وكان إبراهيم بك أقل جرأة من مراد بك، ولكنه لم يكن أقل منه جورا وطمعا، إلا أنه كان يخفي غلظ قلبه وقسوته، بما كان يتصنعه من الحلم والرأفة، على خلاف مزاحمة الذي كانت تبدو عليه دائما علامات الحدة، وسرعة الغضب، ولم يظهر إبراهيم بك، سواء قبل ولايته الحكم، أو بعده، شيئا من حسن الأخلاق بل كان سيئ السيرة، لا قلب له ولا ذمة، جبانا كثير الأوهام، حليف الوسواس، سيئ الظن بالناس، كثير الوعود لا يبر بشيء منها، خادعا ماكرا، يظهر المحبة والإخلاص لمن يريد قتله!! ولا يحجم عن إتيان أي عمل، ولكن لا يصل إليه إلا بطرق خفية ملتوية.
أما مراد بك فبالعكس لم يكن يطلب شيئا بطريق الحيلة والخداع بل بالقوة، تظهر عليه علامات القوة والغلظة، متين الأساطين، قوي البنية مفتول الساعد، حتى إنه كان يستطيع أن يقطع رأس الثور بضربة واحدة من حسامه، وتلوح عليه ملامح الجندي، وهيئته كهيئة الليث الغضنفر، لم يباره أحد في ميدان القتال، وإذا غضب ارتعش الواقف أمامه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يكن يعرف كيف يكتم حقده وبغضه، ومع هذا فقد كان كريما جوادا، قريب العفو سريع الرضاء، يقدر كفاءة الناس حتى أعدائه، مخلصا لأصدقائه، بارا بوعده، تظهر عليه أحيانا علامات الحدة والطمع، وأحيانا يميل للحرية والإسراف، ولكنه كان مع كل هذا فخورا بنفسه سفاكا للدماء، سريع الغضب، إذا ملكته سورته ضحى كل شيء، حتى مصلحته الشخصية في سبيل الانتقام.» ا.ه، رأي مارسيل.
وممن يوثق بروايته تمام الثقة في وصف مراد بك، الضابط «سونيني» الفرنسي
14
الذي ساح في مصر سنة 1777؛ وذلك لأنه أولا بعيد عن الغرض الذي يمكن أن ينسب إلى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أو إلى مثل مارسيل الذي سمع عنه ولم يره؛ لأن مراد بك بعد فراره من واقعة إمبابة، لم يعد إلى القاهرة حين كان مارسيل بها، وقد روى «سونيني» في كتابه أنه قابل مراد بك مرات عديدة وقال عنه ما يأتي:
وكنت في بعض الأوقات أدخل قصر مراد بك بواسطة شاب فرنسي تمتع بثقته، وقد قابلني البك برقة ولطف، وأجلسني إلى جانبه، وجعلني أدخن من غليونه، وهذا يعتبر شرفا ممتازا في هذا البلاد، غير أني لم أخدع به على الإطلاق، وقد طرح علي ألفا من الأسئلة، كان السؤال الواحد منها أسخف من الآخر، وظهر لي منها كلها أن الرجل على جانب من الجهل العظيم، وأخيرا قام مقدمي إليه بشرح أمري، فأظهر البك ارتياحا من الأجوبة التي أجبت بها على الأسئلة، وكانت النتيجة أن اقترح علي إدخالي في خدمته بوظيفة مزدوجة كطبيب ومهندس، وقدم لي دارا كبيرة في القاهرة، مع جميع أنواع الخدم والحراس، وأقوات يومية وافرة للغاية التي ليس وراءها غاية، كما خصص لي مرتبا كبيرا، ومن المعقول أن يغتر بهذه الهبات أي واحد على غير معرفة بهؤلاء البكوات، الذين لا مبادئ لهم وبتقلباتهم فيما يقدمون من هبات ويمنحونه من ألقاب الشرف أي هؤلاء الذين يثقلون كاهل الرجل بالمكارم في يوم ، وفي اليوم التالي يفاجئونه بوضعه في الأصفاد والأغلال الحديدية، أو قد يأمرون بإعدامه.
ومراد الذي كان له من الشجاعة ما مكنه من مقاتلة الفرنسيين، رجل جميل جدا، وذو مظهر حربي، وذقن مغطاة بلحية سوداء شعثاء، وحاجبان كثيفان يرسمان قوسين فوق عينيه المملوءتين ذكاء وحماسة ونارا، وعلى أحد وجنتيه أثر لجرح زاد منظر سحنته حدة وعنفا، وقد جمع إلى الشجاعة العظيمة مظهرا فريدا فذا، وقوة خارقة للعادة، بحيث إنه إذا ركب ومر بجانب ثور يستطيع أن يقطع رأسه بضربة واحدة من مهنده، وكان مقاتلا لا يفل له عزم، بحيث كان يستطيع أن يتحمل أشد المشاق، كما كان فارسا مغوارا قادرا ماهرا في استعمال السيف، وشجاعا وقت المحنة والضيق، وجسورا يقدم على جلائل الأعمال والمشاريع، ورزينا متئدا في العمل، ولكنه مرعب في المبدأ والمستهل، بحيث لو تعلم مراد لكان قائدا عظيما، وكان له شكل يدل على الكبرياء، وسلوك يشف عن الجود والسخاء، فأكسبه هذان الأمران، ذلك المظهر الجليل الذي يبدو على ملك من الملوك، ولكن الحمق والجهل والقساوة كانت من الصفات التي صيرته ظالما جبارا عتيا. ا.ه.
مراد بك وحكاية إصلاح جامع عمرو
مراد بك «نقلا عن كتاب مارسيل».
من الأعمال الطيبة الباقية الأثر والمنسوبة إلى مراد بك، أنه أصلح جامع عمرو بن العاص، بل وأوجده من العدم، ومن الناس، من يعد له هذه المأثرة ويذكرها له بالمدح والثناء، وغريب أن يقوم رجل مثل مراد بك بهذا العمل الصالح إلا أن يكون له من ورائه مآرب، كاكتساب قلوب الناس والجند، من المماليك بنوع خاص، ليستأثر بالأمر دون شريكه ومنافسه إبراهيم بك، وهناك روايتان، أو وجهتا نظر مختلفتان، في السبب الذي حمل مراد بك على ذلك العمل النافع، فالجبرتي، وهو شاهد عيان، وخبير بأحوال ذلك الزمان، يصف ذلك الإصلاح الذي قام به مراد بك بأنه «خطرات من وساوسه» وفي هذا الصدد يقول :
অজানা পৃষ্ঠা