لقد وجدت النزعة التجريبية في بيكن نبيا لها، ووجدت في لوك زعيمها الشعبي، وفي هيوم ناقدها؛ فقد قبل لوك نظرية بيكن في المعرفة التجريبية من حيث هي مستمدة بالاستقراء عن طريق تعميمات من التجارب. ومع ذلك فهو لم يوضح تماما موقفه حول مسألة ما إذا كانت كل معرفة تركيبية تتسم بالطابع التجريبي. ويبدو أنه كان ينظر إلى المعرفة الرياضية على أنها ذات يقين مطلق وإن تكن تركيبية؛ وبذلك ميزها عن المعرفة التجريبية. ففي رأيه أن القضايا الضرورية إما أن تكون «خاوية
trifling »، وإما «مثمرة
instructive »، وهو تمييز استبق به، على الأرجح، تمييز «كانت» بين القضايا التحليلية والتركيبية، ويؤدي، إذا ما فسر على هذا النحو، إلى جعله واحدا من أنصار المعرفة التركيبية القبلية. صحيح أن كتابات لوك لا تنطوي على التزام واضح بفكرة المعرفة التركيبية القبلية، ومع ذلك فإن معالجته للأحكام الأخلاقية على أساس أن لها نفس النوع من الحقيقة، الذي تتصف به النظريات الرياضية، تجعله من أنصار فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وتؤدي به إلى نتائج لا تتمشى مع النظرة التحليلية إلى الرياضيات.
والواقع أن التجريبية لم تكن في مراحلها الأولى متسقة مع نفسها على الدوام؛ فتجريبية لوك تقتصر على المبدأ القائل إن جميع التصورات، وضمنها تصورات الرياضة والمنطق، تأتي إلى ذهننا من خلال التجربة. وهو ليس على استعداد للتوسع في هذا المبدأ بحيث يشمل الرأي القائل إن كل معرفة تركيبية لا تتحقق إلا من خلال التجربة. وتمشيا مع هذا الموقف غير النقدي، فقد أخذ بالاستدلال الاستقرائي دون نقد، وعده أداة مفيدة لكل معرفة تجريبية. فلم يخطر بذهن بيكن أو لوك احتمال الشك في مشروعية هذه الأداة وهدم الأساس الذي ترتكز عليه التجريبية، وكان دور هيوم هو أن يكيل هذه الضربة لفلسفة التجربة.
عندما ألف هيوم كتابه «بحث في الذهن البشري
Essay concerning Human Understanding » كان قد مضى على كتاب «الأورجانون الجديد» أكثر من مائة عام، غير أن نظرية الاستقراء التي وجدها هيوم في كتب المنطق المعاصرة له كانت لا تزال هي نظرية بيكن؛ لذلك سلم هيوم مقدما بأن الاستدلال العلمي يتخذ صورة استقراء تعدادي، وهو نوع الاستدلال الذي شرحناه في المثال الخاص بالغربان. على أن كل من درس الفيزياء الرياضية يعلم أن هذه النتيجة مشكوك فيها، وأن هناك أنواعا أخرى من الاستدلال الاستقرائي. مثال ذلك أن الفيزياء عند نيوتن تطبق نظرية استنباطية معقدة، وتتخذ منها أداة للتحقيق الاستقرائي، وليس من الواضح على الإطلاق أن هذه النظرية ترد آخر الأمر إلى استدلالات من ذلك النوع البسيط المسمى بالاستقراء التعدادي، غير أن هذه مشكلة سنعالجها فيما بعد، وحسبنا في هذا المقام أن نلاحظ أن التحليل الحديث قد أوضح أن كل أنواع الاستدلال الاستقرائي يمكن ردها إلى الاستقراء التعدادي، وهي نتيجة تجيز قصر مناقشة المنهج
ويتفوق هيوم على لوك في وضوح نظرته إلى المذهب التجريبي ؛ فقد تخلص من فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وأدرك بوضوح كامل أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن الحقيقة، وإنما تعبر - كما يقول - عن مشاعر الاستحسان، أو الاستهجان؛ أي إن «التمييز بين الرذيلة والفضيلة لا يدرك بالعقل». ولما كان هيوم قد تحرر من خطأ أولئك الذين يضطرون إلى إدخال المعرفة التركيبية القبلية لكي يهتدوا إلى أساس للأخلاق، فقد تمكن من دراسة المعرفة غير مقيد بأعباء الباحث الأخلاقي، وتوصل إلى النتيجة القائلة إن كل معرفة إما أن تكون تحليلية وإما أن تكون مستمدة من التجربة؛ فالرياضة والمنطق تحليليان، وكل معرفة تركيبية مستمدة من التجربة. وهو لا يعني بلفظ «مستمدة» أن التصورات يرجع أصلها إلى الإدراك الحسي فحسب، بل يعني أيضا أن الإدراك الحسي هو مصدر صحة كل معرفة تحليلية؛ وإذن فالإضافة التي يقدمها الذهن إلى المعرفة هي بطبيعتها فارغة.
ومن الملاحظ أن تفسير هيوم هذا لا يقوم على أساس سليم تماما فيما يتعلق بالرياضيات؛ فنظرا إلى أنه كان يجهل الإجابة التي قدمها القرن التاسع عشر على هذه المشكلة بعد ظهور الهندسات اللاإقليدية، فإنه كان يفتقر إلى الوسيلة التي تتيح له تعليل الطبيعة المزدوجة للرياضيات، من حيث هي من إملاء العقل، ومن حيث هي قادرة على التنبؤ بالملاحظات. ومع ذلك يبدو أنه لم يدرك هذه المشكلة بوضوح كامل، ويمكن القول إنه كان حسن الحظ في هذه الحالة، كما كان في مشكلة الاستقراء الذي رأى أن كل أنواعه ترتد إلى الاستقراء التعدادي؛ لأنه استبق نتائج ظهرت فيما بعد، على الرغم من أنه لم يكن يملك حججا قوية ترتكز عليها آراؤه. وأنا لا أميل إلى النظر إلى هذا الاتفاق على أنه علامة العبقرية، وإنما أفضل أن أسميه حسن الحظ، وإني لأوثر أن أرى عبقرية هيوم تتبدى، بدلا من ذلك، في تلك النتائج التي كان يستطيع أن يقدم لها أسباب مقنعة، مثل رفضه للموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وأفضل أن أثني عليه لما أبداه من اتساق في عرضه لأفكاره ضد شتى أنواع التراث المخالف له .
هذا الاتساق يتجلى في بحثه للاستقراء؛ فلو كان كل ما يسهم به الذهن في المعرفة تحليليا، لنشأت صعوبات خطيرة بالنسبة إلى استخدام الاستدلال الاستقرائي. وإن أهمية هيوم في تاريخ الفلسفة لترجع إلى أنه لفت الأنظار إلى هذه المشكلة، التي يمكن تحليلها دون التزام بالتفسير التحليلي أو التركيبي للرياضة؛ فالاستدلال الاستقرائي ليس تحليليا. ويوضح هيوم هذه المسألة بأن يشير إلى أن من الممكن تماما تصور عكس النتيجة الاستقرائية. مثال ذلك أنه، على الرغم من أن كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء، ففي استطاعتنا أن نتصور على الأقل أن الغراب التالي الذي سنراه سيكون أبيض، ونحن لا نؤمن بأنه سيكون أبيض، ما دمنا نركن إلى الاستدلال الاستقرائي. غير أن الإيمان لا صلة له بالموضوع حين يكون الأمر متعلقا بالإمكانات المجردة؛ ففي استطاعتنا أن نتصور أن النتيجة باطلة دون أن نضطر إلى التخلي عن المقدمة، وإن إمكان وجود نتيجة باطلة مقترنة بمقدمة صحيحة ليثبت أن الاستدلال الاستقرائي لا ينطوي في ذاته على ضرورة منطقية؛ وإذن فقضية هيوم الأولى هي أن الاستقراء له طابع غير تحليلي.
فكيف يمكننا إذن تبرير استخدام الاستدلال الاستقرائي؟ يناقش هيوم إمكان تحقيق الاستدلال بالتجربة، وأغلب الظن أن بيكن ولوك قد افترضا وجود تحقيق من هذا النوع، ولكنهما مع ذلك لم يناقشا أبدا مشروعية الاستقراء. وقد نقول إننا استخدمنا الاستدلالات الاستقرائية في كثير من الأحيان وأحرزنا بها نجاحا طيبا، وهكذا نشعر بأن من حقنا أن نمضي في تطبيق هذا الاستدلال أبعد من ذلك. ومع ذلك فإن نفس طريقة صياغة الحجة توضح، كما يقول هيوم، أن هذا التبرير باطل؛ فالاستدلال الذي نود أن نبرر به الاستقراء هو ذاته استدلال استقرائي؛ إذ إن القول إننا نؤمن بالاستقراء لأن الاستقراء كان ناجحا حتى الآن، هذا القول ذاته هو استقراء من نوع استقراء «الغراب»؛ وبذلك نكون دائرين في حلقة مفرغة. فمن الممكن إثبات إمكان الاعتماد على الاستقراء إذا افترضنا أن من الممكن الاعتماد عليه، ولما كان مثل هذا الاستدلال ينطوي على دور، فإن الحجة لا بد أن تنهار؛ وعلى ذلك فإن قضية هيوم الثانية هي أن الاستقراء لا يمكن تبريره بالرجوع إلى التجربة.
অজানা পৃষ্ঠা