ويختلف منهج الفيلسوف التجريبي اختلافا أساسيا عن منهج المذهب العقلي؛ فالفيلسوف التجريبي لا يزعم أنه كشف نوعا جديدا من المعرفة يعجز العالم عن الوصول إليه، وإنما هو يقتصر على دراسة المعرفة المستمدة بالملاحظة وتحليلها، سواء أكانت معرفة علمية أم معرفة عادية، ويحاول فهم معناها ومضموناتها. وليس مما يضير هذا المفكر أن تسمى نظرية المعرفة المبنية على هذا النحو معرفة فلسفية، غير أنه يرى أنها مشيدة بنفس المناهج التي يستخدمها العالم، ويرفض تفسيرها على أنها نتاج لقدرة فلسفية خاصة.
على أن الموقف التجريبي لم يكن يعبر عنه على الدوام بنفس الوضوح الذي نستطيع به التعبير عنه الآن، وإنما كانت الصياغة الدقيقة لهذا الموقف هي ذاتها نتيجة تطور تاريخي طويل؛ فلم تكن لدى التجريبيين القدامى تلك النظرة الواضحة إلى العلم التجريبي التي لدينا الآن، بل إنهم كثيرا ما كانوا يتأثرون بالمذاهب العقلية، وفضلا عن ذلك فإن فلسفتهم كثيرا ما كانت تشمل أجزاء نعدها اليوم منتمية إلى مجال العلم التجريبي، كالنظريات الخاصة بأصل الكون أو بطبيعة المادة. ومن هذا القبيل مذاهب التجريبيين اليونانيين التي نجدها في الفترة السابقة على سقراط، وكذلك في الفترة المتأخرة للفلسفة اليونانية. ولقد كان أبرز هؤلاء الفلاسفة هو ديمقريطس
Democritus ، وهو معاصر لسقراط، يعد أول من طرأت بذهنه الفكرة القائلة إن الطبيعة تتألف من ذرات، ومن هنا كان يحتل مكانه في تاريخ العلم فضلا عن تاريخ الفلسفة. ولقد كان تصوره لأصل الكون رائعا؛ لأنه يفترض حدوث تطور عن طريق الجمع بين الذرات في تركيبات معقدة؛ ففي الأصل لم تكن هناك إلا ذرات مفردة تنطلق في كل الاتجاهات خلال المكان، وعن طريق المصادمات العارضة تكونت مجموعات أدت بمضي الوقت إلى تكوين أجسام من شتى الأنواع والأشكال. وقد عادت هذه الأفكار إلى الظهور، بعد حوالي مائة عام، عند أبيقور، الذي انتقل مذهبه في العصور الرومانية إلى الأجيال التالية، عن طريق كتاب لوكريتيوس
Lucretius
الشعري المشهور: «في طبيعة الأشياء
De rerum natura ». وقد قدم أبيقور وصفا مختلفا إلى حد ما لحركة الذرات؛ إذ افترض أن الذرات كانت في الأصل تهبط كلها في خطوط متوازية وفي زمان لا متناه، حتى انحرفت بعض الذرات عرضا عن مساراتها، واصطدمت بعضها بالبعض، وقد أدى هذا الحادث العارض إلى بدء التطور.
ويمكن أن يعد الشكاك، من بين الفلاسفة اليونانيين المتأخرين، ممثلين للنزعة التجريبية؛ ذلك لأنهم إذا كانوا قد أعربوا عن الشك في إمكان المعرفة، فذلك لأن اليونانيين كانوا يعتقدون أن المعرفة لا بد أن تكون يقينية على نحو مطلق. وقد أدرك كارنيادس
Carneades (في القرن الثاني ق.م) أن الاستنباط لا يمكنه تقديم مثل هذه المعرفة؛ لأنه يقتصر على استخلاص نتائج من مقدمات معطاة، ولا يستطيع إثبات صحة المقدمات، كما أدرك أنه لا ضرورة للمعرفة المطلقة من أجل توجيه الإنسان في حياته اليومية، وأن الرأي القائم على أساس متين يكفي أساسا للسلوك؛ وبناء على وجهة النظر هذه وضع نظرية للاحتمال ميز فيها بين ثلاثة أنواع من الاحتمال أو ثلاث درجات لليقين. والواقع أن كارنيادس، بدفاعه عن الرأي الشائع وعن الاحتمال، قد أرسى دعائم الموقف التجريبي في بيئة عقلية كان اليقين الرياضي يعد فيها الصورة الوحيدة المقبولة للمعرفة، وبالفعل فإن آراء هؤلاء التجريبيين الأوائل، التي اصطدمت بعنف منذ قيامها بالنظريات العقلية السائدة. كانت شكاكة في أساسها، وفيها تظهر سمة صحية - وإن تكن سلبية - هي سمة الهجوم على المذهب العقلي، وإن كانت لا تذهب إلى حد بناء فلسفة تجريبية إيجابية.
وقد استمرت مدرسة الشكاك طوال قرون عديدة؛ فبعد حوالي ثلاثمائة عام من كارنيادس، كتب سكتس إمبيريكوس
Sextus Empiricus (حوالي 150 ميلادية) بحثا جامعا لنظريات الشكاك، يحدثنا فيه عن أسلافه القدامى في هذا المذهب، ولا يدع مجالا للارتياب في أنه لا يود التشكيك في إمكان الفعل الغرضي المبني على معلومات مستمدة من الإدراك الحسي، كما أنه كان ممثلا رئيسيا لمدرسة الأطباء التجريبيين، الذين حاولوا تطهير علم الطب من الشوائب التأملية، كذلك كان من بين الفلاسفة العرب مفكرون تجريبيون كالحسن بن الهيثم، الذي اشتهر بمؤلفاته في ميدان علم البصريات الفسيولوجي. أما في العصور الوسطى الأوروبية، فلم يكن يشتغل بالفلسفة إلا رجال الدين؛ ولذا لم يكن في الفلسفة المدرسية متسع للنزعة التجريبية. أما أولئك الذين حاولوا بشجاعة أن يدافعوا عن الموقف التجريبي، مثل «روجر بيكن
অজানা পৃষ্ঠা