المقدمة السادسة
قال حذاق الأصوليين إن العمى لا يجوز على الأنبياء
لأن مقام النبوة اشرف من ذلك. ومنعوا من عمى شعيب وإسحاق. وقالوا لم يرد بذلك نص في القرآن العظيم، ليكون العلم بذلك قطعيًا. وأورد عليهم قصة يعقوب ﵇. وابيضت عيناه من الحزن فهذا صريح. وقوله تعالى: فارتد بصيرًا. وبياض العين لا يكون إلا بذهاب السواد. ومتى فقد السواد حصل العمى. والارتداد لا يكون إلا عودًا إلى الحالة الأولى. والحالة الأولى كان فيها بصيرًا. فدل على أن الحالة التي ارتد عنها كان فيها أعمى. وأجاب المانعون بأن قوله ابيضت عيناه كناية عن غلبة البكاء وامتلاء العين بالدموع، كما قال الشاعر
وقفت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر
فعيناي طورًا تغرقان من البكا ... فأغشى وطورًا يحسران فأبصر
فهذا الشاعر ادعى أن عينيه إذا غر قتامن البكاء صار أغشى فلا يرى بهما شيئًا وإذا غدرت الدموع عاد إلى الإبصار. وقوله: من وراء زجاجة كناية عن غلبة الدموع. لأن الدموع تكون بجمودها في عينه كالزجاجة التي تغطي بصره وهي متى كانت كذلك كانت بيضاء. فهذا مثل قوله تعالى: وابيضت عيناه من الحزن. فلا يدل ذلك على العمى قطعًا. وقوله تعالى: فارتد بصيرًا، ذهب جماعة من المفسرين إلى أنه كان قد عمي بالكلية. وقالت جماعة: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء وكثرة الأحزان، فلما ألقوا القميص وبشروه بحياة يوسف ﵇، عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي ضوء بصره وزال النقصان عنه.
وهذا الذي يليق بجناب النبوة المعظمة. وهو أن يكون النبي سليم الأعضاء، صحيح الجوارح، كامل الخلق، بريًا من العاهات، معتدل المزاج. ومن هنا قال الفقهاء: لا يجوز أن يكون الإمام أعمى. والصحيح من مذهب الشافعي ﵁ أن القاضي لا يكون أعمى. وفي المذهب وجه في جوازه، مبني على أن عمى شعيب وغيره من الأنبياء صحيح قيل ومقام النبوة أشرف من مقام القضاء.
فصل.
1 / 33