ما اتجهوا إليه في الماضي على ما عرفت ونشطوا في التقصي، والاستقراء للمأثور عن العرب وفي إعمال الفكر واستخراج القواعد، وكان مبعث ذلك النشاط هو التنافس البلدي الذي عرض إبان هذا الطور فرام كل من أهل البلدين "البصرة والكوفة" ظفرا على الآخر، فالخليل بعد أن جاب بوادي الحجاز ونجد وتهامة مواجها العرب في صحرائها مستمعا لأحاديثها يعود إلى البصرة، ويستجمع كل ما سمع ويشحذ ذهنه الحاد ويفرغ للبحث عن لآلئ هذا الفن من بحر علمه العميق حتى جمع أصوله وفرع تفاريعه وضم كل شيء إلى لِفْقِهِ، وساق الشواهد وعلل الأحكام وبلغ في ذلك غاية محمودة فاقت كل من سبقه، بيدَ أنه اكتفى عن تدوينه موسوعة فيه بطلبته الذين كان يملي عليهم، وممن حمل الراية في البصرة مع الخليل يونس إلا أنه قصر مجهوده على التلقي عنه ونصب نفسه للإفادة فكانت له حلقات دراسة يؤمها القاصي والداني من فصحاء الأعراب وأهل العلم، وكان له في النحو أقيسة ومذاهب خاصة تفرد بها.
ولقد عاصرهما الرؤاسي الكوفي شيخ الطبقة الأولى الكوفية، فإنه بعد اشتراكه معهما في التلقي عن الطبقة الثانية البصرية يمم الكوفة وألقى عصاه فيها وقد ألفى عمه معاذ بن مسلم الهراء الذي كان أقدم منه سنا يزاول هذا العلم، إلا أنه كلف بالبحث عن الأبنية والتمارين إلى أن غلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون واستنبطوا للصرف كثيرا من القواعد التي سبقوا بها البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين، حتى عدهم المؤرخون الواضعين للصرف، إذ كان الصرف عند البصريين في المحل الثاني، ولم يكف ذلك الكوفيين في دفع التخلف اللاحق بهم على ما فاتهم من شرف النحو فتهالكوا عليه وتزاحموا بالمناكب شأن المفرط الذي يحاول تلافي خطئه، فظهرت فيهم علماء وانبعثت فيهم فكرة التأليف، وكان أول مؤلف تداولوه بينهم كتاب "الفيصل" للرؤاسي.
روى ابن النديم وغيره "وقال الرؤاسي: بعث الخليل إلي يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه، وكل ما في كتاب سيبويه"، "وقال الكوفي كذا فإنما
1 / 36