويس السادس عشر، والذي يقال إن بعض وزراء هذا العهد كانوا يجلسون إليه. ولكن راشد لم ينظر إلى المكتب الأنيق، وإنما كل ما فعله أن خلع الطربوش وجلس على كرسي المكتب، ورفع رجليه ليستقر بهما على مكتب لويس السادس عشر. ونظر إلى سقف الحجرة، ورحلت عيناه في تهاويل السقف التي تصور ملائك السماء يدفون بأجنحتهم حول ملاك كبير تباعد جناحاه المذهبان، وارتسمت على شفتيه ابتسامة وادعة مطمئنة، لا يستطيع أن يفزعها أو يشغلها عن اطمئنانها مفزع أو شاغل. إنها ابتسامة ترنو إلى السماء وتطمئن إليها، وما دامت بالسماء قد تعلقت فلا شيء يعنيها بعد ذلك، لا شيء. وحين توغل العين في الابتسامة وفي عيني الملاك تجد صفاء، وتجد مرحبا لكل بني الإنسان، يؤكدها هذان الجناحان اللذان يفرشان السماء، كأنهما ذراعان تتهيآن لاحتضان عزيز عائد.

كان راشد باشا ينظر إلى هذا جميعه، ولكن عينيه كانتا لا تتبينان من التهاويل شيئا.

يراها ولا يراها، تتماوج الصورة في عينيه فتبين وتختفي، وتلوح حتى تبدو وكأنها مجسمة واضحة، وتتلاشى حتى ليعلوها الضباب أو كأنما تمحوها أفواج من الظن وأستار من الأوهام. يفكر راشد باشا ولكنه لا يفكر، ويندهش ولكن لا يبدو التعجب على وجهه، تتزاحم صور وجوه مع صور السقف فلا يتضح رسم، ولا تتبلور صورة، ولا يتحدد وجه.

ربما توسط أمواج الطيوف أسامة في وجهه البريء، وفي كلامه الجديد الطازج الذي يقع من أذن أبيه وأمه موقع النغم السماوي المنسجم. يذكر ما تعلم في المدرسة، ويباهي به وكأنما تعلمه وحده ولا يعرفه أحد من الناس غيره. ولا تغيب صورة أسامة وإنما يزحف عليها وجه خديجة، ويتقلب على مدى السنوات التي تزوجها فيها، غير حريص في تقلبه على الترتيب الزمني، ولا على ترتيب ظهور هذه التجاعيد القليلة التي بدأت ترتسم في نبل على صفحات وجهها. قد تبدو أمامه وهي في المرآة أول يوم رآها، ثم قد تقفز السنوات إلى يوم بشرته الزغاريد بمجيء أسامة، أو قد تبدو وهي تتكلم معه في خاصة أمورهما، أو وهي تتكلم في المجتمعات العامة؛ فتحيط بها هالات من الإعجاب، أو قد تحيط بها أيضا هالات من الحسد. وقد تبدو أمه وقد يذكر مرضها وتشبثها بالفراش. وقد يثب وجه حمزة البلاشوني، ثم فهمي عبد الحميد يكبر وجهه ويكبر حتى لا يتيح لأحد، ولا حتى لأسامة أن يبقى معه في إطار الصورة، بل العجيب أنه يزيح أسامة أول ما يزيح، والأعجب أنه ما يلبث أن يضمه ويحتويه وكأنه يهدهد أحلامه. ويغمض الباشا عينيه، ولكن صورة فهمي متشبثة بالظلام تشبثها بالنور، ويهز الباشا رأسه فتمحى الصورة مرغمة.

ويعود نظر الباشا فلا يرى إلا تهاويل السقف، وتعود الصور إلى الوضوح، ثم ترين عليها أستار من الوهم أو أستار من الضباب.

وكأنما يثوب شاكر إلى مكانه فتعلو وجهه فترة من الأسى، وقد تفكر دمعتان أن تستميحا عينيه الشامختين، ثم ما تلبث الدمعتان أن ترتدا هالعتين، يزجرهما كبرياء العينين أن تظهرا إلا في العميق العميق في نفس الرجل الأشم، رافضا أن يبدو منه للعيان ألم، حتى وإن كان خاليا إلى نفسه؛ فهذا المكتب بما يضم من أثاث، وما تحويه جدرانه وسقفه من نقوش أشياء خارجة عن نفسه؛ لا يجوز لها أن تعرف ما بداخله أو تطلع عليه.

لم يكن يخبي أن هذا الذي يطالعه اليوم أمر يقع لكل من يعمل في ميدانه، ولكن الذي كان يدهش له أنه كان يتقي هذا اليوم بكل ذكائه وكل خبرته. وفي سرحة تفكير استعاد بها الأحداث الأخيرة أدرك أنه تخلى عن ذكائه وعن خبرته جميعا يوم أراد أن يجتاح أسواق البورصة ليكون لابنه أعظم قدر من الثراء، وفي انشغاله بالنظر إلى الهدف عمي عن الطريق وغفل عن مزالقه.

لقد أصبح «ميداس» ملك الذهب الأسطوري الذي أحب الذهب حتى انقلب إلى ذهب، وإذا انقلب العقل وتجاربه إلى جماد - حتى وإن كان ذهبا - كف عن العمل الأصيل الذي خلق من أجله، وانهار الإنسان؛ لأن الإنسان تركيب يختلف تماما عن تركيب الذهب، هكذا الأسطورة. أما في الحياة فإن العقل يتوقف، والتجارب تنزوي ذليلة وينهار الإنسان، ولكن شيئا من العقل أو التجارب أو الإنسان لا يصبح ذهبا.

لقد استعبده المال ففقد الاختيار، وإذا فقد العقل الاختيار فقد معه سبب وجوده في الحياة، والعجيب أن الإنسان صاحب هذا العقل لا يدرك هذا؛ لأنه لا يستطيع أن يدركه إلا بالعقل الذي توقف عن العمل، أو من هنا أجد نفسي مخطئا أنني بدأت هذه الجملة بالتعجب، بينما العجيب حقا ألا يحدث هذا. لقد فقد حضرة صاحب السعادة راشد باشا برهان كل ما يملك، وما دمنا نريد الدقة في التعبير، فقد أصبح كل ما يملكه سعادة راشد باشا برهان مرهونا رهنا حيازيا لدائنين مختلفين، من بينهم فهمي عبد الحميد. وجود هذا الدائن بين الدائنين يجعل راشد على ثقة مؤكدة أن الدائنين لن يتجاوزوا يوم البيع بيوم واحد.

لو أمعن راشد التفكير لكان الحل الطبيعي، الذي يؤدي إليه المنطق الأخرس الجامد الذي لا يعرف السماء، أن ينتحر سعادة الباشا، فهذا هو أسهل الطرق التي يستطيع أن يسير فيها، فهو لا يطيق أن يرى زوجته تلبس أخلاق الثياب، أو يرى ابنه يتكفف الناس، ويسألهم ما يرد به الجوع.

ولكن فكرة الانتحار هذه هي الفكرة الوحيدة التي لا تجرؤ أن تقترب من ذهن الرجل الصامد راشد برهان، لقد عاش غنيا، وسوف يثبت لنفسه وللناس أنه يستطيع أن يعيش فقيرا، ويظل على الحالين كريما على نفسه، ومن كان كريما على نفسه فهو كريم على الناس وإن رغمت من بعض الناس أنوف.

في لحظته تلك لم يعرف إلا أنه سيستطيع أن يعيش، ولكنه في لحظته تلك لم يعرف كيف سيعيش، كان يدري كل الدراية أنه مؤمن بالله، وأنه لن يذهب إلى رحابه إلا في طريق يرضاه الله لمن يؤمنون به.

والعجيب أنه في لحظته القاتمة القاسية العاصفة، بل التي سكنت فيها العاصفة عن خرابه الكامل، في هذه اللحظة كان يغبط نفسه؛ لقد وجد فيها شيئا أكرم من الغنى وأغلى من المال، لقد وجد الطمأنينة إلى السماء والإيمان بالله. ماذا يفعل غير المؤمنين لو تعرضوا لما يتعرض له؟ كان شامخا أن استطاعت نفسه أن تقر، وهي تحس أن في ثنايا نسيجها تنداح هذه النفحة الزكية الأمينة الحانية التي لا يستطيع أن يبقيها في نفوس العباد إلا اليد التي أبرأت هذه النفوس، وحنت عليه حنوا يتقاصر عنده حنو الأمهات على الفطيم.

تلك اليد الرءوم التي تشفع الكارثة باللطف، والجزع بالأمن، والفاجعة بالإيمان.

أسلم نفسه لها، واتضحت له الحجرة كما عهدها خالية من الطيوف، بريئة من الأخيلة، وانكشفت له تهاويل السقف عن فنها الرفيع الذي طالما بهره إذا ما سمت إليه عيناه. أهذه الرسوم محجوز عليها هي أيضا؟ إنها فن رفيع لا يقدر بمال، ولكن الدائنين لا يرون فيه إلا سقفا لا يكمل البيت بدونه، والبيت محجوز عليه؛ لا حياة للفن في صراع المال.

دخل إدريس إلى حجرة المكتب: فهمي بك عبد الحميد.

ولم ينزل الباشا قدميه عن المكتب، ولم يجزع، وإن كانت بعض الدهشة قد تولته. - ما له؟ - في الخارج يريد مقابلة سعادتك.

وصمت الباشا. ليس من المعقول أن يأتي ليتشفى والجرح جديد. إذن ... - دعه يدخل.

وأنزل الباشا قدميه، واستعد للقاء الرجل، فمهما يكن البيت محجوزا عليه إلا أنه حتى الآن بيته.

دخل فهمي عبد الحميد، وأسى صادق مرتسم على وجهه. - سعادة الباشا. - أهلا فهمي، اقعد، اقعد أولا. - سعادة الباشا، أنا لا أعرف ماذا أقول لك.

وعجب راشد أن رأى بواكير دموع تطفر إلى عيني الرجل، وكأنها تودع دموعا أخرى سبقتها. وأصبح الموقف أكبر من الإنسان، وأوشكت دموع راشد العصية أن تطفر، إلا أنه زجرها. فقد تكون دموع فهمي وفاء لصداقة قديمة، أو اعتذارا عن موقف سابق، أو أخوة صمدت في وجه الأحداث. أما دموع راشد فلن تكون إلا ذلة واستكانة وضعفا، ولن يفهم فهمي أنها إنما انهمرت إكبارا للإنسان حين يعلو على الإنسان. - لقد أصبح هذا البيت من نصيبي مقابل دين في الأوراق مقداره عشرون ألف جنيه، هذه أوراق الرهن اقرأها سعادتك. - وتريد البيت الآن؟ - أريدك أن تقرأ الأوراق يا سعادة الباشا.

ونظر راشد في الأوراق نظرة سريعة كانت كافية لمن هو في مثل خبرته، وقال وهو يرد الأوراق إلى فهمي: نعم فعلا. - هل ينقصها شيء؟ - لا أظن. - أعد النظر إليها يا سعادة الباشا واقرأها على مهل، ربما كان ينقصها شيء. - أعتقد أنها كاملة يا فهمي، لا ينقصها شيء. - سعادتك متأكد؟ - طبعا متأكد، وأنا على استعداد أن أسلمك. - سعادة الباشا، أرجوك تأكد من الأوراق. - يا أخي إذا كنت تريد أن تتسلم البيت الآن فأنا على استعداد. - سعادتك تقصد أن تخرج من بيتك الآن، ومعك أسامة والسيدة والدتك المريضة والسيدة حرمك؟ - هذا ما تقوله الأوراق، وما يقوله حقك؛ الرهن حيازي لمجموعة الدائنين.

وقد قسمتم الرهن على أنفسكم فيما بينكم، وأصبح البيت من نصيبك بموافقة جميع الدائنين. هذا لا شك فيه. - وهذه هي أوراق الدين والحيازة يا راشد باشا.

وفي حركة ثابتة واثقة مزق فهمي الأوراق، ثم أعاد تمزيقها. - فهمي، ماذا فعلت؟ أنت بهذا تضيع حقك في الدين. - وما عشرون ألفا عندك؟ ادفعها حين تشاء أو لا تدفعها إذا شئت، إنما أنا لا أخرج راشد باشا وأسرته ووالدته من البيت الذي عاشوا فيه عمرهم كله. - فهمي، أهذا معقول؟ - هذا هو المعقول، فلنختلف، أحاربك وتحاربني، ولكن راشد أدهم لا يخرج من بيته أبدا. - فهمي، هل هناك كلام يوفيك حقك؟ - حاولت أن تكون السيارة ضمن ديني فلم أستطع. - لا يهم، لا يهم شيء. أنت كما أنت الآن أمامي أعز من كل المال الذي فقدت. - أنا لن أبقى لأسمع هذا الكلام. السلام عليكم. - والقهوة؟ - ستصبح شربات حين أرى الوقت مناسبا. •••

إن للسماء طرقا عجيبة، قد أتصور أن يفعل أي دائن ما فعل فهمي عبد الحميد إلا فهمي عبد الحميد، لو أن الإنسان عرف السبل التي تستعملها السماء لأصبح إلها، ولكن السماء تحب أن تذكره دائما أنه إنسان لا يزيد، وهناك من فوق سبع سموات رحمة ترسل حنانها وشعاعها بالطريق الذي تراه مناسبا أو طبيعيا، لا الطريق الذي يتصوره مجرد الإنسان. وهيهات لمجرد الإنسان أن يفهم.

كيف يمكن لفهمي عبد الحميد أن يكون ذلك الملاك، وهو هو نفسه الذي ارتكب من الأعمال ما يعف الشيطان عن ارتكابه؟

كيف يستطيع الملاك والشيطان أن يعيشا معا في كيان واحد، والذي يسمو إلى ما تصنعه الملائكة هو نفسه الذي يتردى إلى ما لا تهوي إليه الشياطين؟ ألهمها فجورها وتقواها.

فالذي يصنع الخير هو خير من الملائكة، لأنه يصنع الخير باختياره لا بالطبيعة المواتية التي لا تعرف الملائكة غيرها، والذي يتردى إلى فجورها يهوي إلى حضيض أسفل من حضيض الشياطين، لأنه هو نفسه كان يستطيع أن يختار الطريق الآخر الذي لا يستطيع أن يختاره الشيطان. وألهمها فجورها وتقواها. قد يغلب الفجور مرة وقد تغلب التقوى مرة، ويصبح الإنسان تركيبا عجيبا لا هو شر كله ولا هو خير كله، وإنما يتمازجان فيه في غير تنافر، ويصبح كل من العنصرين مادة في كيان الإنسان؛ ليظل إلى الأبد ذلك اللغز الذي حارت فيه مراحل البشرية على مر التاريخ. •••

قالت خديجة: أبيع مجوهراتي. - هي في البنك باسمي وأغلب الظن أنها حجز عليها هي أيضا. - أكلم أبي. - إياك! - إنه أبي. - اسمعي، هذه المشكلة ملكي أنا، وأنا الذي صنعتها، وأنا الذي يجب أن أتولاها وحدي. - لتكن أنت من صنعتها، ولكن أنت رب بيتي، مسئوليتي عنك قدر مسئوليتك عني. - لو كان لك مال مستقل لكان الذي تقولينه طبيعيا. - ولكن أبي مسئول عني. - سقطت عنه هذه المسئولية منذ تزوجتك. - العلاقات الإنسانية ليست عقودا تسجل في المحكمة، يغضب أبي أشد الغضب إذا لم أقل له. - غضبه سيكون أكبر إذا قلت له. - منك؟ - من نفسه. - من نفسه؟ - إنه لا يستطيع أن يصنع شيئا؛ دخل أبيك يكاد لا يكفيه. - ما هذا الذي تقول؟ - حقيقة أنا أعرفها قبل أن أتزوجك، وتأخرت أنت في معرفتها. - ولكن لا بد أنه سيعرف كل شيء عن حكايتنا. - أنت طيبة يا خديجة. هل تظنين أن أحدا في مصر سيجهل ما حصل لي؟ - فهو الذي سيكلمني. - ربما. - إذن فسيغضب لأنني لم أكلمه. - أعلم ذلك. - ماذا أقول له؟ - قولي إنك عرضت علي مساعدته، فرفضت ذلك رفضا قاطعا. - ولكنه سيكلمك. - لا تخافي، فإن كنت فقدت مالي فإني لم أفقد لباقتي. •••

وقالت أمه وهي في فراش مرضها: راشد لا تخف. - أنا غير خائف. - مصاريف بيتك علي. - وأنت ما ذنبك؟ - كنت أستطيع أن أعطيك أرضي فتبيعها، ولكني أخاف أن تأكلها ديونك، سأبقي أرضي لأصرف منها على البيت. - هانم أفندي، لا أدري ماذا أقول لك. - لا تقل شيئا، لن أعيش طويلا والأفدنة القليلة التي ورثتها عن أبيك ستئول إليك، ولكني أريد أن أعيش كما تعودت أن أعيش؛ لا أسأل أحدا شيئا. - سيكون لك هذا على كل حال. - إنك طول حياتك تنفق علي وعلى ملبسي، وكنت أنفق أنا إيرادي على من يستحقون الصدقة. وعندي بعد ذلك بقية، وإيراد الأرض سيكفي مصاريف البيت؛ فلا تحمل هما من هذه الناحية ودبر أنت حالك في غير هذا. •••

وقال عثمان باشا فكري: لقد أكرمت خديجة منذ تزوجتها، وأصبح بينكما الآن أسامة، وهو حفيدي، وأنا مسئول عنه وعن ابنتي وسمى، وتصرفاتك الكريمة مع ابنتي تتيح لي أن أكون مسئولا عنك أنت أيضا، فدعني أقدم مساعدتي. - أنا دائما أعتبرك أخي الأكبر إن لم أعتبرك والدي، وأنت في مكانة عندي، ولكني أحب أن أقوم بنفسي بهذا العبء. - أساعدك في أيامه الأولى. - وأصبح أمام زوجتي شخصا ضعيفا لا يستطيع أن يواجه الأحداث؟ - لقد عشت عمرك غنيا. - فدعني أجرب أن أكون فقيرا. - أمرك. •••

وقال أسامة: بابا، ماذا حصل؟ - ماذا حصل؟ - في البيت حاجة غريبة. - مثل ماذا؟ - لا أعرف! - هل نقص شيء؟ - السيارة. - وأنت ما لك بالسيارة؟ - أنا فقط لا أراها. - أصبحت قديمة. - اشتريت سيارة جديدة؟ - ليس الآن. هل هذا هو كل التغيير؟ - طبعا لا. - وماذا أيضا؟ - لا أعرف، ستي ليست كما تعودت أن أراها. - مريضة. - إنها مريضة من زمان ، ولكنها ليست هي! - وماذا أيضا؟ - وكفاية. - وماما؟ - لا، ماما لم تتغير. - وأنا؟ - أنت؟! أنت؟! لا أعرف. - والخدم؟ - لا أعرف .. يمكن .. ربما .. نعم. افتكرت، كانوا دائما يهزرون معي. الآن دائما التكشيرة على وشهم. - كل هذا رأيته؟ - لا أعرف. تعرف يا بابا ساعات أحس بأشياء ولا أعرف كيف أقولها. - مثل ماذا؟ - لو كنت أعرف كنت قلت. لا أعرف. فيه شيء، ولكن ما هو؟ لا أعرف. - ستعرف يا أسامة، سيأتي يوم وتعرف. •••

بدأ حياته الجديدة بداية لم تر مثلها القاهرة، ولا أحسب أنها ستراها. كانت هناك عمليات تجارية صغيرة، تعود أن يتركها ولا يعنى بها ليهتم بعمليات أكبر؛ عاد إلى هذه العمليات، ولكنه كان يريد أن ينتقل بسرعة. وكان قد انتوى أمام نفسه ألا يستغني عن أحد من الخدم أبدا، فقد استقروا في البيت منذ سنوات طوال وأصبح من غير الممكن أن يستغني عن أحد منهم، كان هناك شعور يجمعهم أنهم أسرة واحدة، لعل أحدا منهم لم يفصح للآخر بهذا الشعور، ولكنه راسخ في نفوسهم ربما إلى درجة عميقة وثابتة ومؤكدة؛ حتى ليصبح من العبث أن تكون موضوع حديث.

وهكذا بقي عبده خليل سائق السيارة دون أن تكون هناك سيارة، وسرعان ما نبتت الفكرة في ذهن راشد باشا.

والذين كانوا يعيشون في القاهرة هذه الأيام أصبحوا يرون منظرا عجيبا.

سعادة الباشا يركب موتوسيكل له مقعد جانبي؛ الذي يطلقون عليه سيدكار، يقود الموتوسيكل سائق غاية في أناقة المظهر، يلبس البذلة التي كانوا يطلقون عليها بذلة طلب، وهي تمتاز بسترة مقفلة عند الرقبة زرقاء داكنة الزرقة على حوافيها قطان أحمر، والبنطلون منتفخ من أعلى، تلقفه بعد ذلك رقبة طويلة لحذاء جلدي فاخر. هكذا كان ملبس عبده وهو يقود السيارة الباكار؛ نفس ملبس عبده خليل وهو يقود الموتوسيكل السيدكار الذي يركب سعادة الباشا في مقعده. حتى إذا أراد الباشا أن ينزل في مكان ما لبعض شأنه سارع عبده خليل يفتح باب السيدكار في عظمة ووقار، ونزل الباشا في سمته المهيب الذي تعود أن ينزل به من السيارة الباكار.

والباشا وهو يصنع هذا لا يفكر لحظة أنه يفعل شيئا يدعو إلى الدهشة، وفيم الدهشة أن الباشا يعتبر السيارة وسيلة لا غاية؟ والموتوسيكل وسيلة تؤدي الغرض نفسه، وراشد باشا برهان الذي كان يركب السيارة الباكار هو نفسه راشد باشا برهان الذي يركب الموتوسيكل السيدكار.

الفصل السادس عشر

دق جرس التليفون بمنزل زكريا باشا: أنا عبد القادر إبراهيم وكيل وزارة الخارجية يا معالي الباشا. - أهلا عبد القادر بك، أهلا وسهلا. - متى أستطيع أن أرى معاليك؟ - وقتما تشاء. - في أسرع وقت إذا أذنت سعادتك. - الآن إذا شئت.

عشر دقائق أكون عند معاليك.

السن والثقافة والتجارب جعلت زكريا باشا يبدو هادئا وهو ينتظر وكيل الوزارة، ولكنه كان واثقا أن شيئا يتصل بابنه عدلي في طريقه إليه. وقد تعود منذ سنوات ألا يصل شيء سعيد بابنه عدلي، أبت عليه تجاربه أن يفكر فيما يمكن أن يكون هذا الشيء.

وجاء وكيل الوزارة.

عدلي يسهر كل يوم إلى الفجر، يلعب القمار في جنيف ولا يكفيه أي مال، بل إن صحته وهو الشاب لم تعد تستطيع أن تتحمل ما يصنعه بها.

مرتبه وإيراده الذي يذهب إليه هناك يقذف به جميعا على مائدة القمار، بل إنه حتى لا يتناول من الطعام ما يقيم أوده؛ فهو يفضل أن يلعب القمار عن أن يتناول الطعام الذي يحتاج إليه جسمه، فهو لا يذهب إلى الفندق إلا بعد الظهر لينام ساعتين ثم يستأنف، وكل هذا ما كان يحتاج إلى وكيل الوزارة ليأتي به إلى زكريا باشا.

لقد نضب المال من يد عدلي؛ فإذا هو يطلب من الفندق الذي ينزل به أن يصرف له شيكا يقدر بالنقود المصرية بحوالي خمسمائة جنيه، وقد قصد أن يطلب صرف الشيك في يوم سبت حتى تكون البنوك مقفلة في يوم الأحد، ظانا أنه يستطيع أن يكسب فيودع المبلغ في البنك قبل أن يقدمه الفندق.

لم يكسب.

وطرده الفندق وطالب السفير المصري بالشيك وحساب الفندق.

دفع السفير، ولم يشأ أن يخبر الوزير لأنه يعرف أنه صديق الباشا ، وأخبر وكيل الوزارة.

طبعا دفع الباشا كل ما أخبره به وكيل الوزارة، وما إن ودعه إلى الباب حتى عاد إلى التليفون ملهوفا: راوية. - أفندم سعادة الباشا. - تعالي حالا!

وحين جاءت: كم ترسل لك دائرة عدلي كل شهر؟

وتسمرت عينا راوية على الباشا وتقلصت خلجات وجهها، وحاولت أن تتماسك بكل ما يطيق البشر أن يتماسكوا، ولكن هيهات لدموع مثلها أن تغيض، لقد طفرت إلى سكب وراء سكب. - لا عليك يا ابنتي. لا عليك، خذي. - لا آخذ شيئا يا عمي. لا يمكن. - ستأخذين. - ألا يكفي أنك تربي هالة، وأنك رفضت أن تأخذ نصيبك من تركة نينا نعيمة هانم؟ - هذه أشياء ليس من شأنها أن تسقط واجب زوجك في الإنفاق عليك. - هذا خطؤه، وليس من المفروض أن تتحمل أخطاءه. - ومن يتحمل أخطاء الأبناء إلا آباؤهم؟ - ألا يكفي ما تحملته أنت من عدلي؟ - أنا لم أتحمل شيئا. - بعد كل هذا؟ - هذه كلها أخطائي أنا. ما دمت لم أحسن تربيته فعلي أن أتحمل كل ما يفعل. - من قال هذا؟ يا عمي الناس طبائع، وعدلي طبعه هكذا ولا ذنب لك أنت. - يا بنتي أنا لم أقم بواجبي نحو عدلي، وأنا الآن أحاول أن أستدرك الخطأ الذي وقعت فيه. خذي. - لا يمكن. - أنت تعرفين إلى أي حد يحترمني أبوك؟ - أعرف. - لا تضطريني أن أدعوه، وأعطيه ما يجب أن تأخذيه أنت.

وقبلت راوية المال، وانصرفت.

ولكن قصة عدلي لم تتم فصولا. •••

ما هو إلا شهر وبعض شهر حتى جاءت الأنباء أن عدلي سقط مريضا بعد هذا الجهد الذي أنهك به جسمه، واضطر الباشا أن يصحب راوية إلى سويسرا.

وهناك وفي حجرة من فندق فقير التقى الباشا مع ابنه عدلي لأول مرة، بعد ما صنعه عدلي تجاه أبيه.

وهناك لم يجد الباشا من ابنه إلا بقية حطام لم يترك القمار منه شيئا.

كان موقف الابن ذليلا حتى لم يحاول أن يعتذر، وكان موقف الأب أليما حتى لم يذكر من هذا الشيء الذي أمامه إلا أنه ابنه وأنه مريض .

سرعان ما عرف الأب وعرفت راوية أن مرض الصدر هو ما يعانيه عدلي.

في مصحة في ليزين على جبل بالقرب من لوزان استقر عدلي، ودفع الباشا نفقات العلاج، وأعطى لراوية ما يكفي لفترة أخرى، وسافر إلى القاهرة بالباخرة.

وفي القاهرة استقبلته من راوية برقية: «لقد مات عدلي.» •••

منذ ذلك اليوم أصبح زكريا إنسانا آخر؛ كان يخشى أن يبدي حبه ليحيى ابنه، ويخشى أن يظهر ضعفه لهالة حفيدته، فاعتزل عنهما الحياة بعد أن أصر أن يقيم معه ومع زوجته زوجة ابنه راوية.

ومنذ ذلك اليوم أصبح زكريا باشا يمثل لابنه وحفيدته شيئا مقدسا لا سبيل إلى الحديث معه، وإنما تصل إليهما الأوامر منه والنقود، وكأنه طيف غير إنساني لا صلة له بالبشرية.

وكان يحيى في تلك السن التي يتشكل فيها الإنسان ليصبح رجل الغد.

وأما هالة فلاهية يصغر عندها كل شيء، ليصبح مجرد حدوتة أو أداة تسلية.

لم يكن زكريا يتوقع أن تطول به الحياة حتى يفقد عدلي، وأصبح يخاف على ابنه وابنته أن يتعلقا به ثم يخذلهما ويتركهما؛ فينهار صرح في نفسيهما كبير، كان يريد حياته أن تكون على هامش حياتهما، ولو أنه أراد أن يجتمع بهما لأعجزته نفسه؛ فقد كان موت عدلي بالنسبة إليه في سنه هذه نكبة لم يحتملها.

كان يدري أنه لم يحسن تربيته، وكان يدري أنه لا يصلح لشيء، وكان يدري أنه طعنه أو حاول أن يطعنه بهذه القضية التي رفعها، ولكنه أيضا كان يدري أنه ظل لفترة طويلة من حياته ابنه الوحيد، وأن أهميته قد زادت حين أتى بهالة وحين أتى هو بيحيى، وكان يجعل في حياة عدلي من بعده أداة أمن تصحبه في رحلته إلى الحياة الأخرى، ولكنه مات.

وفي لحظة ينهار هذا الأمن ولا يبقى من عدلي إلا أنه مات، يكفي هذا! وسنة الحياة أن يدفن الابن أباه، وويل للآباء، أو قل إن شئت، ويل للحياة كلها إذا اختلفت هذه السنة، فدفن الأب ابنه!

ينسى زكريا كل شيء إلا أن ابنه مات، فتصبح مسالك الحياة أمام عينه مهوشة شائهة لا معنى لها.

لا يختلف عنده طريق عن طريق، بل إنه حتى لم يعد يريد أن يختار ولا أن يدلي برأي.

هو لا يشارك في السياسة، وهو لا يذهب إلى مكتب المحاماة، وهو لا يجد في مجلس الأصدقاء أنسا أو ترفيها، لم يبق من الأصدقاء إلا من يصغرونه، أما أتراب حياته ورفاق طريقه فقد ماتوا واحدا بعد الآخر، وأقفرت من حوله الحياة التي كانوا يصنعونها معا.

حتى السياسة التي كان من أعلامها اختلفت دروبها، وتغير رجالها فأصبح لا يفهم عنهم ولا يفهمون عنه، وحتى إذا فهموا فإنه لا يريد أن يدلي برأي.

وكيف يدري زكريا باشا أنه إذا أبدى آراءه في تربية ولده وحفيدته يكون قد قال الرأي الصواب؟ ومن يعرف الخطأ في عصر هؤلاء؟ وكيف يستطيع أن يشارك في تربية الأحفاد - فيحيى وإن يكن ابنه خليق أن يكون حفيده - وهو لم يوفق في تربية ابنه حتى يفكر في تربية حفيده.

في حجرته زكريا باشا إن غادرها فساعة أو بعض الساعة يحس بها أنه حي لم يمت، ثم إلى غرفته يعود.

ومن هذه العزلة اتخذت سهير وراوية أداة إرهاب للطفلين، وعند يحيى أصبح سمت الرجل كما ينبغي أن يكون؛ هو هذا الباشا المنعزل، هكذا أصبح الأمر عند يحيى. أصبح يعتقد أن الرجل لا يكون رجلا إلا إذا لم ير أحدا ولم يره أحد، وأصبح يظن أن الرجل العظيم - ومن أعظم من جده؟ - يجب أن يكون صموتا لا يتكلم، فإذا تكلم فكلامه أمر، وإشارته لا يصحبها إلا الطاعة من الآخرين، هكذا صورت أمه أباه، وهكذا أكد أبوه هذه الصورة بوجه ارتمى عليه الحزن واحتضنته تجاعيد السنين؛ فأصبح بمزاج الألم والأيام تكشيرة لا انبساط لها.

ربما استطاعت راوية أن تنجو بهالة من هذه الصورة، وهالة على كل حال بطبيعة جنسها لا تصبو أن تكون رجلا، ورجلا مرهوبا. ولكن رواية خشيت على ابنتها أن يجعلها موت أبيها جانحة إلى الحزن في حياتها؛ فراحت تتيح لابنتها كل فرصة للبهجة ، ولم تكن تستعمل اسم الجد إلا حين ترى أن هالة تبالغ في طلب البهجة، وكان ذكر اسمه مصحوبا بالرغبة التي تريدها الأم، وتلصقها به وهو فيها مظلوم؛ كافيا أن يرد هالة إلى ما تبتغيه الأم من الاعتدال. •••

كان يحيى في السادسة عشرة حين مات أبوه زكريا باشا.

وفجأة وجد يحيى نفسه قد انتصب رجلا على رغم أنفه؛ فالخدم لا يذكرونه إلا بلفظ البك، هكذا مفردة دون اسم يحيى يسبقها، أو صفة الصغير تلحق بها.

أصبح هو البك، ليس «بك» وإنما البك كاملة خالصة له. فقد أرادت سهير أن تجعل منه رجل الأسرة الجديد، ولم يكن بد من أن تحيطه بكل هالات التوقير إذا كانت سنه وثقافته لا تستطيعان أن تحيطاه بشيء.

وحين مر بعض الوقت قالت راوية: ألا ترين من الأنسب أن أرجع إلى بيتي؟ - لماذا؟ - أنت تعرفين أن بيتي مغلق، ومن الطبيعي أن أعيش فيه مع ابنتي. - وما الطبيعي في ذلك؟ - كانت هالة مع جدها، أما الآن ... - شأنك عجيب يا راوية، هي الآن مع عمها في القرابة ومع أخيها في السن، فأي عجيب في ذلك؟ - ربما يحب يحيى أن يعيش وحده. - اسمعي. أنا وأنت لم نختلف طوال هذه السنوات، وأصبحنا كأخوات، وهذا البيت بيتي وبيت يحيى معا، وقد تعودت الحياة معك كما أعتقد أنك تعودت الحياة معي، وليس من الطبيعي أن تعيشي وحدك مع هالة وبيت عمها موجود. وإذا كان الباشا قد مات فإننا نستطيع أن نجعل من يحيى رجل البيت ونعيش معا. ودعينا لا نعود لهذا الحديث. - على شرط ... - قبلته! - أتعرفينه؟ - كنت لا تشاركين في نفقات البيت، والآن تريدين أن تشاركي؟ - فهل تقبلين؟ - نعم أقبل. •••

من حسن حظ هالة ومن حسن حظ يحيى، أو من سوء حظه لا أدري، أن هالة جاء لها خطيب.

أما أن هذا من حسن حظها فلا شك في ذلك؛ فإن هالة لم تستطع أن تتصور يحيى هو البك، فقد عاش عمره رفيق الملعب، وكانت تسخر سخرية شديدة من جو التوقير الذي تشيعه حوله أمه، وتشتد السخرية بها إذا رأت أمها تشجع هذا التوقير، ولم تكن تحتفظ بسخريتها لنفسها دائما، كانت تفجرها كلمات لا تتحرز أمام من تنفجر، وكثيرا ما كان ذلك يحدث أمام الخدم؛ فترتسم على أفواههم بسمات تنال - لا شك - من الهيبة الصارمة التي ينبغي أن تفرش تحت أقدام الأمير الصغير؛ البك.

وكان يحيى يجن من سخرية هالة، وكانت أمها تحاول - عبثا - أن تردعها.

ولكن هالة مسكينة؛ فما تستطيع أن تتصور يحيى كما تريد السيدتان أن ترسماه، دون أن تضحك ضحكا ساخرا يتشكل في كثير من الأحيان كلمات لاذعة.

وهكذا لم يكن عجيبا أن يرحب الجميع بذلك العريس الذي تقدم للزواج من هالة.

ولم يكن عجيبا أيضا أن تكون التحريات التي أجروها عنه مبتسرة، تتسم بالتعجل أكثر مما تتسم بالجدية والتعمق.

كل ما عرفوه عنه أنه خريج التجارة العليا، وأن أباه تاجر من أواسط التجار، لا هو بالغني الفاحش الغنى ولا بالفقير المدقع.

العريس اسمه جابر عبد البديع الشحات، في السابعة والعشرين من عمره، ويعمل مع أبيه في التجارة.

له أخ أصغر منه بسنة واحدة، وقد تخرج في كلية الحقوق واسمه حامد، وحامد يعمل بالأعمال الحرة في غير تجارة أبيه بجانب عمله بالمحاماة. والحقيقة في أمر حامد أن مكتبه ستار لأعماله التجارية، فاسم المحامي ومكتبه يخلقان حوله جوا يستطيع عمله التجاري أن ينتفع بهما. وهو فعلا يعمل بالمحاماة ولكنه يختار قضاياه. ولجابر وحامد بعد ذلك أختان تكبرانهما ومتزوجتان ولهما أبناء، أما الكبرى فاسمها حميدة، وأما الصغرى فاسمها رشيدة.

وحين جمع الفرح الأسرة في منزل زكريا باشا أحست راوية أنها تعجلت، ولكن هالة لم تفكر في عقد مقارنة بين أسرتها الجديدة وأسرتها التي عاشت فيها، وإنما هي سعيدة أن تتزوج في هذه السن الباكرة، ويعجب بها شاب أنيق مثل جابر. ولم تكن تجربتها تسمح لها بأن تقدر معنى هذه السلسلة الذهبية الضخمة السميكة المتوحشة التي يعلقها أبوه عبد البديع الشحات على صدره، ولا معنى الفستان الأحمر الذي يسمون أحمره بالأحمر الإنجليزي الذي ترتديه حميدة، ولا معنى الفستان الفستقي اللامع الذي ترتديه رشيدة.

أما راوية وسهير فقد فهمتا تماما أي أسرة ناسبتها ابنتهما المسكينة هالة، ونظرت كل منهما إلى الأخرى نظرة تقول «لماذا؟» لو أن هالة فقيرة وبحثت عن بعض غنى لكان ذلك مفهوما؛ لو أن السن تقدمت بها فشارفت الثلاثين لكان هناك بعض العذر، لو أنها أحبت جابر وأحبها لأصبح الأمر لا يحتاج إلى تبرير.

ولكن هكذا وبدون أي أسباب! لماذا؟

وفي لحظة واحدة اتجهت العيون منهما إلى البك؛ إلى يحيى. ودمعت عينا راوية ولم تخف الدمعات، فالأمهات اللواتي يفقدن أزواجهن مباح لهن دائما أن يبكين في أفراح أبنائهن أو بناتهن، ولكن سهير فهمت معنى الدموع من راوية، ووثقت من فهمها وأطرقت خجلا. لقد جعلها حرصها على أن تجعل ابنها «بيكا» لا تكتنفه السخرية تنصح بتعجيل هذا الزواج دون ريث من تأمل أو بحث أو تفكير.

كان في الفرح كل أصدقاء راوية وسهير، فلم يكن عجيبا أن تكون شهيرة سيدة مرموقة في الفرح تذهب وتجيء، وتدعو إلى الطعام، وتمر بجانب الخدم وهم يقدمون الحلوى والشربات. بل لقد تولت هي نفسها تقديم علب الحلوى إلى المدعوين مع راوية وسهير.

وفي الفرح تعرف شباب بشباب.

تعرف حامد بيحيى وبشهيرة وبهيرة، وتعرفوا به ضمن من عرفوهم في ليلتهم تلك.

كان يحيى في فترة هذا الفرح قد اتخذ قرارا خطيرا، وزاده هذا القرار شعورا بالأهمية إن كان هذا الشعور عنه يحتاج إلى مزيد.

كان يحيى يتعثر في التعليم حتى بلغ الثالثة الثانوية وهو في التاسعة عشر من عمره، وكان ما زال المدى أمامه بعيدا؛ فقد كان لا بد له أن ينال الثقافة ثم التوجيهية، وأدرك أن هذا أمر بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا.

وهنا يقف علماء النفس حائرين، فهناك من يقول إن جو الأهمية الذي تفجر حول يحيى كان خليقا أن يجعله يذاكر ويصبر نفسه على الجهد؛ لأنه لا يليق بالرجل المهم أن يسقط أمام الخدم والأتباع الذي لا يقولون عنه إلا البك.

وهناك فريق من هؤلاء العلماء يقول إن هذا الشعور بالأهمية مع عدم الإدراك لقيمة الثقافة يجعله يظن أن التعليم شيء ثانوي لا يستحق هذا العناء، وأن البك لا يجوز له أن يصنع ما يصنعه عامة التلاميذ، ويذاكر كما يذاكرون، وينجح كما ينجحون.

وهكذا تجد أن علماء النفس هؤلاء كثيرا ما يزيدون الأمور تعقيدا، وكثيرا ما تنغلق أمامهم المسالك، فلا أحد منهم يعلم إن كان على خطأ أم كان على صواب.

ولكن يحيى لم يفكر على كل حال أن يسأل علماء النفس، ولا أن يستخير كتبهم، وهو أيضا - وهو البك - لم يكن محتاجا أن يستشير أحدا؛ فحزم أمره وقرر رأيه وأصدر قراره: لا تعليم!

وقرار البك لا مرد له. وأدركت أمه أنها لن تستطيع أن تجادله؛ فهي تعلم أن البك الذي صنعته وجعلت من حولها يصنعونه معها، لم يعد صالحا للنقاش.

وهكذا أصبح البك بك رسميا وإن لم يصدر بشأن رتبته براءة من القصر الملكي، وهو أيضا في غير حاجة إلى براءة القصر الملكي؛ لأن الوهم الذي يحيط به ضخم ضخامة الحقيقة نفسها، فالبراءة بالبكوية لن تزيد حقيقة تكوينه ثبوتا لديه أو لدى المجتمع الذي يحيط به.

وهكذا تثور حول يحيى بك مشكلة أعيت الأجيال؛ هل الحقيقة هي ما يعتقده الإنسان أم أنها معنى مجرد ليس يعنى بمن يعرفه أو من يعارضه؟ وإن كانت معنى مجردا فما قيمته إذا لم يجمع عليه الناس؟ ولكن هل كل حقيقة يجمع عليها الناس؟ ودعنا نسأل أيضا: هل كل ما يجمع عليه الناس حقيقة؟ وما لنا لا نسأل أيضا: وهل أجمع الناس على شيء؟

فإذا قلنا إن هناك غالبية كاثرة تجمع على أمر معين، وإن هناك أقلية لا توافق الإجماع؛ فإنه لا بد لنا أن نسأل مرة أخرى: هل من الحتم أن تكون أغلبية الناس معتنقة الحقيقة، وأن الأقلية لا قيمة لها؟ ومن يحكم في هذه القضية؟ إن هناك رأيا معروفا أن الحقيقة واحدة لا تتعدد. ولكن هل عرف أحد هذه الحقيقة الواحدة؟ وما دام أحد لم يعرفها فأين نجدها؟ المؤكد أنها متعددة، وأنها واحدة، ولكن أحدا لا يستطيع أن يعرف أين الحقيقة الخالصة في هذا العدد الكبير من الحقائق؟ ليس غريبا إذن أن تكون الحقيقة ضائعة بين البشر الذي ركب من عقل وشهوة، ومن فكر وعاطفة، ومن حكمة وهوى، فبين التيارين المتعارضين تنزوي الحقيقة، ويعتقد كل إنسان أن الحقيقة التي استقر عليها رأيه هي الحقيقة؛ فلا بأس إذن أن يعتقد يحيى أنه بك فعلا رغم افتقار رتبته إلى براءة رسمية.

وعرف حامد أن البك في هذا البيت معناها يحيى، وعرف شهيرة وأعجب كل الإعجاب بابنتها بهيرة.

وكان بين المدعوين أيضا وجدي، فإن أردت أن أذكرك به فلا بد أن أنسبه إلى أمه لأنها الجانب المجمع عليه من أبويه أنه ابن نجاة. وهو عند كل من يعرف نجاة ابن عزت بهادر وعند القضاء الذي أصدر الحكم في قضيته ابن عبد المحسن باشا وفيق.

وكان وجدي في نضارة الشباب وفي فتوته، يتمتع بجمال أخاذ سامق، ويتمتع أيضا بذكاء خارق، يعرف هو بخلقه الخاص، وظروفه التي أحاطت بولادته ونشأته، والقضايا التي وجدها تتلقفه مع مهد الطفولة، كيف يستعمل هذا الذكاء وأين يستعمله. وهو في إعماله لذكائه هذا يستعمل كل ما لديه من أصل ممزق بين الحقيقة التي يكاد يلمسها بالشبه بينه وبين الذي يناديه بعمه عزت، وبين الوهم الذي أكسبه القضاء حجية الشيء المحكوم فيه، كما يجعل ذكاءه يستخدم هذا الجمال الذي لا تستطيع عين أن تعبره دون أن تقف عنده وتطيل الوقوف.

وكانت خديجة وراشد باشا وأسامة بين المدعوين.

راشد باشا قد عادت إليه ثروته، ولكنه حولها إلى عمارات باسم أسامة مباشرة، وقطع ما بينه وبين الريف تماما؛ فباع عزبته التي استخلصها من أيدي الديانة وابتاع بثمنها عمارات، فقد أدرك أن وحيده الذي ربي بالقاهرة لن يستطيع أن يستنبت من الأرض ريعها، كما أدرك أن ابن خديجة التي عاشت عمرها بالقاهرة لن يكون فلاحا يفهم كيف يعامل الأرض. وقد حقق أسامة ظن أبيه؛ فإذا هو طالب يحب العلم ، وإذا هو شاب يحب القراءة، وهكذا لم يكن غريبا أن يجد نفسه بين شباب الفرح يقف على جزيرة مستقلة به، وإن كان ذكاؤه قد مكنه أن يشارك الشباب من أمثاله أرضهم ودنياهم.

جمع الفرح قوما كثيرين وتعارف منهم من لم يكن من قبل متعارفا، والتقى الأصدقاء يصلون حديثا كان بينهم ثم انقطع أو يبدءون حديثا هو آخر الأمر إلى انقطاع.

الفصل السابع عشر

اتصلت نجاة بشهيرة في التليفون، وتحدد بينهما موعد. - نحن بيننا صداقة عمر. - ما لزوم هذا الكلام يا نجاة؟ أنت تعرفين مكانتك عندي. - أريد هذه الصداقة أن تصبح قرابة. - هي الآن أكثر من قرابة. - من غير لف أو دوران، أريد بهيرة لوجدي. - والله يا حبيبتي أنا تحت أمرك ولكن بنات هذه الأيام لهن رأيهن الخاص، وأكذب لو قلت لك إن لي رأيا أو إن لأبيها رأيا. - أنا عارفة، وعارفة أيضا أن جمال وجدي لا يماثله جمال، وأنت عارفة غناه. •••

وقالت شهيرة لزوجها سامي حسنين: الولد غني وحلو ولكنه دائما مع النسوان، وسمعت أنه يلعب القمار، وحكاية المحكمة هذه ستظل تلاحقه.

ولم يكن سامي في حاجة أن يقول لها الأمر أمرك؛ فقد كان يدرك أنها تكلمه لتفكر بصوت مرتفع وليس لأنها تريد رأيه، فهو عندها بلا رأي.

لم تشأ شهيرة أن تخبر ابنتها عن هذه الخطبة؛ فهي لا تحتاج إلى رأيها هي أيضا، وإن كانت قد أنبأت بهيرة أن الرأي رأي ابنتها، فما كان هذا منها إلا لتعطي لنفسها فرصة لتفكر.

وقالت بهيرة لأمها: لماذا لم تقولي لي شيئا حتى الآن؟ - وماذا تريدين أن أقول؟ - ألم يخطبني أحد؟ - إذن فقد عرفت. - طبعا. - من قال لك؟ - أنا موافقة على هذا الزواج. - لن أخبرهم بالموافقة حتى تفكري. - لقد فكرت. - وماذا علينا أن ننتظر؟ - ولماذا ننتظر؟ - يتهيأ لي أن هناك خيرا منه. - الذي أريده أنا هو أحسن زوج لي. - لا يغرك الجمال. - لا شيء يغريني. كل ما في الأمر أنني أريده وهذا يكفي. - ومع ذلك سأنتظر. - شأنك. •••

وطلب عبد البديع الشحات موعدا مع سامي حسنين. - توكلنا على الله. - على الله التوكل. - مد يدك. - تحت أمرك. - نقرأ الفاتحة. - على ماذا؟ - فاتحة بهيرة بنتك على ابني حامد. - آه، هكذا؟ - وماذا في هذا؟ لقد ناسبنا زكريا باشا حسام الدين. - ومن غير نسب زكريا باشا أنتم ناس أفاضل يا عبد البديع بك. - كتر خيرك، فما التردد إذن؟ - أليس لهذه البنت أم؟ وهي أليس لها رأي؟ - ومنذ متى يكون للحريم رأي يا سامي بك؟ - نعم؟

كانت الكلمة بعيدة كل البعد عن حياة سامي، فأطرق قليلا ثم قال: لا بد من رأي الست والبنت يا عبد البديع بك. الدين يقول هذا. - أمرك. ولك أن تسأل عن حامد؛ محام قد الدنيا، وأيضا تاجر واع يكسب من الهوا. - ربنا يهيأ الخير إن شاء الله.

وذهبت شهيرة إلى خديجة وحكت لها عن العريسين اللذين جاءا في وقت واحد تقريبا لبهيرة، واستطاعت أن تصوغ الحكاية وكأنها تستشعرها.

وفهمت خديجة الإشارة.

قالت للبك: يحيى، أليس من الطبيعي أن تتزوج؟ - حين أجد البنت المناسبة. - عندي. - من؟ - مال وجمال وأصل. - أعرفها؟ - كل المعرفة. - فمن هي؟ - خمن. - بهيرة. - عجيبة. كيف عرفتها؟ - أنا لست غبيا. - لا. الحكاية وراءها سر؛ هل تحبها؟ - اخطبيها لي. •••

ودون أن تستشير شهيرة ابنتها أو زوجها أعلنت الموافقة، وأدركت بهيرة أنه لا سبيل لها أن تعارض. وإن كان وجدي قد استطاع أن يبهرها بجماله ويكلمها بضع مرات في التليفون فالأمر لم يصل إلى الحب الذي يجعلها تقف من أمها، التي يتبعها أبوها، موقفا فيه تعنت. وكان إعلان القبول ليحيى يحمل في ذاته إعلان الرفض لوجدي وحامد معا. وتم الزواج.

الفصل الثامن عشر

حين أعلن قانون الإصلاح الزراعي كان راشد باشا قد لقي ربه، فلم يتح له أن يشهد نتيجة تصرفه الذي استبدل الأرض فيه بالعقارات، ولكن أسامة قرأ الفاتحة على روح أبيه شاكرا له ما صنع؛ فقد استطاع أن ينجو به من الاستيلاء على أمواله.

أما يحيى فقد كان يملك أرضا كثيرة، وكان قد أنجب ولديه باسل وشهاب، وكان من الطبيعي أن يبحث عن محام ليقوم له بعمل الإقرارات. ولكن قبل أن يبحث كان حامد عبد البديع بين يديه. - سعادة البك النسب له حقوق. - طبعا. - بمجرد نشر القانون جئت لأقوم عنك بعمل اللازم. - ألف شكر. فكرت أن أتصل بك ولكن مسألة الأتعاب جعلتني ... - مسألة ماذا؟ - وهذا ما كانت أخشاه. - لا تقل هذا الكلام يا سعادة البك. عيب، لا يصح. - إذا لم تأخذ أتعابك فاسمح لي، لن أستطيع أن أوكلك. - وهل بيننا أتعاب؟ إنما بيننا نسب. - هذا لا يمنع هذا. - وماذا يقول أخي، وماذا تقول بنت أخي سعادتك هالة؟ - لن يعرف أحد منهم شيئا. - على كل حال هذه مسألة نتكلم فيها فيما بعد. - وهو كذلك. - كم فدانا عند سعادتك؟ - ما يقرب من ستمائة وستين. - كل هذا! - نعم، فقد اشترى أبي أرضا كثيرة. - وكم عمارة؟ - هل القانون ذكر شيئا عن العمارات؟ - لم يعد شيء مؤكدا. - عندي ست عمارات. - العمارات تكتبها سيادتك باسم باسل وشهاب. - وأظن أكتب لكل منهما خمسين فدانا. - طبعا، ولكن الأرض الزائدة لها عندي ترتيب آخر. - ماذا؟ - ليس من المعقول أن تسلمهم ثلاثمائة وستين فدانا. - وماذا يمكن أن أفعل؟ - القانون أتاح لنا شهرا للبيع. - نعم. - أنا - إذا سمحت - سأذهب إلى العزبة وأبيع بقدر الإمكان. - لا بأس. - غدا تكتب لي توكيلا. - وهو كذلك. - والباقي بعد البيع سأتصرف في شأنه. - ماذا؟! - سأتصرف في شأنه. - ماذا تعني؟ - أعني أنك لن تسلم فدانا واحدا للحكومة. - ماذا تعني؟ - يحيى بك، هل سعادتك محام؟ - لا. - إذن اتركنا نشوف شغلنا. •••

كان وجدي جالسا في بيته وحوله جماعته، عجيبة؛ كيف عرفهم ومتى عرفهم. هذه هي عبقرية وجدي وعبقرية ناهد.

وكانت ناهد فكري تزين الجلسة ومعها الراقصة الذائعة الصيت سوسن، وما أظنني بحاجة إلى أن أذكر اسم والد سوسن؛ فشهرتها قامت باسمها وحده دون اسم السيد والدها، وعلى كل حال فاسم أبيها إذا قالته لن يكون الاسم الحقيقي؛ فليس من المعقول أن تقول إن اسم أبيها هو عبد الدايم، وما دامت قد غيرت اسمها الأصلي الذي كان شلبية؛ فقد كان لا بد لها أن تبحث لعبد الدايم عن اسم آخر يضرب إلى التركية أو إلى الأرستقراطية، وعلى كل حال هي في غير حاجة إلى هذا البحث. والذين يلتفون حولها لا يعنون في قليل أو كثير باسم أبيها، فما دامت هي بهذا الجمال وهذه الرشاقة، وما دامت تستطيع دائما أن تضحك هذه الضحكة ذات الصليل؛ فهي في غير حاجة إلى أب على الإطلاق.

في بيت وجدي الكئوس تدور حتى لقد أصاب الكئوس نفسها دوار من الخمر أو التنقل. لا يهم.

وتلف أيضا على المدعوين غابة ينفذ من خلالها الدخان المخدور، والغابة لا تكف عن الدوران.

يعدها لهم فتى توسط حلقتهم، إن أنعمت فيه النظر، وأنت محتاج إلى إنعام النظر؛ فالدخان ضباب كثيف، والرؤية ليست ميسورة وما هم في حاجة إلى رؤية ميسورة، ولكن أنت لا بد لك أن تنعم النظر، فإذا فعلت وجدت الفتى الجالس الذي يعد المخدر هو جابر عبد البديع! أتذكره؟ ما إخالك إلا تذكره؛ إنه زوج هالة وهو هو نفسه أخو حامد. •••

باع حامد من أرض يحيى تسعين فدانا وكان القانون يبيح للأسرة ثلاثمائة فدان، فكان لا بد أن يستولي الإصلاح الزراعي على مائتين وسبعين فدانا. - إذن نسلم الأرض. - يحيى بك، أهذا كلام؟ - وهل هناك كلام آخر؟ - هذا شغلي أنا. - وهل هناك شغل أيضا فيما يفرضه القانون؟ - القانون صديقي، وأنا أعرف كيف أتصرف معه. - حتى القانون أصبح صديقك. - مؤكد. - كيف؟ - من الذي يطبق القانون؟ - القضاة. - هذا في القضايا العادية، أما في الإصلاح الزراعي فهناك جهات كثيرة قبل أن نسمع كلمة القضاء هذه. - آه فهمت. - ومن يفهم إذا لم يفهم يحيى بك؟ - إذن نتفق على الأتعاب. - أنت مصر على تسميتها أتعابا. - سمها أنت كيف تشاء.

أحب أن أسميها هدايا. - لتكن إذن هدايا. - كم أهديتني عن الأرض التي بعتها عنك؟ - ثلاثون جنيها عن الفدان. - ستكون الهدية في هذه الفدادين.

وقبل أن يكمل جملته دخلت بهيرة: أتعملان؟ - نعم. - إذن أترككم. - وهل هناك عمل يخفى عليك، تفضلي يا بهيرة هانم. - وهو كذلك.

وقال يحيى : لم تقل هدية الفدادين الباقية. - أقولها لك غدا في التليفون. - كنت على وشك قولها. - لم أكن أنوي أن أقول الرقم. - فماذا كنت تنوي أن تقول؟ - كنت سأقول إننا سنجعلها هدية واحدة لكل الأرض مرة واحدة. - لا بأس. - ولن آخذ شيئا إلا بعد أن تطمئن إلى قبول التصرف من الجهات المختصة. - موافق. •••

حين دق جرس التليفون ردت بهيرة: بهيرة هانم؟ - أنا. - أنا حامد عبد البديع. - مرحبا يا أستاذ. - أنا سعيد الحظ جدا. - كذا! - وهل في هذا شك؟ - شك كبير. - لماذا لا قدر الله؟ - بالأمس أنهيت الحديث بمجرد دخولي. - وهل تهمك هذه الأعمال؟ - أليست أعمال زوجي؟ يا أستاذ حامد زوجي لا يخفي عني شيئا أبدا. - وهل معقول أن شخصا له زوجة مثلك يخفي عنها شيئا؟ - أهذا رأيك؟ - هذا جزء من رأيي يا أفندم. - الجزء الأول؟ - لا، هذا الجزء العشرون والأخير. - وماذا عن الجزء الأول؟ - الجزء الأول خاص بالجمال والأنوثة. - كفى كفى! - حضرتك التي سألت يا أفندم. - من معك؟ - وهل معقول أن يكون أحد معي وأنا أتكلم عن هذه الأجزاء؟ - متى سنراك؟ - أمرك. - الليلة. - تحت أمرك. - يحيى بك موجود؟ - أيهمك وجوده؟ - المهم وجود حضرتك. - الساعة السادسة اليوم.

الفصل التاسع عشر

ناهد فكري سيدة عجيبة في المجتمع المصري؛ إنها ليست من طبقة الأمراء، وأبوها ليس وزيرا ولا هو رئيس وزارة، إنما هو رجل عاش عمره يؤدي عمله كموظف في وزارة المالية.

وكان طريقه في الحياة يفرض عليه أن يعرف ذوي الشأن في السياسة والمجتمع، ولكنه هو نفسه لم يكن يحب أن يخوض المجتمع أو يدعي السياسة. هو رجل موظف، وهو موظف أمين شريف لم يسمع أحد عنه شيئا يشوب سمعته بسوء، وزوجته هي ابنة عمه وجدان هانم قرني، وقد كانت سيدة من خيرة السيدات، ليس لها في الحياة إلا زوجها وبيتها وابنتها ناهد وابنها سعيد، وكانت السيدة لا تترك سجادة الصلاة إلا لتقوم بشئون بيتها، وكان من الطبيعي أن يرسل ابنه وابنته إلى المدرسة، فقد كان من هذا الجيل الذي اعتبر التعليم ضرورة لا غنى عنها للفتى أو الفتاة على السواء.

وأتم سعيد الدراسة، واشترى له أبوه سيارة؛ فإن موارده لم تكن قائمة على مرتب الوظيفة، وإنما كانت الوظيفة لمجرد أن يكون موظفا، فقد كان يجل نفسه أن يكون بلا عمل مهما يكن غناه؛ هذا الغنى الفاحش الذي تركه له والده.

لقد كان فكري الزيني يملك ثماني عمارات إلى جانب تسع قطع أرض فضاء، جميعها صالح للبناء، وكانت كل قطعة منها لا تقل عن العشرين فدانا ويصل بعضها إلى خمسين فدانا. ولكن فكري لا يتصور أن تكون وظيفته في الحياة مالكا فقط.

فقد كان يرفض أن يرود المجتمعات، ويرفض كما ذكرت لك أن يعمل بالسياسة، فإذا خلت حياة الغني من مجتمع أو سياسة أصبحت فراغا لا يطيقه أحد.

لم يكن عجيبا إذن أن يشتري فكري لابنه سعيد سيارة، ولم يكن غريبا أيضا أن يختار سعيد أفخم سيارة في ذلك الحين، وقد كانت «باكار» وكان لها غطاء يرفعه عن نفسه أو يسدله كيفما يعن له.

ولكن فكري لم يقدر أن ابنه حين اشترى السيارة كان قد أعد لنفسه الوسيلة التي يموت بها.

هكذا شاء القدر ونزلت الفاجعة عليه وعلى زوجته قاصمة توشك أن تخلع جذورهما من الحياة، ولولا أن تعلقا بالإيمان، ولولا هذا اللطف الخفي الذي تبطن به السماء الفواجع؛ لكان الجنون أقل ما ينتظر الرجل الطيب وزوجته المتوكلة على الله.

وهكذا انفردت ناهد بوالديها، فكانت تصنع كل ما لا تستطيع فتاة في سنها وفي مجتمعها أن تفعله.

الملابس غاية في الفخامة، السيارة دائما من آخر طراز، الزينة يقوم بها أعظم المتخصصين، وأدوات الزينة تأتي من أعظم الأنواع، وإذا لم تسعفها بها القاهرة - وقد كانت من أعظم الأسواق العالمية - أسعفتها بها باريس أو لندن أو أي بلد في العالم.

وامتدت صداقات ناهد مع كل رواد المجتمع الذين كانوا حينذاك من بنات وأبناء الأمراء، فإن تواضعوا فمن أبناء وبنات رؤساء الوزارات أو الوزراء أو وكلاء الوزراء، وقد كان لهم في هذه الأيام دوي وطنين، ويمكن أن يكون رواد هذه المجتمعات من مجرد الأغنياء، ولكن حتم عليهم حينئذ أن يكون آباؤهم وأمهاتهم هم أنفسهم من رواد الصالونات؛ يدعون إلى بيوتهم كما يدعوهم الناس، وإلا فلا مكان لهم أو لأولادهم في هذه الأبهاء.

ولم يكن فكري ولا كانت الست وجدان ليفكرا أن يردوا هذه الصالونات، ومن المؤكد أن أحدا منهما لم يكن يفكر أن يدعو إلى مثل هذه الحفلات.

ولكن العجيب - وهذا ما جعلني أبدأ هذا الفصل - أن السيدة ناهد سيدة عجيبة في المجتمع.

كيف يسمح أبوان لا شأن لهما بصالونات المجتمع ومباذله لابنتهما أن ترود هذه المجتمعات، ولا يمنعانها.

وكيف استطاعت هذه الفتاة بمفردها، ودون عون من دعوات توجهها مثل الدعوات التي تتلقاها، أن تفرض نفسها على المجتمع بهذه القوة وهذا الجبروت؟

لا يستطيع المجتمع أن يدعو جميع أعضائه في كل دعوة، وإنما هناك دائما نوع من الاختيار، والذي دعي هذه المرة عند فلان يستطيع فلان آخر ألا يدعوه في المرة اللاحقة.

إن أي بيت من البيوت، التي تصطنع هذه الدعوات لا تستطيع أن تحتمل أكثر من عدد معين، يمثل على أحسن تقدير عشر هذا المجتمع، أو واحدا على عشرين منه.

ولكن مهما تكن الدعوات قليلة، ومهما يكن البيت صغيرا فلا بد أن تتصدر الليلة ناهد فكري.

أي سحر فيها؟

إنها جميلة، لا شك في ذلك، ولها هذا العطر السحري الذي يجتذب العيون والقلوب؛ فهو عطر ممزوج بجسمها، تكون معها وهي بعد جنين، لا تشتريه ولا يستطيع أحد أن يشتريه، فيه هذه الخاصية التي لم يستطع أحد أن يكشف سرها، وإنما هي تأسر في غير عقل، وتستولي على المشاعر في غير منطق، وكل ما عليها من عطور وملابس، وما صنعه البشر بشعرها من تلافيف أو بوجهها من زينة؛ لا قيمة له مع هذا العطر الذي منحته لها الطبيعة، والذي لا يعرف أحد مأتاه، والذي نحمد الله أن أحدا لا يعرف مأتاه، وإلا أصبح الرجال، جميع الرجال، عبيدا أو مجانين، وأصبحوا جميعا - ولا شك في هذا - عصاة.

ولكن أهذا العطر هو الذي يجعلها تتصدر الحفلات جميعا؟ كيف؟ إذا قبلنا ذلك في الحفلات التي يقيمها الرجال، فكيف بنا أن نقبله في الحفلات التي تقيمها النساء؟ إنها هناك مهما يكن جنس الداعي؛ رجلا كان أو كانت امرأة، عجوزين كانا أو كانا من الفتيان.

وهذا السحر فيها تمتاز به اثنتان أو ثلاث فتيات أخريات، وهن أيضا يستقبلن الدعوات، وحين يجتمعن ينشق الحفل عن مباراة في الجمال والأنوثة، لا يهم أحدا من الكاسب فيها ومن الخسران، فالمؤكد أن المدعوين جميعا هم الكاسبون.

ولكن أولئك الفتيات كثيرا ما تؤجل دعوتهن، وكثيرا ما تخلو منهن الحفلات إلا ناهد. إنها دائما هناك، هذا هو العجب.

والمجلات تتابع هذا المجتمع في إصرار، وما زالت تتابعه. لم تستطع ثورة حطمت كل المعايير والمقاييس والقيم القديمة أن تحطم أهون ما في هذا المجتمع من متابعة المجلات لأخبار الصالونات.

وقد هشمت الثورة من كان يؤم هذه الصالونات، ولكنها في نفس الوقت أخرجت للصالونات قوما آخرين.

وإن كان المجتمع المهشم قد أدرك معنى الصالون، ومعنى الأبيوسون والشينوا، ومعنى الرفق في الغزل، والكلمة تهمس ولا تقذف، واحتساء الخمر بحذر حتى لا يفلت الزمام، إلا قلة هزيلة منهم كانوا مرضى. وإن كان المجتمع الذي هشمته الثورة يعرف معنى الموسيقى الحالمة أو الصاخبة، ويعرف كيف يمسك بأدوات الطعام الفضية أو الكريستوفل أو المستجلبة من شيفيلد وميبل أندوب ويجيلها على الأطباق السفرة أو الليموج، فلا تسمع لها إلا همسا كهمس المحبين.

فإن المجتمع الجديد يعرف كيف يشتري أغلى الأشياء، ويقذف بها في صالوناته، لا يفكر في مواءمة بعضها لبعض، فهذان كرسيان حديثان في غاية الغلاء موضوعان إلى جانب أريكة أبيسون، وهذه منضدة من النوع الحديث المرتفع الثمن إلى جانب كرسي مرسوم على نمط لويس السادس عشر، والخمر في المجتمع الجديد أنهار، والشاربون يعبون عبا ويعلون وينهلون ولا يحتسون؛ فهم يريدون أن يسكروا لا أن يشربوا، والمجتمع الجديد يخصص حجرات للمخدر ذي الدخان أو المخدر الذي يبتلع، فالسكر عندهم هو الغاية، وهم يملكون إليه الوسيلة .

والأطباق غالية الثمن، والأدوات ما زالت فضية، ولكن إذا مد الطعام نشبت أمامك معركة بين أدوات الطعام والأطباق.

وعلى الحالين المجلات عندنا تهتم بهذا المجتمع، كانت تهتم بالمجتمع الراحل، وهي اليوم تهتم بالمجتمع الذي أخذ مكانه.

وفي أي مجتمع تسطع ناهد فكري لتكون نجمة كل المجلات، فإذا هي في بعض عام أعظم شهرة من كواكب السينما جميعا.

وحين أقبل الإصلاح الزراعي كان أبوها قد انتقل إلى العالم الآخر، بعد أن جعل ناهد مالكة لكل ما يملك، وحين أصبح المجتمع الجديد هو المجتمع المعتمد المعترف به راح مجتمع ناهد القديم يلملم أذياله ويتخفى في التياع، ويبتعد عن أضواء آلات التصوير بل عن أضواء الشمس إذا استطاع.

والعجيب أن ناهد استطاعت في مقدرة فائقة أن تغرب من المجتمع القديم لتشرق في المجتمع الجديد، وإن كانت في المجتمع القديم شمسا من ثلاث شموس أو شمسين فهي في هذا المجتمع شمسه الرفيعة المتألقة التي تنفرد بسمائه.

تلك هي قصة ناهد مع المجتمعين، ماذا عن ناهد في بيت أبيها، ذلك الرجل الجاد وأمها تلك السيدة الودود التي لا تعرف إلا البيت والصلاة؟

كان أمر الوالدين عجبا، حاولا بكل ما يملكان من جهد أن يقفا بين ابنتهما وبين الطريق الذي اختارته، ولكنها كانت كالفرس الجموح، وحين طالت المناقشات بينها وبين أبويها وأوشكت أن تضيق بها وجدت وسيلتها من قريب.

كان وجدي موجودا في كل دعوة تلبيها ناهد، وكان جماله الواضح يجعله دائما ملتقى اهتمام، وكان وجدي قد أعد نفسه لهذا المجتمع، فعرف كيف يكون سهلا في حديثه، يسير به على سطح الأمور ولا يغوص في أعماقها، إن دخل في نقاش استطاع أن يقنع كل من يحادثه أنه صاحب الحق الأصيل، وهكذا كان يترك الآراء تشتجر وتتشابك وهو يقف منها موقف المؤيد لكل رأي، فقد أدرك من المجتمعات التي هيأتها أمه أن من لا رأي له هو أقرب الموجودين إلى قلوب الحاضرين.

ولكل إنسان في الحياة هدف ومتجه، وما كان وجدي ليفكر مطلقا أن يكون صاحب مكانة في الحياة العامة، وإنما كان هذا المجتمع بالذات هو غايته وهدفه، حتى شهادة الحقوق التي حصل عليها كان يعتبرها وسيلته إلى هذه المجتمعات وليست وسيلته - لا قدر الله - إلى قضاء؛ واقفا كان هذا القضاء أو كان جالسا.

وحين شب وجدي عن الطوق وعرف قصة ميلاده تقبلها في هلع أول الأمر، ثم أمعن النظر فيها فإذا هو يخرج بها إلى رأي استقر عليه وارتاح له، لقد أعجب بأمه غاية الإعجاب؛ فليس عليها من بأس في رأيه أن تصل بينها وبين أبيه عزت وهو من هو جمالا، لقد رآه وقد زحفت الغضون إلى وجهه ولكنها لم تستطع أن تعدو على جماله، وحين مات عزت فكر أن يسير في جنازته ولكنه خشي أن يتغامز عليه المشيعون، فاكتفى بدموع تحدرت من عينه في طي الكتمان، ولم يكن يدري يومذاك لماذا يبكي؛ فأبوه عزت له أبوة أساءت إليه أمام الناس ثم هو لم يشعر منه بحنان، وجمود الأبوة يجعل الأبناء يكرهون آباءهم أكثر من كراهيتهم لأعدائهم، فالمفروض أن العدو لا يرحم، والمفروض أن الأب رحمان وعطوف وحنون كله إشفاق، وقلب يخفق بابنه، وروح ترفرف حيث يتحرك أبناؤه.

فإذا لم يرحم فقد خرق نواميس البشر، وإذا قسا بغير عدالة فقد قلب مواقع الأفلاك، أما إذا جحد ابنه فكان عنده هملا لا وجود له فهو قد مزق أستار البشرية وانحط عن درك الحيوان.

ولكنه بكاه.

كان وجدي إذن يرى أن لا بأس على أمه أن تقيم بينها وبين أبيه عزت صلة، فشأن السيدة المطلقة أن تبحث عن سند لها في الحياة، وإذا لم يتوفر السند الشرعي فإن وجدي يرى أن لا بأس عليها أن تبحث عن سند غير شرعي، فإذا كان جميلا فالعذر إذن ممهد لها.

ويرى وجدي أن أمه كانت ذكية حين ألحقت نسبه إلى عبد المحسن باشا؛ فهي تختار لابنها. ومن حقها أن تختار له الأب الأحسن. ومن أحسن من عبد المحسن باشا؟ وجعلت الطفل شرعيا.

وليقل الناس بعد ذلك ما يقولون. لقد فاز بناء على حكم القضاء بأب باشا وبثروة جديرة بالبشاوات. وهكذا استطاع وجدي في قدرة لا تتأتى إلا لنوع خاص من البشر أن يعجب بأمه لأنها ذكية ويعجب بأبيه الذي صنعته له المحكمة لأنه باشا وبأبيه الذي فرضته عليه الحقيقة والطبيعة وأحاديث الناس؛ لأنه جميل ولأنه قادر على أن يجعل النساء يحببنه، فوجدي في نظر نفسه يجمع المجد من ثلاثة أطراف، إن كان أهل المجد، والشاعر الذي تحدث عن أطراف مجده يجمعون المجد من طرفين اثنين على أكثر تقدير، والغالبية العظمى إن كان لهم مجد يتفاخرون به فهو لا يزيد عن طرف واحد.

وخاض وجدي المجتمع بهذه الثقة الهائلة بنفسه وبميلاده، وكثيرا ما كان يغبط نفسه؛ لأن الكثيرين ممن يخوضون هذا المجتمع يحتاجون إلى جهد جهيد من ثقافة خاصة، ودربة في التعامل وممارسة لهذه الحياة، واختلاط بالأسرات، وزمن طويل حتى يتحقق لهم آخر الأمر شهرة بين أبناء هذه المحافل. أما هو فقد وجد شهرته سبقته إلى محافل هذا المجتمع جميعها، ولم يكن يضيق حين تعرفه بعض السيدات بأخرى قائلة: «وجدي ابن نجاة.» مقنعا نفسه أن الأم صديقة السيدات، ومن الطبيعي أن ينسب إليها عندهن، ولا يريد وجدي، أو هو لا يهمه، أن يتشكك في السيدة التي تقدمه على هذه الصورة أنها إنما تتخلص من حيرة بين الحقيقة القضائية والحقيقة التي تعرفها هي ويعرفها الجميع، ويؤكدها هذا الشبه بين الابن وبين أبيه الحقيقي.

قالت له ناهد: أظن أنني كبرت، وأنت أيضا، على هذا اللف والدوران. - أي لف ودوران؟ - وكبرنا أيضا على الاستعباط. - والنتيجة؟ - قل أنت ماذا تريد. - ما دمنا قد وضعنا شروطا للعبة، فيجب علينا أن نلتزم بها جميعا. - حسنا، لن ألف معك. أهي محاولات منك لاجتذابي إليك، أم أنت جاد في هذا الغزل، وهذه النظرات التي أصبح الجميع يتندر بها؟ - هذا يتوقف على معنى الجدية. - لا يختلف اثنان في معناها. - ولكن نحن قد نختلف. - أمختلفان نحن عن الناس؟ - المؤكد أنني لم أسمع أن مثل هذا الحديث دار بين اثنين قبلنا. - لأنك دائما تدير أحاديث أخرى. - وأسمع أحاديث أخرى أيضا. - استطعت في فرح هالة فقط أن تقيم علاقة بينك وبين بهيرة. - أما زلت تذكرين؟ - أنا لست مثل بهيرة؟ - هذا مؤكد. - أنا أعرف أنك طلبت أن تتزوج بهيرة. - أمي التي طلبت. - لم يكن حبا إذن؟ - بداية استلطاف. - والذي تفعله معي الآن؟ - ماذا تريدينه أن يكون؟ - أنا لا أمانع في الزواج. - وأنا أرحب به. - على شرط. - كل الشروط مقبولة. - أن يعيش كل منا بالطريقة التي تروق له. - أمعقول أن تقولي هذا؟ - هذا ما سأفعله. - في استطاعتك أن تفعليه دون أن تذكريه. - لا أحب الخداع. - ربما كنت أحبه. - لعلك احتجت إليه. - كل الناس تحتاج إلى بعض الخداع. - ولكن بعض الناس تحتاج إلى الخداع الدائم. - لقد قبلت الشرط.

ولم يتردد فكري بك في قبول خاطب ابنته، رغم أنه يعرف كل شيء عن تاريخ حياته، بل إن وجدان هانم رحبت بوجدي؛ فقد كان الأب والأم كلاهما يخافان كل الخوف ألا تتزوج ابنتهما بعد أن أصبحت حديث المجلات وأبواب المجتمع، وكان فكري بك في أخريات أيامه، وكان يخشى كل الخشية أن يترك ابنته بلا زوج، فيزداد سفورها على الحياة. وهكذا تم الزواج في سرعة، واستقلت ناهد ببيتها، ولم تعد رقابة أمها أو أبيها تلاحقها.

وسرعان ما استقرت الحياة بينها وبين وجدي، بل سرعان ما تفاهما، لم يكن طريقاهما متباعدين، كان الهدف واحدا، ولكن كلا منهما كان يسلك الطريق لحسابه الخاص.

لم تمض شهور على الزواج، حتى كان فكري الزيني قد لقي ربه، ولم تمض شهور أخرى، حتى صدر قانون الإصلاح الزراعي. وشمر وجدي عن ساعد الجد وشمرت معه ناهد، فإذا بيتها ملتقى الأرباب الجدد أو أنصاف الأرباب من الأتباع. واستعملت ناهد كل وسائلها من سحر الأنوثة، وعطر السماء، وتخاضع اللفظ، واختيار الإشارة، ورسم الابتسامة، وافتعال الغضب، واصطناع الحفلات، وصناعة الإبهار.

واستعمل وجدي كل ما حبته به الطبيعة من اصطناع الغباء، وقبول كل الأوضاع، وتوطيد الصداقات، مهما يكن ثمن الصداقة من عرض أو سمعة، فما يعنيه العرض، ولا قيمة عنده للسمعة ، فهو من هو عرضا وسمعة بحكم الميلاد.

لقد كانت ثروة أبيه من الأرض الزراعية، وقد استطاع بمواهبه هذه أن يبقي عليها كاملة، لم يتسلم منها الإصلاح الزراعي شيئا، وقد أعانه على تلفيق الأمور حامد عبد البديع.

ومن هذه الأبواب التي تفتحت لحامد على يد وجدي وأخيه جابر، الذي كان على صلة قديمة ببعض الأرباب الجدد، استطاع حامد أن ينقذ أرض يحيى، ويتقاضى ثمنا لذلك عشرين فدانا من أرض يحيى، يصحبها أيضا عرض يحيى.

الفصل العشرون

لم يكن أسامة يتصور، حين حصل على شهادة الحقوق، أن يتجه إلى ما اتجه إليه، فقد بدأ حياته بأن تمرن في مكتب المحامي الكبير صديق والده مهران باشا عبد الفتاح، وقد استطاع أن يعرف في هذا المكتب الكبير كيف يكون المحامي كبيرا؛ فأسامة يجيد الفرنسية، وهكذا كان يستطيع دائما في كل القضايا أن يرجع إلى أعظم المصادر، وقد علمه مهران باشا كيف يتناول القضايا ويتعامل معها، ويغوص في أدق ما تخفيه أوراقها.

وما هي إلا شهور حتى تبين مهران باشا أن أسامة يملك موهبة المحاماة، وأدرك أن أسامة يستطيع أن يكون امتداد الأجيال العباقرة من المحامين؛ أمثال عبد العزيز فهمي، ومرقص حنا، والهلباوي، ووهيب دوس، وعلوبة، ومرعي، إلى آخر هذه الأسماء التي وطدت دعائم المهنة الخطيرة، وأرست أركانها في مصر والشرق العربي.

وقد أدرك أسامة أن عمله باللغة الفرنسية سيمكنه أن يكون محاميا عملاقا في القضايا المدنية، فهي التي تحتاج إلى البحث والرجوع إلى المصادر الأصلية للقانون.

وراح أسامة يخطو خطواته الأولى، ولكن قليلا ما خطا؛ فقد سرعان ما انقلبت موازين المجتمع كلها، ولم يصبح للقانون المدني مكان، فالقانون المدني يقوم أساسا على أن للمال حرمة، والدولة هي التي تحمي هذا المال أن يستلب بطريق غير مشروع.

فحين تستلب الدولة نفسها هذه الأموال، وتصدر القوانين بالحراسة والمصادرة لاستلابها، تسقط حرمة المال، ويصبح اختطافه والاستيلاء عليه بغير حق هو الأصل، وتصبح حرمته واحترام حق الإنسان فيه استثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع فيه.

وفي ظل هذه الشرائع الجديدة من سقوط الشرعية، ينزوي القانون خزيان ينظر ويتحسر وتدمى جراحه ولا ينطق، فالقانون هو الشرعية؛ فإذا استبيحت الشرعية اندثر القانون، وهكذا أصبح القانون المدني تاريخا يروى عنه كفترة من الزمان، كانت ولم تصبح، ومرت ولم تعد توجد، وتخلو الحياة من القانون، وتخلو أيضا من العاملين في القانون.

وهكذا كان من الطبيعي أن يبحث أسامة لنفسه عن عمل جديد، لم يتصور أنه يستطيع أن يتوظف، فقد تعلق بالمحاماة وأحبها، ورسم مستقبله وحياته على أن يكون محاميا، وقد قضى السنوات التي عمل بها في المحاماة في توطيد أركانه في ميدان القانون؛ والقانون المدني بالذات. فحين رأى القانون المدني يحتضر حار به الطريق، وأشكلت أمامه المناهج، ولم يعد يدري إلى أي مصير يصوب غايته.

كان قد خلف مهران باشا في المكتب في صفقة مالية معتدلة جديرة برجل كبير مثل مهران باشا، وبشاب غني مثل أسامة، وفي الأيام الأولى لاستقلاله بالمكتب، بدأ الانهيار القانوني في الحياة المصرية، وأصبح أسامة يتابع القضايا القديمة في المكتب، ويقينه يزداد كل يوم أنه لن يجد قضايا جديدة.

فاسم المكتب كبير، ولا يؤمه إلا أصحاب القضايا الكبيرة، وهؤلاء زالوا تماما من الحياة المصرية مضيعين بين المصادرة والحراسة. وباسم الحراسة والمصادرة اغتالت الدولة الغالبية العظمى من أصحاب المال بقانون، فكان شأنها من هؤلاء شأنا فريدا، فالسارق يعاقبه القانون ويسترد منه المال، أما إذا اغتصب القانون نفسه المال في حماية من قوة الدولة وسلطانها؛ فإنه حينئذ يصبح اللص أشرف من الدولة، وتصبح السرقة أشرف من القانون، فلم يكن غريبا أن يدرك أسامة أن المكتب إلى إفلاس، وإن كان هناك بعض محامين صغار يروحون ويجيئون في المحاكم؛ فإن هؤلاء إنما يترافعون في قضايا صغيرة، لا تستطيع أن تقترب من باب المكتب الكبير.

كان أسامة واثقا أنه لا بد له أن يبحث عن طريق آخر، وكان وثوقه هذا يزداد في كل يوم إيقانا. أين إذن الطريق؟ فكر أن يكتب لجميل في الكويت أو لصبحي في السعودية؛ لعل واحدا منهما يستطيع أن يجد له عملا هناك، فهو لا يطيق البطالة، حتى وإن كان موفور المال. كان في ذلك اليوم أوشك أن يصمم على كتابة الخطاب، ولكن وكيل المكتب يدخل إليه: زوجة محمدين تطلب أن تراك. - عم محمدين؟ - قالت أنت تعرفها. - أدخلها فورا.

وقام أسامة وراء وكيله، وفتح باب مكتبه وهو يصيح: أهلا أمه مرسيلة. - أهلا بك يا ابني. - أين أنت؟ - في الدنيا. - تفضلي.

وتدخل السيدة العجوز، ويجلسها أسامة علي كرسي قريب من مكتبه، ويجلس أمامها كما يفعل مع كبار الزوار. إنها زوجة عم محمدين الذي كان مع أبيه وجده، والذي لقفه على كتفيه. وكان عم محمدين قد مات منذ سنوات، وسأل أسامة زوجته هذه التي يناديها أمه مرسيلة؛ إن كانت تريد مرتبا شهريا أم تريد مبلغا واحدا مرة واحدة؟ ففضلت المبلغ الواحد، فأعطاها ألفي جنيه، وطلب إليها أن تقصد إليه في أي لحظة إذا احتاجت إليه، وكانت والدته منذ فترة تطلب إليه أن يسأل عنها. وذهب فعلا إلى البيت الذي كانت تقيم، فوجدها قد تركته، ولم يعد يعرف عنوانها، فكان فرحه بمجيئها طبيعيا، فقد كان يريد أن يطمئن على أحوالها، وهي في هذه السن المتقدمة، كما كان يريد أن يطمئن أمه عليها. - لقد وقعت من السماء. - أتلقاك بعيني يا أمه مرسيلة، أين أنت؟ لقد ذهبت إلى ... - سأحكي لك. حين أخذت منك المبلغ، كان عمك محمدين قد اشترى أرضا بحلوان، وهو يعمل مع المرحوم والدك، قلت أضع المبلغ في بناء بيت يسترني أنا وابني راشد وزوجته. - راشد تزوج؟ - لم يكن أيامها متزوجا، ولكن قلت في نفسي إنه لا بد سيتزوج. - معقول؟ - وتزوج فعلا، واسم النبي حارسه تعلم ميكانيكي. - سيارات؟ - سيارات وكل الماكينات، واستطاع واحد من صحابه أن يعينه بشركة من شركات الحكومة. - عظيم! - أنا أجرت شقة في حلوان؛ لأكون بجانب البيت وهو يبني، وراشد تعين، والحمد لله أصبحت الحالة مستورة، وتزوج راشد بنت حلال من أربع سنوات، وعنده الآن ولدان علي وحسين. - بسم الله ما شاء الله! - تعيش! ما أدري من يومين إلا وواحد من صحاب راشد يدخل إلي، ويخبرني أنهم قبضوا على راشد. - ماذا؟! .. لماذا؟ - قال صاحبه إنه كان في مظاهرة. - مظاهرة؟ .. وهل هناك مظاهرات الآن؟ -يا ابني والله لا أعلم، قال عن البتاع الاشتراكي، وإنه قال في الاجتماع كلاما جعل الرؤساء يزعلون. المهم الولد المحبوس. - أين؟ - لا أدري. - كيف؟ - ليلتين الآن لم يأت إلى البيت، ولا أعرف له طريقا. - من الذي قبض عليه؟ - سبحان العالم! - طيب يا أمه مرسيلة تعالي أنت معي الآن إلى البيت. - أروح يا ابني، البنت مراة راشد فتها في البيت حالها ملخبط، ولا يصح أن أتركها وحدها. - اسمعي .. تعالي معي، وسأرسل السيارة تأتي بزوجة راشد وبعلي وحسين أيضا. - يخليك، يطول عمرك، يعمر بيتك. - قومي يا أمه مرسيلة، قومي، هيا، نينا ستفرح جدا لما تشوفك، وأنت أيضا ستفرحين لما تشوفي مراتي نادية، وابني راشد وفهمي. - محفوظ باسم الرحمن الرحيم تعيش الأسامي! ولا تدعوني يا سي أسامة؟ لقد شلتك على كتفي ولا أحضر فرحك؟ - ربنا يعلم، بحثت عنك بلا فائدة، على كل نصلح الخطأ اليوم، هيا بنا!

الفصل الحادي والعشرون

الخيانة ليست وليدة منطق، وإنما هي طبيعة في بعض الناس، أو إن شئت الدقة هي طبيعة في أكثر الناس، مثلما تجد الأمانة طبيعة أيضا عند قلة من الناس.

وقد تعاني المرأة من زوجها ما تعاني، ولكنها مع ذلك تظل شريفة دون أي منطق يدعو لهذا الشرف؛ إلا أنها هي بطبيعتها شريفة، ولا تتصور أن الحياة فيها طريق آخر غير الشرف.

وليس صحيحا أن البنت لأمها، كما يقول هذا المثل السخيف، الذي يكفي القدرة على فمها دون أي داع، ودون أن يكون للقدرة أي دخل في الموضوع؛ إلا أن تكون مقدمة دون معنى لنتيجة لا صلة لها بالمقدمة، ثم هي نتيجة خاطئة.

فكثيرا ما عرفت الحياة فتيات شريفات غاية الشرف، وهن من أمهات لا يعرفن الشرف في أي شيء. وكثيرا، بل كثيرا جدا، ما أصبحت بنات غير شريفات، وهن في ذلك من أمهات كلهن شرف، وهكذا تجد نفسك في غير حاجة أن تكفي القدرة على فمها لتطلع البنت لأمها، كما يقول هذا المثل العامي الساذج.

ولكن لا بأس أيضا أن تتعرض البنت لظروف مثل ظروف تعرضت لها أمها، فتجد البنت نفسها سائرة في الطريق الذي سبقتها فيه أمها.

ولكن الموقف مع بهيرة ابنة شهيرة مختلف كل الاختلاف، وإن كانت النتائج متشابهة كل التشابه.

فشهيرة خانت زوجها؛ لأن زوجها كان يدعو الناس إلى احتقاره بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة؛ فلم يكن غريبا إذن أن تبحث شهيرة عن أحضان تحترمها، فخانت.

أما بهيرة، فزوجها يفرض احترامه على الناس بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، أو هو في الواقع يصطنع الوسائل غير المشروعة في فرض هذا الاحترام، ذلك أنه يطالب بالاحترام بالتكبر لا بالكبرياء وبالتظاهر لا بالحقيقة، فهو أجوف بلا علم. ومن أين العلم وهو بلا تجربة؟ ومن أين التجربة، وقد وجد نفسه في بواكير الحياة من كبار بكوات المجتمع المصري بغير ثقافة، أو علم، أو تجربة في الحياة؟ وكانت البكوية التي صبتها عليه أمه بقوة المال وجبروته لا تتيح له أن يخالط أبناء جيله، ويحيا الحياة الطبيعية التي تجعل الإنسان حين يكبر إنسانا طبيعيا شأنه شأن الآخرين، له تجاربهم وله أيضا أخطاؤهم.

اعتزل يحيى الحياة قابعا بين جدران بكويته الباكرة وتكبره الكاذب فأصبح فراغا؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يقنع بالاحترام الزائف من ظاهر الناس، وإن خالطه الاحتقار، بل وإن خالطته السخرية في أعماقهم.

وبهذا التكبر وبهذا الإرغام على الاحترام الموهوم عامل يحيى الحياة، وعامل أقرب الناس إليه زوجه بهيرة، وابنيه باسل وشهاب.

وهكذا راح ثلاثتهم يبدون له الاحترام غاية الاحترام، ويكنون له الاحتقار غاية الاحتقار.

أما الزوجة، فهي تحتقره للتكبر السخيف الذي يلازمه، فهو دائما منفوخ الصدر، يتكلم وكأنما كلامه وحي من السماء، ويخاطبها وكأنما يتنازل كل التنازل أن يمتد بينهما حديث.

وكم كان سهلا على بهيرة أن تبدي له الاحترام، وتشبع الغرور العجيب الذي ركب فيه، ثم هي بعد ذلك تصنع ما تشاء؛ لتشعر أنها تنتقم من غروره، وأنها قادرة دائما على تحطيم كبريائه، ولو في نفسها. والحب لا يستطيع أن يماشي الاحتقار مطلقا، وهكذا أصبح من المستحيل أن تحب بهيرة زوجها، وإذا انعدم الحب من البيت؛ فكل شيء غير شريف معقول وطبيعي.

أما ابناه فهما لم ينتهيا إلى احتقار كبريائه إلا حين تقدمت بهما السن، وعرفا آباء آخرين لأصدقائهما، وبالمقارنة تبين لهما أن أمر أبيهما عجيب.

لقد وجدا الآباء الآخرين يحبون أبناءهم، ويبدون هذا الحب في شتى صور، قد يبدو منهما الحب في كلمة إشفاق، أو حتى في كلمة تأنيب حانية، أو قد يبدو في منحة مالية، أو قد يبدو في اهتمام بدراسة أو إشفاق عند مرض. أما أبوهما فلا يبدي لأي منهما أي عاطفة، إنه يحبهما لا شك ولكنه بصلفه وتكبره يختزن حبه، ويضن به أن يظهر أنه يستكبر أن يبين منه حب؛ لعله كان ينتقم لنفسه أن أباه لم يظهر له حبه منذ بدأ هو يدرك الأشياء، أو لعله كان يظن أن الأجدر بالأب ألا يظهر منه حب، فما دام أبوه قد صنع هذا، فهذا إذن هو المثل الأعلى. أما حب أمه له وتفخيمها لشأنه، فهذا أمر مفروض؛ لأنه يرى نفسه فوق البشر، وأمه لم تزد على أن اعترفت بتفوقه وسموه، وهو بعد إذا سأل نفسه فيم هذا التفوق أو ذاك السمو؟ سارعت إليه نفسه بالكثير الكثير من توافه الأمور التي تجعله يتأكد أنه صنف فوق البشر، وأنه إنسان يسمو على الإنسانية.

وهكذا شب باسل وشهاب في منزل قاتم، الأم فيه تبدو تابعة للأب، وهي في حقيقة الأمر الشخصية المتبوعة لا التابعة؛ لأنها استطاعت في مهارة أن تجعل زوجها يصنع ما تشاء أن تصنع ببعض كلمات بسيطة من إشباع الغرور، ثم هي بعد ذلك تسحبه خلفها كيفما تريد، ويسير الأهبل خلفها وهو يظن نفسه يقودها، وينفذ كل ما تشاء، وهو يظن أنها هي التي تنفذ كل ما يشاء، والابنان يكبران ويدركان هذه الحقيقة، فتنقلب موازين الحياة عندهما، ويكرهان أباهما؛ لأنهما لم يريا منه شيئا يستحق الحب، ويعجبان من أمهما؛ لأنها جعلت من أبيهما هذا المسخ الشائه، وحين توثقت صلة الأب والأم بحامد عبد البديع وجد باسل وشهاب في حامد شخصية كريهة.

وربما كانت هذه الكراهية؛ لأنه دخل البيت الذي لم يتعود أن يستقبل أحدا؛ فقد كانت الأم تريد أن تستولي على الزوج، وكان الناس بطبعهم ينفرون من الزوج. وهكذا كان البيت مقفل الأبواب دون الآخرين، ولو لم يكن في البيت مع الأب والأم سهير أم يحيى؛ لكانت حياة الطفلين في البيت جحيما، فالأم مشغولة بخططها المشروعة وغير المشروعة، والأب مشغول بغروره، ولا أحد يسكب على الطفلين حنانا إلا سهير. وربما أحست سهير أنها هي التي جعلت ابنها مرسوما بهذا الجفاء والغرور، وكانت تعزي نفسها أنها لم تكن تتصور أن يتمادى فيه الغرور إلى هذا الحد، ولكن تلك هي مصيبة المشاعر في نفوس الناس؛ فإنها، قبيحة كانت أو حميدة، لا تعرف أين ينبغي لها أن تقف، وهكذا تصبح المشاعر القبيحة بالغة القبح، وتنقلب المشاعر الحميدة إلى شيء يدعو إلى الضجر أحيانا، أو السخف، أو الملالة، فتنقلب في أحيان كثيرة إلى شيء كريه هي الأخرى.

وحين ماتت سهير، كان الطفلان يشبان إلى بواكير المراهقة، وانقطع عنهما ذلك المنهل من الحنان في وقت كانا في أشد الحاجة إليه.

وحينئذ دخل إلى حياتهما حامد، وأحسا نحوه بذلك المقت، وإن لم يدريا لذلك سببا، وأغلب الأمر أن السبب كان في داخلهما، ولكن حامد استطاع في مهارة فائقة أن يتقرب منهما، وقد كانت السبل مهيأة له من قريب.

لقد عرف كيف يعاملهما كرجلين، وراح يصحبهما معه إلى مزارع أبيهما كلما ذهب لعمل في مزارع أبيهما، أو في مزرعته هو بعد أن أصبح مالكا لعشرين فدانا هناك.

وعرف أيضا كيف يكون واسطة لهما عند أبيهما، فاشترى كل منهما سيارة، وهو يدخل إلى الجامعة.

وأصبح حامد قريبا كل القرب إلى قلب باسل وشهاب، ولم يكن ذلك غريبا؛ فقد كان هو الإنسان الوحيد الذي يدخل البيت دخول الأقارب. وقد استطاعت معاملة حامد هذه أن تفتح عين الأم على تلك الهوة التي تفصل بين الولدين وأبيهما، بل إنها فتحت عينيها المروعتين على تلك الهوة بينها هي وبين ولديها.

وهكذا راحت تتقرب إليهما، وتعمل على إسعادهما بكل ما تملك من قوة، ولكنها حرصت كل الحرص أن تكون مصادر هذه السعادة بعيدة عن الأب؛ فهي لم تكن تريد للولدين أن يحبا أباهما، فهي حريصة أن يدرك الأب أن أحدا لا يحبه في هذا الوجود إلا هي.

وكان الولدان يحسان بحنوها، ويحسان أيضا بهذا الحنو ينقلب إلى قساوة طاحنة، كلما اقترب واحد منهما إلى ساحة الأب. •••

كان الوقت شتاء، وكان شهاب في حجرته الخاصة يشاهد التليفزيون الذي أحضرته له أمه في عيد ميلاده، ولم يكن معه باسل، ولم يكن ذلك عن جفاء؛ فقد كانت العلاقة بين الأخوين صداقة صحيحة فرضتها عليهما طبيعة الحياة في بيت أبيهما أو قصر أبيهما إذا شئت، ولكن باسل كان قد اختار أن يتجه إلى الهندسة، حين اختار شهاب أن يتجه إلى الحقوق، فإن الصداقة بينهما لم تستطع أن توحد طريقهما في الحياة.

وكان لكل منهما حجرته في البيت، وكانت هذه الحجرة مجهزة بكل ما تصبو إليه نفس شاب، فلكل مكتبته الخاصة، ولكل جهازه الخاص للتليفزيون وجهازه الخاص للراديو؛ فلم يكن غريبا أن يفترق الأخوان في الساعات الأولى من الليل، ليصنع كل منهما في حجرته ما يحلو له.

كان التليفزيون في تلك الليلة يعرض فيلما أجنبيا، وكان شهاب مستغرقا في مشاهدته بعيدا عن واقع الحياة كل البعد.

وانتهى الفيلم وانتهى الإرسال أيضا، وقام شهاب إلى الباب، ونظر إلى غرفة أخيه، فوجد أنوارها مطفأة؛ فقد كان يحس أن النوم بعيد عنه. خاب أمله في السمر مع أخيه وأقفل الباب، وعاد إلى مكتبته، فوجد كتابا كان قد اشتراه ولم يفتحه، وراح ينظر في صفحاته، الفكر الماركسي والإسلام، وكان عنوان الكتاب هو الذي أغراه بالشراء؛ فقد كان يحس كأبناء جيله أن النفاق من حوله يمكن أن يقلب جميع القيم والموازين، ولم يستبعد أن يجد منافقا يزعم أن الإسلام يبارك الماركسية . وكان هذا النفاق هو الحديث الذي لا تنقطع مصادره كلما اجتمع شباب، واعتقد شهاب أن هذا الكتاب سيمده بمادة لا تنفد عن سيطرة النفاق المطلقة على الحياة المصرية، بل على الدين أيضا.

أعاد الكتاب إلى المكتبة؛ فقد كان في نشوة لا تقبل أن تواجه هذا الانحطاط. بحسب الإنسان المصري أن يواجه النفاق في الصحف وفي الحياة؛ لأن الإنسان لا بد له أن يقرأ الصحف، وأن يعيش الحياة، فإذا خلا إلى نفسه وأحس بنوع من النشوة؛ فينبغي له أن يحاول نسيان الصف والحياة العامة وما يسودهما من نفاق؛ وإلا أصبح شخصا مولعا بتعذيب ذاته دون مبرر.

بحث عن رواية لكاتب يحترمه، ووجدها ووجد فيها ما تصبو إليه نفسه من انطلاق، واستلقى على السرير وبدأ يقرأ. لم ترق له بداية الرواية، أقفلها وأطفأ نور السرير، وترك نفسه ترود ما يحلو لها من وديان الخيال أو الحقيقة أو هما معا متمازجان، تتماوج المعالم منهما متناغمة أو متنافرة وهو ملق نفسه إلى الدفاع، لا يكبح جماح الخيال ولا يهتم بحقائق الواقع، ولم يكن يدري أطال به الوقت أم لم يطل حين سمع همسا وخطوات وعجب، فإن لكل حجرة من حجرات القصر حمامها الخاص، وليس هناك ما يدعو إلى صوت في الليل أبدا.

قام إلى الباب وفتحه في غير حذر، وفي اللحظة نفسها سمع صوت باب يقفل، ثم رأى شخصا ينزل السلم المفروش بالبساط السميك، وعلى ضوء القمر الذي ينفذ كسهم القدر من شباك السلم رأى وجه حامد، هم أن يلحق به ولكن قدميه تسمرتا، وحين استطاع أن يجرهما كان حامد قد خرج من الباب الرئيسي.

ذهب إلى حجرة أبيه، وفتح الباب ولم يفكر. - بابا.

وقام الأب مفزوعا! هذه هي المرة الأولى في حياته التي يتجرأ فيها أحد أن يفتح عليه الباب دون إذن سابق. - من؟ .. ماذا؟ .. من؟ - هل أنت نائم؟ - هذا هو الطبيعي في ساعة مثل هذه! - فماذا كان حامد يفعل هنا؟ - من؟ - حامد. - حامد من؟ - حامد الذي لا يدخل بيتنا غيره. - أجننت ؟ - يا ليتني جننت!

وجاءت الأم: ماذا؟ - اسمعي ما يقول ابنك. - حامد نزل الآن من هنا. - من؟! - كنت أظنه يعمل مع أبي، أو أنا على الأقل، تمنيت أن أجده يعمل مع أبي، ولكن أبي نائم.

أي امرأة غير بهيرة كان يمكن أن تنهار، ولكن بهيرة شيء آخر. من المؤكد أنها طبيعة أخرى غير طبيعة البشر. - اسم الله عليك يا شهاب، مالك يا ابني؟

وراحت تجس جبهته: آه، قل هذا. - ماذا؟ - الولد نار، ضع يديك يا يحيى.

ووضع يحيى يده، والعجيب العجيب أنه قال: فعلا فعلا عنده حمى. - تعال يا شهاب، استند علي.

وفغر شهاب فمه ولم يستند على أمه، وإنما استندت هي عليه وسحبته، ولكن من ينظر إليهما يخيل إليه أنه هو الذي يسحبها، وذهبت به إلى حجرته، وقبل أن تدخلها سمعت باب حجرة زوجها وهو يقفل عليه، ودخلت مع شهاب إلى حجرته، وأغلقت الباب وأرادت أن تلقي به إلى الفراش، ولكنه كان قد أفاق من ذهوله. - ماما، ماذا تفعلين؟ - تنام وتستريح، وحبة أسبرين تصبح بكرة في أحسن صحة. - ماما، كيف استطعت أن تقنعيه أنني محموم؟ - لأنك محموم فعلا. - ماما! - انتظر قليلا، حتى أحضر لك الأسبرين وبعض الثلج. - اخرجي من هنا. - ماذا تقول؟ - اخرجي حالا قبل أن أعمل ما أريد أن أعمله. - شهاب! - اخرجي!

وأمام نظراته القاتلة، خرجت سهير. •••

مسكين يحيى! لم يكن ما قاله ابنه جديدا عليه، كان يعرفه، وفكر كثيرا! كيف يمكن أن يعالج الموقف؟ أيطلقها، فتصبح الحقيقة مدموغة بورقة الطلاق الرسمية؟ وهل تحتمل كبرياؤه هذا؟ أيكلمها؟ وتعرف أنه يعرف؟ سكت واحتمل، وكان كل أمله ألا يعرف أحد آخر.

واليوم عرف شهاب، ماذا سيفعل شهاب؟

استطاع هذا السؤال البسيط أن يبقي يحيى مؤرقا حتى الصباح. •••

لم يقل شهاب شيئا لأبيه، ولكن العبء كان أكبر من أن يحتمله وحده، قال لأخيه، وارتمى الأخوان في دوامة قاتلة من الخزي والشعور بالمهانة: أبلغ تأثيرها عليه إلى هذا الحد؟ - اسمع، إن أبي يعرف. - ماذا تقول؟ - لا يمكن، لا بد أنه يعرف. - على كل حال إن لم يكن عارفا، فقد عرفته أنا، ورفض أن يعرف. - شهاب، ماذا ستفعل؟ - لا نعرف. - كيف سننظر إلى أم عاهرة، وأب ديوث وصديق خائن؟ - نحن الآن لا نستطيع أن نفكر. - لا بد أن نفكر، ماذا سنفعل؟ - نطلب منهما أن نعيش في بيت وحدنا. - ربما يرفضان. - لا تتكلم عنهما، تكلم عنها وحدها أنها تفعل ما تريد، هو لا شيء؛ بكل صمته المهيب، وبكل عظمته المتجهمة هو لا شيء. - إذن سترفض. - لا تستطيع أن ترفض لنا شيئا الآن. - لماذا؟ - بعد الذي رأيته. - إنها متأكدة أنك لن تقول لأحد. - فعلا، ولكن لماذا ترفض؟ - بماذا تبرر خروجنا من القصر؟ - إذن لا يدخل حامد هذا بيتنا. - ولا هذا، الظاهر أنك لا تعرف قيمة حامد، إنه صديق الحكام اليوم، وهو الذي يحمي بيتنا أن يؤخذ، ويحمي أبي أن توضع عليه الحراسة. - حراسة! أيقبل هذا الوضع خوفا من الحراسة؟ - لا تبالغ في ظلمه، ربما قبله حتى لا يعرفه أحد. - اسمع، لا بد أن نجد حلا، لن نستطيع العيش في هذا البيت، بل لن نستطيع العيش في مصر كلها. - وجدتها. - ماذا؟ - نسافر إلى الخارج. - نهرب؟! - نهرب. - ولكن الحقيقة التي نعرفها أنستطيع أن نتركها هنا؟ - هناك دنيا أخرى. - ولكنها لن تستطيع أن تبتلع الحقيقة التي نعرفها. - على كل حال، هذا خير من أن نرى هؤلاء الناس. - أي شيء خير من أن نرى هؤلاء الناس. - أي شيء خير من أن نرى هؤلاء الناس. - إلى أين نسافر؟ - إلى فرنسا. - ولماذا فرنسا؟ نسافر إلى إنجلترا. - أولا؛ لأننا نتقن الفرنسية. - وهذا سبب يجعلنا نسافر إلى إنجلترا؛ حتى نتقن الإنجليزية أيضا. - الحقوق دراستها في فرنسا والهندسة أيضا، أما في إنجلترا فستكون دراسة الهندسة فقط هي الممكنة، فالقانون الإنجليزي بعيد كل البعد عن القانون المصري. - لولا الظروف التي نمر بها؛ لكنت تركتك تسافر إلى فرنسا، وسافرت أنا إلى إنجلترا، أما الآن فلا بد أن نكون معا دائما. - ومسألة اللغة بسيطة، يمكن أن نقضي الإجازة الصيفية كلها في إنجلترا لدراسة اللغة. - فكرة.

وسافر الأخوان، وتركا القصر العظيم يضم بين أحنائه تكبره وخسته وجراحه وخيانته، ولم يقدرا .. وكيف لهما أن يقدرا أن القلب المتكبر الكسير لذلك الرجل الذي استطاعا أن يكرهاه، انصدع حطامه بسفرهما صدعا الموت أهون منه، ولكن طول التكبر منه عوده تلبس الكبرياء، فانحنى على صدوع قلبه الذي أمسى شظايا. وصمت!

الفصل الثاني والعشرون

لا يستطيع أحد أن يقدر أثر الرواية المقروءة المعروضة على مسرح، أو شاشة السينما، أو التليفزيون، أو المذاعة، التقدير الصحيح.

فإن هذه الروايات أفسدت حياة الناس، ونغصت عليهم عيشتهم تنغيصا فريدا؛ حتى لا يجرؤ شيء آخر أن يسابقها في هذا المضمار.

فقد ظلت هذه الأعمال التي نطلق عليها أعمالا فنية ترسم البيت السعيد رسما غاية في السذاجة والعبط، فالزوجة تطعم زوجها بيدها، وتأتي له بالحذاء، وتتولى شئون ملابسه، وتحاول دائما أن تضحك معه، ولا تطلعه على شيء يكدرها أبدا حتى لا يمتد الكدر إليه، وهي طبعا تطيع أوامره مهما تكن هذه الأوامر سخيفة. وتحرص هذه الأعمال الفنية أن تجعل حياة الزوجين جميعا على هذه الوتيرة الواحدة، التي يتخيلها الكتاب السذج، سعادة لا تدانيها سعادة وهناءة لا يماثلها هناء.

وأغلب الأمر أن هؤلاء الكتاب يلقون من زوجاتهم عنتا ورهقا يجعلهم يهربون من واقع دنياهم، تلك التي يصطنعونها دنيا مهبولة تفيض سخافة وعبطا.

ولو وقف الأمر عند هذا لأصبح مقبولا. وأي خير أن يهرب كاتب، أو أي شخص، من واقع مرير إلى حلم وهم سعيد، ما دام بهذا يقر عينا ويسعد؟

ولكن الكارثة الكبرى أن المنتجين والمخرجين يأخذون الأمر مأخذ الجد، ويعرضون هذه الأعمال على الناس.

وهكذا تقولب الحب في حياتنا في هذا القالب المضحك، فالزوجة التي لا تطعم زوجها بيدها، ولا تطيع كل سخافاته، ولا تأتي له بالحذاء أو النعل، ولا تطبخ له كل ما تهفو إليه نفسه، تصبح عند الأزواج الذين شاهدوا هذه الأعمال أو قرءوها، امرأة لا تعاشر، وهي في عرفهم تكرههم ولا تحبهم. ومن الزوجات من صدقت هذه الصورة، وحاولت أن تنفذها في أيام زواجها الأولى، ولكن قليلا ما تستطيع أن تظل على حالها هذا، ثم تعود إلى طبيعة البشر. وهكذا تنقلب حياة الزوج إلى جحيم وليس هذا منه بعجيب؛ فقد رسمت له الأعمال التي رآها الجنة بهذه المعالم المضحكة، فحين يصطدم بغيرها يصبح من الطبيعي أن يرى حياته جحيما، فنقص أي معلم من معالم هذه الجنة الفنية هو عنده جحيم. وويل للزوجين إذا كانا تحابا قبل الزواج؛ فإن كلا منهما سيتوقع من الآخر أن يقتل نفسه وهو سعيد؛ ليقدم لحبه كل ما يمكن أن يخطر ببال هذا الحب، حتى إذا تم الزواج وعاد كل من الزوجين إلى طبيعة البشر، انكشفت الحقيقة الرهيبة أن الرجل إنسان بشر، وأن المرأة إنسانة بشر، وتصطرع الحياة على أنغام نفير الحروب، بعد أن كانت ساجية بين المحبين على أنغام موسيقى الملائكة.

وفي أتون هذه الأوهام، تحطم كثير من حب كان صادقا، ولكنه كان مجنونا، ودمرت زيجات كان يمكن أن يفوح منها عبير يانع عن أيام مخضلة بندى الحنان والمودة، ولكنها جهلت الواقع، ولم تستطع الأيام أن تنقلب عندها إلى أحلام وأوهام ورؤى.

ولكن أسامة كان محصنا ضد الأوهام، فلو أن الحياة سارت بأبيه رخاء كلها، ولو أنه ترك لأمه وحدها لواجه، في كل متجه من حياته، ذلك الحلم الباسم المستبشر الذي ينقلب إلى واقع كشر متجهم ذي أنياب ونصال ومدى.

لقد صاحبت نمو أسامة تلك الأزمة التي تعرض لها أبوه، ووعى أباه وهو يركب الموتوسيكل السيدكار، وهو ما يزال يذكر أمه وهي تعتذر عن عدم قبول الدعوات؛ حتى لا تصبح مضطرة أن تردها بمثلها، ورأى بيته والطعام فيه معدود بقدر الأشخاص، بعد أن كان دائما موفورا لا يحصيه حجما ولا عددا، حتى لقد كان الخدم يدعون من يشاءون من خدم الجيران، ورأى أمه تمكث السنة بأكملها لا تدخل بيتها خياطة، ورأى أباه لا يفكر في شراء قماش جديد لنفسه سنوات، ولكنه أيضا يذكر أن ملابسه هو دائما كانت تتجدد، فلم يعد على مظهره إشارة من ضيق يد، وأدرك كيف كان أبواه يجنبانه دائما أن يحس بما يمران به، وحسب الجانبان أن ابنهما لم يشعر بشيء، وحنا هو عليهما فلم يشعرهما أنه أحس بشيء.

ومرت بهم هذه الأيام النكدة الماجدة، واستطاع أسامة بضربة حظ أفلس فيها أبوه أن يصبح هو من أغنى الناس نفسا، واستطاع أن يعرف أن الحياة التي تعطي تستطيع أن تمنع، وأن الإنسان إذا لم يعرف من الحياة حالتيها، صار فيها هشا هينا جاهلا، أو أحمق تصرعه أي ريح من رياح الحياة.

ورياح الرخاء والغنى والدعة والهناء تحمل من طواياها نفس الأخطار التي تحملها رياح الفقر والحاجة، والعوز والشقاء.

وإذا كان الإنسان يحتاج أن يكون قويا ليواجه الحياة، وهي تطحن وتفترس بمخالب الفقر، فهو محتاج أن يكون أكثر قوة؛ ليواجه الحياة وهي تبتلع وتمحو من الإنسان إنسانيته، حين تفرش الذهب والماس تحت الأقدام.

استطاعت هذه الفترة النكدة أن تجعل من أسامة إنسانا يعرف تقلبات الحياة؛ الأمر الذي لم يستطع المسكين يحيى أن يعرفه، فلو كان يحيى قويا في لقاء الغنى، لما انهدمت به الحياة، ولما تصدعت جوانب نفسه، ولما خلت الحياة عنده من كل معنى للحياة.

في هذه الأيام النكدة التي شهدها قصر راشد باشا، كانت أسرة فهمي عبد الحميد من الأسرات النادرة التي تأتي للقصر أغلب أيام الأسبوع، وتوطدت علائق الصداقة بين خديجة وبين نعمات زوجة فهمي. وفي فناء القصر لعبت جميلة مع أسامة، كانت تصغره بعام وبعض عام، ولكنه لم يكن رآها قبل أن تصبح أمها صديقة لأمه.

لم يكن حبا ذلك الذي نما بينهما وإنما كان ألفة، وكان يأنس إليها، وكان يخيل له أنها تأنس إليه. ولم يكن يدري يومذاك شيئا عن الصلات التي تجمع بين أبيها وأبيه، وما كان يستطيع أن يعي هذه الصلات، ولا أن يفهمها. وكيف لمثل من كان في سنه أن يفهم هذه الحرب، وهذا العداء، ثم هذا الحب وذلك الإيثار؟ وكيف يستطيع أن يعي في براءته الإنسان يسفل إلى هذه الخسة، ثم يعلو هو نفسه إلى هذه السموة؟

لم يكن يدري شيئا دائما ، كان يأنس إلى جميلة وكان يألفها، وكان يحب أن تأتي، ويحب أن يلعب معها طفلين، ثم أصبح يحب أن يحكي ما يجري له في المدرسة، ثم أصبح يحب، حين باكرته الرجولة ونهدت هي إلى الأنوثة، أن يحادثها عن كل شيء، ويستمع منها عن كل شيء. وكانت تحس أن ما يقوله لها لا يقوله لسواها، وكانت تعرف أن ما تقوله هي له لا تقوله لسواه، على براءة ما يقول وما تقول.

وحين تزوجا كانت بينهما هذه الألفة الحنون التي تكون بين الزوجين، ولم تكن الناحية المالية تشكل لهما أي عقبة؛ فقد استعاد راشد ثروته، وكتبها جميعا باسم أسامة، ولو أن هذا لم يكن يعني شيئا بالنسبة لأسامة في حياة أبيه؛ فقد كان راشد هو الذي يتصرف في كل دخله.

وقد تزوج أسامة، وراشد ما زال على قيد الحياة، وكان راشد سعيدا بهذه الزيجة أشد السعادة، كما سعدت بها أيضا خديجة. وحين استقر الزوجان الصغيران بالمنزل تنازلت خديجة عن سيادة البيت، وجعلت لجميلة اليد الطولى والوحيدة في إدارة البيت، وحلا لها أن تأخذ المكان الذي أخذته منها هانم أفندي حين تزوجت هي راشد، وسعدت خديجة بمكانها هذا الجديد، وقد استطاعت جميلة في ذكاء أن تجعل خديجة دائما في مكانة عليا، أوامرها مقدسة وراحتها موفورة قبل أن تتوافر لزوجها أو حتى لحميها.

وحين مات راشد، كان أسامة قد عمل في المحاماة، ووجد نفسه في مهنته، فاستطاع أن يكون حكيما في تصرفاته المالية؛ يعيش عيشة كريمة، ولكنها بعيدة عن السفه.

وكان من الطبيعي أن تختلف خديجة وأسامة في أيام زواجهما الأولى، ولم يكن أسامة يدهش أن يجد أباه وأمه يقفان إلى جانب زوجته، حتى وإن لم تكن محقة، فقد وجدا عندها طاعة الأبناء وحبهم هذه الطاعة، وذلك الحب الذي يصبح موضع إكبار إن جاء من غير الأبناء.

وحين مات راشد، ظلت جميلة التي أصبحت ست البيت، فعلا لا تفضلا، أكثر عناية بحماتها، وأكثر رعاية لها وحدبا عليها.

وحين تتابعت قوانين الإصلاح الزراعي ابتلعت الغالبية العظمى من ثروة فهمي عبد الحميد، فلما مات كان ما تركه من مال يكاد لا يقوم بشأن أولاده، فكان أسامة يعوضهم عما أصابهم كلما سنحت فرصة لا تجرح كرامتهم، وأصبح يحث زوجته أن تعطي أخويها كل ما يحتاجان إليه حتى لا يحسا بعنت الحياة. إلا أن الأخوين وجدا أن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، فكتب كل منهما توكيلا لأسامة ليدير ما بقي من أرضهما، واتجه الأكبر جميل إلى الكويت، واتجه الأصغر صبحي إلى السعودية، ومرت الحياة بالزوجين أسامة وجميلة طيبة، لا يشوبها إلا ما يشوب البيوت السعيدة من خلافات يمحوها الحب، أو شجار يعصف به الحنان.

وأنجبا راشد وفهمي، وراحت الحياة تكرر نفسها مع الطفلين، ليدرجا في طريق درج فيه أبواهما من قبل قد تختلف تفاصيله، ولكن المعالم الأساسية فيه واحدة.

وحين كسدت سوق المحاماة المدنية، وفكر أسامة أن يتجه، كما اتجه كثير من غيره، إلى البلاد العربية، جاءته أم مرسيلة لتغير متجه حياته جميعا.

فمنذ ذلك اليوم الذي قصدت فيه إلى مكتبه، أصبح أسامة من أكبر المحامين في القضايا السياسية، ولم تكن هذه القضايا وحدها تكفي مكتبه، ولكن ذيوع اسمه فيها جعله بعيد الصيت في القضايا الجنائية، وانتعش المكتب واستقر أسامة، وأصبحت الحياة أمامه هانئة سعيدة، ومن أسعد من رجل بارع في عمله يعترف الجميع ببراعته؟

وهل هناك اعتراف أعظم من تلك الدعوة التي جاءت إليه عن طريق ضابط دخل إلى مكتبه بغير إذن، ليقول له في محاولة فجة للتلطف: سيادتك مطلوب. - أنا؟ - نعم. - من الذي يطلبني؟ - ستعرف حين تذهب. - أذهب؟ - سأذهب معك. - إلى أين؟ - ستعرف. - لماذا؟ - ستعرف ذلك أيضا. - أهو قبض؟ - لا، المسألة لن تصل لهذا. - لقد وصلت فعلا. - إنها مجرد دعوة. - هل أستطيع الاعتذار؟ - طبعا لا. - فهي أمر بالقبض، وليست دعوة. - سيادتك تستطيع أن تسميها كما تشاء. - ألا أخبر البيت؟ - لا داعي. - مجرد مشورة أم هو أمر ألا أتصل؟ - لا داعي، والسلام. - ومن أين يأتي السلام؟ - تفضل. - حاضر.

الفصل الثالث والعشرون

حين وقعت هزيمة 5 يونيو، كان باسل وشهاب في باريس، وشاهدا الفضيحة العالمية على شاشات التليفزيون، وراح كل منهما ينظر إلى الآخر تحجب صورة كل منهما عن الآخر دموع غزار لا تريد أن تنضب، ولم يكن عجيبا أن يفكر كل منهما أنهما كأنما يواجهان حادثة أمهما مرة أخرى، ولكنهما في هذه المرة أحسا أن العالم أجمع يعرف السر الذي ينطويان عليه، بل أحسا أن التاريخ أيضا أصبح يعرف هذا السر الذي لم يصبح سرا.

لم تصبح علاقة أمهما الآثمة حادثة يخفيها جدار بيت، وإنما أصبحت مثار اهتمام العالم أجمع؛ التليفزيون والسينما والإذاعة والصحف، لا حديث في العالم لها إلا عن أمهما. وتتكسر النصال على النصال!

لقد كانا يغفران للحكم المصري كل ما يسمعانه من قهر الآدمية، وقتل الأبرياء، وخنق الكلمات، ومحق الرأي، وهدم الإنسان، في سبيل أن يكون هناك جيش قوي يواجه العدو.

ثم، وفي ساعات، تصبح مصر والعروبة جميعا أهزوءة التاريخ على يد الجيش المصري.

قلبانا عليك يا مصر! عرفا أن أمهما أصيبت بالسرطان، وأنها تنتظر الموت في أية لحظة. - نذهب؟ - أتريد أن نذهب؟ - أمام الناس؟ - وأمام نفسينا كيف سنراها؟ - وأبي؟ - هل نستطيع أن نصنع له شيئا؟ - الكثير. - سيتجهم. - ولكن قلبه سيفرح حين يرانا. - هل رأيت قلبه؟ - لا لم أره. - كل الأبناء رأوا قلوب آبائهم في ابتسامة، في فرحة لقاء، في اهتمام بمرض، في سعادة بنجاح. هل رأيت قلب أبيك؟ - ولكن له قلبا. - كيف نعرف؟ - لقد ستر على أمنا. - يخشى على كبريائه. - كان يستطيع أن يطلقها، ولا يبدي الأسباب. - لقد تعود أن تكون بجانبه. - وهي لغيره؟! - إنه مشغول دائما بنفسه. - لعله خاف أن يذكرنا أحد بسوء. - تحاول أن تجعل لنا أهمية عنده. - إننا جزء منه. - شهادة الميلاد فقط. - إنه يخفي مشاعره. - كان يستطيع أن يجعل مشاعره تخونه مرة واحدة، ما دام استطاع أن يجعل زوجته تخونه دائما. - إننا لا نستطيع أن نعرف ما بداخله. - ما دمت لم أر له ظاهرا، كيف أعرف داخله؟ - هو الآن جازع. - مرض زوجته قاتل. - مصر كلها تعاني نفس المرض. - فهو يعاني مرض مصر، ومرض زوجته. - أتريد أن تسافر؟ - لا أعرف. - فكر. - أريد أن أرى أمي، وأريد أن أرى مصر، ولا أريد أن أرى أمي، ولا أريد أن أرى مصر. - لم يبق لنا إلا نفسانا. - أخشى أن نقتل أبانا بما نفعله. - وأنا أخشى أن نقتله، إذا رآنا ونحن على هذه الحال. - لا نذهب إذن. - لعلنا نكون أشفق عليه، لو لم نذهب! - ومصر؟ - سنكون أشفق بنفسينا إذا لم نذهب. - لعل مصر تحتاج إلينا. - إنما تحتاج للمنافقين والدجالين والهتافين والهازلين. - لعلها الآن تحتاج للجادين. - لو كانت ما سمت الهزيمة نكسة، وكأنها إنفلونزا. - إذن؟ - نبقى، فما بقي لنا إلا أنفسنا. - معك حق نبقى، فما بقي لنا إلا أنفسنا.

الفصل الرابع والعشرون

استطاع وجدي أن يغري زوجته بالإكثار من الحفلات؛ يدعو لها كل صاحب سلطة. وهذه الحفلات لا تكلف المأكل والمشرب فقط، وما هو بقليل، وإنما تكلف معها ملابس لكل حفل. وقد استطاعت ناهد في غمرة هذه الحفلات أن تبيع أملاكها جميعا، وراحت تشتري بأثمانها مجوهرات لا يعرف زوجها عنها شيئا، ودبرت ناهد أمرها أحسن تدبير، وراحت تفحص الأشخاص الذي تعرفت بهم في حفلاتها، واختارت أخطرهم شأنا، وساعدها الحظ فكان أيضا أشدهم غباء، فألقت عليه شباكا قناصة لا تفلت صيدا.

وكان من الطبيعي أن يظن نفسه ساحر نساء، وهادم قلاع، وفاتح حصون، وما كان ذا فكر ليمعن به النظر، وليتبين أن التي يتوهم أنه سحرها؛ إنما هي التي سحرته، وأن القلاع التي هدمها كانت بلا جدران إلا بابا على الصحراء، فهي مفتحة من جميع جوانبها، ومن ثم فلا حصون هناك لتفتح.

أغرته ناهد، وقبل الإغراء وأعد لها - وما كان أيسر هذا بالنسبة إليه - شقة كانا يلتقيان بها، وما هي إلا لقاءات قليلة حتى واجهته ناهد. - لا يمكن أن يستديم الحال هكذا. - لماذا؟ - أتحسب أن أمرنا لن يعرف؟ - لا يمكن أن يعرف. - إذن اطمئن، لقد عرف فعلا. - كيف؟ - أنت في نومة. - أنت التي تتوهمين أشياء لا ظل لها من الحقيقة. - يا حبيبي فكر ، أنت شخصية مهمة جدا، كيف يمكن أن تكون تنقلاتك مطلقة هكذا من غير عيون حواليك؟ - ماذا؟ - أتشك في هذا؟ - انتظري انتظري، يظهر أنك على حق. - كيف؟ - بالأمس .. نعم لك حق .. فعلا. - ماذا حدث بالأمس؟ - قال لي كلاما مبهما فيه هذا المعنى. - مثل ماذا؟ - مثل ماذا؟ مثل: كل واحد منكم حر، وأنا عارف أن كثيرين منكم لهم ليلى يهيم بها. - أرأيت! ولكن ماذا يعني بليلى؟ - لعله يقصد ليلى المجنون. - أو غيرها. - سأله أحدنا أي ليلى تقصد؟ - قال: لك حق. - ماذا قال؟ - قال ليلى، ناهد، أو جواهر، لا يهم. - أرأيت؟ - فعلا. - إذن ماذا ترين؟ - طالما أنا في مصر لا أمان لنا. - وماذا تريدين؟ - أسافر. - إلى أين؟ - إلى الخارج. - وأنا؟ - أنت ستجد أن الاتصال بي في الخارج أسهل من الاتصال بي هنا، الطيارات كلها تحت أمرك. أقيم في فرنسا أو سويسرا أو إنجلترا، وكل شهر تأخذ أسبوعا أو أكثر، أو قل إجازة، ونكون على حريتنا. - متى تستطيعين السفر؟ - الآن إذا استطعت أنت. - ووجدي؟ - اتركه لي. - سأسافر. - مع السلامة. - إلى الأبد. - ماذا؟ - وهل تعتقد أنني أصرف هذه المبالغ؛ لأبقى في مصر؟ - وأنا؟ - أنت حر. - أنا مستقبلي في مصر. - مع من؟ - مع هؤلاء الذين نعرفهم. - أنت مستقبلك الحقيقي في بيع رجولتك. - ماذا تقولين؟ - لا تدعي الدهشة، أنا عارفاك، وأنت تعرف أنني عارفاك. - وافرضي. - الستات اللواتي يشترين رجولتك تركن مصر. - بعضهن ما زال هنا. - هؤلاء لا يدفعن ما يكفيك. - مع وظيفتي في الاتحاد الاشتراكي. - والمخابرات. - وتعرفين هذا أيضا؟ - أنت لا يكفيك هذا جميعه. - إذن؟ - سافر. - وأرضي هنا؟ - وماذا سيجري لها؟ ستبقى وستظل تدخر ريعها، وتنفق من ريع أعمالك. - أسافر معك؟ - لا، في الخارج لا يمكن. - لا يمكن ماذا؟ - كنت هنا أشتريك لتكون ستارا، أما في الخارج فأنا لا أحتاج لهذا الستار، والنقود في الخارج لها قيمة أخرى، إنها في الخارج عملة صعبة. - ماذا تعنين؟ - العقد بيننا انتهى. - ولكنك لا تستطيعين السفر من غير إذني! - وجدي، هل أنت جاد؟ - طبعا لا. - إذن؟ - تكلمين الذي سهل لك السفر يرفع درجتي. - في المخابرات أم في الاتحاد الاشتراكي؟ - المخابرات أهم. - لا مانع، العشرة على كل حال لا تهون. - تظاهري أنني لن أوافق على السفر. - تقصد الطلاق؟ - كله واحد. - هناك فرق. - لم نختلف، قولي إنني لن أوافق على الطلاق، إلا إذا أرضاني هو، وضحك علي بترقية. - أتظن أنني أحتاج لدروسك؟ - آسف. نسيت نفسي. - فعلا. •••

وسافرت ناهد، وحمل حقيبة المجوهرات صديقها ذو السلطان، وسلمها لها في الطائرة. وكانت التذكرة إلى لندن، وكانت هذه التذكرة هي نهاية العلاقة بينهما؛ فقد قدر لصاحب السلطان أن يفقد سلطانه، فلم يعد يستطيع السفر، والشيء الذي مات دون أن يعرفه هو أنه، باليقين والقطع، كان لن يجدها في ذلك العنوان الذي اتفقا على اللقاء فيه بلندن.

لم يكن عجيبا إذن أن يستقبل أسامة، عند اعتقاله، وجدي جالسا على مكتبه في مبنى المخابرات العامة.

ولما كان أسامة يعرف وجدي ويعرف قصته جميعا؛ البادئة بمولده والمارة بزواجه، والتي لم تنته بعد؛ لم يجد أسامة أي غرابة في هذه الابتسامة الفاجرة التي لا تبالي بشيء، والتي في نفس الوقت توضح أي درك من الوضاعة ابتدع صاحبها. - أهلا أسامة بك. - أهلا. - ألا تذكرني؟ - آسف. - أنا وجدي، وجدي عبد المحسن، والدي ووالدك كانا صديقين، ونحن تقابلنا كثيرا، ولكنك تنسى. - فعلا كثيرا. - أم تراك تنسى حين تحب أن تنسى؟ - المؤكد أن طريقة الدعوة، أو الاستدعاء التي تفضلت بها علي، تجعل الإنسان ينسى أشياء كثيرة، حتى التي لا يحب أن ينساها. - وهل كثير علينا أن تعطينا بعض وقتك؟ - يا أستاذ ...

وأدرك وجدي أنه يصر على تجاهله، ولكنه لا يعنى كثيرا برأي الآخرين؛ فهو يكمل في ابتسامته الفاجرة. - وجدي، وجدي يا أخي. - المؤكد أن هذا ليس هو موضوع الحديث الذي تريدني فيه. - طبعا هناك ما أريد أن أكلمك فيه. - أنا تحت أمرك. - أصبحت المحامي الأول في كل القضايا السياسية، يا أسامة بك. - وهل هذا ممنوع؟ - المظهر لا يليق. - ما المظهر الذي لا يليق؟ - كأنك تأخذ من العهد موقفا مضادا. - يا سيدي، أنا أترافع في القضايا التي يرى العهد أن يسمح للمحامين بالترافع فيها، والقضايا الأخرى لا يترافع فيها أحد؛ فماذا يضير أن أكون أنا المحامي أم غيري؟ - خفف من قبول هذه القضايا. يكفيك قضايا الجنايات، وخصوصا قضايا المخدرات. - يكفيني من أي جهة تقصد؟ - القضايا الجنائية، وخاصة قضايا المخدرات أتعابها كبيرة. - سيادتك شهادتك في القانون؟

وأوشك وجدي أن يغضب بهذا التجاهل الكامل من أسامة؛ فهو واثق أنه يعرفه كل المعرفة، ولكنه تماسك. - في القانون، أنا خريج دفعة ... - لا يهم، المهم أنك خريج حقوق. أترى أن المحاماة أتعاب فقط؟ ألا ترى فيها أي شيء آخر؟ - طبعا طبعا، هذا لا شك فيه، واجبك نحو العدالة ونحو موكليك. - الذي تقوله صحيح، ولو خلا من رنة السخرية يصبح هو الحقيقة. - أنا لا أسخر، أستغفر الله! - المهم، المطلوب مني الآن ألا أقبل قضايا سياسية؟ - والله يستحسن. - أهذا كل شيء؟ - ألف شكر. - تسمح لي؟ - تفضل.

وقام أسامة، وأوصله وجدي إلى باب الغرفة، وصافحه مرة أخرى، وأغلق الباب، وأخذ أسامة طريقه إلى الباب الخارجي. ولكن ما هي إلا خطوات قلائل؛ حتى وجد نفسه محاطا بقوة من الشرطة، ثم أغلقت عليه أبواب السجن. •••

مكث أسامة في السجن، لا يعرف شيئا عن تهمته، ولا تعرف أسرته عنه شيئا.

كان الذي رآه أسامة في السجن بعضا مما كان يسمعه، ولم يقع عليه هو تعذيب جسماني؛ فهو لم يكن يخفي شيئا يريدونه أن يبديه، ولكنه عومل كما تعامل الكلاب الجرباء، وكانت هذه المعاملة مع ما يرى الآخرين يجرعونه نوعا من التدليل والرفاهية.

انصب عذاب الآخرين على نفس أسامة، حتى لقد كان يخيل إليه أنه يعذب عذابهم أجمعين، ولم يكن يشعر بنسمة فرح إلا حين يموت أحد المسجونين، فيحس أسامة أن إنسانا أنقذه الله من براثن الغيلان المتشحة بجلود الآدميين. والعجيب أن أسامة كان يحس أن الذين يقومون بالتعذيب في حاجة إلى الشفقة؛ لأنهم هم أنفسهم ما هم إلا أصابع الحاكم، يفترس بها آدمية البشر وإنسانية الإنسان، ويتمنى الموت للمسجونين جميعا ولنفسه قبلهم، ويذكر قول المتنبي:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وكان يعجب؛ أيستطيع الحاكم أن ينام؟! أتستطيع أصابعه هذه أن يهدأ لها ضمير؟! وما هي إلا أيام؛ حتى رأى في وجوه الذين يقومون بالتعذيب علامات لم يكن قد تعرف عليها أول الأمر، وكيف لإنسان أن يرى على وجه وحش قسمات آدمي ويتعرف عليها؟ علامات لم يشهدها على وجوه بشر قبل اليوم.

لقد تغيرت ملامح البشرية في وجوههم؛ انقلبوا إلى جنس من المخلوقات غريب عن الأجناس التي يعرفها الكون ولا يألفها الناس؛ نوع من المخلوقات لا هو إنسان ولا هو حيوان، ولم يستغرب هذا الذي تبينه؛ فالإنسان لا يستطيع أن يصب هذا العذاب جميعه على مخلوق آخر، إنسانا كان هذا المخلوق أو كان حيوانا.

والحيوان حين يهاجم الفريسة لا يقدر أنها إنسان أو هي حيوان، وإنما يرى فيها طعامه وهو يريد أن يأكل، أو يرى فيها عدوه وهو يدافع عن نفسه، فالحيوان المفترس المتوحش طبيعي ومعقول في كل هجوم يقوم به وعمله جميعه له مبرره ومعقوليته، فما هذا الجنس إذن الذي يعمل في هذه السجون؟ وأين صنعه العهد؟ وكيف ركبه؟ ومن أي مادة تكون هيكله وضميره؟ إن المتفرس في وجوههم يرى مادة جديدة من المخلوقات يشك كثيرا أن تكون يد الرحمن قد مستها. إنما هم كالحاكم الذي يأمرهم سرطانات بشرية، خلايا تفجرت من طين بلا روح، ومن شر بلا خير، ومن مادة متوحشة عجنها إبليس، وخلا تركيبها من ضمير أو قلب أو شعور.

مر بأسامة شهر وثان، وأوشك الثالث أن يكتمل، فإذا لغط يشب في السجن، وهمهمات وجمجمة، وهمس يفضي إلى همس، ورءوس تميل في براءة، وتعتدل في أسى وجزع. إنها حرب يونيو، وفتحت أبواب السجون لا لتخرج أحدا، وإنما لتبتلع آخرين عرف منهم أسامة كثيرين. ورآهم وهم يجلسونهم القرفصاء فلا تحتمل سيقانهم، فأغلبهم جاوز الشباب وأصبح يتوكأ إلى الشيخوخة، وما تحتمل سيقانهم ما يريدونهم عليه، ولكنهم جلسوا القرفصاء، ورفعوا أيديهم فوق رءوسهم كقرود يدربها عفريت من الجن.

الوجوه غير البشرية وغير الحيوانية فيها رعب، وفيها حيرة وفيها جزع؛ إنها تخاف من المسجونين. المسجونون عزل وبلا سلاح، وها هم أولاء جالسون القرفصاء، وأيديهم فوق رءوسهم، والسجانون بيدهم الأسواط، وبيدهم أدوات التعذيب الكهربائية والحديدية، وبيدهم دائما الأسلحة النارية والمدافع السريعة الطلقات.

ولكن المسلحين بآلات التعذيب، وبالأسواط وبالبارود والمدافع، يخافون من هؤلاء العزل الجالسين القرفصاء والواضعين أيديهم فوق رءوسهم.

أهو موقف الحق الأشم أمام الظلم الخسيس؟ أم أن الخلايا السرطانية، من أعوان السرطان الأعظم، قد أصابتها روح من البشرية ألقتها إلى نفوسهم أنباء الحرب؟ لا أحد يدري! •••

مرت أسابيع قلائل بعد الخامس من يونيو، وأفرج عن بعض المسجونين، وكان أسامة من بينهم.

خرج فوجد أمواله جميعا تحت الحراسة، والبقية الباقية من أموال زوجته، بل إن أموال خديجة وضعت تحت الحراسة، وصدر الأمر الخاص باسم حرم المرحوم راشد برهان. ولست أدري هل ارتجفت يد المارد الرعديد، وهو يضع تحت الحراسة أموال ميت أصبح في ذمة الله، أم أنها كانت ثابتة متبجحة؟ أغلب الأمر أنها لم ترتجف؛ فالرجفة لا يبتعثها إلا بقية من آدمية، وهيهات! ولو عرفوا الحق لتبين لهم أن خديجة لم ترث عن زوجها شيئا، وإنما كان مالها هو ما بقي لها عن أبيها، ولكن ما الفرق؟! والعجيب، ولو أن أي شيء لم يكن عجيبا في ذلك الزمن، أن أمر الحراسة يقول «حرم المرحوم». كيف تجرأ مصدر الأمر، وخط كلمة توحي بالرحمة؛ ليوقع بها قرارا لا يتصل بأي رحمة؟! إن أغلب مواد القانون تقضي بأن يعاقب المذنب بغرامة قدرها كذا من المال، أو بسجن قدره كذا من الشهور أو السنين. فالغرامة المالية إذن تستوي عند القانون مع العقاب الجسماني، وهكذا يصبح الاستيلاء الكامل على مال شخص ما حكما بالإعدام المدني، وبلا محاكمة.

ومن عجب أن يصدروا حكما بالإعدام المدني على شخص مات فعلا! كيف يريدون أن يقتلوا من مات؟ القانون يسمي هذا الجريمة المستحيلة؛ لأن القتل لا يكون إلا لحياة، ولا سبيل لأحد أن يقتل ميتا، ولكن ذلك العهد لم يكن شيء مستحيلا عنده .

لم يأبه أسامة، وإنما عاد إلى مكتبه، وواصل طريقه في الحياة، وواصلت الحياة طريقها إلى جانبه؛ صعبة عنيفة، ولكنها شريفة، وتسير. •••

حين تفجر الحق في مصر، وحين أعاد الحكم أموال الناس إليهم، وحين انشرخ الظلام عن الصباح، وحين عادت الحياة إلى الحياة أحس أسامة أنه استطاع أن يجتاز الأزمة الطاحنة: ربما استطاع أبي أن يركب الموتسيكل السيدكار، وربما عجزت أنا أن أجد في بعض الفترات دراجة أتنقل عليها، ولكن أبي استطاع أن يسير فوق الأزمة على موتسيكل، واستطعت أنا أن أسير عليها بقدمي.

ولم ينكس أبي رأسه، ولم أنكس أنا رأسي للطغيان. عجبا! ألم يكن هو أنا وأنا أربأ بشرفي أن يدنسه ذهب الطغيان أو يذله تعذيبه؟ من يدري؟! لعل روحه تلبستني! أو ربما، لا أدري، ربما كنت أنا شجاعا! من يدري؟ من سيذكر أنني لم أنحن، لم أنافق، لم أذل؟ وماذا يعنيني أن يذكر ذلك أحد؟ يكفي أنني أنا أذكر هذا لنفسي. وحسبي فوق الحسب أنني أستطيع أن أواجه نفسي، لا أخافها ولا أستخزي.

الفصل الخامس والعشرون

قال شهاب: اليوم نعود. - نعم نعود. - لقد انتصرت مصر. - إني أحس أن أمي التي ماتت ذهبت إلى الأبد، وعادت لي أم جديدة شريفة مثل هذا الانتصار؛ أم لا صلة لها بتلك التي تشردنا لنبتعد عنها. - هناك أبونا. - لعلنا نجده قد تغير. - لا أظن. - وهل كنت تظن أن مصر ستنتصر؟ - اسمع، لماذا لا نتغير نحن؟ - كيف؟ - إن أبانا لم يشعرنا أنه يحبنا. - فهل أشعرناه نحن أننا نحبه؟

ونظر باسل إلى أخيه طويلا، وراحت ابتسامة تنداح على شفتيه، لتعلو إلى وجنتيه ثم إلى جبهته، وخيل إليه وهو ينظر إلى أخيه أنه كأنما ينظر إلى مرآة، ولف الأخوين عبير مصري، له ذلك الأريج الخاص الذي لا يعرفه إلا من نبت في أرض مصر ومن ماء النيل، ترن في أذنيه منذ ولادته: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

অজানা পৃষ্ঠা