يراها ولا يراها، تتماوج الصورة في عينيه فتبين وتختفي، وتلوح حتى تبدو وكأنها مجسمة واضحة، وتتلاشى حتى ليعلوها الضباب أو كأنما تمحوها أفواج من الظن وأستار من الأوهام. يفكر راشد باشا ولكنه لا يفكر، ويندهش ولكن لا يبدو التعجب على وجهه، تتزاحم صور وجوه مع صور السقف فلا يتضح رسم، ولا تتبلور صورة، ولا يتحدد وجه.
ربما توسط أمواج الطيوف أسامة في وجهه البريء، وفي كلامه الجديد الطازج الذي يقع من أذن أبيه وأمه موقع النغم السماوي المنسجم. يذكر ما تعلم في المدرسة، ويباهي به وكأنما تعلمه وحده ولا يعرفه أحد من الناس غيره. ولا تغيب صورة أسامة وإنما يزحف عليها وجه خديجة، ويتقلب على مدى السنوات التي تزوجها فيها، غير حريص في تقلبه على الترتيب الزمني، ولا على ترتيب ظهور هذه التجاعيد القليلة التي بدأت ترتسم في نبل على صفحات وجهها. قد تبدو أمامه وهي في المرآة أول يوم رآها، ثم قد تقفز السنوات إلى يوم بشرته الزغاريد بمجيء أسامة، أو قد تبدو وهي تتكلم معه في خاصة أمورهما، أو وهي تتكلم في المجتمعات العامة؛ فتحيط بها هالات من الإعجاب، أو قد تحيط بها أيضا هالات من الحسد. وقد تبدو أمه وقد يذكر مرضها وتشبثها بالفراش. وقد يثب وجه حمزة البلاشوني، ثم فهمي عبد الحميد يكبر وجهه ويكبر حتى لا يتيح لأحد، ولا حتى لأسامة أن يبقى معه في إطار الصورة، بل العجيب أنه يزيح أسامة أول ما يزيح، والأعجب أنه ما يلبث أن يضمه ويحتويه وكأنه يهدهد أحلامه. ويغمض الباشا عينيه، ولكن صورة فهمي متشبثة بالظلام تشبثها بالنور، ويهز الباشا رأسه فتمحى الصورة مرغمة.
ويعود نظر الباشا فلا يرى إلا تهاويل السقف، وتعود الصور إلى الوضوح، ثم ترين عليها أستار من الوهم أو أستار من الضباب.
وكأنما يثوب شاكر إلى مكانه فتعلو وجهه فترة من الأسى، وقد تفكر دمعتان أن تستميحا عينيه الشامختين، ثم ما تلبث الدمعتان أن ترتدا هالعتين، يزجرهما كبرياء العينين أن تظهرا إلا في العميق العميق في نفس الرجل الأشم، رافضا أن يبدو منه للعيان ألم، حتى وإن كان خاليا إلى نفسه؛ فهذا المكتب بما يضم من أثاث، وما تحويه جدرانه وسقفه من نقوش أشياء خارجة عن نفسه؛ لا يجوز لها أن تعرف ما بداخله أو تطلع عليه.
لم يكن يخبي أن هذا الذي يطالعه اليوم أمر يقع لكل من يعمل في ميدانه، ولكن الذي كان يدهش له أنه كان يتقي هذا اليوم بكل ذكائه وكل خبرته. وفي سرحة تفكير استعاد بها الأحداث الأخيرة أدرك أنه تخلى عن ذكائه وعن خبرته جميعا يوم أراد أن يجتاح أسواق البورصة ليكون لابنه أعظم قدر من الثراء، وفي انشغاله بالنظر إلى الهدف عمي عن الطريق وغفل عن مزالقه.
لقد أصبح «ميداس» ملك الذهب الأسطوري الذي أحب الذهب حتى انقلب إلى ذهب، وإذا انقلب العقل وتجاربه إلى جماد - حتى وإن كان ذهبا - كف عن العمل الأصيل الذي خلق من أجله، وانهار الإنسان؛ لأن الإنسان تركيب يختلف تماما عن تركيب الذهب، هكذا الأسطورة. أما في الحياة فإن العقل يتوقف، والتجارب تنزوي ذليلة وينهار الإنسان، ولكن شيئا من العقل أو التجارب أو الإنسان لا يصبح ذهبا.
لقد استعبده المال ففقد الاختيار، وإذا فقد العقل الاختيار فقد معه سبب وجوده في الحياة، والعجيب أن الإنسان صاحب هذا العقل لا يدرك هذا؛ لأنه لا يستطيع أن يدركه إلا بالعقل الذي توقف عن العمل، أو من هنا أجد نفسي مخطئا أنني بدأت هذه الجملة بالتعجب، بينما العجيب حقا ألا يحدث هذا. لقد فقد حضرة صاحب السعادة راشد باشا برهان كل ما يملك، وما دمنا نريد الدقة في التعبير، فقد أصبح كل ما يملكه سعادة راشد باشا برهان مرهونا رهنا حيازيا لدائنين مختلفين، من بينهم فهمي عبد الحميد. وجود هذا الدائن بين الدائنين يجعل راشد على ثقة مؤكدة أن الدائنين لن يتجاوزوا يوم البيع بيوم واحد.
لو أمعن راشد التفكير لكان الحل الطبيعي، الذي يؤدي إليه المنطق الأخرس الجامد الذي لا يعرف السماء، أن ينتحر سعادة الباشا، فهذا هو أسهل الطرق التي يستطيع أن يسير فيها، فهو لا يطيق أن يرى زوجته تلبس أخلاق الثياب، أو يرى ابنه يتكفف الناس، ويسألهم ما يرد به الجوع.
ولكن فكرة الانتحار هذه هي الفكرة الوحيدة التي لا تجرؤ أن تقترب من ذهن الرجل الصامد راشد برهان، لقد عاش غنيا، وسوف يثبت لنفسه وللناس أنه يستطيع أن يعيش فقيرا، ويظل على الحالين كريما على نفسه، ومن كان كريما على نفسه فهو كريم على الناس وإن رغمت من بعض الناس أنوف.
في لحظته تلك لم يعرف إلا أنه سيستطيع أن يعيش، ولكنه في لحظته تلك لم يعرف كيف سيعيش، كان يدري كل الدراية أنه مؤمن بالله، وأنه لن يذهب إلى رحابه إلا في طريق يرضاه الله لمن يؤمنون به.
অজানা পৃষ্ঠা