إن هيوم يذهب إلى أن نتيجة نقده هي القول باستحالة تبرير الاستدلال الاستقرائي. والحق أن من الواجب إدراك خطوة هذه النتيجة إدراكا كاملا؛ فإذا كانت قضية هيوم صحيحة، فإن الأداة التي نستخدمها في التنبؤ تنهار، ولا تكون لدينا وسيلة لاستباق المستقبل. فقد رأينا حتى الآن أن الشمس تشرق كل صباح، ونحن نعتقد أنها ستشرق غدا، ولكن ليس لاعتقادنا هذا أساس؛ وقد رأينا الماء ينحدر من أعلى إلى أسفل، ونحن نعتقد أنه سينحدر دائما على هذا النحو، ولكن ليس لدينا ما يثبت أنه سيفعل ذلك غدا. ألا يجوز أن تبدأ الأنهار في الجريان من أسفل إلى أعلى غدا؟ إنك قد تقول: لست من الحمق بحيث أعتقد ذلك، ولكن لم كان في هذا الاعتقاد حمق؟ ستجيب بأن السبب هو أنني لم أر أبدا ماء يجري من أسفل إلى أعلى، وأنني كنت أنجح دائما في تطبيق أمثال هذا الاستدلال من الماضي إلى المستقبل. وهنا تكون قد وقعت في المغالطة التي كشفها هيوم؛ فأنت تثبت الاستقراء باستخدام استدلال استقرائي، وهكذا نقع في الفخ مرارا وتكرارا، ونرى أن من المستحيل تبرير الاستقراء، ولكنا نظل نقوم باستقراءات ونحتج بأن من الحمق أن نشك في المبدأ الاستقرائي.
هذا هو المأزق الذي يقع فيه صاحب النزعة التجريبية؛ فإما أن يكون تجريبيا كاملا، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية أو القضايا المستمدة من التجربة، وعندئذ لا يستطيع القيام باستقراء، ويتعين عليه أن يرفض أية قضية عن المستقبل؛ وإما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذ يكون قد قبل مبدأ غير تحليلي لا يمكن استخلاصه من التجربة؛ وبذلك يكون قد تخلى عن التجريبية. وهكذا تنتهي التجريبية الكاملة إلى القول إن معرفة المستقبل مستحيلة، ولكن ماذا تكون المعرفة إن لم تكن تشتمل على المستقبل؟ إن مجرد بيان العلاقات الملاحظة في الماضي لا يمكن أن يسمى معرفة؛ فإذا شئنا أن تكشف المعرفة عن العلاقات الموضوعية للأشياء الطبيعية، فلا بد أن تنطوي على تنبؤات موثوق فيها؛ وعلى ذلك فإن التجريبية الكاملة تنكر إمكان المعرفة.
وهكذا تنتهي الفترة الكلاسيكية للمذهب التجريبي، وهي فترة بيكن ولوك وهيوم، بانهيار لهذا المذهب؛ إذ إن هذا هو ما يؤدي إليه تحليل هيوم للاستقراء. فنقد هيوم يؤدي إلى الانتقال من التجريبية إلى اللاأدرية، وهو ينادي - فيما يتعلق بالمستقبل - بفلسفة للجهل تقول إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف أي شيء عن المستقبل. ولا بد لنا أن نعجب بدقة ذلك الذهن الذي لم يمتنع عن استخلاص هذه النتيجة الهدامة، على الرغم من أنه تشرب الثقة بالمذهب التجريبي. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن هيوم يذكر هذه النتيجة صراحة، ويسمي نفسه شكاكا، فإنه لا يعترف بالمأساة التي يؤدي إليها استنتاجه هذا؛ فهو يحاول تخفيف تأثير هذه النتيجة بأن يسمي الاعتقاد الاستقرائي عادة. وإن المرء ليشعر عند قراءة ما كتبه هيوم بأن هذا التفسير قد طامن من شكوكه، وأنه كان في نظره تفسيرا نفسيا للاعتقاد الاستقرائي. ومن الملاحظ أن هيوم لم يكن من الأحرار الإنجليز، وإنما كان من المحافظين، ولم تكن هناك نزعة تحررية في اتجاهاته الإدارية تناظر نزعته التحررية الذهنية. وهكذا يتضح لنا ذلك الوجه الغريب لفيلسوف يستبعد بابتسامة ودية التهمة الحاسمة التي وجهها هو ذاته إلى الفلسفة التجريبية.
على أننا لا نستطيع أن نشارك هيوم شعوره هذا بالاطمئنان؛ فنحن لا ننكر أن الاستقراء عادة؛ إذ إنه كذلك بالطبع، غير أننا نود أن نعرف إن كان عادة مستحبة أم عادة مرذولة. ونحن نعترف بأن من الصعب التخلص من هذه العادة، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يسلك على أساس افتراض أن الماء سيجري غدا من أسفل إلى أعلى في كل الأحوال؟ ومع ذلك فحتى لو كان تعودنا على الاستقراء يبلغ من القوة حدا لا نملك معه إلا أن نكون مدمنين للاستقراء، مثل مدمني المخدرات، فإنا نود أن نعرف على الأقل إن كان الواجب يقضي علينا بالتخلص من هذه العادة. فالمشكلة المنطقية للاستقراء مستقلة عن مسألة كون الاستقراء عادة، وكوننا نستطيع التخلص من هذه العادة. إن الفيلسوف التجريبي يود أن يعلم إن كان في وسع التجربة أن تمدنا بمعرفة للمستقبل، وبأي معنى تمدنا بهذه المعرفة، فإن لم يستطع أن يجيب عن هذا السؤال، فعليه أن يعترف صراحة بأن التجريبية قد أخفقت.
فإذا ما انتقلنا إلى إجراء مقارنة بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي، لوصلنا إلى نوع غريب من التوازن؛ فصاحب المذهب العقلي لا يستطيع أن يحل مشكلة المعرفة التجريبية لأنه يتصور مثل هذه المعرفة على مثال الرياضيات؛ وبذلك يجعل العقل مشرعا للعالم الفيزيائي. والتجريبي بدوره لا يستطيع أن يحل هذه المشكلة؛ إذ إن محاولته الاعتراف بالكيان الخاص للمعرفة التجريبية من حيث هي مستمدة من الإدراك الحسي تنهار بدورها؛ لأن المعرفة التجريبية تفترض مقدما منهجا غير تحليلي، هو المنهج الاستقرائي. صحيح أن التجريبي لا يكرر أخطاء العقلي، فهو لا يستخدم لغة مجازية، ولا يسعى إلى اليقين المطلق، ولا يحاول أن يشكل مجال المعرفة بحيث يكون أساسا للتوجيهات الأخلاقية. ومع ذلك فإنه حين يقصر قدرة العقل على وضع المبادئ التحليلية، يقع في صعوبة جديدة؛ فهو لا يستطيع تفسير المبدأ الذي تنتقل به المعرفة التجريبية من الماضي إلى المستقبل؛ أي إنه لا يستطيع تفسير الطبيعة التنبئية للمعرفة.
وهكذا يتحتم علينا الاعتراف بضرورة وجود خطأ أساسي في المذهب التجريبي. فقد سبق أن ارتكب صاحب المذهب العقلي خطأ النظر إلى المعرفة الرياضية على أنها أنموذج كل معرفة؛ وبذلك أراد أن يجعل من العقل مصدرا لمعرفة العالم، في أساسياتها على الأقل. أما التجريبي فقد صحح هذا الخطأ بأن أكد أن المعرفة التجريبية مستمدة من الإدراك الحسي، وأن العقل لا يمدنا إلا بعلاقات تحليلية، وأن كل معرفة تركيبية هي من النوع الممتد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمد من الملاحظة. على أن التجريبيين القدامى لم يدركوا الصعوبات الناجمة عن هذا التمييز؛ فلما كان من الممكن تحقيق التنبؤات الخاصة بالمستقبل أو تكذيبها، في وقت متأخر، فقد نظروا إلى معرفة المستقبل على أنها من نفس نوع المعرفة المستمدة من الملاحظة، وفاتهم أننا نود معرفة حقيقة التنبؤات قبل وقوع الحوادث التي نتنبأ بها، وأن المعرفة عندما تصبح مستمدة من الملاحظة لا تعود معرفة بالمستقبل. ولقد تنبه هيوم إلى هذه الصعوبة، ولكن لما لم يكن في وسعه التخلي عن فهم للمعرفة يقتضي ضمنا أن تكون معرفة المستقبل من نفس نوع معرفة الماضي؛ فقد انتهى إلى أن المناهج التنبئية للعلم لا يمكن تبريرها، وأن من المحال أن تكون لنا أية معرفة بالمستقبل.
ولقد اعترف المذهب التجريبي، في مفهومه الحديث، بهذا الخطأ. فلما كان من المستحيل تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل إذا ما نظر إليها على أنها من نفس نوع القضايا المتعلقة بالماضي أو الحاضر، فإنا نستدل من ذلك على أن من الواجب تفسير القضايا المتعلقة بالمستقبل على نحو مختلف. فمن الواجب تصور معرفة المستقبل على أنها تختلف أساسا عن معرفة الماضي. وبهذا التحول ينقلب السؤال؛ فبدلا من أن نفترض أن طبيعة معرفة المستقبل معلومة، ثم ينصب تساؤلنا على الطريقة التي يمكن أن تكون لنا بها معرفة بالمستقبل، فإن السؤال يتركز فيما ينبغي أن تكون عليه طبيعة معرفة المستقبل إن شئنا تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل.
على أن إحداث مثل هذا الانقلاب في السؤال كان أمرا يفوق إمكانات هيوم. والحق أن نقده للاستقراء كان عملا يبلغ من العظمة حدا المعرفة على نحو يهدف إلى العثور فيها على التركيب الذي يريد الفيلسوف الوصول إليه. فصاحب المذهب العقلي يتصور المعرفة التجريبية على أنها نسق ينبغي أن تكون لأسسه يقينية الرياضيات، والتجريبي يستعيض عن يقينية الرياضيات بالتأكيد المرتكز على الملاحظة، ولكنه يشترط في القضايا المتعلقة بالمستقبل أن يكون لها نفس نوع التأكيد الذي ننسبه إلى القضايا المتعلقة بالماضي. وهكذا ينتهي صاحب المذهب العقلي إلى مواجهة هذه المشكلة: لماذا كان يتعين على الطبيعة أن تتبع العقل؟ ويواجه التجريبي هذه المسألة: كيف يمكن نقل التأكيد الذي تتسم به الملاحظات إلى التنبؤات؟
ولم يكن في مقدور فلسفة القرن الثامن عشر أن تصل إلى مخرج من هذا المأزق؛ إذ لم يكن من الممكن إحداث انقلاب في السؤال، بحيث يصبح متعلقا بطبيعة المعرفة التنبئية، إلا بعد حدوث بعض التغيرات الحاسمة في أسس العلم. فقد كانت القوة الدافعة للعلم في القرن الثامن عشر هي الثقة غير النقدية بنجاحه، وكان لا بد للعلم في يشعر بقصور مناهجه قبل أن يصبح ناقدا لذاته ويتساءل عن معنى نتائجه. وقد بدأ هذا التطور في القرن التاسع عشر، وما زال مستمرا حتى يومنا هذا. ولم يكن مصدر هذا التطور هو الفلسفة؛ إذ إن العالم لم يكن في وقت من الأوقات يعبأ كثيرا بتفسير الفيلسوف، بل إن نقد ديفيد هيوم ذاته لم يؤثر فيه. ولقد اتضح أن عدم اكتراث العالم بالفلسفة كان موقفا مفيدا له، وإن كان ذلك من قبيل حسن الحظ فحسب؛ ذلك لأن النجاح كثيرا ما يحالف أولئك الذين يفعلون، بدلا من أن يفكروا فيما ينبغي أن يفعلوه. ولم يكن من الممكن تقديم تفسير لطبيعة المعرفة في إطار العلم السائد في القرن الثامن عشر؛ إذ كان من الواجب إعادة النظر في الفكرة السائدة عن طبيعة الرياضيات، وعن طبيعة العلية، قبل أن يتسنى وضع نظرية للمعرفة تعلل في آن واحد قدرة المناهج الاستنباطية في الفيزياء الرياضية، وكذلك فائدة الاستدلال الاستقرائي. وإذن فقد كان من حسن حظ العالم أنه لم ينتقل إلى بحث مسألة تبرير مناهجه قبل أن تتوافر لديه وسائل الإجابة عن هذه المسألة.
وإنه لمن المعقول أن تكون هذه الإجابة قد قدمت في إطار نظرية للاحتمالات، وإن تكن صورة هذه النظرية تختلف كل الاختلاف عما قد يتوقعه المرء. فالقول إن ملاحظات الماضي يقينية، على حين أن التنبؤات احتمالية فحسب، ليس هو الجواب النهائي على مسألة الاستقراء، يضمن له موقعا بارزا في تاريخ الفلسفة. ولقد ذكرت من قبل أن من الواجب البحث عن مظاهر التقدم الفلسفي، لا في الإجابات التي قدمها الفلاسفة، وإنما في الأسئلة التي سألوها، وهذه القاعدة تنطبق على هيوم بدوره؛ فإلى هيوم يرجع الفضل في إثارة السؤال الخاص بتبرير الاستقراء، وإيضاح الصعوبات التي تعترض حله، أما إجابته عليه فلا تفيدنا في شيء.
অজানা পৃষ্ঠা