فلو جعل أنصار الحكم على أساس الخبرة طائفة من القضايا الدالة على خبرات مباشرة سندا لهم يرتدون إليه في أحكامهم على سائر القضايا الفرعية، ثم لو جعل أنصار الحكم على أساس الواقع الخارجي مباشرة طائفة من القضايا الدالة على وقائع أولية سندا لهم يرتدون إليه في أحكامهم على سائر القضايا، كانت القضايا الأساسية عند الفريق الأول جزءا من القضايا الأساسية عند الفريق الثاني، بحيث يتحتم على كل واحدة من تلك أن تكون واحدة من هذه، لكن العكس غير صحيح.
ولئن كانت الشعبتان مختلفتين في أي القضايا الأولية يتخذ سندا لأحكامنا؛ أهي القضايا الدالة على الخبرة المباشرة وحدها، أم هي القضايا الدالة على وقائع أولية سواء وقعت لنا في الخبرة أو لم تقع، أقول إن الشعبتين إن اختلفتا في هذا، فهما بعد ذلك متفقتان على العلاقات اللغوية التي تجيز لجملة أن تشتق من أخرى؛ فلكل فريق منهما نقطة ابتدائه، لكنهما يسيران بعد ذلك معا في طريق استدلالي واحد؛ إذ يتبعان طائفة واحدة من قواعد الاستنباط، التي هي نفسها قواعد التركيب اللغوي نفسه وقواعد التحويل من جملة في اللغة إلى جملة أخرى.
وهاتان الشعبتان معا تنتميان إلى مذهب في الحق واحد، هو مذهب التطابق بين القضية من ناحية وما جاءت القضية لتشير إليه من ناحية أخرى، غير أن هذا التطابق لا يكون إلا في حالة القضايا الأولية الأساسية عند كل من الشعبتين، وأما القضايا المشتقة المستنبطة من هذه فلا يكون صدقها صدق تطابق مباشر، بل يكون صدقها أول الأمر متوقفا على صدق استدلالها من قضايا أخرى، وهذه من أخرى، حتى نصل في نهاية الشوط إلى قضايا أولية أساسية لا تكون مشتقة إلا من المصدر الرئيسي نفسه، وهذا المصدر هو خبراتنا عند إحدى الشعبتين، وهو الوقائع الخارجية عند الشعبة الأخرى.
ونحن في تقرير الحق لقضية إخبارية ننتمي إلى هذا المذهب - مذهب التطابق - في شعبته التي تشترط أن يكون سندنا الأخير هو خبرتنا؛ فما ليس جزءا من خبراتنا يستحيل عندنا أن يكون له معنى؛ وبالتالي فهو مستحيل على الحكم بصدق أو ببطلان؛ فإن قيل لنا إن هذا الموقف ينتهي بنا إلى التنكر لقانون الثالث المرفوع؛ إذ نحن قمينون بهذا الرأي أن نقف إزاء جملة لم يقع مضمونها في خبرة لنا، أن نقف إزاءها قائلين إنها لا هي صادقة ولا هي غير صادقة؛ كان جوابنا على هذا الاعتراض أن الحكم بالصدق أو بغيره لا يكون إلا لما يمكن اعتباره قضية من وجهة النظر المنطقية، ولا يعد قضية بحكم منطق اللغة نفسه إلا كلام يصلح أن يقال عنه إنه صادق أو إنه كاذب. أما إن كان الكلام غير مفهوم المعنى لم يكن قضية؛ لأنه عندئذ لا يحمل للسامع دعوي يمكنه الحكم فيها. إن الصفة الواحدة قد لا يقصد بها أن تصف كل شيء؛ فاللون مثلا يصف أشياء ولا يصف أشياء أخرى، ولا تناقض في ذلك؛ فهذه الشجرة خضراء، وتلك الحمامة بيضاء، لكن العدد لا لون له والفضيلة لا لون لها وهكذا. والتربيع أو عدم التربيع إنما نصف به أشكالا هندسية؛ فهذه الورقة مربعة، وتلك الكرة ليست مربعة، أما الأكل والشرب والمشي والجري، وأما الشجاعة والجبن والكرم والبخل، فلا يقال عنها إنها مربعة أو ليست مربعة، دون أن نتعرض بذلك لمبدأ الثالث المرفوع، وكذلك الوصف بالحق أو بالباطل، بالصدق أو بالكذب، لا يوصف به كل شيء، بل لا يوصف به كل كلام، إنما يوصف به فقط ذلك الجانب من كلامنا الذي نسوقه ليحمل للسامع دعوانا أو اعتقادنا عن شيء معين، فعندئذ فقط يمكن وصف هذه الدعوى بالحق أو بالبطلان، أما سائر أنواع الكلام التي لا تحمل في طيها دعاوي، كالمستفهم مثلا أو المتعجب - ودع عنك بقية الأشياء التي ليست من قبيل الكلام ولا من قبيل الاعتقادات، فلا يجوز وصفها بحق أو باطل؛ لأن مثل هذا الوصف عندئذ سيخلو من المعنى.
4
ما دمنا نجعل «الخبرة» عمادنا في تمييز ما له معنى مما ليس له، فما أحرانا أن نحدد معنى «الخبرة» تحديدا يزيل ما يحيط باللفظ من غموض. إننا نزعم أن الكلام ذا المعنى المفهوم هو ما أمكن ترجمة مضمونه إلى خبرات وقعت لنا، وأما إن حاولنا مثل هذه الترجمة لجملة من الجمل فلم نستطع، كانت تلك الجملة غير مفهومة لنا، وبالتالي كانت غير ذات معنى؛ فماذا نريد ب «الخبرة» في هذا السياق؟ فالظاهر أن لهذه الكلمة معاني كثيرة ترد في السياقات المختلفة، وإن يكن هنالك العنصر المشترك الذي يسري في تلك المعاني الكثيرة فيجعلها جميعا أعضاء أسرة واحدة، هي التي نحاول الآن أن نجد السمة الشائعة بين أفرادها.
فمن الوجهة اللغوية يكون للكلمة معنى يقع في حدود «الخبرة» إذا ما كان لتلك الكلمة تعريف تحدده الإشارة إلى مسمى معين؛ فإذا ما كانت الكلمة رمزا يشير إلى كائن معين محدد بين الكائنات ، قلنا إن لها معنى في عالم «الخبرة»؛ فاسم العلم الذي يسمي فردا من أفراد الكائنات كلمة من هذا القبيل، مع ملاحظة ما قد أسلفنا الحديث فيه بالتفصيل (راجع الفقرة 3 من الفصل الرابع)، وهو أن أسماء ك «العقاد» أو «المقطم» أو «النيل» وإن يكن قد جرى العرف على اعتبارها أسماء أعلام، إلا أن كل اسم منها - من وجهة نظرنا - يدل في الحقيقة على مجموعة كبيرة من الحالات المتعاقبة؛ وإذن فاسم العلم الحقيقي هو الاسم الدال على حالة واحدة من هذه الحالات الكثيرة، وأفضل ما يؤدي مهمة اسم العلم من الألفاظ هو لفظ كل مهمته أن يشير، مثل كلمة «هذا» نقولها مشيرين إلى حالة بعينها في كائن بعينه. وبديهي أن المشير لا يشير إلا إذا كان هنالك شيء يشار إليه؛ ومن ثم كان اسم العلم - بهذا التحديد لمعناه - كلمة ذات معنى يقع في عالم «الخبرة».
ماذا يدل عليه اسم ك «ابن خلدون» من عالم الخبرة؟ إن ابن خلدون الرجل لم يقع لأحد منا في خبرته؛ بمعنى أن أحدا منا لم يره في أية حالة من حالاته الواقعة، ولكننا قرأنا كلمتي «ابن خلدون» في مواضع عدة من كتب عدة، فهاتان الكلمتان مكتوبتين في تلك المواضع هما كل «خبرتنا» التي تجعل للاسم معنى، وكذلك اسم «سندباد» الذي ورد في القصص الخيالية يكون له معنى في «خبرتنا» بمقدار ما قد رأيناه واردا في السياقات التي ورد فيها. والفرق بين معني «ابن خلدون» ومعنى «سندباد» هو أننا نستطيع أن نتابع الحالات التي ورد فيها اسم «ابن خلدون» حتى نبلغ مرحلة نقتنع عندها بأن لهذا الاسم مسمي حقيقيا كان بين أفراد البشر، وأما بالنسبة لاسم «سندباد» فمهما تابعناه في مواضعه التي ورد فيها فلن نبلغ خطوة في طريق السير نقتنع عندها أن للاسم مسمى خارج الصفحات التي ورد مكتوبا عليها. وعلى كل حال ف «الخبرة» التي تجعل لكل من الاسمين السالفين معنى، هي رؤية الاسم مكتوبا أو سمعه منطوقا، وليست هي الشخص المسمى مرئيا أو محسوسا بأية حاسة أخرى.
وبكلمة موجزة نقول: إن الكلمة يكون لها معنى خبريا إذا لم نوضح معناها بكلمة أخرى، بل بالإشارة المباشرة إلى حالة من حالات الواقع المحسوس؛ فإذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو اللون الواقع في آخر ألوان الطيف الشمسي، كنت بمثابة من يوضح لك الكلمة بكلمات أخريات، أما إذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو «هذا» مشيرا إلى بقعة لونية أمامنا، كنت بذلك أحدد معنى كلمة «أحمر» بالرجوع إلى الخبرة رجوعا مباشرا. على أن الكلمة التي نوضحها بكلمة أو كلمات أخرى (كما يفعل القاموس في شرح الألفاظ) إذا ما استطعنا أن ننتهي بهذا التعريف اللفظي إلى مرحلة يمكن عندها الإشارة إلى المسمى الفعلي في عالم الواقع المحسوس، نقول عنها إنها ذات معنى خبري، إن لم نصل إليه بخطوة واحدة فنحن مستطيعون الوصول إليه بعد خطوتين أو ثلاث.
حلل هذا الذي قلناه عن معنى «الخبرة» حين نقول عن كلمة ما إن لها معنى في «الخبرة»، تجد الأمر يرتد إلى «عادة» يكونها الشخص الذي يتعلم كلمة ومعناها على هذا النحو، وما دام الأمر كذلك ف «الخبرة» - إذن - هي «عادة» نربط بها بين رمز لغوي وشيء مرموز إليه بذلك الرمز. إنني إذ أشير لطفل يتعلم اللغة في أعوامه الأولى قائلا له كلمة «أحمر» ومشيرا له إلى بقعة لونية حمراء، فإنني بذلك أعمل على أن يربط الطفل صوتا معينا بانطباع بصري معين؛ فإذا ما بلغ هذا الربط عنده من القوة حدا يمكنه إذا ما رأى أحد الطرفين أن يستحضر الطرف الآخر في ذهنه، فلو قلت له لفظة «أحمر» دون أن يكون اللون الأحمر في مجاله البصري استحضر اللون، وإذا رأى اللون حاضرا استحضر اللفظ، أقول إن الربط بين الطرفين إذا ما بلغ عنده هذا الحد، كان بمثابة من كون لنفسه عادة؛ وإذن فلو قلنا عن الطفل عندئذ إن له «خبرة» باللون الأحمر، كان معني قولنا هذا هو أن الطفل قد كون العادة التي تربط بين كلمة معينة وما تشير إليه الكلمة في عالم الأشياء.
অজানা পৃষ্ঠা