Roger Bacon » و«بيتر أوريولي
» و«وليم الأوكامي
Wiliam of Oceam »، فقد كانوا متشبعين بطرق التفكير اللاهوتية إلى حد لا يسمح بتشبيههم بالتجريبيين الآخرين في العصور المتقدمة أو المتأخرة. وليس المقصود من هذه الملاحظة أن نقلل من الأهمية التاريخية لهؤلاء المفكرين، بل إننا في الواقع لو قسنا فضل الشخص بمقدار انحراف أفكاره عن الآراء الشائعة في بيئته، لكان دفاع هؤلاء عن النزعة التجريبية جديرا بإعجاب كل من كانوا تجريبيين في عصور أقرب إلى الروح التجريبية.
ومن السهل أن يفهم المرء الرابطة الوثيقة بين المذهب العقلي وبين اللاهوت؛ فنظرا إلى أن المذاهب الدينية ليست مبنية على الإدراك الحسي، فإنها تقتضي مصدرا للمعرفة خارجا عن الحواس. ومن هنا كان الفيلسوف الذي يزعم أنه أهتدى إلى معرفة من هذا النوع حليفا طبيعيا لرجل اللاهوت، وقد استغل اللاهوتيون المسيحيون مذهبي أفلاطون وأرسطو، فأصبح أفلاطون هو فيلسوف الجماعات ذات العقلية الأقرب إلى التصوف، على حين أصبح أرسطو فيلسوف المدرسية «الاسكلائية». ولقد أدت علاقة صاحب المذهب العقلي باللاهوت إلى شعوره دائما بالسمو على التجريبي من الناحية الأخلاقية، غير أن العداء بين الجماعتين، وإن يكن كل طرف منهما يشعر به بقوة لا تقل عن شعور الآخر، لا يتخذ صورة تماثلية؛ فعلى حين أن صاحب المذهب العقلي يعد التجريبي ذا مستوى أخلاقي أدنى، فإن التجريبي يرى صاحب المذهب العقلي مفتقرا إلى الحس السليم.
وبظهور العلم الحديث، في حوالي عام 1600م، بدأ المذهب التجريبي يتخذ شكل نظرية فلسفية إيجابية قائمة على أسس متينة ، يمكن أن تدخل في منافسة ناجحة مع المذهب العقلي، وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية؛ أعني مذاهب فرانسس بيكن (1561-1626م) وجون لوك (1632-1704م)، وديفيد هيوم (1711-1776م). فلننتقل الآن إلى مقارنة موقف هؤلاء التجريبيين الإنجليز بالمذهب العقلي.
لقد وجد الموقف التجريبي أوضح تعبير عنه في فلسفات هؤلاء المفكرين؛ فالفكرة القائلة إن الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، هي النتيجة التي تؤدي إليها أبحاثهم آخر الأمر. فجون لوك يقول إن الذهن يبدأ وكأنه صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تسطر هذه الصفحة ما يكتب فيها. ومع ذلك فهناك نوعان من الإدراك الحسي: إدراك الموضوعات الخارجية، وإدراك الموضوعات الداخلية. فالنوع الأخير من الموضوعات يعطى لنا في الحوادث النفسية، كالتفكير والاعتقاد والشعور بالألم أو الإحساس باللون، وهي حوادث نلاحظها بالحس الباطن. ويقسم هيوم محتويات الذهن إلى انطباعات وأفكار؛ فالانطباعات تأتي من الحواس، وضمنها الحس الباطن، وأفكار الانطباعات السابقة وذكرياتها. ولا تختلف الأفكار عن الظواهر الملاحظة إلا في طريقة تجمعها. مثال ذلك أن الانطباعات الملاحظة للذهب وللجبل يمكن أن تجمع سويا لتكون جبلا ذهبيا، وهو موضوع لم يلاحظ، وإن كان من الممكن تخيله. وهكذا فإن المذهب التجريبي، على خلاف المذهب العقلي، يجعل للذهن دورا ثانويا هو إقرار النظام بين الانطباعات والأفكار، والنسق المنظم هو ما نسميه بالمعرفة.
ويمكننا أن نضرب الأمثلة لتوضيح دور الذهن في بناء المعرفة، وهي أمثلة كان من الممكن أن يستخدمها بيكن أو لوك أو هيوم؛ فالذهن يلتقط من بين شتى التجارب التي تمر به في يوم ما، وهج النار كما تراه العينان، ويربط بينه وبين الشعور بالحرارة، الذي نحس به عندما نقترب من النار؛ وبذلك نصل إلى القانون الفيزيائي القائل: إن النار ساخنة. وبالمثل يكشف الذهن قوانين حركة النجوم عن طريق مقارنة مختلف الصور التي نلاحظها عند التطلع إلى السماء في ساعات مختلفة من الليل، وفي ليال متباينة. وعن طريق الربط بين مختلف مواقع نجم معين في خط خيالي، يرسم الذهن مسار النجم، الذي لا يعد هو ذاته موضوعا للملاحظة .
وعندما أقول إن للذهن في هذه النظرة إلى المعرفة دورا ثانويا، فإني أعني أن الذهن لا يعد معيارا للحقيقة؛ فقد تبدو الدائرة للذهن أفضل شكل لحركة النجم، ولكن الإدراك الحسي هو الذي يحكم إن كانت هذه الحركة دائرية بالفعل أم لا. وقد يدفعني العقل إلى القول إن المادة تتألف من جزئيات صغيرة؛ لأنني لا أرى كيف يمكن أن تنضغط المادة على أي نحو آخر، غير أن الإدراكات الحسية هي التي يمكنها أن تحكم على صحة النظريات الذرية. وفي هذا المثال نجد أن الإدراك الحسي لا يستطيع تقديم إجابة مباشرة على هذا السؤال؛ لأن الذرات أصغر من أن تلاحظ، غير أنه يجيب على السؤال بطريق غير مباشر؛ إذ يقدم إلينا سلسلة من الوقائع الملاحظة التي تجعل التفسير الذري محتوما. ومع ذلك فإن المثال الأخير يوضح أن وظيفة الذهن في بناء المعرفة لا يمكن أن تسمى ثانوية. بمعنى آخر، فالعقل هو الأداة الضرورية لتنظيم المعرفة، وهو الأداة التي لا يمكن بدونها معرفة الوقائع ذات الطابع الأكثر تجريدا؛ فالحواس لا تبين لي أن الكواكب تتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، أو أن المادة تتألف من ذرات، بل إن ما يؤدي إلى هذه الحقائق المجردة هو الملاحظة الحسية مقترنة بالاستدلال العقلي.
وقد أدرك بيكن بكل وضوح الضرورة القصوى للعقل في التصور التجريبي للمعرفة؛ فهو يشبه أصحاب المذهب العقلي، في مناقشة أجراها للمذاهب الفلسفية، بالعناكب التي تحيك نسيجها من مادتها الخاصة، ويشبه التجريبيين القدامى بالنمل الذي يجمع المواد دون أن يتمكن من الاهتداء إلى نظام فيها. أما التجريبيون الجدد فهم في نظره أشبه بالنحل الذي يجمع المواد ويهضمها، ويضيف إليها من جوهره؛ وبذلك يخلق نتاجا من نوع أرفع. وذلك في الواقع برنامج عظيم صيغ في عبارة ذكية، فلنبحث إلى أي حد تحقق هذا البرنامج في المذهب التجريبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
ما هي الإضافة التي يقدمها العقل للمعرفة المكتسبة بالملاحظة؟ لقد قلنا من قبل إنها إدخال علاقات مجردة تقوم بتنظيم هذه الملاحظات. ومع ذلك فإن العلاقات المجردة في ذاتها لن تكون لها كل هذه الأهمية لو لم تكن تشتمل على عبارات تتعلق بحقائق عينية جديدة؛ فلو كانت العلاقات المجردة حقائق عامة لما كانت تسري فقط على الملاحظات التي تمت، بل لكانت تسري أيضا على الملاحظات التي لم تتم بعد، ولكانت لا تتضمن إيضاحا للتجارب الماضية فحسب، بل أيضا تنبؤات بشأن التجارب المقبلة. هذه هي الإضافة التي يقدمها العقل للمعرفة؛ فالملاحظة تنبئنا عن الماضي والحاضر، أما العقل فيتكهن بالمستقبل.
অজানা পৃষ্ঠা