مقدمة
القسم الأول: أسس عامة
1 - منطق جديد
2 - شعاب الطريق
3 - جماعة فيينا
4 - الكلمات ومدلولاتها
5 - وحدات التحليل
6 - مطلب اليقين
7 - علمنا بالعالم
الجزء الثاني: مشكلات الفلسفة التقليدية
8 - الحقيقة وظواهرها
9 - مشكلة الحق
10 - من السببية إلى القانون العلمي
11 - من الكيف إلى الكم
12 - من المطلق إلى النسبي
مقدمة
القسم الأول: أسس عامة
1 - منطق جديد
2 - شعاب الطريق
3 - جماعة فيينا
4 - الكلمات ومدلولاتها
5 - وحدات التحليل
6 - مطلب اليقين
7 - علمنا بالعالم
الجزء الثاني: مشكلات الفلسفة التقليدية
8 - الحقيقة وظواهرها
9 - مشكلة الحق
10 - من السببية إلى القانون العلمي
11 - من الكيف إلى الكم
12 - من المطلق إلى النسبي
نحو فلسفة علمية
نحو فلسفة علمية
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
هذا عصر يسوده العلم، ليس في ذلك من شك؛ فما أحسب أن تاريخ الفكر في اتصال سيره وتتابع حلقاته قد شهد فجوة بين مرحلة والمرحلة التي تليها كالفجوة التي تفصل هذه المائة العام الأخيرة عما سبقها؛ والفرق بينها وبين ما سبقها هو قبل كل شيء فرق في نظرة الإنسان العلمية إلى العالم بعد أن لم تكن كذلك؛ ولست أعني بالنظرة العلمية التي تميز عصرنا هذا من شتى العصور السوالف مجرد الزيادة في الحصيلة العلمية، بل أعني - بالإضافة إلى ذلك - أن الإنسان لم يحدث له قط في عصور التاريخ الماضية أن اعتمد على العلم في حياته الفردية والاجتماعية بمثل ما يعتمد اليوم؛ فليس في حياته الفردية جانب من عمل أو من لهو يخلو من استخدامه لهذه الآلة العلمية أو تلك، وليس في حياته الاجتماعية مشكلة لم يعد يلجأ في حلها إلى شيء من العلم قليل أو كثير.
ولما كان محالا على الفلسفة في أي عصر من عصورها أن تنسلخ عن سائر الحياة العقلية الشائعة في ذلك العصر، كان محالا عليها كذلك أن تقترف في عصرنا من الإثم ما لم تقترفه طوال تاريخها الماضي؛ كانت المشكلة الأخلاقية عند اليونان وكيف ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان ليبلغ كماله، هي أول ما يشغل الناس من مشكلات، فجاء فلاسفتهم يعزفون النغمة نفسها، فيتأملون تارة ويحللون أخرى، ويجعلون موضوعهم الطبيعة مرة والإنسان مرة، ولكنهم كانوا في كل تارة وفي كل مرة يستهدفون مبدأ تطمئن له عقولهم ونفوسهم من حيث ما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان لتكون حياة مثلى؛ فلسنا نخطئ إذا قلنا عن فلسفة اليونان بصفة عامة إنها كانت تخدم الأخلاق.
ثم جاءت العصور الوسطى في أوروبا المسيحية وفي الشرق الإسلامي على السواء، فأصبحت مشكلة الناس الرئيسية عندئذ هي العقيدة الدينية كما جاء بها الوحي؛ كيف يفهمونها بحيث يطمئنون إلى سلامة فهمهم، وكيف يؤيدونها بحيث ترضى عقولهم عما قد رضيت به قلوبهم. ولم يكن بد للفلسفة أن تساير الناس في اهتمامهم الفكري، فطفقت تبحث لهم ما أرادوا البحث فيه، فتحاول أن تحلل لهم أصول عقيدتهم لتلقي لهم الضوء على غوامضها، وأن تؤيد لهم تلك العقيدة بمبادئ عقلية يستعيرونها من الماضي أو يستخرجونها من رءوسهم؛ وإذن فلا عجب أن قيل عن الفلسفة عندئذ إنها وصيفة الدين.
وجاء عصرنا الحديث بعلمه الطبيعي الذي أنتج للإنسان في ثلاثة قرون أضعاف أضعاف ما قد عرفه الإنسان عن الطبيعة في عشرات القرون الماضية. ولبث هذا العلم الطبيعي أول الأمر مقصورا على جماعة العلماء، لا يكاد الناس يحسونه في حياتهم الجارية، لكنه في القرن الأخير قد جاوز بنتائجه حدود العلماء إلى حيث الحياة العامة والحياة الخاصة على السواء، فماذا تصنع الفلسفة في عصر يسوده العلم على هذا النحو سوى أن تخدم سيد العصر كما كان شأنها في كل عصر؟ ماذا تصنع سوى أن تخدم العلم في عصر العلم كما قد خدمت الأخلاق في عصر الأخلاق والدين في عصر الدين؟
ولست أعني بطبيعة الحال أننا نعيش اليوم بغير أخلاق ودين؛ لأنني على وعي تام بما يلزم الإنسان في حياته من هذه الجوانب الثلاثة مجتمعة؛ فما مر على إنسان واحد يوم واحد استطاع فيه أن يعيش بغير إدراك وبغير وجدان وبغير سلوك؛ وهذا معناه أن لا حياة بغير علم وبغير دين وبغير أخلاق، ولكن لا العلم نفسه ولا الدين نفسه ولا السلوك نفسه فلسفة، إنما الفلسفة صميم عملها هي تحليل هذا أو ذلك تحليلا يستخرج المبادئ المطمورة في لفائفه؛ فإذا كان العصر المعين ينصرف بأكثر اهتمامه إلى الدين - مثلا - جاءت فلسفة ذلك العصر منصرفة باهتمامها هي الأخرى إلى الدين، ولكنها لا تضيف نصوصا جديدة إلى نصوصه؛ أي إنها لا تضيف اعتقادا جديدا إلى اعتقاد، بل تحلل الاعتقاد الديني نفسه كما هو قائم في نصوصه تحليلا يرده إلى مبادئ منطوية فيه، فتصبح تلك المبادئ واضحة جلية بعد أن كانت متضمنة خفية، فيزداد المعتقد فهما لعقيدته؛ وعلى هذا النحو نفسه تنصرف الفلسفة إلى العلم في هذا العصر الذي يسوده العلم؛ فهي لا تضيف علما جديدا إلى علم، ولكنها تحلل عبارات العلم نفسها تحليلا يستخرج ما تنطوي عليه من مبادئ أو فروض.
لسنا نريد بفلسفتنا العلمية أن نشارك العلماء في أبحاثهم فنبحث في الضوء والكهرباء كما يبحثون، بل لسنا نريد أن نبحث في الحياة وفي الإنسان كما يبحثون، فلهم وحدهم أدوات البحث في الأشياء وفي الكائنات، وليس لنا إلا ما يقولونه من تلك الأشياء والكائنات من عبارات وما يصوغونه عنها من قوانين؛ فإذا حصرنا اهتمامنا - لا في إضافة عبارات إلى عباراتهم، أو في صياغة قوانين غير قوانينهم - بل في عباراتهم نفسها وقوانينهم نفسها، نحللها من حيث هي تركيبات من رموز، لنرى إن كانت تنطوي أو لا تنطوي على فرض أو على مبدأ فنخرجه، لعل إخراجه من الكمون إلى العلن يزيد الأمر وضوحا، أقول إننا إذا حصرنا اهتمامنا في هذا كانت فلسفتنا علمية بالمعنى الذي نريده لها.
فترانا مثلا نحلل قضية من الرياضة، مثل 2 + 2 = 4، ونحلل قضية من العلوم الطبيعية مثل ذرة الماء مركبة من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين، نحللهما لنرى هل طبيعة التفكير فيهما واحدة أم إنهما من طبيعتين مختلفتين. لاحظ أننا في هذه الحالة لا نضيف من عندنا علما رياضيا ولا علما طبيعيا، بل نعد العدسة التي ننظر خلالها إليهما كما هما قائمان، فنتبين منهما ما لم يكن ظاهرا، والله وحده أعلم كم حمل الفلاسفة على عواتقهم أثقالا نتيجة للخلط بين علمي الرياضة والطبيعة؛ فهنالك من الفلاسفة من جعل الرياضة وحدها هي صورة العلم الذي لا صورة سواها؛ وإذن فلا بد لمن يصف الطبيعة وصفا علميا أن يجيء كلامه على نحو ما يجيء كلام العالم الرياضي في تسلسل مقدماته ونتائجه؛ فإذا استعصت الطبيعية على هذا التفكير الاستنباطي، فهم لا يشكون أن يكون التفكير الاستنباطي وحده قاصرا عن أن يشمل أنواع التفكير كلها، بل هم يشكون في علم الطبيعة نفسه وما يجيء به من وصف للظواهر كما تقع.
كان الإنسان فيما مضى على اعتقاد راسخ بأن قوام العالم يستحيل أن يكون هو هذه الظواهر المتغيرة التي تدركها الحواس، وهل يعقل - من وجهة نظره عندئذ - أن يكون كل ما هنالك هو هذه الحالات العابرة التي لا تلبث أن تظهر حتى تزول؟ كلا، بل لا بد أن يكون وراء هذه المتغيرات حقائق ثابتة، وإذا كان ذلك كذلك فمن شاء أن يتحدث عن العالم فليبحث عن تلك الثوابت؛ إذ ما جدوى الحديث في ظاهرة إن كانت بادية اليوم فستنحدر غدا إلى عدم؟ ومن ثم لم يكن العلم علما عند الإنسان فيما مضى، إلا إذا بلغ اليقين عن حقيقة ثابتة لا يطرأ عليها تغير، ولم يكن هنالك تناقض - بالتالي - في أن يطالب عالم الطبيعة بما يطالب به عالم الرياضة من منهج فكري يؤدي إلى اليقين.
لكننا نسأل اليوم قائلين: هل ينهج الفكر في تفكيره الرياضي نفس المنهج الذي ينهجه إزاء علم تجريبي قائم على خبرة الحواس؟ أيكون يقين الرياضة أمرا متصلا بطبيعة العقل نفسه أم هو أمر يتصل برموز الرياضة وطرائق استخدامها؟ أئذا قلنا إن «2 + 2 = 4» كنا بذلك نقول حقيقة مشتقة من فطرة العقل، أم إننا بهذا القول نستخدم طائفة من الرموز على نحو متفق عليه كما يتفق اللاعبون على قواعد معينة يلتزمونها في لعبتهم، وكان يمكن لهم أن يتفقوا على قواعد أخرى؟ أتكون زوايا المثلث مساوية حتما لزاويتين قائمتين، أم إن هذه نتيجة تلزم عن فروض معينة، ويمكن تغيير هذه الفروض فتتغير النتيجة؟ هكذا نحلل الفكر الرياضي لننتهي إلى أنه دائما تكراري يعيد في النتيجة ما قد تضمنته الفروض؛ فإذا كان في الرياضة يقين فما ذاك إلا أن نظرياتها لا تتعرض لوصف العالم الواقع، بل تحصر نفسها في اشتقاق صيغة من صيغة أخرى اشتقاقا رمزيا صرفا؛ فلا شأن للرياضي البحت إن كان الخطان المتوازيان يلتقيان أو لا يلتقيان على الطبيعة، إنما شأنه مقتصر على الورقة التي أمامه والتي يضع عليها فروضا ويستدل منها نتائج تلزم عنها.
وتلك نتيجة خطيرة لو أدركها الناس قبلنا لتغير وجه الفلسفة تغيرا جوهريا؛ لو كان لإقليدس تلميذ مثل لوباتشفسكي - مثلا - يتنبه وقتئذ إلى أن نظريات أستاذه إنما تستمد صدقها من طريقة اشتقاقها من الفروض، أما أن تكون صادقة أو غير صادقة على الطبيعة فذلك ما ليس في وسع الهندسة نفسها أن تقوله، أقول لو كان لإقليدس تلميذ يتنبه إلى هذا الذي تنبه إليه الرياضيون المحدثون في طبيعة العلم الرياضي - ولم يكن ثمة ما يمنع أن يكون من تلاميذ إقليدس من تطرأ له هذه الفكرة - إذن لما تتابع الفلاسفة العقليون واحدا في إثر واحد يقولون إننا نريد علما للطبيعة على غرار علم الهندسة من حيث يقين نتائجه؛ لم يكن ديكارت ليطالب باستخدام المنهج الرياضي في علم الطبيعة، ولم يكن سبينوزا ليصب فلسفته في قالب هندسي صرف، ولم يكن كانت ليسلم بأن علم الهندسة صادق على الطبيعة كما هو صادق عند العقل، ثم يسأل نفسه: كيف أمكن أن يكون ما يدرك العقل الخالص أنه حق، كيف أمكن له أن يكون حقا بالنسبة للعالم الطبيعي في الوقت نفسه؟
أعود فأكرر القول بأننا لا نريد بالفلسفة العلمية أن نشارك بها العلماء في أبحاثهم، بل هي علمية لأنها تعنى أول ما تعنى بتحليل قضايا العلوم، وقد ظفرت من هذا التحليل بنتائج خطيرة بعيدة المدى؛ وهي كذلك علمية بالتزامها دقة تشبه دقة العلماء في استخدامهم لرموزهم. قارن بين عالمين يتحدثان عن «سرعة الضوء» وفيلسوفين يتحدثان عن «خلود النفس»، وانظر إلى هذا الفارق الشاسع بين ذينك وهذين في تحديد المدركات التي يستخدمونها. إننا لا نريد أن يرخص للفلاسفة بما لا يرخص به للعلماء؛ فما أهون على الفلاسفة أن يلقوا في مجري حديثهم كلمات مثل «عقل» و«فكر» و«فضيلة» و«جوهر» كأنما هي كلمات يشار إلى مسمياتها بالأصابع، فليست معانيها بحاجة إلى تحديد. وإننا نحن التجريبيين العلميين لعلى يقين بأن ما قد جرى العرف على تسميته ب «مشكلات فلسفية»، إن هو إلا غموض في استخدام الرموز اللفظية، ولو استقام لهذه الرموز طريق استخدامها، لتبخرت تلك المشكلات في الهواء وزالت. خذ عبارة فلسفية تحدثك عن «الحق» - مثلا - واضرب فيها بمشرط التحليل لتحدد لنفسك معناها أولا ماذا يمكن أن يكون، تجد القبة قد انكشفت عن غير شيخ يرقد في جوفها، وعندئذ ستأخذك الحسرة على أيام من حياتك قضيتها تبحث عن هذا «الحق» المطلق الذي يحدثك عنه الفلاسفة، ويجعلون منه إحدى مشكلاتهم الكبرى؛ لأنك ستعلم أن كلمة «الحق» في كل عبارة ترد فيها يمكن حذفها دون أن يطرأ تغير على صدق العبارة؛ وإذن فهي كلمة زائدة يمكن الاستغناء عنها، دع عنك أن نتخذ منها موضوعا لمشكلة يخب فيها الفلاسفة ويضعون.
وقد قسمت هذا الكتاب قسمين؛ فقسم بسطت في فصوله بعض الأسس العامة التي منها تتكون وجهة النظر الفلسفية التي أعتنقها وأدافع عنها، وقسم آخر عرضت فيه طائفة من مشكلات الفلسفة التقليدية عرضا أعدت به النظر إلى ما كان يقال فيها، ثم ماذا تصير إليه إذا ما صببنا عليها ضوء التحليل الحديث. ولم يكن عرضي لمشكلات الفلسفة على هذا النحو عرضا شاملا لها جميعا بطبيعة الحال؛ لأن ذلك محال أن يتم في كتاب واحد. على أن غايتي الرئيسية من هذا الكتاب هي أن يخرج قارئه باتجاه فكري أردناه له، أكثر مما يخرج بموضوعات مفصلة مستوفية لكل ما يمكن أن يقال فيها من ضروب الرأي.
ولو حكمت على مصير هذا الكتاب في ضوء ما قد أصاب إخوة له سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة الذين يجيدون في ميدان الفروسية ركوب الجياد ورماية الرمح والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ فإن كان لي أمل من أجله عانيت ما عانيته في تأليف هذا الكتاب، فذلك هو أملي في جيل جديد من طلاب الفلسفة، ينظرون إلى الدراسة نظرة منصف جاد.
الجيزة في 24 يوليو سنة 1958م
زكي نجيب محمود
القسم الأول
أسس عامة
الفصل الأول
منطق جديد
1
لبثت الفلسفة أمدا طويلا وهي تقترن في الأذهان بنوع من العبارات يختلف عما ألف الناس في حياتهم العلمية وحياتهم اليومية على السواء؛ فلم يكن على الفيلسوف من حرج أن «يتأمل» بخالص فكره هذا الكون الذي نعيش فيه، بغية الوصول إلى «حقيقته»، غير مستند في ذلك إلى عين أو أذن، حتي إذا ما حدس الحقيقة المنشودة حدسا أخرجها للناس في طائفة من ألفاظ اللغة يسلكها في عبارات لغوية، كما يفعل سائر عباد الله حين ينطقون أو حين يكتبون ليصفوا خبراتهم، إلا أن سائر عباد الله يردونك - إذا شئت - إلى المصادر الحسية التي استقوا منها تلك الخبرة التي جاءوا يصفونها في عباراتهم، أما الفيلسوف فيأبى أن يكون ذلك شأنه؛ إنه يزعم لأقواله الصدق، فإذا ما أردت أن تتبين موضع الصدق فيها وسألته أين عساك أن ترى أو تسمع أو تلمس هذه الحقائق التي يزعمها لك مؤكدا صدقها، أجابك بأنه لا يستند إلى ما يستند إليه سائر الناس - ولا فرق هنا عند الفيلسوف بين عامة الناس وعلمائهم - لأنه ليس كهؤلاء يستمد أحكامه من خبرة حواسه، بل هو «فيلسوف» من شأنه أن «يتأمل» بالفكر الخالص ما يريد أن يتخذه موضوعا لتفكيره؛ ولذلك فهو يري ما يراه عن حقيقة الكون بعين بصيرته لا بعينيه المفتوحتين في جبهته. وما دام أمره كذلك فلا يجوز لك أن تطالبه بما تطالب به غيره من الناس؛ لأن أداته إلى المعرفة ليست كأدواتهم . وبعبارة موجزة، ليست الفلسفة - عند فلاسفة التأمل - علما يقوم على مشاهدة وتجريب حتى تخضع لما يخضع له العلم من طرائق الإثبات.
كلا، ولا يريد الفيلسوف التأملي لعباراته أن تخضع لتحليل يفكك أوصالها ويحلل خيوطها؛ لأنه في حقيقة أمره أقرب في تعبيره إلى لغة الشاعر منه إلى لغة العالم؛ فالعالم الطبيعي - مثلا - يرى ما يراه أولا، ثم يطلق على هذا الذي رآه اسما يتفق عليه مع زملائه العلماء؛ فهو يشاهد في الطبيعة صفة معينة أو صفات، ثم يختار لها - اختصارا - مصطلحا يدل عليها؛ ولذلك فهو على استعداد دائما أن تقف به عند أي مصطلح شئت لتسأله: علام أطلقت هذا المصطلح؟ فيحدد لك على وجه الدقة ما تستطيع أن ترجع إليه من كائنات الطبيعة مما قد يكون مسمى للمصطلح الذي تسأل عن معناه، أو هو يعرف الكلمة تعريفا من شأنه أن تستنتج منه النتائج التي إذا ما طابقت بينها وبين الواقع وجدتها صحيحة، أما الفيلسوف فشأنه غير هذا؛ لأنه يبدأ بلفظة معينة لم تسبقها مشاهدة، ثم يتورط في هذه اللفظة، فيأخذ في الحديث عنها حديثا يطول مداه أو يقصر، وليس هو على استعداد زميله العالم بأن يردك إلى أشياء الطبيعة المحسوسة لتلتمس بينها ما عساه أن يكون مسمى لتلك اللفظة التي جعلها مدار حديثه، أو ما عساه أن يكون ناتجا عن تعريفها؛ فالفيلسوف التأملي - مثل الشاعر وعلى خلاف العالم - يقول كلاما مرجع الصدق فيه إلى ما يدور في نفس المتكلم، لا ما يحدث على مسرح الطبيعة الخارجية من حوادث.
ها هنا نضع أصابعنا على فرق هام بين أقوال الفلاسفة وأقوال العلماء؛ فبينما الفلاسفة - وأعني فلاسفة التأمل - ينصرفون إلى بواطن نفوسهم ليقولوا ما يقولونه، يتجه العلماء إلى خارج نفوسهم إلى حيث الطبيعة وظواهرها ليقرروا عنها ما يقررون من قوانين، لكن إذا كان الأمر كذلك، فما بال أولئك الفلاسفة المتأملين في ذوات أنفسهم، يتوهمون أنهم إنما يصفون «الحقيقة» الكونية كما تقع فعلا؟ إن كان الفلاسفة والعلماء كلاهما يصفون العالم الواقع الحقيقي، فما الفرق بين وصف ووصف؟ وجوابنا عن هذا السؤال هو أن العلماء إذ يتحدثون عن ظواهر الطبيعة فإنما يتحدثون بلغة «القوانين العامة» التي هي نتيجة ما قد شهدوه أو أجروا عليه التجارب، وأما الفلاسفة فهم - على خلاف ذلك - يصفون العالم قياسا على ما رأوه في أنفسهم؛ فلئن كان منهج العلماء استقراء يتقصى الأمثلة الجزئية ليخلص منها إلى قانون عام يصف ظاهرة بعينها، فمنهج الفلاسفة التأمليين «تمثيل» - باصطلاح المناطقة - أي تشبيه العالم بالإنسان ثم الحكم على العالم بما نحكم به على الإنسان.
فإذا قلت إن الحرارة تمدد الأجسام، قلت بذلك علما؛ لأنني بمثابة من يقول إنه حيثما يتعرض جسم للحرارة فإنه يتمدد. هذا حكم عام استخلصناه من ملاحظاتنا وتجاربنا، ونحن على استعداد أن نثبته لمن يريد ذلك بالرجوع إلى ملاحظات وتجارب، ولا دخل هنا لحالاتنا النفسية في الأمر، فلنكن في حالة من النشوة أو في حالة من الأسى، لنكن في حالة من طمأنينة النفس أو اضطرابها، فلا نزال في كلتا الحالتين نلاحظ ونقرر أن الحرارة تمدد الأجسام.
وتعليل ظاهرة معينة تعليلا علميا معناه أن نطويها تحت حكم عام مما نعلم، فلماذا تهب الرياح على مصر من الشمال؟ تعليل ذلك هو انضواؤه تحت قانون الحرارة وتمدد الأجسام؛ فالهواء على أرض مصر تزيد حرارته، فيتمدد، فيخف، فيعلو، فتسنح الفرصة لهواء أكثر برودة أن يهب من جهة البحر ليحل مكانه؛ بهذا يتم التعليل في رأينا، ما دمنا قد نسبنا الظاهرة المراد تعليلها إلى قانون أعم منها.
لكن قارن ذلك بفيلسوف يقول: «العقل عنصر لا نهائي يكمن وراء ظواهر الكون جميعا، الطبيعي منها والروحي على السواء، وهو العنصر الذي تستمد منه جميع الأشياء وجودها.» فأول ما تلاحظه هنا هو أن اللغة المستخدمة في هذه العبارة قد سيقت على نحو فيه كثير من الغرابة، وهي نفسها الغرابة التي قد يضيق بها من لم يتعود الفلسفة ولغتها، وأما من تعود هذه اللغة وألفها فسيقرأ العبارة مطمئنا لها راضيا بها؛ فإن فهمها كان بفهمه سعيدا، وإلا فالذنب ذنبه هو؛ لأنه لم يدرب نفسه بعد على الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة الأغوار. وإذن فلنترك هذا الذي قد أعماه الإلف فلم يعد يرى في الغريب غرابته، ولنتصور عالما من علماء الطبيعة - مثلا - قد أراد نفسه على فهم هذه العبارة. إنه نشأ نشأة تحتم عليه أن يكون الكلام مرتبا على نحو يجعل لكلماته معنى مما يرتد إلى هذه الحاسة أو تلك، إنه بحكم نشأته العلمية لا يخشى الفكر المجرد؛ لأن قوانينه العلمية كلها تجريد، كلا ولا هو يخشى طول البراهين ودقتها؛ لأنه قد تعود في مجاله العلمي أن يتتبع البرهان العلمي في شوطه الطويل ذات المراحل الكثيرة والتفصيلات الدقيقة، وهو حريص أشد الحرص على ألا تفلت منه دقيقة من دقائق الفكرة؛ لأنه يعلم أن شيئا كهذا كفيل أن يفسد البرهان من أوله إلى آخره. عالمنا - إذن - ليس أقل حرصا على دقة الفهم ودقة الفكر من صاحبنا الفيلسوف قائل هذه العبارة المراد فهمها، وليس أقل قدرة منه على التعميم والتجريد، فماذا عسى أن يفهم العالم الطبيعي من عبارة كهذه؟
تقول العبارة: «العقل عنصر لا نهائي.» والعالم الطبيعي يألف هذه الألفاظ كلها، لكنه لم يألف أن ترتب هذا الترتيب. إنه يعلم أدق العلم ماذا يكون «العنصر» حين يقال له إن الماء مركب من «عنصرين». وهو على دراية تامة بمعنى كلمة «عقل» حين يقال له - مثلا - إن العالم يستخرج نظرياته العلمية بعقله غير متأثر بعواطفه. وكذلك قل في لفظ «اللانهائي»؛ فما أكثر ما يستخدم الرياضيون هذه الكلمة وهم على علم دقيق بما يريدون لها من معنى. لا صعوبة إذن في الألفاظ مأخوذة فرادي، لكن الصعوبة تبدأ حين تضم هذه الألفاظ بعضها إلى بعض على هذا النحو العجيب، فكيف يكون «العقل» «عنصرا» إذا كان «العقل» صفة تصف جانبا من السلوك الإنساني، و«العنصر» كلمة تسمي المادة حين لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط تركيبا؟ ثم يمضي الفيلسوف في عبارته السالفة، فيقول إن «العقل يكمن في شتى ظواهر الكون». فهل يمكن للعالم الطبيعي أن يفهم لهذا الكلام معنى ؟ إن أجسام الحيوان والنبات والجبال والأنهار كلها من ظواهر الكون، أفتكون هذه «الأجسام» «عقلا»؟ العقل طريقة سلوك معينة، بحيث أصف به جانبا من سلوك الإنسان دون جانب؛ فالذي يستدل النتيجة من مقدماتها يسلك سلوكا «عاقلا»، أما الذي يهضم الطعام أو يتثاءب مللا فليس ذلك منه «عقلا»، أفيكون هذا الجبل أو هذه الشجرة أو ما شئت من «أجسام» حية وجامدة «عقلا»، ثم يكون لهذا الكلام معني مفهوم؟
إذن فلماذا يقول الفيلسوف كلاما كهذا؟ لعله يريد أن يقول إن كل ما في الوجود يسير نحو غاية معينة سيرا يشبه سير العقل في انتقاله من مقدمة إلى نتيجة، وإذا كان هذا مراده فلماذا يختار لهذا المعنى عبارته تلك التي تجعل العقل عنصرا، وتجعله شيئا لا نهائيا، وتضعه وراء الكائنات جميعا؟ ومع ذلك فحتى بعد هذا التعديل في عبارة الفيلسوف تعديلا يقربها إلى عقل العالم الطبيعي، فلن يزال هذا العالم على عجبه وتعجبه؛ لأنه سيسأل صاحبنا الفيلسوف، كما تعود أن يسأل زملاءه العلماء: ما التجربة التي أجريها لأستيقن من صدق هذا القول؟ أو بعبارة أخرى، ماذا عساي أن أرى بعيني أو أسمع بأذني في هذه الشجرة - مثلا - لأقول بعدئذ إن جوهرها «عقل»، وإنها استمدت وجودها من «عقل»؟
1
كلا، إن فيلسوفنا لم يقم حكمه ذاك على مشاهدات أو تجارب، إن العالم حين سأله هذا السؤال، فاته أن منهج الفيلسوف غير منهج العلم؛ ذلك أن منهج الفيلسوف في صميمه هو أن يخلع ما بنفسه على العالم الخارجي؛ أليس يحس الإنسان في نفسه قوة تدفعه إلى غايات معينة فيسلك إلى هذه الغايات سبلها الموصلة؟ إذن فلينظر إلى الكون كله بمنظار نفسه ليراه - كما يرى نفسه - مدفوعا إلى غايات وملتمسا إلى تلك الغايات سبلها، وإذن فهو كون يسوده عقل ويسيره عقل كما يسود العقل الإنسان ويسيره.
هكذا يصف الفيلسوف التأملي العالم بما يجده في نفسه هو، بل إنه حتى في هذا الوصف الذاتي يستخدم الألفاظ على نحو لا يجعلها واضحة المعنى؛ ولذلك قلنا عنه إنه أقرب إلى الشاعر منه إلى العالم، إلا أن الشاعر رجل يعرف حدوده، وأما الفيلسوف فعلى كثير من ضلال؛ وذلك لأن الشاعر يخلع حالاته النفسية على الطبيعة الخارجية وهو على وعي بذلك، فإن قال - مثلا - عن زهرة إنها ضاحكة، فهو على وعي تام بأن الضحك والنشوة في نفسه هو، خلعهما على الزهرة حين مزجها بنفسه، وأما صاحبنا الفيلسوف حين يخلع حالاته النفسية على العالم الخارجي فإنه يتجاهل ذلك أو يجهله؛ فلو قلت للفيلسوف الذي رأى في نفسه عقلا فخلع العقل على الكون كله، لو قلت له «هذا منك تشبيه»، ركب رأسه وأصر على أنه إنما يقول عن العالم حقا لا شبهة فيه، وأنه مفكر موضوعي ينظر إلى الخارج بغض النظر عن ذات نفسه، حتى وإن اتخذ من ذات نفسه وسيلة لمعرفة ما يجاوزها.
لو اعترف الفيلسوف التأملي بأنه من فصيلة الشعراء، يحس دخيلة نفسه ثم يعبر، لقبلنا عباراته على هذا الأساس بصدر رحب، ثم أحلناها على نقدة الأدب ليقولوا رأيهم فيها؛ أهي من الأدب الجميل أم إنها خلو من الجمال الأدبي فتلقى بين المهملات، لكنهم يأبون على أنفسهم إلا أن يكونوا من أصحاب الفكر الموضوعي الذين لا ينطقون عن عاطفة وهوى؛ فالفيلسوف الذي زعم لنا في عبارته التي أسلفناها أن جميع الأشياء تستمد من «العقل» وجودها، وأن «العقل» عنصر كامن وراء ظواهر الكون كلها، المادية منها والروحية على السواء، هذا الفيلسوف إنما يقول ما يقوله لا على أساس أنه مجرد تشبيه للكون بالإنسان تشبيها هو أقرب إلى الأدب منه إلى العلم، بل على أساس أنه «الحق» في ذاته، وهو يسخر من العلم إذا زعم له أن حقيقة الكون مادية لا عقلية؛ إذ إن الكون المادي - في رأيه - هو نفسه أحد المظاهر التي عبر بها «العقل» عن نفسه؛ هذا العالم المادي - في رأيه - قوامه «العقل»، كما أن هذا الكتاب الذي بين يديك قوامه الورق، واضحك بعد ذلك ما شئت، فأنت أنت الجاهل الذي لم ير «الحق» كما رآه الفيلسوف صاحب الرأي المذكور.
هكذا يبدأ الفيلسوف التأملي بالتشبيه، تشبيه الطبيعة بنفسه، ثم ينسى أنه تشبيه، فيمضي في تفكيره كما لو كان ذلك التفكير مرتكزا على واقع حقيقي ملحوظ. إنه يتحدث بلغة «الصورة» ويظن أنه يتحدث بلغة الأفكار المجردة، أو أنه يجسد الفكرة المجردة في خياله تجسيدا يوهمه بأنها قد أصبحت كبقية الأجساد، كصاحبنا هذا الذي جسد فكرة «العقل» حتى انقلب «العقل» بين يديه مادة يصنع منها الكون.
ويطول بنا الحديث لو طفقنا نتتبع الفلسفات التأملية الكبرى، كفلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة سبينوزا وفلسفة هيجل ومن إليهم؛ لنبين أنها في صميمها قائمة على «التشبيه»؛ تشبيه الكون بالإنسان، أو تشبيه ما هو مجرد بما هو عيني محسوس، فلنترك الحديث في هذا الآن لنعود إليه في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
2
إننا نريد للفلسفة أن تكون شبيهة بالعلم، لكننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعات بحثهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إننا - على نقيض ذلك - نحرم على الفيلسوف باعتباره فيلسوفا أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه؛ لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك؛ فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ونأخذ على الفلاسفة التأمليين أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم؛ إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال كما سيتبين في غضون هذا الكتاب؛ فانظر مثلا إلى هيجل وهو يحاول إقامة البرهان العقلي الخالص على أن الكواكب تسير وفق قوانين كبلر، بل استدل بالقياس العقلي المحض مواضع الكواكب أين تكون، بحيث أقام البرهان على استحالة أن يكون ثمة كوكب بين المشتري والمريخ، مع أنه لسوء حظه كان علماء الفلك قد كشفوا بالفعل عن كوكب بينهما قبل ذلك بشهور قلائل.
2
كلا، إننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يورط الفلاسفة فيما لا شأن لهم به من شئون العلم، ولكننا نحب لهما أن يقترنا بعدة معان أخر؛ أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، التزاما يقرب الفيلسوف من العالم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة ما يريده حين يقول «جاذبية» و«ضوء» و«صوت» ... إلخ، فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الأمانة نفسها وبهذه الدقة نفسها في استخدامه لألفاظه الأساسية الهامة، فلا يقول - مثلا - كلمة «نفس» أو كلمة «عقل» أو كلمة «خير» ... إلخ، إلا وهو على أتم العلم بحدود معناها، بل إنه لا يكفي أن يحدد الفيلسوف معاني هذه الألفاظ تحديدا يشترطه لها اشتراطا لكي يمضي في حديثه على أساس هذه المعاني التي هي من صنعه؛ فلا يكفي - مثلا - أن يقول سبينوزا في بداية بحثه: «إنني أعرف «العنصر» بأنه ما يوجد في ذاته ويمكن تصوره بغير الاستعانة بأية فكرة أخرى.» أقول إنه لا يكفي أن يعرف الفيلسوف ألفاظه على هذا النحو، ثم يستدل من هذا التعريف نتائجه التي تترتب عليه، وبعد ذلك يظن أن هذه النتائج التي وصل إليها تطابق العالم الحقيقي الواقع؛ ذلك لأن تعريفه لكلمة «عنصر» - وهو المثل الذي سقناه - لا يزيد على كونه شرحا للطريقة التي يستخدم بها الكلمة، فمهما تكن النتائج التي يمكن استدلالها بعد ذلك من هذا التعريف، فهي نتائج تستخرج مضمون التعريف وفحواه، ولا تجاوز حدوده إلى حيث العالم الواقع، أما إذا أراد الفيلسوف أن يحدد معاني ألفاظه تحديدا يعينه على دقة التفكير، فخير له ألا يبدأ بالكلمة ثم يعقب عليها بتعريف، بل أن يبدأ بالصفة أو مجموعة الصفات التي يلاحظها ويريد لها اسما يميزها، ثم يطلق هذا الاسم آخر الأمر على ما قد لاحظه؛ وبهذا يصبح تعريف الاسم هو الصفات التي كانت وقعت في حدود المشاهدة؛ فإذا ما استخرجنا بعد ذلك من هذا التعريف نتائج مترتبة عليه، كانت هذه النتائج متطابقة مع حوادث الواقع المشهود.
إننا لا نستطيع أن نترك هذه النقطة الهامة دون أن نشير إلى الأثر العميق الذي تركه أرسطو في ثقافة العصور الوسطى، وما يشبه تلك الثقافة حتى في بعض الأمم القائمة في عصرنا الراهن، بسبب نظريته في «التعريف»؛ فقد كان من رأي أرسطو - كما هو معلوم لكل من درس منطقه - أن تعريف أية كلمة إنما يكون بذكر «الجوهر» الذي منه يتألف معناها؛ ومؤدى ذلك أن تبدأ بكلمة تصادفها وتريد أن تحدد تعريفها، ثم تحاول بعد ذلك أن تبحث عما يؤلف لها معنى. وكثيرا جدا ما تكون الكلمة التي بين يدي اسما زائفا أطلق على غير مسمى، لكنني - لو سرت على نهج أرسطو - فلا يجوز أن أسأل عن الكلمة التي أريد تعريفها قبل محاولة تعريفها؛ هل هي أولا كلمة حقيقية لها ما تسميه في دنيا الأشياء؟ فإن كانت اسما حقيقيا كان علي أن أحدد صفات الشيء المسمى بها، فيكون ذلك هو تحديد دقيق لمعنى الكلمة المراد تحديد معناها.
ألا إنها لنكبة ثقافية كبرى تصاب بها الأمة إذا سادت بين قادة الرأي فيها عادة التفكير على النهج الأرسطي الذي أسلفناه؛ لأنهم عندئذ سيغوصون في بحر من الثقافة اللفظية الفارغة، إنهم سيتمسكون بكل ما في أوراقهم ودفاترهم ومجلداتهم من «ألفاظ»، ثم يصبح مجهودهم الفكري بعد ذلك هو أن يشرحوا هذه الألفاظ، ثم يشرحوا الشروح، ثم يضعوا لهذه الشروح هوامش شارحة يعلقون عليها بمجلدات في إثر مجلدات، مع أن «الألفاظ» الأولى التي بنوا عليها هذا البناء الهش كله قد تكون زائفة بغير معنى؛ فافرض - مثلا - أن «المفكر» من هؤلاء اللفظيين قد بدأ تفكيره بكلمة «نفس»، فها هنا سيجد نفسه إزاء لفظة لا يتردد في أنها من ذوات المعنى، فيأخذ في تعريفها على أسلوب أرسطو بأن يحاول تحديد صفاتها الجوهرية، وقد يجد أن هذه الصفات بحاجة إلى شرح، فيمضي في شروحه إلى آخر ما تسعفه الكلمات التي حفظها من دراساته السابقة، لكن هل سأل بادئ ذي بدء إن كانت الكلمة اسما حقيقيا تسمي شيئا معينا أو لا تسمي؟
إنني أقترح في هذا الصدد طريقة
3
من شأنها أن تضبط هؤلاء الشاطحين ، وهي أن يعكس «المفكر» طريق سيره هذا، فبدل أن يبدأ بالكلمة لينتهي إلى معناها، يبدأ بالمعنى لينتهي إلى الكلمة، وفي هذا ضمان بألا نبقي بين أيدينا إلا الكلمات ذوات المعنى الحقيقي؛ فأرى اللون المعين أولا قبل أن أقول كلمة «أحمر»، وأذوق الطعم المعين أولا قبل أن أقول كلمة «مر»؛ وعلى هذا القياس أنتظر حتى تأتيني حواسي بالعناصر التي أريد لها اسما، ثم أختار لها اسم «نفس»، حتى إذا ما سئلت بعد ذلك ما معنى هذه الكلمة؟ قلت: هو العناصر الفلانية التي يمكن أن تراها العين أو تسمعها الأذن، أما إذا لم يكن هنالك من هذه العناصر الحسية ما يريد التسمية كففت عن استخدام الكلمة، وإلا استخدمتها بغير مسمى؛ أي بغير معني.
إذن فتحديد ألفاظنا الفلسفية مثل هذا التحديد الذي لا يدع أمامنا كلمة بغير مسمى مما يمكن تعقبه بالحواس، هو أول ما نريده حين نطالب بأن تكون الفلسفة «علمية» في منحاها ومنهجها، ثم نريد لها بعد ذلك أن تحصر بحثها في مشكلات جزئية محددة؛ فبدل أن يحاول الفيلسوف مستحيلا ببحثه عن «مبدأ» يضم الكون كله بما فيه ومن فيه، يقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم كمفهوم «السببية» مثلا، يتعاون في تحليله مع زملائه الفلاسفة كما يتعاون العلماء في المعمل على تحليل مادة من موادهم؛ وبهذا يستفيد بعضهم من بعض ويكمل بعضهم بعضا، وتنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا يجعل آخره أقرب إلى الصواب من أوله.
لقد مضى عهد «الشوامخ» في عالم الفكر كما مضى عهد الأباطرة المستبدين، وجاء عهد التعاون الفكري مع الديمقراطية في نظام الحكم؛ فلم يكن الفرق بعيدا بين حاكم فاتح كالإسكندر الأكبر يريد أن يسيطر على العالم كله بكلمة منه، وبين الفيلسوف التأملي كأفلاطون أو أرسطو يريد أن يخضع الكون كله لمبدأ واحد من عنده، وكذلك ليس الفرق بعيدا بين جماعة الأفراد في أمة تريد أن يكون الحكم قسمة بينهم وأن تكون التبعة مشتركة، وبين جماعة الأفراد في طائفة علمية معينة تتعاون كلها على مشكلة بعينها حتى تظفر لها بحل يرضي؛ فلا عجب أن تري أعلام الفلاسفة فيما مضى يقفون وأتباعهم من حولهم كالعناقيد، ثم تتوالى عناقيدهم عنقودا بعد عنقود، على حين تدور بناظريك في عصرنا فتجد الفلاسفة جماعات جماعات، تكاد تتعادل بين أعضائها القامات، فلا نبي ووراءه الحواريون، ولا أستاذ وحوله التلاميذ الصغار، بل هم كأعضاء الندوة يسمرون ويتبادلون الرأي تبادل الند مع الند، أو ما هو قريب من ذلك.
الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحاديثهم الجارية، فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يفصل مكنونها تفصيلا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئا، ويخرجه إلى العلن بعد أن كان متضمنا مطويا في ثنايا الحديث، حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينا أن يخلق المتاعب ويثير المشكلات. وحسبك أن تعلم في هذا الموضع من الحديث أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة، لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية حتى تبين لهم في وضوح أن لا إشكال، وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل ولا حل هناك؛ فهل النفس خالدة أم فانية؟ هل يكون هذا العالم المحسوس قائما وحده أم إن وراءه عالما عقليا آخر؟ هل الموجود الحقيقي هو الأفراد الجزئية أم الحقائق الكلية التي تعبر عن نفسها في تلك الأفراد؟ وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأسئلة التي لم يزل الفلاسفة التأمليون يلقونها ويحاولون الجواب ولا جواب؛ فيتناول فيلسوف التحليل هذه العبارات نفسها ليفض مغاليقها اللفظية، وإذا هي فارغة لا تنطوي على شيء، وإذا هذه المشكلات المزعومة الموهومة تذوب ثم تتبخر في الهواء وتختفي.
الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يترك الخبز للخباز ينضجه على النحو الأكمل، فيترك الفلك لعالم الفلك، والطبيعة لعالم الطبيعة، والإنسان لعالم النفس أو عالم الاجتماع ، إنه لا شأن له ب «شيء» من أشياء الوجود الواقع، بل يحصر نفسه في «الكلام»، كلام هؤلاء العلماء؛ ليحلل منه ما قد تركوه بغير تحليل، وبخاصة إذا كان في العبارة «لفظ» يثير المشكلات ويكون مدار الاختلاف، وقد تسأل: ولماذا لا يترك هذه المشكلات نفسها لأصحاب العلوم كذلك؟ أليس هؤلاء أدرى بما يقولون؟ والجواب هو أن هذا ما ينبغي أن يكون لو استقامت الأمور، بل هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان، فترى من علماء الرياضة من تستوقفه بعض المدركات الرياضية الغامضة، فتستهويه بالوقوف عندها حينا ليلقي على مكنونها الضوء، وعندئذ يكون «فيلسوفا» رياضيا بالمعنى الذي نريده لكل فيلسوف، وهكذا قل في علماء الطبيعة وغيرها، لكن هذا التحليل المنطقي قد يستهوي كذلك غير المختصين في العلوم المختلفة، فيختصه بجهده وفكره؛ لأن التحليل المنطقي لعبارة ما، هو في حقيقة أمره شيء مستقل عن مضمون العبارة وفحواها؛ إذ يتناول صورة التركيب وما فيها من علاقات، ويفرغ من العبارة فحواها؛ وإذن فليس ثمة خطر حقيقي إذا ما تصدى لمثل هذا التحليل غير العلماء المختصين في هذا العلم أو ذلك؛ لأن القدرة المطلوبة هي قدرة على التفريغ والتجريد.
لكن القارئ من حقه هنا أن يسأل: ماذا نعني على وجه الدقة بكلمة «تحليل» حين نسوقها في هذا السياق الفلسفي؟ إننا نتصور في غير عسر ماذا يكون معنى التحليل حين ينصب على شيء مادي، فليس من العسير أن نتصور «تحليل» الماء إلى عنصريه أكسجين وهيدروجين، أو تحليل دم الإنسان إلى هذا وذلك من العناصر وهكذا، فهل تعني شيئا كهذا حين تقول إن عمل الفيلسوف المعاصر ذي النزعة العلمية هو أن يحلل العبارات اللغوية، وعبارات العلم منها بوجه خاص؟ هل يتناول الفيلسوف عبارة فيقول إنها مركبة من كذا لفظا وكذا حرفا، أو إن المداد الذي كتبت به ينحل إلى كذا وكذا من العناصر، وكذلك الورق الذي خطت عليه؟
كلا، فذلك تحليل «مادي» للعبارة، والمقصود «تحليل منطقي» لها، أو إن شئت فقل «تحليل عقلي»، لكن السؤال ما يزال قائما ، وهو: ماذا تعني بهذا النوع من التحليل؟ وجوابنا هو أن هذه الكلمة في هذا السياق، هي كغيرها من كلمات هامة كثيرة، ككلمة «العلم» و«الفن» وما إليهما، ليس عليها اتفاق حاسم بين من يستعملونها حتى من المختصين، إنها ليست بعد في دقة استعمالها كالكلمات المشيرة إلى مسميات محسوسة، فلا خلاف - مثلا - بين علماء الطبيعة على مدلول كلمة «أحمر»؛ لأنهم يتفقون اتفاقا قاطعا على مدى الموجات الضوئية التي يدخلونها تحت هذه التسمية، ومع ذلك فكلمات «التحليل» و«العلم» و«الفن» وما إليها، إن تكن قد فاتتها هذه الدقة في تحديد المعنى، إلا أنها ليست خلوا من كل تحديد؛ إذ إن كلا منها ما يزال ينطبق على مسميات إن تكن مختلفة فيما بينها بعض الاختلاف، فهي كذلك متشابهة تشابها يبرر جمعها تحت اسم واحد من هذه الأسماء، كأفراد الأسرة الواحدة، بينهم اختلافات في الشكل والشخصية، لكنهم مع ذلك يكونون أسرة واحدة، فكذلك قل في المعاني المختلفة التي يأخذ بها الفلاسفة المعاصرون في معنى «التحليل» المنطقي الذي يريدون له أن يكون هو الفلسفة وعملها، فهذه المعاني على اختلافها، تتشابه بغير شك وتتجه كلها وجهة واحدة، بحيث تكون أفرادا من أسرة هي التي نطلق عليها اسم «التحليل المنطقي».
إنه لخير لنا في تحديدنا لمعنى «التحليل» أن نعتمد على الاستعمال الفعلي لهذه الكلمة بين الفلاسفة المشتغلين به؛ فلسنا نقول إن التحليل المنطقي «يجب» أن يكون بهذا المعنى أو ذلك، بل نقول إنه فعلا بهذا المعنى عند فلان وفلان، وبذلك المعنى عند فلان وفلان، وفيما يلي سنتعقب الخيوط الرئيسية للاتجاهات المختلفة في مدرسة التحليل.
3
لفظتا «تحليل» و«تركيب» شائعتان معروفتان في التفكير الفلسفي، والمقصود بهما هو معناهما المباشر الذي يتبادر إلى الذهن من استعمالها المألوف في لغة الحديث الجارية؛ فالفيلسوف «تحليلي» إذا جعل مهمته استخراج المقومات أو استنتاج النتائج مما يتصدى لتحليله، سواء كان هذا «شيئا» أو «عبارة لغوية»، وهو «تركيبي» إذا لم يكتف بمجرد تفتيت ما يتناوله - شيئا كان أو عبارة لغوية - بل هو يضيف من عنده أحكاما عن الوجود، كله أو بعضه؛ فإذا راح فيلسوف، مثل هيوم، يحلل الفكر إلى عناصره الأولية لينتهي إلى أن تلك العناصر الأولية هي إما انطباعات أو أفكار، حين يكون معنى «فكرة» باصطلاحه انطباعا حسيا غاب مؤثره وبقي في الذهن صورة تتفاوت درجة وضوحها ونصوعها، كان بذلك فيلسوفا تحليليا، وأما إذا تبرع الفيلسوف بأحكام إيجابية من عنده يصف بها الوجود، كأن يقول أفلاطون إن هناك عالما عقليا قوامه أفكار إلى جانب هذا العالم الحسي الذي نعيش فيه والذي قوامه أفراد جزئية، كان فيلسوفا تركيبيا. الفيلسوف التحليلي يبدأ بموضوع المشكلة، كالطبيعة أو الإنسان مثلا، ثم يحاول رده إلى وحداته الأولية التي منها يتركب ذلك الموضوع، والتي لا يمكن بدورها أن تنحل إلى ما هو أبسط منها، كما يفعل برتراند رسل حين يحلل الطبيعة إلى وحدات أولية هي «الحوادث» بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة عنده؛ فلمعة الضوء الآتية إلي من هذا المكتب الذي أمامي الآن «حادثة»، ولمسة القلم الذي بين أصابعي «حادثة»، وهكذا، أو كما يفعل برتراند رسل أيضا حين يحلل الكلام إلى قضايا أولية يكون موضوع الواحدة منها دائما حادثة من حادثات الطبيعة بالمعنى الذي أسلفناه، وأما الفيلسوف التركيبي فعلى خلاف ذلك، يحاول أن يبني الوجود في خياله بناء قوامه العناصر البسيطة التي يفترض وجودها، كما يفعل سبينوزا مثلا حين يفترض بسائط أولية ثم يبني منها الكون كما تقتضيه بداهة عقله وقوة خياله.
وإنه على الرغم من أن الفلاسفة الإنجليز - «لك» و«باركلي» و«هيوم» و«ستيوارت مل» و«برتراند رسل» وغيرهم - يتميزون أساسا بطابعين؛ هما التحليل من ناحية، والنزعة التجريبية من ناحية أخرى، بحيث تراهم دائما ينتهون بتحليلهم إلى أن العناصر الأولية هي الإحساسات البسيطة التي تتأثر بها الحواس، ثم على الرغم من أن الفلاسفة في بقية القارة الأوروبية - فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، مثل ديكارت وسبينوزا وهيجل - يتميزون أساسا بطابعين آخرين؛ هما التركيب من ناحية، والنزعة العقلية من ناحية أخرى، فتراهم يقيمون مبدأ يبنون عليه بناء متسقا مع ذلك المبدأ لأنه مستنبط منه، أقول إنه على الرغم من أن التحليل والنزعة التجريبية قد ارتبطا غالبا، وأن التركيب والنزعة العقلية قد ارتبطا غالبا كذلك، إلا أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التحليلي تجريبيا؛ ف «الطبائع البسيطة» التي قال بها ديكارت هي نتيجة تحليل، لكنها موضوعات لحدس عقلي، وليست هي بالموضوعات الحسية التي تتأثر بها الحواس، وكذلك «الوحدات الروحية» التي أخذ بها ليبنتز هي أيضا نتيجة تحليل، لكنها ليست مما تدركه الحواس؛ وإذن فها هنا عمليات فلسفية تحليلية لم تقتض أن يكون القائم بها من الفلاسفة التجريبيين الذين يردون الأمر كله إلى الحواس وإدراكها، والعكس صحيح أيضا، وهو أنه ليس من الضروري أن يكون الفيلسوف التجريبي فيلسوفا تحليليا، وخير مثل نسوقه لذلك هو الفيلسوف الإنجليزي الحديث «صموئيل إسكندر» في كتابه «المكان والزمان والألوهية»؛ فها هنا تراه - على عادة الإنجليز - فيلسوفا تجريبيا يستقي من الحواس معارفه، لكنه يستقيها ليبني منها بناء فلسفيا شبيها بالنسقات التي يقيمها الفلاسفة العقليون، وإذن فهو فيلسوف تجريبي تركيبي معا، وهو يعتقد أن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها تبحث في مشكلات أعم من مشكلات العلم، لكنهما معا يدوران حول موضوعات بعينها.
4
إننا حين نصف هذا الفيلسوف بأنه تحليلي وذلك الفيلسوف بأنه تركيبي، فلا يفوتنا أنه يندر جدا أن تجد الفيلسوف الواحد قد انصرف إلى التحليل وحده من أول فلسفته إلى آخرها، أو إلى التركيب وحده؛ ذلك لأن الفيلسوف في الحقيقة يضع أمامه مشكلات يحاول حلها ولا يبالي كيف جاء ذلك الحل؛ فهو مثلا ينظر في مشكلة المادة والعقل، أو في القيم الأخلاقية والجمالية وما إلى ذلك، ليرى ما حقيقتها، ولا يعنيه بعد ذلك أن تكون السبيل الموصلة إلى هذه الحقيقة المنشودة تحليلا أو تركيبا، لكننا مع ذلك نزداد فهما للفيلسوف حين نعلم أن التحليل أو التركيب يغلب على عمله، بل كثيرا ما يسود التحليل عصرا بأكمله كعصرنا هذا،
5
كما يسود التركيب عصرا بأكمله كذلك كما كانت الحال في فلسفة العصور الوسطى أو في فلسفة القارة الأوروبية - ما عدا إنجلترا - في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كذلك ترى التحليل هو النزعة السائدة في بلد كإنجلترا، كما ترى التركيب هو النزعة السائدة في بلد آخر كألمانيا. ودعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة تحسن صنعا لو عرفت على وجه التحديد والدقة أن مجالها هو التحليل، والتحليل وحده؛ فذلك يحقق لها الصفة العلمية التي نريدها لها، وبالمعنى الذي حددناه في القسم الثاني من هذا الفصل؛ لأن كل جملة تركيبية يقولها فيلسوف - غير مستند في قولها إلى ملاحظة وتجربة كما يفعل العلماء في أقوالهم - هي من قبيل التخمين الذي قد يضر التطور العلمي وقل أن ينفع.
دعوانا في هذا الكتاب هي أن الفلسفة ينبغي أن تكون تحليلا صرفا، تحليلا لقضايا العلم بصفة خاصة؛ لكي نضمن لها أن تساير العلم في قضاياه، وأن تفيد في توضيح غوامض تلك القضايا، دون أن تتعرض للضرب في مجاهل الغيب. والتحليل الذي ندعو إليه - وإن يكن قد سبق إليه فلاسفة كثيرون فيما مضى؛ إذ ما أكثر الفلاسفة الذين استخدموا التحليل في عملهم إما بصفة غالبة أو بصفة طارئة - إلا أنه قد اتخذ في عصرنا الحاضر لونا خاصا يختلف عن كل تحليل فيما مضى من تاريخ الفلسفة، وأصبح ذا طابع واضح متميز هو الذي يطبع الفلسفة التجريبية العلمية المعاصرة، وأعني به الطابع الذي تراه عند «جورج مور» و«برتراند رسل» و«لدفج وتجنشتين» وكل من لف لفهم، وإنهم لكثيرون، نخص بالذكر منهم جماعة سنفرد للحديث عنها فصلا خاصا، هي جماعة فيينا، التي أنشأت وطورت ما يسمى بالوضعية المنطقية.
لقد مرت الفلسفة في أوائل هذا القرن العشرين بمرحلة من مراحل تاريخها، طرأ عليها خلالها من التغير في وجهة النظر ما يبلغ حد الثورة، إذا جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة السياسية في مجال التفكير الفلسفي. وليس المراد هنا بكلمة «الثورة» مجرد تغير في المذهب السائد؛ لأن مثل هذا التغير لا يحدث «ثورة»، فلسنا نقول - مثلا - عن فلسفة أفلاطون إنها جاءت بمثابة الثورة على فلسفة أستاذه سقراط على الرغم مما بينهما من اختلاف بعيد، وكذلك لا نقول عن فلسفة أرسطو إنها كانت ثورة على فلسفة أفلاطون رغم ما بينهما من اختلاف بعيد كذلك، لكننا نقول عن فلسفة سقراط بالنسبة لسابقيه إنها «ثورة»، لماذا؟ لا لأن بين سقراط وسابقيه اختلافا في الرأي وكفى، بل لأن الاختلاف يتناول السؤال نفسه المطروح للإجابة؛ فإذا ألقيت سؤالا معينا، كقولك: مم صنعت الطبيعة؟ ثم جاءك عشرون فيلسوفا كل منهم بجواب خاص به، فهذا يقول إنها صنعت من كذا وذلك يقول إنها صنعت من كيت، فإن هؤلاء الفلاسفة العشرين جميعا يكونون مدرسة فكرية واحدة، ولا يعد الواحد منهم ثورة على زميله على الرغم مما بينهما من اختلاف في الرأي بالنسبة للسؤال المطروح. أما إذا جاءك فيلسوف آخر يغير من السؤال ذاته ليطرح سؤالا جديدا هو في رأيه أولي بالاهتمام من السؤال الأول، أو قد يكون ذلك لأن السؤال الأول قد استنفد الإجابات الممكنة كلها ولم يعد لقيام المشكلة أمام الأذهان غناء، كأن يسأل - كما فعل سقراط - عن الأساس العقلي للأخلاق الإنسانية، فذلك يكون بمثابة الثورة الحقيقية في مجرى الفكر؛ لأنه حول الانتباه من مجال قديم إلى مجال جديد.
وكذلك كان تحول الفلسفة منذ أوائل هذا القرن العشرين «ثورة» بهذا المعنى نفسه؛ أي بمعنى أنها نقلت اهتمامها من مجال إلى مجال تراه أجدر بالعناية؛ فبعد أن كان اهتمام الفلاسفة منصبا على حقيقة العالم وحقيقة الإنسان، انتقل إلى شيء آخر هو تحليل العبارات؛ فليس موضوع البحث الآن «أشياء»، ولكنه «جمل»؛ ليس موضوع البحث الآن هو «الكون»، بل هو هذه العبارة المعينة أو تلك؛ ما تحليلها وما مضمونها وما مكنونها؛ بهذا يربط الفلاسفة أنفسهم بدنيا العلم ودنيا الحياة اليومية، بدل أن يتعالوا على هذه الدنيا على أساس أنها باطلة، بحثا عن عالم «حقيقي» وراء هذا العالم المحسوس! وبهذا تصبح الفلسفة منطقا صرفا كما يقول برتراند رسل في محاضرته التي نشرها عام 1914م بعنوان «المنطق هو صميم الفلسفة» فصلا من كتابه «علمنا بالعالم الخارجي».
هذه الثورة ، أو إن شئت تواضعا في التعبير فقل هذه الحركة الجديدة في عالم الفلسفة، كان مركزها الرئيسي جامعة كيمبردج بإنجلترا، حيث أنشأها زعيماها الأولان وهما «مور» و«رسل»، ثم تبعهما «وتجنشتين»، وبعد ذلك أخذ الأتباع يزدادون في القارة الأوروبية وفي الولايات المتحدة، وهم ما يزالون في ازدياد حتى يومنا هذا، لكن الثورة التي تجتث كل صلة بالماضي ضرب من المحال، فلا بد من خيوط تصل العهد الثائر بالعهد الذي سبقه ليمهد له حتى وإن لم يكن جزءا منه، فها نحن أولاء إزاء هذه الحركة الفلسفية الجديدة التي بدأت مع بداية هذا القرن العشرين على وجه التقريب، لكننا نتعقب جذورها الأولى فنراها ضاربة في أرض المدرسة المثالية نفسها، التي جاءت هذه الحركة الجديدة لتثور عليها وتقلب أوضاعها.
فقد كان أنصار المدرسة التجريبية في إنجلترا منذ «لك» و«هيوم» يجرون على سنة التحليل الذي يتناول المعرفة الإنسانية ليردها إلى وحداتها الأولية، وكانت هذه الوحدات عندهم هي دائما عناصر أقرب إلى الذرات، كل ذرة منها قائمة وحدها، ثم ترتبط هذه الذرات المعرفية بعلاقات فتنشأ منها الأفكار المركبة؛ فالوحدات البسيطة الأولى عندهم هي إحساسات يقوم كل إحساس منها كأنما هو كائن مستقل عن سائرها؛ فهذه - مثلا - لمعة من الضوء على شبكية العين، وتلك رنة صوت في الأذن، أو لمسة جسم صلب أو لين على الأصابع وهكذا. تلك - على وجه الإجمال - هي الخيوط الأولية التي ينسج منها العقل أفكاره مهما بلغت تلك الأفكار من درجة التركيب.
واجتاحت إنجلترا موجة من المثالية الهيجلية في القرن التاسع عشر، حيث امتدت من أول القرن إلى آخره، فمالت بأنصارها إلى الطرف الآخر؛ إذ عجبوا لهؤلاء التجريبيين كيف يفتتون المعرفة الإنسانية إلى هذه الخيوط، مع أن معرفة أي جزء على حدة ضرب من المحال في رأيهم، فلا تستطيع - مثلا - أن تعرف شيئا عن لون هذا الكتاب إلا متصلا بالكتاب، ثم لا تعرف شيئا عن الكتاب إلا متصلا بغيره، وهكذا وهكذا. وليس الاستطراد في رأيهم هذا هو موضوعنا الآن، لكن النقطة الهامة عندنا في هذا السياق هي أن قادة الفلسفة الإنجليزية المثالية في أواخر القرن التاسع عشر - مثل برادلي - قد وضح توضيحا لا يدع للشك سبيلا، أن الوحدات الأولية للمعرفة يستحيل أن تكون مدركات فرادي؛ لأن المدرك الواحد لا يكون فكرا ولا يكون معرفة بأي معنى من المعاني، إنما تبدأ المعرفة حين يبدأ الحكم، ولا يكون حكم إلا إذا تكاملت لنا قضية فيها محكوم عليه ومحكوم به ورابطة تربط بين الطرفين؛ فقولي «قلم» ليس فكرا، وقولي «أسود» ليس فكرا كذلك، أما قولي «القلم أسود» فوحدة فكرية؛ لأنه تعبير عن حكم قد يصيب وقد يخطئ.
الحق أن هذه كانت نقطة ضعف ظاهرة في تحليل التجريبيين للمعرفة، فكانت بالتالي هدفا لهجمات معارضيهم من الفلاسفة المثاليين، بل كان هذا هو أعمق فارق بين «هيوم» من جهة، و«كانت» من جهة أخرى؛ فالأول يجعل الانطباع الحسي الواحد أو الفكرة الواحدة المتخلفة بعد ذلك الانطباع هي وحدة التفكير، فإذا ما تجاورت فكرتان في الذهن لم يكن بينهما من علاقة سوى علاقة التجاور؛ ولهذا لم يجد بين السبب ومسببه من علاقة سوي ما بينهما من تلازم في الوقوع؛ وأما «كانت» الذي يقول إن دعوي هيوم هذه قد أيقظته من سباته، فيرى أن الخطأ الأساسي الذي وقع فيه هيوم هو أن جعل الفكرة الواحدة فكرا، على حين أن الحد الأدنى للفكر هو القضية التي تربط فكرتين على أقل تقدير.
ونعود إلى الموقف في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا، لنري «برادلي» الفيلسوف المثالي يوضح لنا بدوره هذا الاتجاه في تحليل المعرفة إلى أولياتها، وجاء «برتراند رسل» وغلبت عليه في نهاية الأمر نزعته التجريبية، لكنه في الوقت نفسه أراد أن يستفيد بما قاله «برادلي» في نقده للتجريبيين، فلم يتردد في أن يقيم فلسفته التجريبية على أساس منطق جديد يتلافي به أوجه النقص التي كانت تؤخذ على سالفيه «لك» و«هيوم» وأمثالهما، وما هذا الأساس المنطقي الجديد في صميمه إلا أن يجعل «القضايا الأولية» - لا المدركات المفردة - هي الوحدات البسيطة الأولى في تحليل المعرفة. ولم يكن «رسل» وحده في هذا الاتجاه، بل سار معه فيه زميله «مور» وتلميذه «وتجنشتين»، ثم تبعهم في ذلك بقية الأتباع.
فالمعرفة الإنسانية - عند «رسل» و«وتجنشتين» بصفة خاصة - يمكن تحليلها إلى ذرات أولية، والذرة الواحدة منها هي قضية أولية، يكون موضوعها فردا واحدا لا جماعة من أفراد. وماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح أن يكون موضوعا للقضية الذرية؟ أتصلح لذلك كلمة مثل «إنسان» و«شجرة» وسائر هذه الكلمات الكلية؟ أئذا قلنا - مثلا - «الإنسان كائن عاقل» كان هذا القول ذرة فكرية بسيطة لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها؟ هكذا ظن أرسطو، وما هكذا يظن «رسل» وأتباع مدرسته التحليلية؛ فكلمة «إنسان» عند أرسطو مدرك أولي بسيط من الناحية المنطقية، وأما عند «رسل» وأتباعه فهذه الكلمة وحدها - وإن بدت كلمة واحدة - إلا أنها عبارة بأسرها ضغطت في هذا اللفظ الواحد.
فأنت لو فككت كلمة «إنسان» إلى أجزائها الأولية وجدتها كلمة تحتوي في جوفها كل أفراد البشر، من مضى منهم ومن هم قائمون اليوم ومن سيظهرون في الوجود إلى آخر الدهر، إنها اسم لم يخلق ليكون اسما خاصا لي أو لك كأسمائنا التي سجلت في شهادات ميلادنا لتميز الواحد منا عن بقية الناس؛ وإذن فليست هي بالاسم الجزئي الخاص بفرد واحد، كلا، بل ليست هي بالاسم في حقيقة أمرها، إنها عبارة بأسرها، هي عبارة وصفية في تحليلها، أريد بها أن تصف هذا الفرد أو ذلك بمجموعة معينة من الصفات، أريد بها أن تصف العقاد والمازني وهيكل وطه والحكيم وسائر أفراد البشر، بأن كل واحد منهم فيه طائفة من صفات معينة معلومة تجعله ينتمي إلى فئة من الكائنات خاصة. إن كلمة «إنسان» يستحيل أن يكون لها معنى وحدها، بل لا بد لكي يكمل معناها أن يوجد إلى جوارها اسم آخر - كالعقاد مثلا - بحيث يمكن أن يقال بعد ذلك «العقاد إنسان» فيكمل معنى كلمة إنسان، لكن افرض جدلا أنني خلقت في اللغة هذه الكلمة «إنسان» دون أن يكون في العالم فرد واحد مما عساه أن ينتمي إلى هذه الفئة التي أردت أن أطلق عليها هذه الكلمة؛ إذن فماذا يكون معناها؟ إنها عندئذ تظل معلقة بغير مدلول ولا معنى، حتى يظهر في عالم الوجود فرد يصح أن ينطوي تحتها، وعندئذ فقط يبدأ معناها في الظهور.
ونعود إلى سؤالنا من جديد: ماذا عسى أن يكون الفرد الواحد الذي يصلح موضوعا لقضية ذرية من النوع الذي يقول عنه «رسل» إنه الوحدات البسيطة الأولية لكل تفكير؟ لقد أوضحنا أن الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«شجرة» ليست بهذه البساطة المزعومة؛ لأن الواحدة منها تعود فتنحل إلى مجموعة من الأفراد أو المفردات؛ أفيكون الفرد الواحد إذن صالحا لذلك، كاسم «العقاد» مثلا؟ أئذا قلنا عبارة كهذه «العقاد إنسان»، كنا بذلك قد ضربنا مثلا للقضية الذرية البسيطة؟ كلا، ولا هذه أيضا؛ لأن كلمة «العقاد» هي أيضا لفظة تطلق في الحقيقة على مجموعة كبيرة من المفردات، وهذه المفردات هي الحالات الكثيرة التي يكون عليها العقاد في لحظات حياته المتتابعات؛ فقد تقع عينك على العقاد ألف مرة، وقد تسمعه يتحدت ألف مرة، دون أن يكون المرئي منه أو المسموع هو هو بعينه في حالتين اثنتين من هذه المرات الألف جميعا، لكننا نضم هذه الحالات كلها، وما سبقها وما سيلحق بها، لنطلق عليها اسما واحدا هو اسم «العقاد»؛ وإذن فما هذا الاسم بالبساطة التي ليس بعدها تحليل، وإنما هو اسم يأتي بعده تحليل وتحليل.
وأما إذا جعلنا موضوع القضية التي نقولها حالة واحدة من تلك الحالات المتعاقبة للفرد الواحد من الإنسان، كأن أتحدث عن لونه في لحظة معينة، أو صوته في حالة واحدة مما يصح أن أشير إليها بقولي «هذا» لمن أتحدث إليه، فتلك هي القضية الذرية الأولية البسيطة التي لا تحتمل بعد ذلك تحليلا؛ تلك هي الوحدة التي يتألف منها ومن مثيلاتها فكر الإنسان مهما بلغ بعد ذلك من التعقيد والتركيب.
لكني لا أستطيع أن أشير لمن أتحدث إليه بقولي «هذا» مشيرا إلى الحالة الواحدة الفردة التي أجعلها موضوع حديثي ، إلا إذا كانت تلك الحالة مما يمكن أن يتلقاها بإحدى حواسه؛ وبالتالي يستحيل أن يكون لكلامي معنى إلا إذا حللته إلى مفردات أولية، كل مفرد منها قضية ذرية، موضوعها حالة جزئية تدرك بإحدى الحواس.
قارن هذا الأساس المنطقي الجديد بمنطق أرسطو تر الفرق شاسعا بعيدا من حيث الإطار الفكري في كل من الحالتين؛ فالوحدات البسيطة عند أرسطو - وعند العصور الوسطى كلها من بعده، وعند كل من لا يزال يفكر على هذا الغرار - هي القضايا التي موضوعاتها كلمات كلية؛ فإذا سألته عن كلمة كلية مثل «إنسان» ما معناها، راح يحللها لا على أساس مدلولاتها الحسية، بل على أساس مقوماتها العقلية. نعم، لو سألته عن معناها انصرف إلى داخل رأسه لا إلى الدنيا العريضة من حوله، ليرى ماذا يكون داخل رأسه هو من «مفهوم» لتلك الكلمة، حتى لو لم تكن الكلمة دالة أبدا على أي شيء محسوس من أشياء الطبيعة الخارجية، فلا فرق عنده أن تسأله عن معنى «إنسان» أو عن معنى «ملك» أو عن معني «غول»؛ لأنه في شتى هذه الحالات جميعا سينصرف إلى داخل رأسه باحثا عن «مفاهيم» تلك الأسماء، ولا عبرة عنده بعد ذلك أن تكون أو لا تكون؛ هنالك في العالم ملائكة وغيلان كما أن فيه أفرادا هم بنو الإنسان، لا عبرة عنده لشيء من هذا؛ لأن العبرة هي بالمفهوم العقلي للفظ لا بمسمياته الفردية الجزئية التي تدركها هذه الحاسة أو تلك.
كان التفكير في العصور الوسطى - في أوروبا وفي الشرق الإسلامي على السواء - قائما على أساس من المنطق الأرسطي، وفي اعتقادي أن تجديد التفكير لا يمكن أن يتم على صورة وافية إذا اقتصر التغيير على الطوابق العليا وحدها، بل لا بد من تغيير الأساس، لا بد من إقامة البناء على منطق جديد؛ فإذا كان أرسطو والأرسطيون يكفهم الجولان داخل رءوسهم، فلا مناص لنا نحن الذين نريد التجديد من الخروج إلى حيث العالم المرئي المسموع. كان أرسطو بل وكثير غيره من الفلاسفة الأقدمين يفرقون بين «المعرفة » من جهة و«الظن» من جهة أخرى، وعندهم أن ما تجيء به الحواس «ظن» لا يقين فيه، أما «المعرفة» بمعناها الصحيح فلا بد أن ترتكز إلى يقين، ولكن كيف؟ إن ذلك اليقين المنشود لا يتحقق عند أرسطو وأتباعه وأشباهه إلا إذا كانت الفكرة نتيجة حتمية لمقدمات سبقتها، وهذه المقدمات بدورها لا تكون يقينا إلا إذا كانت نتائج لمقدمات سبقتها، وهكذا دواليك حتى تصل في الطرف الأعلى من بناء المعرفة إلى ما يسمونه المبادئ الأولى. وكيف أعرف هذه المبادئ الأولى؟ تعرفها بالحدس؛ أي بالعيان العقلي المباشر، فلعقلك ما يشبه العين ترى الحقائق العقلية رؤية مباشرة كما هي الحال في العين التي في رأسك، غير أن هذه تدرك محسوسات وتلك تدرك معقولات؛ وعلى ذلك فلا يقين عندهم إلا إذا كانت الحقيقة حدسية - وتلك هي المبادئ الأولى - أو إذا كانت حقيقة أقيم عليها البرهان القياسي الذي يبين من أي المقدمات جاءت. و«المبادئ الأولى» في كلتا الحالتين هي الأساس، أو قل هي المعرفة الأصيلة، ولكن هذه المبادئ الأولى هي نفسها «جواهر» الأشياء في رأي أرسطو، وجوهر الشيء هو نفسه تعريفه عند أرسطو كذلك؛ فما معني ذلك كله؟ معناه أنك إذا أقمت بناءك الفكري على أساس منطق أرسطو، فما عليك إلا أن تعرف الأشياء من حيث جوهرها العقلي، لا من حيث مظهرها الحسي، ومن هذه التعريفات تبني بناءك صاعدا أو هابطا، فلك أن تصعد منها بأن تضمها بعضها إلى بعض فيما هو أعم حتى تصل إلى قمة الوجود في مبدأ واحد، أو أن تهبط منها إلى ما يترتب عليها من نتائج قياسية؛ وبهذا يتاح لك أن تعلم حقائق الكون كله وأنت قابع في عقر صومعتك، لا حاجة بك إلى رؤية أو سمع.
4
كان المنطق الأرسطي تحليلا للفكر العلمي الذي ساد أيام اليونان، وساد بعد أيام اليونان قرونا طويلة شمل العصور الوسطى وما بعدها، حتى طرأ على التفكير العلمي تغير جوهري، استلزم أن يتغير معه المنطق الذي إن هو إلا تحليل للتفكير العلمي.
كان التفكير الذي ساد أيام اليونان رياضيا في صورته ومبناه وإن لم يكن كله رياضيا في مادته وفحواه؛ بمعنى أنه كان دائما يسير من مبدأ مفروض إلى النتائج التي تتولد من ذلك المبدأ. وكان علم الهندسة - ممثلا في هندسة إقليدس - هو خير ما يصور ذلك الضرب من التفكير الذي يبدأ بالمسلمات والبدائه لينتهي منها إلى النظريات التي تستمد يقينها من يقين مقدماتها؛ فإذا ما نهض أرسطو فيلسوف المنطق اليوناني ليرسم طريق السير للفكر الصحيح، كان طبيعيا أن يترسم خطوات التفكير الرياضي، ما دام هذا التفكير الرياضي ينتهي بصاحبه إلى النتائج اليقينية؛ وراح يحلل هذا الضرب من التفكير النموذجي ما وسعه التحليل، حتى خرج على الناس بمنطقه المعروف الذي مؤداه أن الوحدة الأولية لكل تفكير هي «القضية» التي لا بد أن يكون قوامها «موضوعا» نحكم عليه بصفة ما، و«محمولا» يكون هو تلك الصفة التي ننسبها إلى الموضوع؛ فإذا ما ضممنا قضيتين من هاتيك القضايا الحملية بحيث تتوافر فيهما شروط خاصة، أمكن أن نستنتج منهما نتيجة يقينية على نحو ما يحدث في التفكير الرياضي.
وجاءت العصور الوسطى بطابعها الديني، فوجدت هذا المنطلق الأرسطي أداة طيعة نافعة لخدمة أغراضها؛ فها هو ذا كتاب أو كتب نزل بها الوحي؛ وإذن فكل ما فيها صادق، ويمكن اتخاذ هذا العلم الصادق مقدمات لا سبيل فيها إلى الشك، فننتهي من تلك المقدمات إلى نتائج يقينية كذلك. وما يزال هذا الضرب من التفكير أداة يستخدمها كل من أراد أن يرتكز على سند يزعم له اليقين ليستدل منه ما استطاعت قدرته أن يستدل.
كان الافتراض الكامن وراء المنطق الأرسطي كله هو أن العلم الذي هو جدير بهذا الاسم، لا بد أن يبلغ درجة اليقين، وما ليس يبلغ اليقين فهو «ظن» لا يجوز الأخذ به، لكن هذا اليقين المنشود إذا جاز لنا أن نلتمسه في الرياضة وما يجري مجراها من ضروب التفكير، فلا يجوز أن يكون هدفنا إذا كانت «الطبيعة» هي مجال البحث؛ ذلك لأننا في الرياضة لا نزيد على استخراج نتيجة كانت كامنة في مقدماتها فأبرزناها، وأما في التحدث عن الطبيعة فالأمر مختلف، فها هنا ننبئ عن الظواهر أنباء قد نصيب فيها وقد نخطئ؛ ومن ثم فلا مندوحة لنا في هذا المجال الطبيعي عن اصطناع منهج فكري آخر؛ أي عن اصطناع منطق آخر، يكون عماده الترجيح لا اليقين، ما دام مجال القول هو النبأ الجديد لا مجرد تكرار النتيجة لما كان متضمنا في مقدماتها.
غير أن هذا المنطق الجديد الذي تلزمنا به ضرورة اتساع مجالات الفكر والقول لا يأتي على أنقاض المنطق القديم، بل هو يبني إلى جوار المنزل القديم منزلا جديدا؛ لأن مجال التفكير الذي من أجله نشأ المنطق الأرسطي ما يزال ولن يزال قائما، وكل ما في الأمر أن أضيف إلى القديم جديد من الفكر، يستوجب أن يضاف إلى المنطق القديم منطق جديد يسد حاجة هذا الفكر الجديد.
كان علم الهندسة في الرياضة لا يعرف سوى الهندسة الإقليدية التي أنشأها إقليدس، والتي ألممنا بطرف منها أو أطراف أثناء دراستنا الثانوية، لكن «هندسات» جديدة نشأت إبان القرنين التاسع عشر والعشرين إلى جانب هندسة إقليدس؛ فلئن كان إقليدس يبني علمه الهندسي على أساس استواء المكان، فهذه الهندسات الجديدة «اللاإقليدية» تبني بناءاتها على أسس أخرى؛ فواحدة منها تبني بناءها على أساس انحناء المكان كما هي الحال على سطح الأسطوانة؛ فإذا ما كنت إزاء سطح صغير نسبيا، كسطح هذه المنضدة التي أكتب عليها، جاز لك أن تفترض أنه مستو لا انحناء فيه؛ وبالتالي لا تخطئ إذا استخدمت هندسة إقليدس بالنسبة لما عساك أن ترسم عليه من مثلثات ودوائر، ولكنك لا تستطيع ذلك إذا ما تصديت لرقعة كبيرة من المكان، كالمكان الممتد بين الشمس والأرض، فها هنا يتحتم عليك أن تقلع عن افتراضك استواء المكان؛ لأنه يسلمك عندئذ إلى نتائج خاطئة، ولا بد لك من افتراض آخر يتمشى مع حقائق العلم الجديد، وهو أن المكان منحن، بحيث تسير أشعة الشمس فيما يشبه الأقواس لا في خطوط مستقيمة. وخلاصة القول هي أن هندسة إقليدس ما تزال صالحة ولكن في مجال محدود، ولا بد فيما عدا ذلك المجال المحدود من هندسات «لا إقليدية».
وكذلك الحال في فيزيقا نيوتن؛ فإذا كنت إزاء أجسام عادية تسير بسرعات عادية، فلا حرج عليك أن تستخدم علم الطبيعة كما عرفه نيوتن، وكما لا نزال نعرفه في مجال الحياة العلمية التي تتناول الأشياء المادية كأشياء، دون أن تتعرض للذرات الصغيرة التي هي قوام تلك الأشياء المادية؛ فالمهندس الذي يقيم جسرا أو بناء يكفيه علم الطبيعة النيوتوني في معالجته للمواد التي يستخدمها، أما إذا كان مجال البحث هو الذرة الصغيرة، فها هنا سنجد أنفسنا إزاء «طبيعة» أخرى، أجسامها ليست هي نفسها أجسام الأشياء كما نألفها، وسرعاتها ليست هي السرعات التي نألفها في تلك الأجسام؛ ولذلك اضطررنا اضطرارا إلى علم طبيعي «لا نيوتوني» إلى جانب علم الطبيعة النيوتوني؛ أما أولهما فللطبيعة الذرية، وأما الآخر فللطبيعة بمعناها المألوف.
وشيء كهذا لا بد أن يحدث للمنطق - والمنطق هو دائما تحليل التفكير العلمي - فلئن كان المنطق الأرسطي صالحا لأنواع التفكير الاستنباطي كما عرفها اليونان وكما عرفتها العصور الوسطى بعد اليونان، بل كما عرفتها العصور الحديثة حتى القرن التاسع عشر، فلا بد إلى جانبه من منطق آخر «لا أرسطي» على غرار الهندسة «اللاإقليدية» والفيزيقا «اللانيوتونية» ليواجه التفكير العلمي في تطوره الأخير.
ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة؛ يقوم المنطق الأرسطي على دعائم أولية يعدها «قوانين» للفكر لا بد من سريانها في كل عملية فكرية، وأول تلك «القوانين» قانون الذاتية، الذي يرمزون له بقولهم «أ هي أ»، وهم يريدون بذلك أن الشيء المعين يحتفظ بذاتيته مهما تغير السياق من حوله؛ فهذه المنضدة التي أكتب عليها هي نفسها التي كانت بالأمس، على الرغم مما قد تغير من التفصيلات المحيطة بها، وأنا اليوم هو نفسه الذي كان أمس على الرغم من أنني قد ارتديت ثيابا أخرى وأتحدث حديثا غير حديثي بالأمس، وهكذا. يقوم النطق الأرسطي أول ما يقوم على افتراض أن الشيء الواحد المعين يحتفظ بذاتيته، وقد يكون هذا الاقتراض هو نفسه ما تنطوي عليه حياتنا العملية؛ ولذلك فلا بأس من تطبيق المنطق الأرسطي حيث يقوم هذا الافتراض.
ولكن ماذا تكون الحال إذا ما تحدثنا بلغة العلم الحديث، فقلنا إن هذه المنضدة التي تبدو للعين المجردة «شيئا واحدا بذاته» إن هي في الحقيقة إلا كومة هائلة من الذرات الصغرى التي لا تنفك متحركة مغيرة من أوضاع كهاربها؟ إنها وإن تكن قد حافظت على الإطار الخارجي لشكلها محافظة نسبية، إلا أن حشوها في تغير دائب لا ينقطع، إنها في حقيقتها سلسلة من «حالات» أو من «حوادث»، أفنكون على صواب إذا قلنا للعالم الطبيعي الذري «تمسك بأهداب المنطق الأرسطي، واحسب هذه المنضدة «شيئا واحدا بذاته» حتى لا تجاوز «قانون الذاتية» لأنه قانون من قوانين الفكر»؟ كلا، إنه لو أخذ بنصحنا كان خائنا لعلمه. كانت دنيا أرسطو سكونية مؤلفة من «أشياء» كل شيء منها ثابت على طبيعة بعينها؛ ولذلك أمكن تصنيف هذه الأشياء أنواعا أنواعا؛ وعلى هذا الأساس قام العلم الأرسطي كله. أما دنيا علمنا الراهن، فذات حركة مستمرة وصيرورة دائبة، لا يمكن تصنيفها «أشياء» كما يصنف البقال بضائعه في صناديق ورفوف؛ لأنها سير وحركة لا يحتفظ الشيء فيها بذاتية واحدة، إن «أ» لن تكون دائما هي «أ»، بل سرعان ما يتحول تركيبها الذري، ومهمة العلم الآن لم تعد كمهمة العلم الأرسطي، وهي أن يدرك «طبائع الأشياء» لأنه لا أشياء ولا طبائع، بل مهمة العلم الآن هي أن يرصد مجرى الحوادث ليلقف منه الاطرادات في سير تلك الحوادث، وكلما وقع على اطراد وقع بذلك على قانون من قوانين العلم؛ فلئن كان القانون العلمي عند المنطق الأرسطي رمزه هو «كل أ هي ب»؛ أي إن «أ» من طبيعتها كذلك أن تكون «ب»، كأن نقول «كل إنسان فان»، فيكون معنى ذلك أن الإنسان من طبيعته الفناء، فإن القانون العلمي عند المنطق الحديث رمزه هو «إذا وقعت أ لازمتها ب»، دون أن يكون معنى ذلك أن «طبيعة» أ تستلزم بالضرورة أن تلازمها ب، بل معناه أن ملاحظة الحوادث في مجراها الدائب المتغير قد دلت على أن أ، ب قد اطرد حدوثهما متلازمين، وكذلك «يرجح» أنه إذا حدثت «أ» مرة أخرى حدثت «ب» كذلك. هكذا تغيرت وجهة النظر إلى العالم، فتغيرت أسس العلم؛ وبالتالي وجب أن يتغير منطق التفكير.
الفصل الثاني
شعاب الطريق
1
ليست الفلسفة العلمية التي ندعو إليها وليدة اليوم؛ فقد تناوب التفكير الفلسفي على مدى التاريخ ضربان من الفلاسفة يختلفان من حيث الدوافع التي حفزتهم إلى التفلسف؛ فهنالك الفلاسفة الذين استهدفوا بفلسفاتهم غايات دينية أو خلقية، مثل أفلاطون وسبينوزا وهيجل، وهنالك إلى جانب هؤلاء فلاسفة كان التفكير العلمي رائدهم، مهما اختلفوا في النتائج التي انتهوا إليها، مثل ليبنتز ولك وهيوم، وإلى جانب أولئك وهؤلاء فريق ثالث اتخذ طريقا وسطا، مثل أرسطو وديكارت وباركلي وكانت. «وفي اعتقادي أن الدوافع الأخلاقية والدينية - على الرغم مما قد أنتجته من نسقات فلسفية تتسم بعظمة الخيال - إلا أنها كانت على وجه الجملة عائقا في سبيل التقدم الفلسفي.»
1
على أننا وإن نكن ندعو إلى اطراح الفلسفة التي تجعل هدفها تثبيت قواعد الدين أو الأخلاق، فليس يعني هذا أبدا أن نتخلى عن الدين أو الأخلاق، وكل ما في الأمر هو أننا لا نريد للفلسفة بمعناها الاصطلاحي الدقيق أن تكون وسيلة لنشر أخلاق بعينها أو دين بذاته؛ لأن لهذين وسائل أخرى ليس بينها التحليل العقلي الموضوعي للعبارات اللغوية وما تتضمنه من قضايا وكيفية إثبات هذه القضايا، وليس من شأننا الآن أن نبدي الرأي في الطرائق المثلى لتثبيت الأخلاق أو لإثبات الدين.
مذهبنا هو «أن يكون العلم - لا الأخلاق ولا الدين - مصدر الوحي للفلسفة».
2
وليس في هذا انتقاص لما يمكن أن توحي به الأخلاق أو يوحي به الدين من ضروب الفكر، ولكن هذا كله شيء والفلسفة بالمعنى الذي نريده لها شيء آخر؛ ذلك أن المفكر إذا ما جعل رائده في التفكير عقيدة دينية أو مذهبا خلقيا، فيستحيل عليه أن يتخلى عن تقييم الأشياء والأفعال تقييما يجعل من بعضها خيرا ومن بعضها الآخر شرا، وما دام الإنسان قد تصدى لمثل هذا التقييم فقد بعد عن المنهج العلمي الذي لا يفرق في موضوع البحث بين خير وشر، ولا بين جميل وقبيح؛ فالزهرة عند عالم النبات كائن يطلب تحليله وتشريحه، ولا يطلب تقييمه جمالا أو قبحا، وكذلك العبارة اللغوية عند من يريد أن يتناولها تناولا علميا شيء يراد تفتيته إلى أجزائه ومقوماته، ولا شأن له بعد ذلك بما قد تبعثه في نفس قارئها أو سامعها من نشوة أو انقباض.
النظرة العلمية تقتضي صاحبها ألا يجاوز أوضاع الأمور الواقعة؛ فإذا أراد - مثلا - أن يحدد تأثير الضوء على حدقة العين التي ترى ذلك الضوء، حصر نفسه فيما يظهر له في حدقة العين من تغيرات، دون أن يجاوز ذلك إلى «شعور» الرائي؛ فقد يسبب وقع الضوء على العين «ضيقا» أو «ارتياحا»، لكن أمثال هذه الحالات النفسية الداخلية لا تكون جزءا من النظرية العلمية التي تصف وقع الضوء على العين. ولما كان «وضع» الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي، أطلق على النظرة العلمية اسم «الوضعية»؛ فإن كان «الوضع» القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها، كانت «الوضعية» في هذه الحالة وضعية «منطقية»؛ ومن ثم كان هذا الاسم (الوضعية المنطقية) مميزا لطائفة من أصحاب الفكر صمموا على ألا يجاوزوا الواقع بنظرهم، وعلى أن يكون هذا الواقع الذي يختصون به هو اللغة التي يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاتها.
لكن هذا الاتجاه «الوضعي» العلمي بين الفلاسفة لم يكن دائما «منطقيا» في صبغته، بل إنه لم يصبح كذلك إلا في العشار الثالث من أعوام هذا القرن. وكانت هنالك قبل ذلك اتجاهات وضعية في عالم الفلسفة، جعلت موضوع تحليلها «الأشياء» لا «العبارات اللغوية والألفاظ»، غير أنهم بالطبع لم ينافسوا علماء الطبيعة والفلك وما إلى ذلك في «أشيائهم» التي يبحثونها، ولكنهم اختصوا «بأشياء» أخرى لم تكن من شأن غيرهم من العلماء، ألا وهي - على وجه الجملة - «المعرفة الإنسانية»، فما حدودها؟ وما عناصرها؟ وما نصيبها من اليقين؟
وأول فيلسوف وضعي بالمعنى الشامل الدقيق هو «ديفد هيوم» (1711-1776م)؛ فقد تنبه ونبه الأذهان إلى أنه يستحيل على الإنسان أن يهتدي إلى وصف العالم الواقع بالتفكير الاستنباطي وحده؛ أعني أن من أراد أن يتحدث عن الوجود الخارجي في أي جزء من أجزائه، فلا يجوز له أبدا أن يحصر نفسه بين جدران رأسه، ليضع لنفسه «مبدأ» يزعم أنه قد رآه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه ونتائج نتائجه، وبعدئذ يقول إن هذه النتائج التي جاءته استنباطا، إنما هي تصور هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الواقع. ولما كان هذا هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، إذ ترى الواحد منهم يصف العالم الخارجي أو أي جزء منه، لا عن طريق ما قد رأت عيناه أو سمعت أذناه، بل عن طريق استنباطه المنطقي العقلي الصرف بادئا من مبدأ فرضه لنفسه فرضا؛ أقول إنه لما كان هذا الضرب من التفكير هو بعينه ما يفعله الفلاسفة الميتافيزيقيون، فقد جاء هيوم بمثابة الضربة القاتلة الأولى للتفكير الميتافيزيقي.
نعم قد سبق هيوم فلاسفة آخرون عرفوا أن التفكير الاستنباطي وحده لا يكفي بذاته أن ينبئنا بشيء عن العالم الواقع، وأن سبيل معرفة هذا العالم الواقع هو التمرس بظواهره عن طريق الحواس، لكن فضل هيوم في هذا الصدد هو تطبيق هذا المبدأ في غير ملاينة أو تسامح؛ فلم يفزع - كما فزع «لك» من قبله مثلا - من تطبيق المبدأ على أشياء كالنفس الإنسانية، فهي - كغيرها من الأشياء - إذا لم أخبرها بالحواس فلا سبيل إلى علمي بها؛ وبالتالي فكل حديث عنها هراء، ولا ينجيها أن تقول إن وجودها ينتج منطقيا عن كذا وكذا من المقدمات والمبادئ؛ لأن الاستنباط وحده - كما قلنا - يستحيل أن ينبئ بجديد عن الوجود وكائناته.
وإنا لنقدر هذه اللفتة الجديدة في تاريخ الفلسفة حق قدرها، حين نذكر كم من أعلام الفلاسفة قد أقام بناءه الفلسفي على المنهج الاستنباطي الخالص، فتراه يبدأ بحقيقة أو طائفة من حقائق يزعم أنها واضحة بذاتها، وما دامت كذلك فكل ما ينتج عنها بالاستنباط يكون كذلك واضحا لا يحتمل الشك. ولو وقف هؤلاء الفلاسفة الاستنباطيون عند هذا الحد لما كان على موقفهم غبار؛ لأن شأنهم عندئذ يكون كشأن علماء الرياضة يفرضون مجموعة من المسلمات في أول الأمر ثم يستنبطون منها نظرياتهم، فتكون هذه النظريات صادقة صدق مقدماتها، ما دام استنباطها من تلك المقدمات لم يتعرض للخطأ، لكن علماء الرياضة حين يشيدون بناءهم الرياضي على هذا الطراز لا يزعمون أنه يصور بالضرورة عالم الطبيعة الخارجي، بدليل أنهم يستطيعون أن يغيروا من مجموعة المسلمات الأولية فتتغير بذلك النظريات المستنبطة؛ أي يتغير بذلك البناء الرياضي عما كان عليه في الحالة الأولى، ويكون كل من البناءين صحيحا من الوجهة الرياضية، مع أنه يستحيل أن يصدقا معا على العالم الطبيعي؛ أقول إنه لو سار الفلاسفة الاستنباطيون على غرار العلماء الرياضيين، ففرضوا فروضهم «الواضحة بذاتها» ثم استنتجوا منها نتائجها، دون أن يزعموا أن تلك الفروض أو هذه النتائج مصورة لما يجري في عالم الطبيعة، لما كان لأحد اعتراض على ذلك، ولكان عملهم من قبيل الرياضة الذهنية لا أكثر ولا أقل، لكنهم لا يقنعون بهذا، ويصرون على أن تكون نتائجهم الاستنباطية التي هي من فعل العقل وحده مطابقة للظواهر الطبيعية؛ ومن ثم يقع الخطأ.
كان للمنهج الاستنباطي الخالص بريق يخطف أبصار الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، وما ظنك بمنهج كل ما يتطلبه من المتعارضين في الرأي أن يتفقوا على صواب حقيقة واحدة أو طائفة قليلة من حقائق؛ فإذا ما تم لهم مثل هذا الاتفاق ضمنوا الاتفاق بعدئذ على تفصيلات البناء الفكري كله؛ لأن هذه التفصيلات كلها إنما جاءت نتائج محتومة لتلك المقدمات الأولى التي تم عليها الاتفاق بادئ ذي بدء. انظر مثلا إلى الجهد الجبار الذي بذله توماس الأكويني (1225-1274م) ليستخلص تفصيلات المذهب الكاثوليكي كلها من عدد قليل جدا من المقدمات، كان يراها قريبة إلى كل عقل سليم، وإذن فلا عقبة هناك تحول دون الاتفاق على صوابها؛ وبالتالي يتم الاتفاق على مجموعة التفصيلات التي تلزم عنها لزوما منطقيا.
3
وقل شيئا كهذا في كثير جدا من فلاسفة اليونان وفلاسفة العصر الوسيط، بل في كثير جدا من فلاسفة العصر الحديث ذاته، الذين حسبوا أنفسهم ثائرين على المنهج الاسكولائي في التفكير، وإذا هم ينهجون النهج نفسه من حيث الجوهر والأساس؛ فهكذا فعل ديكارت حين علق بناءه الفلسفي كله على مسمار واحد، هو نقطة البداية التي زعم أنها «واضحة بذاتها»، وهي تقريره عن نفسه أنه يفكر، ثم جاءت تفصيلات البناء كله نتيجة لازمة عن تلك البداية، ومن هذه التفصيلات ما يصف أجسام الطبيعة المادية الخارجية. وهكذا فعل سبينوزا الذي أغراه القالب الرياضي الاستنباطي إغراء حدا به أن يستخدم هذا القالب كما استخدمه إقليدس بغير تحريف ولا تغيير؛ بغية أن يصل إلى نتائج لها نفس اليقين الذي تتصف بها نظريات إقليدس، فتراه في كتابه «الأخلاق» يبدأ - كما فعل إقليدس تماما - بطائفة من مسلمات، منها ما هو تعريف ومنها ما هو بديهية أو مصادرة، ثم طفق بعد ذلك يستخرج من تلك المسلمات كل ما يمكن استخراجه من نتائج، فإذا كان بين هذه النتائج ما يشير إلى العالم الطبيعي الخارجي، كان معنى ذلك أنه استطاع الحديث عن هذا العالم ناسجا من عقله الخالص، بغير حاجة منه إلى استخراج حواسه في ملاحظات أو تجارب.
إلى هذا الحد البعيد كان تأثير المنطق الأرسطي في صياغة التفكير الفلسفي على مر العصور؛ إذ انصرف جهد الفيلسوف إلى صب بنائه في قالب استنباطي كما رأيت، مستغنيا عن حواسه في إدراك حقيقة العالم. ولو رجعت إلى المبادئ الأولى التي كان يستند إليها هؤلاء الفلاسفة في تشييد بناءاتهم الفلسفية، والتي زعموا لها الوضوح الذاتي الذي لا يحتمل شكا، وجدت تلك المبادئ مشتملة على ألفاظ كهذه: «نفس»، «روح»، «عقل»، «عنصر»، «تفكير»، «إرادة حرة»، وهكذا. وهي كلها كما ترى ليست أسماء تسمي محسوسات من عالم الأشياء الطبيعية. نعم إنهم كانوا يعرفونها ليستدلوا من تعريفاتهم لها ما يمكن استدلاله من نتائج، فيزعمون الصدق لهذه النتائج ما دامت قد استنبطت من تلك المقدمات، ولكن فاتهم أنهم يدورون في ألفاظ بعد ألفاظ؛ فبالألفاظ التي لا تسمي شيئا كانت البداية، وبالألفاظ التي اشتقوها من تلك البداية كان طريق السير ثم النهاية. ولسنا ننكر في مثل هذا العمل العقلي اتساقا منطقيا؛ فقد يكون السير الاستدلالي على أتمه وأكمله وأضبطه، ولكن أين عسى أن تكون العلاقة بين هذا البناء اللفظي من جهة وبين أمور الطبيعة الواقعة من جهة أخرى؟
ها هنا نعيد من جديد ما جاء هيوم ليؤكده، وهو أن التفكير الاستنباطي وحده، وإن يكن يحدد الروابط بين فكرة وفكرة، إلا أنه لا يجاوز حدود الرأس إلى حيث العالم الواقع؛ فأمور هذا الواقع يستحيل أن تدخل في مجال إدراكنا إلا عن طريق آخر، هو طريق الحواس؛ فالخبرة الحسية وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بالعالم الخارجي؛ وبهذا القول أصبح هيوم في طليعة الرواد إن لم يكن الرائد الأول بحق للفلسفة الوضعية الراهنة، على الرغم من الاختلاف البعيد بين وضعيته ووضعية الحركة الفلسفية المعاصرة؛ إذ بينما جعل اهتمامه الأول تحليل «المعرفة» تحليلا نفسيا لا منطقيا، بمعنى أنه حاول أن يرد «الأفكار» إلى مصادرها الأولى البسيطة، فكانت هذه المصادر عنده هي «الانطباعات» الحسية التي انطبعت بها هذه الحاسة أو تلك، والفكرة التي نحاول ردها إلى مصدرها الحسي فلا نجد لها مثل هذا المصدر تكون عنده فكرة وهمية باطلة؛ أقول إنه بينما جعل مجال بحثه تحليلا نفسيا كأنما هو عالم نفسي يبحث في التفكير الإنساني، ترى الوضعية المعاصرة «منطقية» لا نفسية؛ فالذي تحلله ليس هو «الأفكار» بل «القضايا»، والعناصر البسيطة التي تحاول الارتداد إليها ليست هي «الانطباعات» الحسية الأولية، بل هي القضايا الأولية التي لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، على أن كل واحدة من هذه القضايا الأولية لا تكون كذلك إلا إذا كان موضوعها خبرة حسية مباشرة، كانطباعة لونية على العين أو ضغطة لمسية على سطح الجلد وهكذا.
2
الوضعية المعاصرة - إذن - ترتد إلى «هيوم» من حيث ارتكازها في نهاية التحليل على الخبرة الحسية المباشرة، وذلك حين يكون الحديث قائما حول ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي، لكن ما كل حديث يقوم على الظواهر الطبيعية، بل هنالك ضرب آخر من الحديث يكون موضوعه «لفظة» معينة نتحدث عنها بما يعرفها، كقولنا - مثلا - «الجرو كلب صغير»، فها هنا لا يقتضينا الأمر أن ننظر خارج العبارة نفسها لنعلم إن كانت صادقة أو غير صادقة؛ لأن صدقها قائم في تكوينها نفسه؛ وإذن فهو صدق نقرره لها «قبل» النظر إلى الجراء في عالم الحيوان؛ إذ الأمر أمر لفظة وتعريفها، أو فكرة وتحليلها.
هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا؛ القضايا التي يقتضي تحقيق صدقها رجوعا إلى عالم الواقع الخارجي، والقضايا التي لا يقتضي تحقيق صدقها أكثر من مراجعة الكلام نفسه عجزه على صدره، لنرى إن كان العجز تكرارا دقيقا للصدر كله أو بعضه؛ أقول إن هذه التفرقة المنطقية بين نوعي القضايا، والتي هي - كما سنرى في غضون هذا الكتاب - من أهم الركائز التي يرتكز عليها التحليل الحديث، إنما يرجع أكبر الفضل فيها إلى ليبنتز (1646-1716م)، على الرغم من أن الوضعيين المحدثين لم يستخدموا هذه التفرقة لنفس الأغراض التي استخدمها ليبنتز من أجلها، بل على الرغم من أن الوضعيين المعاصرين لم يتفقوا مع ليبنتز على تفسير واحد لها.
فقد فرق ليبنتز تفرقة واضحة بين ما أسماه ب «حقائق العقل» وما أسماه ب «حقائق الواقع»، أما «حقائق العقل» فأزلية وضرورية؛ أي إن صدقها لم يحدث في لحظة معينة من لحظات الزمن، بل هي صادقة منذ الأزل وستظل صادقة إلى الأبد، وصدقها «ضروري» بمعنى أنه يستحيل عليها احتمال ألا تكون صادقة. ومثل هذه الحقائق العقلية إنما تستمد صدقها من مبدأ عدم التناقض؛ أي إننا لو حكمنا عليها بالكذب كنا بمثابة من يناقض نفسه؛ فقولك - مثلا - عن المثلث إنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، حقيقة عقلية من هذا القبيل؛ لأن نقيضها مستحيل، فلا يجيز العقل ألا يكون المثلث محوطا بأضلاع ثلاثة، ولو قلنا قولا كهذا ناقضنا أنفسنا؛ لأن تعريف «المثلث» هو أنه شكل محوط بثلاثة أضلاع، وتقريرنا لنقيض هذه الحقيقة مساو لقولنا «المثلث ليس مثلثا». وأمثال هذه الحقائق العقلية إما أن تكون واضحة بذاتها، أو أن تكون مستنبطة من حقيقة واضحة بذاتها، كأن أستنبط من الحقيقة السالفة حقيقة أخرى، وهي أن للمثلث زوايا ثلاثا.
ويذهب ليبنتز إلى أن «عقولنا هي مصدر الحقائق الضرورية، فمهما أكثرنا من الأمثلة الجزئية التي تعرض لنا في خبرتنا مما عساه أن يؤيد حقيقة كلية معينة، فلن يكون في مقدورنا أن نثق بصدقها إلى الأبد لمجرد أننا استقرأنا عددا من الأمثلة التي تؤيدها، بل لا بد أن ندرك ما فيها من ضرورة الصدق عن طريق العقل؛ فقد تستطيع الحواس أن توحي لنا بهذه الحقائق الكلية وأن تؤيدها وأن تثبت صدقها، لكنها لن تستطيع أن تقيم البرهان على استحالة تعرضها للخطأ وعلى يقينها الدائم.»
4
تلك هي «حقائق العقل» في يقينها الأزلي الضروري، وأما «حقائق الواقع» فصدقها عرضي؛ فهي وإن تكن - في رأي ليبنتز - حقائق فطرية في النفس، شأنها في ذلك شأن الحقائق العقلية الضرورية سواء بسواء، إلا أنها - على خلاف هذه - لا ترتكز في صدقها على مبدأ عدم التناقض، بل ترتكز في ذلك على ما أسماه ليبنتز بالعلة الكافية؛ فلو قلنا - مثلا - عن الماء إنه يتجمد بالبرودة عند درجة معينة، كان هذا القول حقيقة عرضية الصدق وليست بضروريته؛ أي إنه ليس من التناقض عند العقل ألا يتجمد الماء عند هذه الدرجة المعينة من البرودة؛ فقد كان يمكن ألا تكون هذه هي حالة الماء، وكان هنالك حالات كثيرة جدا كلها ممكن، ولكن الذي جعل هذه الحالة المعينة - دون سائر الممكنات جميعا - هي حالة الواقع، هو أن الله قد اختارها لتكون مع سائر حالات العالم الواقع أحسن عالم ممكن.
وتحصيل هذه الحقائق العرضية عن أمور الواقع إنما يكون بالملاحظة التي تتعقب وتستقرئ الحالات الجزئية التي تقع لنا في خبراتنا التجريبية. إنها ليست «واضحة بذاتها»؛ إذ ليس هناك عند العقل ما يحتم أن تكون كما هي كائنة، لا، ولا هي مستنبطة من حقائق واضحة بذاتها بحيث نستطيع أن نقيم على صدقها البرهان العقلي، وليس لها من سند إلا أن حواسنا هكذا أدركتها.
هذه التفرقة التي ميز بها ليبنتز بين «حقائق العقل» و«حقائق الواقع» هي التي إذا نقلناها إلى عالم القضايا أصبحت تفرقة بين «القضية التحليلية» و«القضية التركيبية»، أو إن شئت فسم الأولى قضية تكرارية والثانية قضية إخبارية؛ الأولى يقينية لأن محمولها يكرر ما في موضوعها من عناصر، والثانية احتمالية لأن محمولها يضيف إلى موضوعها خبرا جديدا. وهي تفرقة - كما أسلفنا - تكون ركيزة هامة في بناء الفلسفة التحليلية المعاصرة؛ ولهذا كان «ليبنتز» أحد الرواد الذين مهدوا لنا الطريق.
وكذلك كان «عمانوئيل كانت» (1724-1804م) رائدا آخر من جماعة الرواد الذين دقوا شعاب الطريق إلى الفلسفة الوضعية في شكلها الراهن، وإن بدا هذ الزعم غريبا عند النظرة الأولى؛ إذ قد يسأل سائل: كيف يكون وضعيا هذا الفيلسوف الذي امتد به السير حتى بلغ آمادا هي أبعد ما تكون عما تراه الأعين أو تحسه الأيدي؟ لكن النظرة الفاحصة سرعان ما تتبين أشد الروابط وأوثق الصلات بين «كانت» من جهة، وجماعة الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وحسبنا أن نذكر حقيقة واحدة واضحة عن «كانت» ليظهر صدق دعوانا، وهي إصراره على أن تكون «الخبرة» هي المجال الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يغترف منه أحكامه العلمية، أما إذا جاوز الإنسان حدود «خبرته» فقد جاوز بذلك حدوده المشروعة وعرض نفسه للوقوع في الخطأ.
لقد تصدى «كانت» لتحليل العقل الخالص في مجال التفكير العلمي، سواء كان هذا العلم علما رياضيا أو علما طبيعيا، فانتهى به التحليل إلى هذه النتيجة الهامة، وهي أن العقل الإنساني وإن تطلب في قيامه لما يقوم به من فكر مبادئ ومقولات لا محيص له عنها كي يؤدي ما يؤديه، وهي مبادئ ومقولات ليست مستمدة من عالم الخبرة، إلا أن هذه المقولات وتلك المبادئ لا يمكن استخدامها وتطبيقها إلا في حدود الخبرة الإنسانية، نعم إنها لم تشتق أصولها من عالم التجربة، ولكنها لا تستخدم إلا في عالم التجربة؛ أي إنه على الرغم من أن الإنسان محال عليه أن يستقي ما يستقيه من خبرات إلا إذا استعان بما فطر عليه عقله من مبادئ ومقولات، إلا أن هذه المبادئ والمقولات العقلية نفسها لا تجاوز به حدود «الظواهر» التي تقع له في خبراته؛ فحين أنظر إلى هذه المنضدة التي أمامي، فيستحيل علي إدراكها على الصورة التي أدركها بها، إلا إذا كان ثمة مبدأ مجبول في فطرة العقل ينظم لي أشتات المعطيات الحسية التي تجيء إلي منها، وإلا ظلت تلك الأشتات أشتاتا لا تستقيم ولا تتعين في «شيء» بذاته. نعم إن «المبدأ» الذي أعانني على إدراك المنضدة المحسوسة ليس هو بذاته أحد المعطيات الحسية، إلا أنه يقف بي عند حدود تلك المعطيات في إدراكي لهذه المنضدة، وأما «الشيء في ذاته» الذي هو مصدر تلك المعطيات الحسية، فمحال علي بلوغه عن طريق ذلك المبدأ نفسه؛ أي محال علي بلوغه عن طريق العقل الخالص.
ولو سئل «كانت» ما هو هذا «الشيء في ذاته» الذي تنبعث عنه المعطيات الحسية، أو الذي هو مصدر وراء الظواهر التي تنشأ عنها خبراتنا الحسية، لأجاب: لست أدري، ولا حاجة بي إلى هذه الدراية. فهو لا يدري لأن «الشيء في ذاته» بحكم التعريف لا يقع له في خبرته؛ إذ الخبرة محدودة «بالظواهر» لا تجاوزها إلى الحقائق الكامنة وراءها، ثم هو في غير حاجة إلى العلم بهذه الحقائق الكامنة وراء الظواهر؛ لأنها لن تكون جزءا من علم، كائنا ما كان ذلك العلم. وجدير بنا في هذا الموضع أن نشير إلى نقطة اختلاف رئيسية في هذا الصدد بين «كانت» وبين أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة، وتلك هي أنهما وإن يكونا على اتفاق في وجوب انحصار الإنسان في حدود خبرته، إلا أنهما يختلفان في «الحقائق» المزعومة وراء تلك الخبرة، أو ما يسميه «كانت» «الأشياء في ذواتها»؛ فبينما يعترف «كانت» بوجود هذه الحقائق فوق متناول الإدراك الإنساني، يرى الوضعيون المنطقيون المعاصرون أن كل عبارة يقولها قائل عن أمثال تلك «الحقائق» إنما يتبين في ضوء تحليلها المنطقي أنها ليست بذات معنى؛ ولهذا فهم يختلفون مع «كانت» في السبب الذي من أجله لا يجوز الحديث العقلي في عالم «الأشياء في ذواتها»؛ فمثل هذا الحديث عندهم غير جائز؛ لأنه حديث محتوم عليه بحكم طبيعته أن يجيء فارغا من المعنى، وأما «كانت» فلا يجيز مثل هذا الحديث؛ لأنه يختص بعالم إدراكه مستحيل على العقل ما دام العقل مركبا على نحو ما هو مركب عليه.
أيجوز للإنسان - مثلا - أن يتحدث عن «النفس» باعتبارها كائنا مستقلا عن الجسد؟ الجواب عند «كانت» وعند أتباع الوضعية المنطقية المعاصرة معا هو أن ذلك لا يجوز؛ لأن مثل هذا الكائن لا يقع في خبراتنا؛ ففي هذا الصدد يقول «كانت» إننا نخطئ إذا استدللنا وجود «نفس» مستندين في هذا الاستدلال إلى «الوحدة» التي تنتظم فاعلية الوعي عندنا فتجعلها كيانا واحدا متصلا. نعم، يخطئ الإنسان لو استند إلى مثل هذه الوحدة في مجرى وعيه ليستدل وجود كائن عنصري مستقل قائم بذاته اسمه «نفس»؛ لأنه عندئذ يستدل وجود عنصر بسيط من عملية تركيبية لا بساطة فيها. إن الوحدة الصورية في فاعلية نشاطنا الواعي ليست وحدها دليلا على ما قد يكون وراءها من جوهر قائم بذاته، كل ما في وسعنا إدراكه هو ماذا يدور في مجال الوعي وكيف يدور، وأما «النفس» التي هي وراء هذا النشاط، فلا حيلة أمامنا للوصول إلى كنهها. إن حياتنا الواعية ليست كائنا بسيطا، إنها ليست كائنا عنصريا واحدا يعرض نفسه دائما في هوية واحدة، بل هنالك حالات كثيرة، أو حاضرات كثيرة، تمثل في الوعي، بينها علاقات تجعل منها شعورا واحدا، لكن هل يجوز لنا أن نستنتج من هذه الحاضرات النفسية الكثيرة وجود «نفس» واحدة بسيطة؟ إن طريق البحث العلمي مأمونة طالما كان مجال البحث هو هذه «الحاضرات» في مجري الشعور؛ لأننا عندئذ نحصر أنفسنا في حدود ما هو في نطاق الملاحظة والخبرة. وليس هنالك فرق جوهري بين ملاحظة تلك الحاضرات النفسية وملاحظة الظواهر الطبيعية؛ ولهذا فلا فرق في حقيقة الأمر بين «علم النفس» و«علم الطبيعة» من حيث مادة البحث ومنهجه، وكما أنه لا يجوز لعالم الطبيعة أن يجعل «الشيء في ذاته » موضوع بحثه، فكذلك لا يجوز لعالم النفس أن يجعل «النفس» - باعتبارها جوهرا بسيطا مستقلا قائما بذاته وراء الحاضرات النفسية الجزئية - موضوع بحثه. هكذا يقول «كانت»، وهكذا يقول التجريبيون العلميون المعاصرون.
أيجوز أن نتحدث عن الكون كله دفعة واحدة؛ أي أن نتحدث عن الكون باعتباره كلا واحدا؟ يجيب «كانت» بما يجيب به أتباع التجريبية العلمية المعاصرة، وهو أن ذلك غير جائز؛ لأن الكون باعتباره كلا واحدا لم يقع ولن يقع لنا في خبراتنا. والفرق بين «كانت» وبين أنصار التجريبية العلمية هو - كما أسلفنا - أن «كانت» يعلل استحالة مثل هذا الحديث بكونه فوق متناول العقل النظري بمبادئه ومقولاته، وأما التجريبيون العلميون فيعللون استحالة ذلك تعليلا منطقيا؛ إذ يقولون إن كل عبارة تقال عن مثل هذا الموضوع يمكن للتحليل المنطقي أن يبين أنها ليست بذات معنى.
غير أنك لو سمعت ما يقوله «كانت» عن النتائج التي تترتب على الحديث عن الكون باعتباره كلا واحدا، لحسبته واحدا من أتباع الفلسفة الوضعية المنطقية المعاصرة يتكلم ويبني كلامه على أساس منطقي صرف! فاستمع إليه وهو يصف لنا «النقائض» التي نتورط فيها لو جعلنا «الكون» موضوع حديثنا، فعندئذ يجوز للمتكلم أن يقول قضية ونقيضها في آن معا:
فلك أن تقول عندئذ إن العالم لا بد أن تكون له بداية زمنية، ولا بد أن تكون له حدود مكانية؛ لاستحالة أن يمتد زمانه إلى ما لا نهاية من حيث لحظة الابتداء، أو أن يمتد مكانه إلى ما لا نهاية، لكنك تستطيع في الوقت نفسه أن تقول نقيض ذلك، فتقول إن العالم يستحيل أن تكون له بداية في الزمن ولا حدود في المكان، وإلا فلو زعمنا له بداية زمنية للزم أن يكون قد سبق هذه البداية زمن خال مما يملؤه من حوادث، أو لو زعمنا له حدودا مكانية للزم أن يكون وراء هذه الحدود مكان خال مما يحل فيه، وكلا الفرضين محال تصوره؛ لأن الزمن الخالي لا يمكن التمييز فيه بين لحظة ولحظة، وبغير تتابع اللحظات فلا زمان، ولأن المكان الخالي لا يمكن التمييز فيه بين نقطة ونقطة، وبغير تحديد العلاقات بين مختلف النقط فلا مكان.
وانظر إلى «نقيضة» أخرى من هذه النقائض التي لا مندوحة للإنسان عن التورط فيها إذا هو جاوز حدود خبراته؛ ذلك أنه إذا ما رجع من المسبب إلى سببه، ومن هذا السبب إلى سببه، وهكذا، فقد يقول إنه لا بد من الوقوف عند سبب أول لا يكون بدوره مسببا لشيء سابق عليه حتى لا يظل ينتقل من المسببات إلى أسبابها إلى غير نهاية معلومة؛ ومن ثم تراه يزعم وجوب أن يكون للكون سبب مطلق غير مسبوق بشيء، وهو في الوقت نفسه سابق لكل شيء - لكنك من الناحية الأخرى تستطيع أن تقرر نقيض هذه الحقيقة فتقول إن السبب المطلق من كل قيد وشرط محال تصوره، وإلا فكيف أحدث هذا السبب الأول مسبباته؟ ما الذي جعل السبب الأول يحدث ما قد نشأ عنه في اللحظة المعينة التي حدث عندها ما قد حدث؟ وبإلقائك سؤالا كهذا تكون بمثابة من يبحث للسبب الأول عن أسباب تحدد له مسلكه، وهو نقيض ما قد قررناه له بادئ ذي بدء. وهكذا يمكن للإنسان أن يقول النقيضين عن الموضوع الواحد إذا هو أباح لنفسه أن يجاوز حدود خبراته، وما دام «الكون» باعتباره كلا واحدا خارجا عن حدود هذه الخبرات فلا يجوز للإنسان أن يتخذ منه موضوعا للحديث. ومثل هذا الاعتراض كما يبديه «كانت» هو هو بعينه ما يرتكز إليه الوضعيون المنطقيون في تحليلاتهم، حين يرفضون العبارات الميتافيزيقية على أساس أن كان عبارة منها يمكن أن تقال هي ونقيضها معا دون أن نجد في خبراتنا ما ينفي أحد النقيضين ليثبت الآخر، وما هكذا يكون الكلام ذو المعنى من الناحية المنطقية؛ إذ لا بد في مثل هذا الكلام أن يكون الصادق هو أحد النقيضين دون الآخر.
ولعل أقرب ما يقرب «كانت» من جماعة الوضعية المنطقية هو موقفه إزاء البرهان الوجودي على وجود الله؛ فمن الأسس الهامة عند هذه الجماعة - كما سنبين في هذا الكتاب - أن يظل المدرك العقلي بغير «معنى» حتى نجد له مسمي بين محسوساتنا الفعلية أو الممكنة، وأن المدرك العقلي في ذاته لا يضمن لنا أن يكون له مثل ذلك المسمى المحسوس؛ فلك إن شئت أن تكون في رأسك مدركا عن «الغول» أو عن «جبل من ذهب» أو عن «جنية البحر»، لكن مثل هذا المدرك العقلي لا يكون وحده دليلا على أن له مدلولا في عالم الأشياء.
وهذا هو نفسه موقف «كانت» في البرهان الوجودي على وجود الله، وهو البرهان الذي يستنبط وجود الله من المدرك العقلي الذي نتصوره عنه، فكأنما نقول لأنفسنا: بما أننا قادرون على تكوين هذه الفكرة المعينة عن الله، فلا بد أن يكون لهذه الفكرة مدلولها في الخارج؛ وإذن فلا بد أن يكون الله موجودا وجودا فعليا. وهنا يعترض «كانت» بحق قائلا إنه من تصورنا لفكرة معينة عن شيء معين لا يجوز الاستدلال بأن ذلك الشيء موجود وجودا فعليا، وحتى إن فرضنا أن الفكرة التي تصورناها قد بلغت الغاية في الدقة واستكمال شتى العناصر، فسيظل السؤال مع ذلك قائما: هل يوجد أو لا يوجد ذلك الشيء الذي عنه تكونت الفكرة في رءوسنا؟ ذلك لأن «الوجود» ليس صفة كسائر الصفات؛ فحاول - مثلا - أن ترسم في ذهنك صورة لما شئت من كائنات، كأن تتصور «جبلا من ذهب»، وارسم الصورة الذهنية بكل تفصيلاتها، ومع ذلك فلن يكون «الوجود» صفة تضاف إلى تلك التفصيلات كأنها واحدة منها؛ بل يكون معنى «الوجود» هو أن هذه الصورة الذهنية لها ما يقابلها في الخارج، فإذا لم يكن لها ذلك المقابل الخارجي لم تنقص الصورة شيئا من صفاتها ولا من تفصيلاتها. بعبارة أخرى، كون الصورة العقلية التي تصورتها مقابلة أو غير مقابلة لشيء في الخارج لا يؤثر في مضمون الصورة العقلية نقصا أو زيادة؛ فمضمونها ومحتواها هو هو في كلتا الحالتين، وليس هنالك أدنى تناقض بين أن أتصور كائنا معينا تصورا عقليا غاية في الدقة واستيفاء العناصر والصفات، وأن أتصور أن ذلك الكائن نفسه غير موجود؛ وإذن فالعقل الخالص وحده لا يستطيع أن يستنبط الوجود الفعلي لكائن صوره لنفسه مدركا عقليا، ولا سبيل إلى إثبات هذا الوجود الفعلي للكائن الذي تصورنا صفاته سوى الخبرة الحسية. ولا يكفي أن نحلل مضمون المدرك العقلي فنجد عناصره متسقة بعضها مع بعض وخالية من التناقض، لكي نزعم أنه لذلك لا بد أن يكون مشيرا إلى كائن خارجي موجود.
3
جاء القرن التاسع عشر فجرى خلال أعوامه تياران فكريان؛ تيار المثالية من جهة وتيار الوضعية من جهة أخرى؛ الأول يلبي نداء القلب ويشبع الجانب العاطفي من الإنسان، والثاني يحصر نفسه في حدود التجربة وحدها، بحيث لا يجاوز عالم الأشياء العينية التي تدركها الحواس. ولئن كان هذان التياران الفكريان - على بعد ما بينهما من تباين - يستهدفان غاية واحدة، هي الكشف عن حقيقة العالم، إلا أنهما قد نبعا من مصدرين متقابلين وسار كل منهما في اتجاه مضاد لاتجاه الآخر؛ فتيار منهما يقصد إلى غايته هابطا من أعلى إلى أسفل، وتيار آخر يقصد إلى الغاية نفسها صاعدا من أسفل إلى أعلى. أما التيار المثالي فينبع من داخل الفيلسوف ومن ذاته خارجا إلى عالم الأشياء، وأما التيار الوضعي فعلى عكس ذلك، يبدأ الشوط من عالم الأشياء لينتهي إلى باطن الفيلسوف وذاته. الأول ينتهج منهجا ذاتيا، والثاني يصطنع المنهج الموضوعي الذي يبني بناءه بلبنات من حقائق الواقع.
المثالية والوضعية كلتاهما - إبان القرن التاسع عشر - متفقتان على أن يكون هدف البحث هو الحقيقة القائمة، ولا حاجة بهما إلى الحفر وراء هذه الحقيقة القائمة بغية الوصول إلى ما هو كائن في جوفها - كما فعل «كانت» بتحليله للعقل - ولذلك تراهما معا، على ما بينهما من اختلاف في المنهج والوسيلة، ينصرفان إلى البحث في الطبيعة وفي التاريخ، كما تراهما معا يسلمان بأن العالم تطوري سائر إلى أمام، لا سكوني ذو حقائق ثابتة جامدة؛ وإذن فليس صوابا كل الصواب أن يقال عن وضعية القرن التاسع عشر إنها رد فعل للحركة المثالية التي سادت النصف الأول من ذلك القرن؛ لأن الحركتين قد سارتا حينا جنبا إلى جنب، حتى في إنجلترا نفسها التي تنطبع فلسفتها غالبا بطابع التجريبية والواقعية، ولكننا - مع ذلك - نلاحظ أن التفكير الوضعي قد أسرع الخطى حين وهنت قوة التيار المثالي، ولبث الأمر كذلك حتى أوشك أن يكون هو الفلسفة القائمة بلا منازع.
وليس من شك في أن الفلسفة الوضعية - وهي فلسفة تبدأ سيرها من الحقائق الواقعة المحسة - قد وجدت معينا في تقدم العلوم الطبيعية إبان القرن التاسع عشر، تقدما حدا بالإنسان أن يتساءل: أفلا يكون مصير هذا المنهج العلمي الذي يتسع مداه بهذه القفزات السريعة، أن يطرد اتساع رقعته حتى يشمل نواحي الفكر كلها؟ أيجوز لنا أن نجتزئ من مجال الفكر جانبا لنقول إن هذا الجانب لا يخضع ولن يخضع للمنهج العلمي أبد الآبدين؟ وحتى إن ثبت قطعا أن من حياة الإنسان الفكرية ما ليس يخضع للمنهج العلمي، أفلم يحن الحين أن نركز اهتمامنا كله في حدود ما يستطيعه العلم ومنهجه؟ أخذت هذه الأسئلة وأمثالها تساور النفوس إزاء ما قد شهده الناس من تقدم العلوم الطبيعية تقدما يستوقف النظر، ولعل أبرز من تمثلت فيه هذه النزعة هو «أوجيست كونت» (1798-1857م)، الفيلسوف الفرنسي الذي نهض ليؤدي رسالتين؛ أولاهما أن يجعل من العلوم العقلية علوما وضعية، والثانية أن ينسق شتى العلوم بما لها من قوانين ومناهج، وما تتناوله من موضوعات للبحث، في بناء نسقي واحد، كأنما أراد أن يدل ببنائه هذا على أن كل ما لا يقع في حدوده لا يكون من العلم الإنساني في شيء؛ وإذن فقد مضى عصر اللاهوت وانقضى عصر الفلسفة التأملية، وأصبح التفكير الوضعي من علم وفلسفة هو طريق النجاة، وسيكف الناس عاجلا أو آجلا عن إرباك أنفسهم بأسئلة لا تجد لها جوابا في عالم الحقائق الواقعة.
تلك نهاية علمية لا بد - في رأي «كونت» - أن ينتهي إليها الإنسان نتيجة محتومة لتطوره الفكري؛ ذلك أن الفكر الإنساني لا مندوحة له عن السير في مراحل ثلاث تستطيع أن تراها في تاريخ أي علم شئت . على أنه كلما ازداد العلم من العلوم تعقدا وتركيبا، طال الأمد الذي يحتاجه ليقطع أطواره الثلاثة في مجري تاريخه؛ فكلما أمعن موضوع العلم في التجريد كان أقرب إلى الوصول إلى مرحلة التحديد العلمي، وكلما هبط إلى المواقف ذوات الحوادث المفصلة المعقدة المركبة كان أبطأ في وصوله إلى تلك المرحلة. ولما كان علم الاجتماع - عند «كونت» - هو أدنى العلوم من حيث درجة التجريد، وأقربها إلى مستوى المواقف ذوات التفصيلات الجزئية، فقد آن الأوان أن نبلغ به مرحلة التحديد العلمي، ولو فعلنا لتم للإنسان بناؤه الفكري على الوجه الأكمل.
وأولى مراحل التطور الفكري مرحلة لاهوتية، لا يكون لدى الإنسان عندها من مشاهدات عن الطبيعة إلا عدد قليل، ومن ثم تراه يكمل الصورة لنفسه بخياله؛ فهو لا يجد في هذه المرحلة الأولى بدا من تعليل الظواهر الطبيعية، لا بما تشهده حواسه ويقع له في تجربته، بل بما يسعفه به خياله المتوقد النشيط. وليس أقرب إلى الخيال في مثل هذه المرحلة من أن يفترض لكل شيء ذاتا كذات الإنسان ونفسا كنفسه، فإذا نمت شجرة فهي إنما نمت كما ينمو الإنسان نفسه بدافع ذاتي من باطنه، وهكذا قل في النجوم إذا عبرت السماء، وفي النهر إذا تدفق، وفي المطر إذا نزل؛ هكذا عمر الكون في خيال الإنسان عندئذ بالكائنات الحية ذوات الأرواح والأنفس. ولم يكن في وسع الإنسان بالطبع أن يغير من مجرى الأمر شيئا، وما عليه إزاء الظواهر الطبيعية سوى أن يستسلم لفعلها، فلكل منها ما له هو نفسه من إرادة وتصميم، والغلبة للأقوى. ولا عجب أن تسود الناس عندئذ فكرة السلطة المطلقة في السياسة والحكم، انعكاسا لاعتقادهم إذ ذاك في قوى مطلقة لا راد لها في حكم الطبيعة.
وتأتي بعد المرحلة اللاهوتية في تفسير الطبيعة وظواهرها مرحلة ثانية ميتافيزيقية؛ فها هنا يكون التفسير لا بافتراض كائن روحاني وراء الظاهرة المراد تفسيرها، بل برد الظاهرة إلى مبدأ أو إلى فكرة أولى أو إلى قوة غير مشخصة في ذات؛ وهنا كذلك لا يكتفي الإنسان برد كل ظاهرة على حدة إلى مبدأ خاص بها، بل يحاول أن يضم شتى ظواهر الكون كله تحت مبدأ واحد أو فكرة واحدة. وإذا ما بلغ الفيلسوف الميتافيزيقي مبدأ واحدا يطوي تحته كل ظاهرات الوجود، كان بمثابة اللاهوتي في المرحلة الأولى حين بلغ به السير نقطة الإيمان بإله واحد يعلو على سائر الآلهة والقوى؛ فكلتا المرحلتين - اللاهوتية والميتافيزيقية - تحاولان حل جميع المشكلات بأداة واحدة، والفرق بينهما هو أن الأداة الواحدة في الحالة الأولى أداة مشخصة ذات إرادة، وهي في الحالة الثانية فكرة مجردة، وأن الوسيلة لبلوغ تلك الأداة الواحدة في الحالة الأولى هي الخيال، وهي في الحالة الثانية حجاج منطقي يعلو من النتيجة إلى مقدمتها أو يهبط من المقدمة إلى نتيجتها.
ومن رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من مراحل الفكر الثلاث إن هي إلا مرحلة انتقال مهمتها أن تفكك أوصال التفكير الروحاني الذي ساد المرحلة الأولى، تمهيدا للمرحلة الوضعية العلمية التي هي نهاية الشوط؛ وذلك لأن استخدام الحجة المنطقية في مرحلة التفكير الميتافيزقي من شأنه أن يكشف عما كان كامنا في الأفكار الدينية من تناقض، ومن شأنه كذلك أن يحل أفكارا ثابتة محل ما قد كان قائما من كائنات كثيرة ذوات إرادة تتصرف إشباعا لنزوة أو هوى؛ فالطبيعة في المرحلة الدينية الأولى كانت خاضعة لقوى لا راد لسلطانها، ولم يكن للإنسان قدرة على تصريف شئون نفسه، أما وقد جاءت المرحلة الثانية، مرحلة التفكير الميتافيزيقي، فماذا تركت للناس بعد أن أزالت عنهم العقيدة في سلطان غيبي نافذ الكلمة فعال الإرادة؟ إن من رأي «كونت» أن المرحلة الميتافيزيقية من تاريخ البشر جاءت لتهدم مصادر قوة دون أن تقيم مقامها شيئا إيجابيا يفعل فعلها؛ ولذلك ساد خلالها الشك وقويت الفردية، وأوشكت أن تتمزق الروابط التي تصل الفرد بجماعته. ولئن كان العقل الإنساني قد شحذ وأرهف في تلك المرحلة، فذلك على حساب الشعور الذي غاض معينه بعد خصوبة وفيض، وانعكست لذلك كله صورة على صفحة السياسة؛ إذ أصبح السلطان في أيدي أفراد الشعب باعتبارهم أفرادا لا ينطوون تحت حاكم يمحوهم في شخصه محوا؛ فإذا كانت المرحلة اللاهوتية الأولى عصر الحاكم الفرد المستبد، فقد كانت المرحلة الميتافيزيقية الثانية عصر الشعب، وأصبحت السيادة مستمدة من تعاقد الأفراد بعضهم مع بعض بعد أن كانت مستمدة من حق إلهي للأباطرة والملوك.
وثالثا وأخيرا جاءت المرحلة «الوضعية» حيث حلت مشاهدات الحواس وتجارب العلماء محل خيال اللاهوتي وحجاج الفيلسوف الميتافيزيقي؛ ها هنا بات حتما على من يتكلم عن الطبيعة جادا أن يصل كلامه بالوقائع المحسوسة، بحيث تكون المطابقة بين العبارة الكلامية من جهة والواقعة المحسوسة التي جاءت العبارة لتتحدث عنها من جهة أخرى، هي علامة الصدق ومعيار الصواب. وها هنا أيضا لم يعد الإنسان يبحث عن «علل أولى» يرد إليها الطبيعة وما فيها، بل يبحث عن «قوانين» تصور الاطراد الملحوظ في الظواهر الطبيعية؛ أي إنه يبحث عن «العلاقات» الكائنة بين الظواهر الملحوظة، والتي تجعل منها مجموعات من حوادث يطرد وقوعها كلما تحققت ظروف معينة. ولا فرق عنده بين أن يكون موضوع البحث أفكار الإنسان ومشاعره، أو قطع المادة من حيث الوزن والصلابة؛ لأنه ينظر إلى كل ما يعرض له نظرة موضوعية تحاول أن ترى على أي نظام يطرد حدوثه.
كان جهد الإنسان الفكري في المرحلتين الأولى والثانية منصرفا إلى الكشف عن مبدأ واحد يضم تحت جناحيه كل ما في الوجود على اختلاف نوع هذا المبدأ الواحد في كل من المرحلتين عنه في المرحلة الأخرى؛ فهو كائن روحاني واحد مطلق في المرحلة اللاهوتية الأولى، وهو مبدأ عقلي واحد مطلق في المرحلة الميتافيزيقية الثانية. أما في المرحلة الوضعية الثالثة والأخيرة، فما دام الاعتماد كله على الحواس وما يقع لها من خبرات، فقد أصبح محالا أن يتطلب الإنسان للكون كله مبدأ واحدا مهما يكن نوعه؛ لأن الخبرة الحسية التي هي مرجعه تقتضي أن يكون مجال البحث دائما محصورا في دائرة الحوادث التي يمكن أن تقع في مجال تلك الخبرة الحسية، ومهما اتسع هذا المجال فهو محدود على كل حال، ولن يسع الكون كله؛ فقصارانا أن نقف عند حدود خبراتنا، وكلما توافرت لنا مجموعة من ملاحظات في نوع معين من الظواهر، أمكننا أن نبني منها علما قائما بذاته، له قوانينه الخاصة، دون أن يكون في مستطاعنا - هكذا يرى أوجيست كونت - أن ندمج قوانين علم في قوانين علم آخر بحيث يكونان معا علما واحدا، فضلا عن أن ندمج قوانين العلوم كلها على اختلافها بحيث ترتد جميعا إلى قانون واحد كما كان الأمل الذي راود الإنسان في مرحلتيه الأوليين. وكل ما يستطيعه الإنسان في توحيد العلوم هو أن يجعل منها وحدة ذاتية؛ بمعنى أن يضم الإنسان معارفه المختلفة بعضها إلى بعض داخل ذاته هو، ولا يكون معنى ذلك أن قوانين الظواهر الطبيعية المختلفة قد اتحدت كلها في شيء واحد موضوعي كائن خارج ذواتنا.
في هذه المرحلة الوضعية الأخيرة من مراحل التفكير الإنساني، اقتربت المعرفة النظرية من تطبيقها العملي اقترابا جعلهما وجهين لحقيقة واحدة، وأصبح علمنا بقانون معين من قوانين الظواهر الطبيعية معناه أن في مستطاعنا أن نتحكم في مصيرنا بالنسبة إلى الظاهرة الطبيعية التي هي موضوع ذلك القانون؛ إننا اليوم نعلم من الطبيعة ما نعلمه لا لنقف عند هذا الحد، بل لنتسلف العلم بما عساه أن يقع في المستقبل. وأمل الإنسان في هذه المرحلة العلمية من حياته الفكرية هو أن يمد من نطاق علمه هذا بحيث يشمل الإنسان فردا ومجتمعا إلى جانب الظواهر الطبيعية الخارجية، وعندئذ يصبح مصيره ومصير الطبيعة في يديه.
تلك هي «وضعية» أوجيست كونت التي مدت أطرافها حتى بلغت إنجلترا، حيث ترعرعت على أيدي «جون ستيوارت مل» و«هربرت سبنسر»، وهي وضعية قوامها - كما رأيت - جوانب ثلاثة؛ فجانبها الأول المميز هو نظرتها التاريخية عند تقديرها لقيمة الفكرة؛ فالفكرة المعينة في العصر اللاهوتي قد تكون صالحة في مرحلتها، لكنها لا تعود صالحة في المرحلتين التاليتين، والفكرة المعينة في العصر الميتافيزيقي لم تكن لتصلح في المرحلة اللاهوتية الأولى ولن تكون صالحة في المرحلة العلمية الثالثة وهكذا. وجانبها الثاني هو حصر المعرفة النافعة في حدود الخبرات التجريبية ، وكل علم لنا اليوم عما يجاوز تلك الحدود قد يكون خطأ أو صوابا، ولكنه على كل حال علم لا يفيد. وجانبها الثالث هو تقريبها بين الفكرة النظرية وتطبيقها العملي؛ فليس علما ما ليس يمكن استخدامه في التحكم في مجرى الطبيعة ومصير الإنسان.
ويسود عصرنا الراهن - منتصف القرن العشرين - فلسفة وضعية جديدة لا تمت إلى وضعية كونت إلا بصلة واحدة، وهي أن كلتيهما ترتكزان على الخبرة الحسية وحدها إذا ما كان المجال مجال حديث عن الطبيعة وما فيها، ثم تفترق الحركتان بعد ذلك افتراقا بعيدا. على الرغم مما يخيل للذين يأخذون الدراسات الفلسفية أخذ المستهتر من أنه ما دامت كلمة «الوضعية» مشتركة فلا بد أن يكون الاتجاه واحدا بكل حذافيره،
5
فالحركة الفلسفية الراهنة تضيف إلى كلمة «وضعية» كلمة أخرى هي «منطقية»، بحيث تجعل اسمها «وضعية منطقية» لا على سبيل اللهو والعبث، بل عن قصد ودراية؛ فلو سأل سائل: لماذا يجب الكف عن النظر إلى ما وراء الحس؟ كان جواب «أوجيست كونت» هو: لأنه لا يفيد. أما جوابنا نحن فهو: لأن الكلام عندئذ سيخلو من المعنى. فالمذهب الوضعي عند «كونت» يجعل للعبارات المتحدثة عما وراء عالم الحس معني، وغاية ما في الأمر هي أن معناها لا يفيدنا في حياتنا العملية شيئا، وأما نحن فنرفض تلك العبارات على أساس «منطقي» لا على أساس النفع وعدمه؛ إذ يبين لنا التحليل المنطقي لتلك العبارات أنها أشباه عبارات تخدع بتركيبها النحوي السليم، لكنها في حقيقة أمرها لا تؤدي مهمة الكلام، وهي الإخبار؛ لأنها لا تحمل معني على الإطلاق تخبر به.
وكذلك لا تنظر «الوضعية المنطقية» إلى الأفكار نظرة تاريخية كما فعل «كونت»؛ فليست الفكرة عندها معتمدة على ظروفها التاريخية، بحيث تصلح اليوم بعد أن لم تكن صالحة بالأمس، بل الأمر موكول كله إلى تحليل اللفظ الدال على الفكرة تحليلا منطقيا لا يعرف فوارق الزمن؛ فلا مانع - مثلا - من تناول فكرة ميتافيزيقية من فلسفة أفلاطون، كقوله بخلود الروح، وتحليل لفظها تحليلا ينتهي إلى أنه لفظ فارغ بغير معني، مهما يكن من صلاحية مثل هذا القول في زمنه.
4
كان «هيوم» بفلسفته التجريبية، و«ليبنتز» بمنطقه الذي يفرق به بين حقائق العقل وحقائق الواقع، و«كانت» بتحليله للعقل وقوله باستحالة الميتافيزيقا التي تستنبط من مبدأ أول، و«كونت» بمذهبه الوضعي، كان هؤلاء جميعا من الرواد الذين مهدوا الطريق، كل من جانبه، لكي ينتهي إلى ما انتهى إليه في القرن العشرين من حركة فلسفية عرفت أول ما عرفت باسم «الوضعية المنطقية» تمييزا لها من «وضعية» كونت وغيره، وإنما سميت بهذا الاسم لأنها ترفض ما ترفضه وتقبل ما تقبله على أساس «المنطق» وحده؛ أي على أساس تحليل العبارات والألفاظ تحليلا يبين حقيقة بنائها. ولا يزال فريق من أتباع هذه الحركة الفلسفية يحتفظون لها باسمها الأول، لكن فريقا آخر أخذ يطلق عليها اسم «التجريبية العلمية» وما يدور حول هذا المعنى من أسماء، ولن أستطرد الآن في الحديث عن هذه «الوضعية» الجديدة؛ لأن مكان الحديث عنها تفصيلا هو الفصل التالي من هذا الكتاب.
ولكن «الوضعية المنطقية» إن تكن قد وجدت في هؤلاء الرواد مقدمات لها من حيث وجهة النظر العامة، إلا أنها قد اعتمدت في طرائقها التحليلية الخاصة على فريق آخر من علماء الرياضة ورجال المنطق؛ فهؤلاء هم الذين أمدوها بالأدوات التي تستخدمها في تحليلها الذي تريده لعبارات اللغة وألفاظها، تحليلا انتهى بها إلى مجموعة النتائج التي انتهت إليها حتى اليوم، وما تزال ماضية في طريقها تحلل وتحلل، فتوضح الغامض وتحل المتشابك وتلقي الضوء على الزوايا المعتمة، وهي أثناء ذلك كله لا تظل جامدة على أدوات تحليلية بعينها، بل ما تنفك تشحذ من تلك الأدوات وتصلح منها بحيث تلائم ما قد يعترض طريقها من صعاب.
فقد حدث حول منتصف القرن الماضي أن بدأت حركتان تسيران في اتجاهين متضادين، ولكن كلا منهما - مع ذلك - كانت تنفع الأخرى؛ فمن جهة أراد بعض علماء الرياضة أن يقفوا وقفة طويلة عند أساس علمهم الرياضي - وهو العدد - لعلهم مستطيعون أن يردوه إلى أصوله الأولية؛ ذلك أن فكرة أي عدد من سلسلة الأعداد فكرة مركبة وليست هي بالفكرة البسيطة؛ وإذن فعلينا أن نسأل: من أي العناصر البسيطة ركب العدد؟ وطفق علماء الرياضة يحللون العدد الذي هو أساس علمهم الرياضي كما قلنا، وما زالوا به تحليلا وردا إلى أصوله الأولية حتى انتهوا به إلى جذوره في المدركات المنطقية الخالصة. ومن جهة أخرى كان بعض المناطقة قد لفت أنظارهم قصور المنطق الأرسطي؛ ذلك المنطق الذي أدار اهتمامه كله على نوع واحد من القضايا، ألا وهو القضية التي يكون قوامها موصوفا وصفته، أو موضوعا ومحموله كما قد جرى الاصطلاح المنطقي، مع أن هنالك من الوحدات الفكرية ما يستحيل أن يصب في هذا القالب - قالب الموضوع والمحمول - لأنه تعبير عن علاقات وليس تعبيرا عن أشياء موصوفة بصفات، وفي مقدمة الصور الفكرية التي تعبر عن علاقات، والتي تأبى لهذا السبب أن تنساق مع المنطق الأرسطي، القضايا الرياضية؛ وإذن فالمنطق الأرسطي بحاجة إلى مراجعة وإلى زيادة في دقة التحليل لكي يتسع فيسع صور التفكير المختلفة، سواء كان ذلك التفكير قائما على «أشياء» أو على «علاقات»، ومن هنا أخذ المناطقة المحدثون يعملون في طريق يبدأ من المدركات المنطقية الخالصة، مثل «إما ... أو ...» و«و» و«ليس» و«إذا ... إذن ...» و«كل» و«بعض» ... إلخ، أقول إن المناطقة المحدثين أخذوا يعملون في طريق يبدأ من هذه المدركات لينتهي إلى القضايا الرياضية، كما كان زملاؤهم علماء الرياضة يعملون في طريق مضادة بادئين بالقضايا الرياضية لينتهوا إلى مدركات منطقية خالصة؛ وبهذا التقى الفريقان عند هدف واحد، وهو أن المنطق والرياضة كليهما امتداد لبناء فكري واحد، قوامه القضايا التحليلية التي يستنبط بعضها من بعض دون أن تكون دالة على حقائق الوجود الطبيعي.
كان هذان الفريقان؛ علماء الرياضة من جهة، وعلماء المنطق من جهة أخرى، فيما قاما به من تحليلات كل في موضوعه، بحيث التقيا عند غاية واحدة، بمثابة من هيأ للتحليل أدواته، فجاءت الجماعة التي أطلقت على نفسها اسم «الوضعيين المنطقيين» واستغلت تلك الأدوات التحليلية استغلالا أخذ يتشعب ويتفرع، وما يزال إلى يومنا هذا ماضيا في سبيله ، حتى نتج لنا ما قد نتج من تحليلات تملأ الكتب والمجلات الفلسفية المعاصرة، وسنسوق لك مثلا لكل من هذين الفريقين رجلا كان في فريقه إماما؛ إذ نسوق «فريجه» مثلا لفريق الرياضيين الذين عنوا بتحليل المدركات الرياضية حتى ردوها إلى أصول من المنطق الخالص، و«رسل» مثلا لفريق المناطقة الذين عنوا بتحليل المدركات المنطقية حتى أظهروا علاقتها المباشرة بالعلوم الرياضية.
كان «جوتلوب فريجه»
6 (1848-1925م) أستاذا للرياضة في جامعة بينا، وقد أصدر عام 1879م كتابا صغيرا جعل عنوانه «ترقيم الأفكار»،
7
وأراد به أن يكون محاولة أولى لتحقيق أمل كان يتمناه «ليبنتز» من قبله، وهو أن يستطيع الإنسان يوما أن يكتب أفكاره المجردة بلغة الرياضة، بحيث إذا ما اختلف متجادلان على أمر كان الفيصل بينهما هو شيء أشبه بالحساب الرياضي منه بالنقاش والجدل.
ويقع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء؛ في أولها شرح لعلاقات رمزية جديدة يقترحها «فريجه» لتكون أداة لصياغة الأفكار التي يراد لها الدقة التامة، كما تكون أداة كذلك لاستنباط نتيجة من مقدمتها استنباطا لا يترك فجوة شاغرة؛ لأننا إذا أردنا أن نبين أن علم الحساب في الرياضة هو امتداد لمدركات منطقية، تحتم علينا أن نستنبط قضايا لا نشك في أنها من علم الحساب، من مقدمات لا نشك في أنها من علم المنطق، ثم لا بد أن يتم الانتقال من المقدمات التي هي من المنطق إلى النتائج التي هي من علم الحساب دون أن يتسلل إلى مجرى الاستنباط شيء نضيفه من معارفنا التي حصلناها بالخبرة، فلا هي من مدركات المنطق ولا هي مما يتولد عن تلك المدركات من نتائج.
إن مدركات المنطق الخالص لا تحتوي على مضمونات خبرية، وأي مضمون خبري تراه في «إذا» أو «ليس» مثلا؟ وإذن فلا بد لنا عند اشتقاق الرياضة من أمثال هذه الإطارات الخالية أن نكون على حذر حتى لا ندخل في إحدى مراحل الطريق كلمة من ذوات المضمون الخبري؛ لأننا لو فعلنا ذلك، ثم مضينا في طريقنا الاستنباطي حتي بلغنا نتيجة ما، فعندئذ لن يكون من حقنا أن نقول عن تلك النتيجة التي بلغناها إنها مشتقة من مدركات المنطق الخالص؛ إذ قد تكون نتيجة لذلك المضمون الخبري الذي دسسناه خلال الطريق.
وقد استخدم «فريجه» في بنائه الرمزي الاستنباطي الذي استهدف به - كما أسلفنا - بيان الصلة الوثيقة بين الرياضة والمنطق، أربع أدوات أساسية فقط، هي: (1)
علامتان رمزيتان تقومان مقام الكلمتين المنطقيتين «ليس» و«إذا». (2)
طائفة من الحروف الهجائية يستخدمها على نحو ما يستخدم الرياضي هذه الحروف في معادلاته؛ حتى لا يضطر إلى كلمات اللغة ذوات المدلول، كأن يكتب مثلا عبارة كهذه «س متضمنة في ص»، وبالطبع لا تكون أمثال هذه العبارة الرمزية ذات الفجوات الشاغرة «قضية»؛ لأنها لا توصف بصدق أو بكذب، وشرط «القضية» أن يجوز عليها مثل هذا الوصف، وقد اصطلح على تسمية عبارة رمزية كهذه بدالة قضية.
8 (3)
فإذا ملئت الفجوات الشاغرة في «دالة القضية» بكلمات مناسبة، كأن نقول في العبارة الرمزية السالفة «فئة المصريين متضمنة في فئة المتكلمين بالعربية»، تحولت الدالة إلى قضية يمكن تحقيقها صدقا أو كذبا. (4)
علامة رمزية تدل على المعنى الذي نعبر عنه في اللغة بكلمة «كل».
هذا هو الجهاز البسيط الذي أعده «فريجه» لتحليله، ولعل أهم ما فيه هو هذه التفرقة التي أقامها بين العبارة إذا اقتصرت على رموز جبرية، والعبارة نفسها إذا استبدل بتلك الرموز الجبرية ألفاظ من اللغة؛ أي التفرقة بين ما نسميه اليوم ب «دالة القضية» وما نسميه ب «القضية»؛ ففي هذه التفرقة التي قد تبدو للقارئ هينة الخطر ثورة فكرية ستلمس مداها في غضون هذا الكتاب، بل لعلها من أعظم النتائج التي وصلت إليها التحليلات المنطقية الحديثة فقلبت كثيرا من الأوضاع القديمة رأسا على عقب.
تلك خلاصة للجزء الأول من كتاب «فريجه» الذي أشرنا إليه، ثم يمضي الكتاب في جزئه الثاني فيقدم مجموعة كاملة من القواعد المنطقية والبديهيات، تكفي للبرهنة على كل ما يتصل بدالات القضايا - أي العبارات ذوات الرموز الجبرية - وفي الجزء الثالث من الكتاب يبين «فريجه» على سبيل التوضيح كيف يمكن استخدام جهازه الرمزي في صياغة أهم الأفكار المتصلة بالأعداد وترتيبها.
وكان الأمل يحدوه أن ينتقل بعد ذلك إلى الغاية الرئيسية المنشودة من مجهوده كله، وهي أن يفصل القول في كيفية اشتقاق الرياضة من تلك البدايات المنطقية، لكن رجاءه خاب؛ لأن أحدا لم يعر أجزاءه الثلاثة الماضية لفتة ولو عابرة؛ فآثر «فريجه» أن يترك العمل عند هذا الحد الذي انتهى إليه، وأن يحاول تقديم أفكاره الرئيسية في صورة أخرى تكون أقرب إلى قبول القراء؛ فلعل هؤلاء القراء ازوروا عن كتابه بسبب التزامه للطريقة الفنية الدقيقة في التعبير؛ ومن ثم أخرج كتابا آخر (1884م) عنوانه «أسس علم الحساب»،
9
يبين فيه بطريقة أسهل كيف أن هذا العلم الرياضي لا يحتاج أبدا إلى شيء غير ما يسبق التسليم به في مجال المنطق الخالص.
ولم يكن علماء الرياضة عندئذ يوافقون على رأي كهذا؛ فمن ذا الذي كان يظن منهم أن عددا مثل «2» أو «3» أو غيرهما هو في الحقيقة بغير مدلول في عالم الأشياء؛ لأنه ما دام نتيجة مشتقة من مدركات المنطق الخالص - ومدركات المنطق الخالص خالية من أي مضمون خبري متصل بعالم الواقع الطبيعي - فلا بد أن يكون بدوره - كهذه المدركات التي اشتق منها - رمزا تحليليا صرفا بغير مضمون من الخبرة المستمدة من عالم الأشياء؟
كلا، لم يكن الرأي الذي ساقه «فريجه» عن علم الحساب وأصوله مما يأخذ به أحد من علماء الرياضة عندئذ؛ فقد كان من هؤلاء من يعد رموز الحساب (الأعداد) كألفاظ اللغة، رموزا يتفق الناس على طريقة استخدامها لتدل على مسميات خاصة، لكن هذا هو «فريجه» يخضع الأمر لتحليله فيخرج بهذه النتيجة، وهي أن الرمز الدال على عدد ما، مثل «2»، إن هو إلا رمز ندل به على مجموع الفئات التي قوام كل منها عضوان، والتي يرتبط كل منها بالفئة المعدودة بعلاقة «واحد بواحد»، فلماذا نقول عن هذين الكتابين إنهما «اثنان»؟ نقول ذلك لأننا لو قرناهما بهذين القلمين أو هذين المقعدين أو هذين الولدين وجدنا أن كل عضو منهما يقابل عضوا، وهذه المقابلة التي تسمى «علاقة واحد بواحد» هي معنى «التشابه» بين فئتين؛ وعلى ذلك فلو جمعنا كل فئات الأشياء التي تتشابه معا بعلاقة واحد بواحد، ثم إذا أطلقنا عليها رمز «2»، لم يكن لهذا الرمز من معنى سوى تلك الفئات المتشابهة المجتمعة.
10
والذي يهمنا نحن من هذا كله أن فكرة العدد مشتقة من فكرة «الفئة» أو «النوع»، وهذه الأخيرة فكرة خالصة للمنطق وحده. ومضى «فريجه» بعدئذ في طريقه لا ينثني، حتى أخرج سنة 1893م الجزء الأول من مؤلف ضخم اعتزم إصداره بعنوان «القوانين الأساسية في علم الحساب»، والغرض منه هو نفسه الغرض من كتبه السابقة، وهو بيان العلاقة الوثيقة بين علم الحساب من جهة والمنطق الخالص من جهة أخرى. ومن أهم ما يلفت النظر في هذا الجزء بحثه الدقيق في «المعنى»، فماذا نريد على وجه الدقة حين نقول عن رمز معين أو لفظ معين إنه «يعني» كذا وكذا؟ وما علاقة هذا «المعنى» بالمسميات التي يشير إليها ذلك الرمز أو اللفظ؟
وفي 1903م أصدر الجزء الثاني من مؤلفه هذا، وجاء في ختامه «حاشية» ألحقها به بعد أن تم طبع الكتاب، قال فيها وهو آسف إن شابا إنجليزيا اسمه «برتراند رسل» قد اتصل به وبين له مواضع التناقض في بنائه الرمزي الذي هو العمود الفقري لبحثه كله.
ذلك أن «برتراند رسل» كان قد أخذ ينغمس في تحليلاته وأبحاثه المنطقية انغماسا بلغ ذروته في كتابه «أصول الرياضة» (برنكبيا ماثماتكا)، الذي أخرجه في ثلاثة مجلدات ضخمة بالاشتراك مع «وايتهد» (1910-1913م)، فجاء عمله هذا بمثابة المنهج التحليلي الذي اصطنعته جماعة الوضعية المنطقية فيما بعد، فانتهى بهم إلى ما انتهوا إليه من نتائج سنشرحها في الفصول الآتية من الكتاب.
والغاية التي ابتغاها «رسل» من كتابه هذا هي أن يستنبط المنطق كله والرياضة البحتة كلها من مقدمات قليلة يكون طابعها منطقيا صرفا. وإنما تكون المقدمة منطقية خالصة إذا توافر منها أولا أن تكون صادقة صدقا مطلقا غير مشروط بحالة معينة من حالات العالم الخارجي، وأن تكون ثانيا غير مشتملة على أية كلمة من ذوات المعنى الثابت فيما عدا الكلمات المنطقية ، والكلمات المنطقية هي هذه: «كل» «ليس» «أو» «و» «إما ... أو ...» «يستلزم»، وما إليها من ألفاظ من شأنها أن تبني للعبارة إطارها أو تحدد لها صورتها دون أن يكون لها مضمون من معنى خاص مشير إلى أشياء الطبيعة وكائناتها.
أراد «رسل» إذن - كما أراد من قبله «فريجه» - أن يتعقب قضايا الرياضة البحتة وقضايا المنطق الخالص صاعدا بها إلى أصولها الأولية القليلة العدد، والتي يكون قوامها منطقيا صرفا، ولكن تلك الأصول الأولية لا بد أن تصاغ في كلمات اللغة على كل حال؛ وإذن فلا بد أن تكون بداية البناء ألفاظا نقبلها بغير تعريف، وهي ما يسميه «رسل» باللامعرفات، لا لأنها مستحيلة التعريف بألفاظ غيرها، بل لأننا نريد أن نبدأ بهذه الكلمات أو بغيرها لنخطو بعدئذ في شوطنا الاستنباطي؛ حتي نرى هل يتكامل لنا بناء المنطق والرياضة بهذه الخطوات أو لا يتكامل.
والكلمات التي يبدأ بها «رسل» بغير أن يحاول تعريفها، والتي منها سيستخرج المنطق كله والرياضة كلها، عددها ثلاثة، هي: «الإثبات» و«النفي» و«البدائل». ويرمز لها برموز خاصة حتى يستغني عن كلمات اللغة المتداولة؛ فرمز القضايا المثبتة هو «ق، ك، ل ... إلخ»، ورمز النفي (الذي هو في اللغة الجارية كلمة «ليس») هو هذه العلامة « » توضع أمام ما يريد أن ينفيه، ورمز البدائل (الذي هو في اللغة الجارية كلمة «أو») هو هذه العلامة « » توضع بين البديلين، بحيث إذا قيل مثلا «س
ص» كان معناها باللغة الجارية: إما «س» أو «ص».
وتستطيع من هذه الرموز الثلاثة وحدها أن تعبر عن بقية المصطلحات المنطقية كلها؛ لأن هذه المصطلحات يمكن ردها أو ترجمتها أو تحليلها إلى واحد أو أكثر من تلك اللامعرفات الثلاثة؛ فمثلا:
إذا أردنا أن نضيف بواو العطف قضية إلى قضية، كقولنا «ق (و) ك» - أو باللغة الرمزية التي استخدمها رسل جريا على عرف الرياضيين في الرموز «ق
ك» - أمكننا أن نحولها إلى النفي والبدائل معا، فتصبح (
ق
ك)؛ أي إن إضافة «ق» إلى «ك» بواو العطف متعادلة مع قولنا إنه ليس من الصواب أن يقال عن القضيتين ق، ك إنه إما لا - ق أو لا - ك.
وكذلك إذا أردنا أن نقول عن قضيتين إن إحداهما تستلزم الأخرى، وهذا القول باللغة الرمزية التي استخدمها رسل يكون هكذا «ق
ك» أمكننا أن نترجم هذه الصيغة إلى صيغة أخرى تستغني عن كلمة «تستلزم» وتستعمل النفي والبدائل فقط، فتكون:
ق
ك =
ق
ك.
أي إن قولنا إن ق تستلزم ك مساو لقولنا إنه إما أن تكون ق باطلة أو أن تكون ك صادقة.
وهكذا يبين رسل أن جميع الثوابت المنطقية يمكن ردها إلى اللامعرفات الثلاثة التي ذكرناها، ثم يبني من هذه اللامعرفات مجموعة قليلة من بديهات، ثم يستخرج من هذه البديهات نتائجها التي تلزم عنها، ومن هذه النتائج نتائجها، حتى يتكامل له المنطق الصوري كله فالرياضة البحتة كلها؛ لأن الرياضة البحتة استمرار للمنطق الخالص.
وليس هنا موضع التفصيل فيما قد استحدثه رسل خلال تحليلاته المنطقية، مما يكفي أن يجعل منه بناء منطقيا جديدا يعارض المنطق الأرسطي أو يكاد، ونخص بالذكر من هذه المستحدثات نظرياته في الفئات وفي الأنماط وفي التعريف وفي الاستنباط، مما قد عرضنا بعضه في مؤلفات أخرى،
11
وما سنعرض له في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
على أن كتاب «أصول الرياضة» هذا وإن يكن قد ألقى الضوء الشديد على طبيعة المنطق والرياضة معا، فسرعان ما تبين علماء المنطق وعلماء الرياضة مواضع النقص فيه وهموا بإصلاحها، ومن أهم من تصدى لذلك تلميذ لبرتراند رسل، هو «لدفج وتجنشتين» الذي أدرك في تحليلات أستاذه أنها مبتورة الصلة بالخبرة الواقعية، كأنما رموزه الصورية في واد والخبرة الفعلية في واد آخر، فأراد أن يصل الطرفين برابطة توضح قيمة المنطق من الناحية التطبيقية دون أن تنقص من صدق قضاياه صدقا مطلقا غير مشروط بالحالات الجزئية الواقعة في لحظات الزمان ونقاط المكان، فاقتضاه هذا أن يبحث في طبيعة القضايا بصفة عامة وطبيعة قضايا المنطق بصفة خاصة، وعرض نتائج بحثه هذا في رسالته المعروفة باسم «رسالة منطقية فلسفية»،
12
والتي كان من أهم النتائج التي عرضتها نقدها للعبارات الميتافيزيقية؛ إذ بينت أن أمثال هذه العبارات إن هي إلا نتيجة لخطأ في فهم منطق اللغة؛ فكان هذا الرأي بمثابة الحافز المباشر لتكوين جماعة فلسفية في فيينا، فجاء تكوينها فاتحة لمرحلة جديدة في الفلسفة التحليلية المعاصرة، هي التي عرفت فلسفتها أول ما عرفت باسم «الوضعية المنطقية»؛ فما هي جماعة فيينا؟ وما منحاها في النظر والبحث؟
الفصل الثالث
جماعة فيينا
1
جرى العرف في جامعة فيينا أن تسند أستاذية الفلسفة بها إلى رجل من رجال العلوم الطبيعية به ميل إلى فلسفة هذه العلوم، وإنه لعرف يرتد إلى سنة 1895م؛ إذ أسندت أستاذية الفلسفة عندئذ إلى إرنست ماخ
1
الذي لبث في منصبه ذاك حتى سنة 1901م، ومنذ ذلك التاريخ والتقليد قائم في جامعة فيينا ألا يتولى ذلك المنصب إلا من هو من قبيل ماخ في العلوم الطبيعية وفلسفتها، حتى كان عام 1922م، فشغل منصب أستاذية الفلسفة مورتس شليك
2
الذي انتهى إلى الفلسفة عن طريق دراسته للعلوم الطبيعية - شأنه في ذلك شأن أسلافه - وحسبنا أن نعرف عنه أن أستاذه في رسالته التي تقدم بها ليظفر بإجازة الدكتوراه هو عالم الطبيعة الذائع الصيت «بلانك»،
3
وأن موضوع تلك الرسالة هو انعكاس الضوء في وسط غير متجانس، وأنه في عام 1917م أصدر مؤلفا في المكان والزمان في علم الطبيعة الحديث، فكان بهذا الكتاب أول شارح لنظرية النسبية من وجهة النظر الفلسفية. وكانت تربطه الصلات الوثيقة بأعلام العلوم الطبيعية من أمثال «أينشتين» و«هلبرت» و«بلانك». ولئن كان مورتس شليك قد أشبه أسلافه من أساتذة الفلسفة في جامعة فيينا في أنه في حقيقة أمره من علماء الطبيعة، فهو متميز دونهم بدرايته التامة وإلمامه الشامل بالفلسفة؛ فهو لا يتحدث فيها حديث الهواة الملمين بأطرافها دون أن يوغلوا في قلبها وصميمها، بل يتحدث حديث من عرفها معرفة الخبير.
ولم يلبث «شليك»، وهو في منصب أستاذية الفلسفة في فيينا، أن التفت حوله جماعة قوامها طائفة من طلابه وفريق من رجال الفكر العلمي الذين يميلون إلى الاتجاه الفلسفي في طريقة تفكيرهم ، فكان بين هؤلاء وأولئك رجال لمعت أسماؤهم في مجال التحليل الفلسفي المعاصر، أمثال «وايزمان»
4
و«نوراث»
5
و«فايجل»
6
و«كرافت»
7
و«كاوفمان»
8
و«كارناب»
9
و«جودل»
10
وغيرهم، وكان «وتجنشتين»
11
على صلة بهذه الجماعة وإن لم يحضر اجتماعاتها.
كانت هذه الجماعة من المشتغلين بالعلم الطبيعي وبالرياضة من جانبهما الفلسفي، تجتمع آنا بعد آن لتدير بينها نقاشا في تحليل هذه اللفظة أو هذه العبارة مما يرد في علوم الطبيعة والرياضة وتكون له أهمية خاصة في تلك العلوم. وكان هذا النقاش بينهم إنما يدور بين زملاء أوشكوا جميعا أن تتساوى أقدارهم في المنزلة العلمية؛ ولذلك لم يكونوا «مدرسة» فلسفية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، وهو أن يكون هناك أستاذ نابغ مرموق المكانة وحوله التلاميذ والأتباع. نعم كان «شليك» هو محور الجماعة باعتباره أستاذا للفلسفة، لكنه مع ذلك لم يكن فيهم هو القمة الشامخة التي تعلو وحدها، بل الأعضاء كلهم لاعبون يتناولون الكرة واحدا بعد واحد؛ ولذلك كان الأدنى إلى الصواب أن يسمى نشاطهم الفكري «حركة» فلسفية لا «مدرسة» لكي ينطبق الوصف على الموصوف؛ فهي «حركة» فلسفية أكثر منها مدرسة فلسفية لهذا التقارب الشديد بين رءوس أعضائها، فضلا عما كان بين هؤلاء الأعضاء من اختلاف بعيد في اهتماماتهم العلمية الأخرى، وحتى حين يلتقون عند نقطة يشتركون فيها باهتمامهم جميعا، فهم يختلفون في وجهات أنظارهم إليها، حتى لينصرفوا ولكل منهم رأي في الموضوع المطروح للبحث يختلف عن آراء سائر الزملاء.
12
كان تكوين جماعة فيينا - كما ترى - أقرب إلى «العلماء» يتعاونون على حل مشكلة بعينها، منهم إلى مدرسة من الأتباع والمريدين يلتفون حول إمام. وقد عمل هذا التعاون الإيجابي بين الأعضاء على ازدياد المحصول ازديادا سريعا؛ إذ أخذت مراجعاتهم بعضهم لبعض وتصويبهم لآرائهم يثبت من خطاهم؛ فاستطاعوا بذلك أن ينتهوا إلى نتائج ممحصة محققة، حتى إذا ما كان عام 1930م أصدرت «الجماعة» مجلة فلسفية تعرض أفكار أعضائها، وتولاها بالإشراف اثنان من هؤلاء الأعضاء، هما «كارناب» و«رايشنباخ»،
13
فضلا عما جعل الأعضاء يصدرونه من كتب ورسائل، فذاع أمرهم واتسعت شهرتهم، بحيث استطاعوا أن يعقدوا مؤتمرا في مدينة كينجزبرج في سبتمبر من عام 1930م، جعلوا موضوعه نظرية المعرفة منظورا إليها من زاوية العلوم المضبوطة (كعلم الطبيعة)، وتعاون معهم في هذا المؤتمر لفيف كبير من أعلام العلماء في الطبيعة والرياضة، جاءوا من شتى أنحاء أوروبا، ثم عقدوا في سبتمبر من عام 1935م مؤتمرا آخر بباريس، استهله برتراند رسل بكلمة الافتتاح.
وتوالت بعدئذ مؤتمراتهم، واتسعت دائرتهم، حتى نشبت الحرب سنة 1939م فتشتت أفراد هذه الجماعة هنا وهناك؛ فذهب «فايجل» و«كارناب» و«رايشنباخ» إلى الولايات المتحدة، حيث أسندت إليهم مناصب الأستاذية في أكبر جامعاتها، وذهب «وايزمان» و«نوراث» إلى إنجلترا، وأصبحا هناك قطبين في عالم الدراسة الفلسفية، أضف إلى هذا كله ما أصيبت به «الجماعة» قبل ذلك بقليل (عام 1936م) من فقد رئيسها «مورتس شليك» حين رماه طالب مأفون من جامعة فيينا برصاصة أردته قتيلا لساعته.
لم تعد «جماعة فيينا» قائمة في فيينا، بل تناثر أفرادها، فاتسع بذلك نطاقها، وخصوصا في الولايات المتحدة وفي إنجلترا؛ ففي الأولى كانت الأرض ممهدة لها لما كان يقوم به بعض رجال الفلسفة هناك من مجهود شبيه بمجهودها، تراه متمثلا في مجلة «فلسفة العلوم» مثلا؛ وفي الثانية كان «برتراند رسل» و«جورج مور» و«سوزان ستبنج» و«آير» وغيرهم قد اتجهوا بقوة نحو فلسفة تحليلية هي من فلسفة جماعة فيينا بمثابة الجذور التي منها نمت وترعرعت وأثمرت ثمارها.
2
لم تكن «جماعة فيينا» - كما رأينا - «مدرسة» فلسفية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة؛ أي بالمعنى الذي يجعل الأتباع ينصتون لرأي أستاذهم ثم يشرحونه ويعلقون عليه، بل كان أعضاؤها متساوي القامات ارتفاعا، متقاربي القدرات والقوى؛ ولذلك لم يكن هنالك ما يمنع أن يطرح السؤال أمامهم فإذا كل واحد منهم بجواب.
لكنهم على اختلافهم هذا كانت تربطهم رابطة التشابه في «حركة» فلسفية واحدة، هي التي أطلق عليها اسم «الوضعية المنطقية» أحيانا، واسم «التجريبية المنطقية » أحيانا أخرى، أو ما إلى هذين الاسمين من أسماء متشابهة الدلالة، وما تلك الرابطة التي ربطت هؤلاء الرجال في جماعة واحدة إلا ما بينهم من اتفاق على أن يعلمنوا الفلسفة؛ أي أن يجعلوا الفلسفة علمية الطابع، فيطبقوا عليها ما يطبق على العلم من دقة وصرامة؛ حتى لا يعود بساحتها موضع لكلمة غامضة المعنى كهذه الكلمات الكثيرة التي ألفتها الفلسفة في شتى عصورها السابقة، مثل «نفس» و«فكر» و«عقل» و«مطلق» و«عنصر» و«جوهر»، وما إلى ذلك من ألفاظ اختلفت معانيها وانبهمت، وحتى تتخلص الفلسفة من تقاليدها الموروثة التي كانت تورطها في ضرب من الكلام الخالي من المدلول إذا قيست الدلالة بمقياس التحقيق العلمي أو بمقياس التفاهم بين الناس في أمور حياتهم الجارية.
وجاء أنصار هذه الجماعة الفلسفية الجديدة فوجدوا أمامهم منطقا جديدا خلقته المدرسة التحليلية من أمثال «رسل» و«مور»، كما ساعدت على خلقه طائفة من علماء الرياضة الذين شغلتهم علاقة الرياضة بالمنطق، مثل «فريجه» و«بيانو»، وهؤلاء وأولئك جميعا قد استعانوا في تحليلاتهم المنطقية والرياضية بما كان قد صنعه فريق من رجال المنطق الرمزي الجديد، الذين أرادوا أن يستخدموا طرائق الرياضة في ضبط عبارات اللغة كلها مستعينين في ذلك بالرموز الرياضية نفسها التي نستخدمها في الجبر مثلا، فإذا هم أفلحوا فيما أرادوا استطعنا أن نحول كل نقاش إلى شيء قريب من عمليات الجبر أو الحساب.
أقول إن جماعة فيينا حين جاءت بثقافتها العلمية لتتناول الفلسفة من زاوية جديدة، تناولا يجعل من الفلسفة تحليلا لقضايا العلوم، ويزيل عنها ما كانت تنوء تحته من أثقال ميتافيزيقية، وجدت أمامها أداة منطقية مرهفة شحذها قبلهم فريق آخر ممن ذكرناهم. ولئن كان هذا الفريق قد أرهف تلك الأداة المنطقية ليستعين بها في تحليل الرياضة بصفة خاصة، فقد أرادت هذه الجماعة الجديدة - جماعة فيينا - أن تستخدمها في تحليل العلوم بصفة عامة؛ وإذن فهي جماعة تجعل قضايا العلوم المختلفة من رياضة وطبيعة وعلم نفس واجتماع، تجعل قضايا هذه العلوم كلها موضع تحليلها تحليلا منطقيا ، على أن تكون أداة التحليل هي ذلك المنطق الرمزي الجديد الذي بلغ أقصى ما بلغه من غاية على يدي برتراند رسل.
إننا إذ نقول إن جماعة فيينا قد جعلت من قضايا العلوم موضوعها الرئيسي تتناولها بالتحليل المنطقي، فلسنا نريد بذلك أن أبحاثها تتعرض لمضمون تلك القضايا العلمية بأي وجه من الوجوه؛ إذ المضمون التجريبي لقضايا العلوم هو من شأن العلماء كل في ميدان تخصصه، فليس من الخير أن يتحدث عن الطبيعة من ليس من علمائها، أو أن يتحدث عن الإنسان من ليس من علماء النفس، وهكذا، لكنك إذا اطرحت من القضية مضمونها التجريبي، بقيت لك صورتها المنطقية العارية، وفي هذه الصورة العارية تستطيع أن ترى من أجزاء إطارها الهيكلي ما تتعذر عليك رؤيته حين تكون تلك الصورة مكتسية مليئة بما كان فيها من مضمون وفحوي. هذه قاعدة أولية من قواعد الفلسفة الجديدة، وهي أن لا شأن للفيلسوف بأي شيء مما يتصل بأمور الواقع؛ لأن هذا هو شأن العلماء كل في موضوعه، وأن المشكلة المطروحة للبحث إذا ما مست موضوعا قوامه الخبرة والتجربة والمشاهدة، فليست هي مما يجوز أن يقع في اختصاص الفيلسوف؛ لأنها من صميم البحث العلمي بمعناه الخاص، وأما الفلسفة فمهمتها الوحيدة هي التوضيح والتجلية لما يقوله العلماء، وهي توضح ما توضحه وتجلي ما تجليه ببيان الهيكل المنطقي الذي يحمل مادة تلك القضايا؛ ليظهر ما بين الأجزاء من علاقات، فيبرز الكامن ويتعرى الخبيء؛ فما أكثر ما تكون فكرة متضمنة لفكرة، وقضية مستلزمة لأخرى، ولا يبدو ذلك إلا بالتحليل المنطقي؛ ثم ما أكثر ما تكون النظرية في العلوم مجرد صيغة اتفاقية اصطلح عليها العلماء اصطلاحا فنظنها صورة تصور عالم الواقع، أو أن يكون القانون العلمي قائما على الاحتمال ثم نحسبه يقينا، أما العلماء أنفسهم - من حيث هم علماء - فلا يخوضون في أمثال هذه المشكلات؛ لأنهم منصرفون إلى النتائج العملية دون الجذور المنطقية لما يزعمون من نظريات وقوانين، ولكن فريقا منهم أو من غيرهم قد تستوقفه أمثال هذه الأمور فيطيل النظر إليها، وعندئذ يكون فيلسوفا علميا بالمعنى الذي نريده للفلسفة.
وبعبارة أخرى، لئن كان العلم معنيا بالمعرفة من حيث مضمونها، فالفلسفة معنية بالمعرفة من حيث إطارها وهيكلها. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو أن هذا الإطار أو الهيكل قوامه ألفاظ لغوية تتركب على هذه الصورة أو تلك، فتكون هذه الفكرة أو تلك؛ وإذن فالجانب اللغوي من العبارة المعينة هو بمثابة الجسد، نفخت فيه فكرة ما - إن جاز لنا هذا التعبير - أما الفكرة المبثوثة في العبارة فهي من المعرفة مضمونها وفحواها، وأما الجسد اللغوي فيها فهو العمد التي يرتكز عليها ذلك المضمون أو الفحوى المقصود؛ فإن عني العلم - على اختلاف موضوعاته - بمضمون العبارة اللغوية المعينة، فمهمة الفلسفة أن تعنى بطريقة بنائها، لا من حيث القواعد الخاصة بلغة معينة دون سائر اللغات (فهذه مهمة علماء اللغة)، ولكن من حيث القواعد المنطقية العامة التي تنطبق على اللغات جميعا باعتبارها وسائل الإنسان للتعبير عن فكره، وهكذا؛ فلو تناولت قضية علمية معينة، وحللت عبارتها تحليلا يبرز خصائصها المنطقية، فأنت عندئذ لا تبحث في مادة ذلك العلم، بل تبحث في منطقه، والفلسفة عند جماعة فيينا ومن يدور مدارهم هي منطق العلوم بهذا المعنى.
3
مهمة الفلسفة عند أنصار الوضعية المنطقية هي تحليل العبارات والألفاظ من حيث بناؤها المنطقي العام، لا من حيث طرائق استخدامها في لغة بعينها، وتحليل العبارات والألفاظ على هذا النحو هو نفسه تحليل للفكر من حيث صورته لا من حيث مادته، لكن هذه اللغة التي نريد تحليلها لا تقوم عند الناس بعمل واحد؛ فهي آنا تستخدم أداة رمزية تشير إلى أشياء ووقائع في عالم الطبيعة الخارجي، وآنا آخر تكون وسيلة يخرج بها المتكلم وجدانا تضطرب به نفسه كما يفعل الشاعر مثلا. وحين تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تجعل اللغة موضوعها، فإنما تريد اللغة في مهمتها الأولى؛ مهمة الرمز إلى أشياء العالم الخارجي ووقائعه، مضافا إلى ذلك البحث في العبارة اللغوية من حيث تكوينها وبناؤها تكوينا وبناء يجعلانها وحدة واحدة على الرغم من احتوائها على أجزاء هي الكلمات وما يشبه الكلمات من رموز؛ فإن كانت العبارة اللغوية مما يستدعي أن ننظر خارجها ليتم معناها بالإشارة إلى مسماها ، كانت داخلة في مجال العلوم الطبيعية أو ما يجري مجراها، وأما إن كان الأمر يقتصر على العبارة نفسها، بحيث تكون طريقة تكوينها وحدها دالة على معناها وعلى صدقها، كانت داخلة في العلوم الرياضية أو ما يجري مجراها. بعبارة أخرى، تريد الفلسفة التحليلية المعاصرة أن تتناول اللغة من ناحية كونها أداة علمية، وليكن لها بعد ذلك من سائر النواحي ما شاء لها الناس.
محور البحث الفلسفي عند جماعة فيينا ومن جرى مجراهم هو اللغة دلالة وتركيبا؛ فإن كانت الدلالة هي هدف البحث، حصروا انتباههم في علاقة التطابق بين الصورة اللغوية من جهة والمصور العيني من جهة أخرى، كيف تكون؟ وتحديد هذه العلاقة بين الطرفين، اللغة من ناحية وعالم الأشياء من ناحية أخرى، هو ما يطلقون عليه اسم «السيمية»؛ أي «علم السمات».
14
غير أن الباحث في اللغة باعتبارها أداة تصويرية للواقع قد ينصرف أحيانا إلى داخل العبارات نفسها ليرى كيف ركبت أجزاؤها تركيبا جعل منها بناء واحدا، وعندئذ يطلقون على هذه المحاولة اسما آخر، هو «علم البناء اللفظي».
15
ولو أردت دراسة اللغة من حيث هي أداة «للتسمية» فلا بد لك من دراسة مفرداتها، وإن أردت أن تنظر إليها من حيث طرائق بنائها فلا بد لك من دراسة نحوها؛ إذ لا تكون لغة بغير مفردات يرتبط بعضها ببعض على «نحو» معين.
لكنك من ناحية أخرى تستطيع أن تعلو على مستوى اللغة المعينة الخاصة بطائفة معينة من الناس، بأن تطرح مفرداتها وتستغني عنها برموز جبرية، لعلك بذلك قادر على أن تنظر إلى تركيباتها الصورية الخالصة كيف تكون؛ وعندئذ لا يكون تحليلك للغة تحليلا لمادتها، بل تحليلا لصورتها، ودراسة هذه «الصورة» لذاتها هي ما تبتغيه الفلسفة المعاصرة.
كانت أولى المهام التي تصدت لها جماعة فيينا هي توضيح الدلالة اللغوية بتجلية جانبها السيمي، بحيث يكون المرجع الوحيد في تحديد معنى كلمة معينة هو الشيء الذي جاءت هذه الكلمة لتسميه. نعم، يجوز لك أن تعرف كلمة بكلمة غيرها تكون مفهومة للسامع، وأن تعرف هذه بغيرها، وهكذا دواليك ؛ فكلما زعم لك السامع لكلمة أنه لا يعلم مدلولها، كان عليك أن تذكر مرادفا لها من المفردات التي يعرف دلالاتها، لكنه إذا مضى معك إلى آخر هذا الشوط لم يكن لك بد في النهاية من أن تشير له إلى الشيء المسمى؛ فإن استحال أن تجد شيئا من هذا القبيل، علمت وعلم سامعك أن الكلمات التي كنتما تدوران فيها هي بغير معني، وحتى الكلمات التي هي من قبيل «حكمة» و«ديمقراطية» و«حرية» و«ذكاء» وما إليها من الألفاظ ذوات المعاني المجردة، لا مناص - إذا أردنا تحديدها تحديدا سيميا - من أن نبحث عن أنواع السلوك أو طرائق النشاط في عالم الواقع المحسوس، والتي نريد لها أن تكون مسميات لتلك الألفاظ، وبغير هذا الرجوع إلى عالم الواقع بما فيه من حوادث وأشياء ومناشط وظواهر، فلا يكون لألفاظنا معنى.
على أن الشيء الذي نريد الإشارة إليه باللغة قد لا يكون كائنا واحدا فردا، بحيث تكفي كلمة واحدة أو اسم واحد للدلالة عليه، بل قد يكون واقعة مركبة من طرفين أو أكثر تربطها علاقات معينة؛ فعندئذ تكون الأداة اللغوية في تصور هذه الواقعة جملة، أو إن شئت فقل «قضية» باصطلاح المنطق، وها هنا يكون حكمنا بالصواب أو بالخطأ على القضية مرتكزا على ما بين أجزائها من جهة وأجزاء الواقعة الخارجية من جهة أخرى من تقابل، بحيث يجوز أن نقول عن القضية حقا إنها «صورة» للواقعة المراد تصويرها؛ فإن وجدنا أنفسنا إزاء قضية لا نجد لها من وقائع العالم ما تطابقه حذفناها من جملة الكلام المفهوم؛ إذ لا وسيلة لفهم قضية إخبارية إلا بردها إلى الواقعة المادية التي جاءت القضية لتخبر عنها أو تصورها؛ ومن هنا أصرت جماعة فيينا، وما يزال أتباعهم يصرون، على أن يكون «معنى» قضية ما هو نفسه طريقة تحقيقها؛ أي هو نفسه إمكان الرجوع بها إلى ما جاءت تصوره من وقائع العالم الخارجي. وحسبنا من هذا التحقيق أن يكون ممكنا، فلا نشترط له أن يكون قائما بالفعل؛ لأن التحقيق الفعلي إنما يقرر «صدق» القضية، أما ما يقرر «معناها» فهو إمكان التحقيق؛ فلو تحدثت لك عن جبل لم تره ولا وسيلة أمامك تمكنك من رؤيته، وقلت لك عن هذا الجبل إنه مغطى بأشجار الصنوبر، فأنت تقول عن هذا القول إنه ذو «معنى»؛ لا لأنك قد ذهبت فعلا إلى الجبل المقصود ورأيت أشجار الصنوبر على سفوحه، بل لأنك تعرف ماذا عساك أن ترى لو ذهبت إليه؛ لأنك تعرف نوع المعطيات الحسية التي تأتيك من الشيء حين يكون جبلا، ونوع المعطيات الحسية التي تتلقاها حين يكون المرئي أشجارا من الصنوبر.
هكذا تكون الكلمة الواحدة التي هي اسم لشيء ما، والجملة التي هي مركب من مجموعة كلمات ويراد به أن يصف واقعة ما، بغير معنى إذا لم تكن هذه أو تلك مشيرة في نهاية الأمر إلى خبرات حسية؛ فلا الاسم ذو دلالة إذا لم يكن مسماه موجودا وتمكن الإشارة إليه، ولا القضية بذات دلالة إذا لم يكن تحقيقها ممكنا على أساس خبراتنا الحسية، إنه محال أن يكون للكلام الإخباري معنى مفهوم إذا لم ينصرف به قائله - لينصرف سامعه معه - إلى مجال الخبرات الحسية وحدها دون أن يجاوزها إلى ما يزعم أنه كائن فوقها أو تحتها أو أمامها أو وراءها؛ فما ليس يرتد إلى الخبرة الحسية يكون بغير معنى؛ لأن معنى «المعنى» هو هذا الارتداد إلى الخبرة الحسية. ماذا تريد إذا واجهتك عبارة فقلت عنها إنك «لا تفهم لها معنى»؟ تريد أنك تحاول أن تلتمس في خبراتك الحسية ما يكون وسيلة لتحقيق هذه العبارة إذا أردت تحقيقها، لكنك لا تجد في محصولك مثل هذه الخبرات. وماذا لو كانت العبارة الإخبارية المعروضة عليك بحكم اعتراف قائلها نفسه لا يراد بها أن تشير إلى شيء من عالم الخبرة إطلاقا؟ إنها عندئذ تكون خلوا من المعنى، لا بالنسبة إليك وحدك، بل بالنسبة لقائلها نفسه ولكل إنسان من البشر؛ فقد اصطنع البشر ألفاظ اللغة وعباراتها ليتحدثوا بها عن «خبراتهم»، وما ليس يرمز إلى شيء من هذه الخبرات، لا يكون من اللغة بمعناها المنطقي في كثير ولا قليل.
وها هنا يأتي حذف العبارات الميتافيزيقية على أيدي جماعة فيينا وأتباعهم؛ لأنه إذا كانت العبارة الميتافيزيقية هي ما يزعم لها قائلها أنها «تعني» شيئا خارج حدود الخبرة الحسية، فهي بحكم هذا الاعتراف نفسه عبارة بغير «معني»؛ فليس الأمر ها هنا مقتصرا على أن الإنسان عاجز بملكاته الراهنة أن يجاوز حدود الخبرة إلى ما وراءها بحيث يفهم معنى العبارة السابقة، بل إن منطق اللغة نفسه يحتم أن تكون مفردات اللغة وعباراتها منصرفة إلى مسميات في عالم الواقع الذي نحسه فعلا أو إمكانا. العبارة الميتافيزيقية بهذا المعنى لا يمكن تحقيقها، وهذا معناه أنها عبارات بغير معنى، وإذن فعباراتها «تشبه» اللغة وليست منها؛ هي كالعملة الزائفة التي ربما انخدع بها مخدوع من غير الصيارفة المحترفين، لكن انخداعه هذا لا يجعل لها قيمة في عالم الاقتصاد.
وتنشأ هذه العبارات الزائفة على إحدى صورتين؛ أولاهما أن يدس المتكلم في عبارته كلمة بغير معنى؛ أي كلمة لا تشير إلى شيء من خبرات الإنسان الحسية، ككلمة «جوهر» مثلا كما يستعملها الفلاسفة الميتافيزيقيون، حين يقولون مثلا إن لكل شيء «جوهرا» وراءه معطياته الحسية، فهذه البرتقالة لها جوهر غير ما لها من لون وطعم وشكل. والصورة الثانية التي قد تجيء عليها العبارة الزائفة، هي أن يستخدم المتكلم ألفاظا كلها من ذوات المعنى الخبري المفهوم، لكنه يرصها على نحو لا يرضاه منطق اللغة في استعمالها المألوف، كأن يقول مثلا «العقل عنصر».
ونعود فنقرر أن معنى الجملة الإخبارية لا يكون إلا في حدود ما يمكن تحقيقه بالخبرة الحسية؛ وإذن فكل جملة تقال - بحكم الفرض نفسه - عن شيء خارج الخبرة الحسية تكون جملة بغير معنى؛ وعلى ذلك فالفرق بين الجملة العلمية والجملة الميتافيزيقية هو هذا: الجملة العلمية تكون ذات معنى خبري ويمكن تحقيقها عن طريق ما تدل عليه من خبرات، وأما الجملة الميتافيزيقية فهي بغير معنى. إننا لا نرفض العبارات الميتافيزيقية على أساس أنها تقيم مشكلات لا قبل لنا بحلها ما دامت خارجة عن حدود خبراتنا، بل نرفضها لأنها عبارات بغير معنى؛ ذلك لأنه من التناقض أن يقال عن مشكلة إنها مستحيلة الحل بحكم طبيعتها؛ لأن ما هو مستحيل الحل على هذا الوجه لا يكون مشكلة حقيقية. نعم، قد تكون المشكلة القائمة مستحيلة الحل استحالة عملية؛ أي إنه قد لا يكون لدى الإنسان في ظروفه الراهنة وسائل حلها، لكن هذه الوسائل قد تتوافر له غدا أو بعد غد، فعندئذ تكون المشكلة حقيقية، أما تلك التي يقال عنها بحكم الفرض إنها مستحيلة الحل استحالة منطقية، فمشكلة زائفة؛ أي ليست مشكلة على الإطلاق، والمشاكل الميتافيزيقية هي من هذا القبيل.
الفرق بعيد بين أن تسأل: ماذا كان يصنع يونس وهو في جوف الحوت؟ وبين أن تسأل: ما صفات الشيء إذا كان خارج حدود المكان والزمان؟ فكلا هذين السؤالين مستحيل الجواب، لكن استحالة الجواب عن السؤال الأول استحالة عملية لا منطقية، واستحالة الجواب عن السؤال الثاني منطقية لا عملية فحسب؛ ففي حالة السؤال الأول يستطيع الإنسان أن يتصور ظروف يونس وهو في جوف الحوت؛ لأنها ظروف يمكن أن توصف كلها في حدود الخبرات البشرية، فالظلام وضيق التنفس وما شئت أن تقوله عن يونس وهو في سجنه ذاك كلها ممكنة التصور؛ لأنها مما يمكن وصفه وصفا يستعين بما نألفه نحن في ظروف حياتنا. نعم، إن التحقق من صدق ما نقوله عن يونس عندئذ أمر مستحيل، لكن الاستحالة هنا قائمة على عدم الوثائق التي نستند إليها في الحكم. وأما السؤال الثاني الذي نسأل به عن كائن فيما وراء المكان والزمان؛ أي كائن لا يكون له موضع ولا تكون له لحظة من زمن، فاستحالة الإجابة عنه منطقية لا عملية؛ فالذي ينقصنا هنا ليس هو الوثائق التي نستند إليها، بل تنقصنا وسائل التصور ذاتها؛ إذ ليس في خبراتنا أبدا ما يعيننا على تصور كائن لا يكون وجوده في نقطة من مكان أو في لحظة من زمن.
إننا نرفض المشكلات الميتافيزيقية لا لصعوبة حلها، بل لأنها مشكلات زائفة؛ فهي بمثابة أسئلة يستحيل منطقيا أن يكون لها جواب، وشرط السؤال بحكم منطق اللغة نفسها أن يكون جوابه ممكنا لو توافرت للإنسان الظروف التي تمكنه من الجواب، أما أن تسأل السؤال وتفرض في الوقت نفسه أن الإجابة عنه غير ممكنة، فلا يجوز عندئذ أن تعلل عدم الإجابة عنه بصعوبته أو بعجز الإنسان وقصور معرفته، بل حقيقة الموقف عندئذ هي أن السؤال لم يكن سؤالا حقيقيا وإن اتخذ الصياغة النحوية للسؤال.
ولكن جماعة فيينا إذ جعلوا إمكان التحقيق الخبري معيارا لمعنى الجملة الإخبارية كائنة ما كانت، لم يفتهم أن هذا المعيار لا ينطبق إلا على العبارات التي جاءت لتخبر عن العالم الخارجي بخبر ما، لكن ما كل العبارات تزعم لنفسها الإخبار؛ فالقضايا الرياضية وقضايا المنطق الصوري تخرج عن نطاق هذا المعيار لأنها لا تزعم أنها إخبارية؛ وإذن فهي في الحقيقة عبارات بغير «معنى» (ونحن هنا نحدد معنى «المعنى» بالخبرات الحسية التي تشير إليها الجملة)؛ ف «المعنى» بهذا التحديد لا يكون إلا لجملة تصويرية؛ أي لجملة يراد لها أن تصور واقعة من وقائع العالم الطبيعي، وليست قضايا الرياضة والمنطق من هذا القبيل، فما هي إذن؟ هي قواعد، كقواعد لعبة معينة مثلا، يتفق عليها اللاعبون؛ فالرياضة عبارة عن قواعد اتفاقية كيف نستخدم الرموز، والمنطق الصوري قواعد لكيفية استخراجنا حكما من حكم آخر؛ فكأنما المنطق والرياضة معا هما في الحقيقة أدوات في أيدي العلماء الآخرين، يستخدمونهما في ميادينهم العلمية، أما هما فليسا بالعلمين بمعنى «العلم» الذي يقرر للطبيعة قوانينها. وسنعود إلى تفصيل القول في هذه التفرقة في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
4
إننا نتطلب من العبارة، إذا أراد قائلها أن تكون دالة على وجود فعلي تجريبي لشيء أو أشياء في العالم الخارجي، أن تكون كل لفظة من ألفاظها إذا أريد أن يكون لها معنى موضوعي مشترك (ما عدا الألفاظ البنائية، مثل: «إذا» «ليس» «أو» وما إليها)، مشيرة إلى مضمون من الخبرة الحسية، بحيث يعرف السامع دلالة اللفظة في خبراته الماضية من ألوان وطعوم وأشكال ... إلخ؛ فإذا استخدم المتكلم كلمة «نهر » مثلا عرف السامع إلى أي نوع من الخبرات الحسية يشير المتكلم بكلمته تلك.
لكن مشكلة تنشأ ها هنا، وهي أنه إذا كان التفاهم بين المتكلم والسامع لا يتم إلا إذا كان الكلام مشيرا إلى خبرات حسية، فهل هذه الخبرات الحسية نفسها مشتركة بين المتكلم والسامع حتى يتسنى لنا أن نقول إنها أساس صالح للتفاهم بينهما؟ هبني قد أشرت لمن أتحدث معه إلى بقعة لونية قائلا له «هذا لون أصفر»، فهل عندي ما يضمن لي أن انطباع اللون على عين السامع هو نفسه «الأصفر» كما ينطبع على عيني؟ أليست الخبرة الحسية المباشرة خاصة بصاحبها؟ وإذا كان من الجائز أن يكون «أصفري» غير «أصفره»، فعلى أي أساس - إذن - يجوز لي الزعم بأنني إذا قلت «أصفر» فقد قلت شيئا مشتركا بيني وبينه؟ فليس من الناس من لا يعلم أن أمثال هذه الانطباعات الحسية المباشرة قد تختلف عند الفرد الواحد في أوقاته المختلفة، فما يجد له طعما معينا وهو في صحته يجد له طعما آخر وهو مريض، وهكذا.
ولم تغب هذه المشكلة عن جماعة فيينا حين أرادت أن تحدد معاني الألفاظ بما تشير إليه من معطيات الحس؛ فقد أدرك أعضاؤها تمام الإدراك أن المعطى الحسي كيفي؛ أي إنه لا يدرك إلا بوقعه على حاسة من يدركه، وهذا الوقع المعين على حاسة فرد معين أمر نفسي خاص به، شأنه شأن المشاعر الخاصة التي يحسها ولا أحسها معه، وإذا كانت معطيات الحس عندك ليست هي نفسها معطيات الحس عندي، فقد بطل الأساس المشترك الذي نزعمه شرطا للتفاهم الصحيح؛ لأنه يستحيل عليك أن تنقل إلي بكلمات أو عبارات ما هو مصبوب في حواسك من انطباعات؛ فطعم الطعام كما يقع على لسانك - مثلا - لا يمكن نقله إلى لساني لمجرد وصفك إياه بكلمة أو عبارة، وهل في مستطاع المبصر أن يصف للأعمي كيف يكون اللون عند العين ، أو هل يستطيع من اكتوى بالنار أن يصف لمن لم تصادفه هذه الخبرة كيف تكون لسعتها على الجلد؟ الحق أن خبرة الحواس كلها كالشوق والصبابة اللذين قال عنهما الشاعر العربي إنهما مستحيلان على الإدراك إلا لمن كابد أو عانى، فلا يعرف الشوق إلا من يكابده، ولا الصبابة إلا من يعانيها.
لذلك فرقت جماعة فيينا بين إطار اللغة ومضمونها الحسي، والإطار هو العلاقات الكائنة بين المدركات الحسية؛ فلئن كان المضمون الحسي خاصا بصاحبه، فالعلاقات التي تصله بغيره من المعطيات عامة مشتركة؛ فلو حددت لسامعي اللون الأخضر بأنه اللون الذي يراه في ألوان الطيف بين الأزرق والأصفر، تحددت بذلك علاقته عنده وعندي على السواء؛ لأننا إذا اختلفنا في كيفية انطباع الأخضر على شبكية العين، فلن نختلف على تحديد هذه العلاقة، علاقة «بين»، حتى لو كان عند سامعي عمي لوني بحيث لا يستطيع رؤية الأخضر كما أراه، فلن يكون هنالك اختلاف في التفاهم، إذا عرف أنني أعني بالأخضر ما يقع بين الأزرق والأصفر في ألوان الطيف.
هكذا نحدد الكيفية الحسية للفظة ما بموقعها بالنسبة إلى غيرها من الكيفيات، فنتغلب على مشكلة «الخصوصية» التي تجعل المعطى الحسي أمرا خاصا بصاحبه، محالا نقله إلى سواه عن طريق لفظة يستعملها اسما له، ولكننا حين نحدد معنى الكيفية الحسية بوضعها بالنسبة إلى غيرها، فنحن بمثابة من يجعل وسيلة التفاهم هي «إطار» المدركات لا «مضمونها»؛ وعلى ذلك فليس المهم عندنا أن يقف اثنان إزاء لون معين - كالأخضر - وأن يشتركا في مضمون حسي واحد؛ لأن مثل هذا الاشتراك ضرب من المحال، ولكن حسبنا أن يشترك الاثنان في رد فعل معين، كأن يستعمل الاثنان لفظة واحدة بعينها في الإشارة إلى ذلك اللون لنقول إن التفاهم المرجو قد تم بينهما، على الرغم مما قد يختلفان فيه بعد ذلك في وقع اللون على حواسهما الخاصة. بعبارة أخرى، حسبنا لكي نطمئن إلى أن معنى اللفظة أو العبارة مشترك بين المتكلم والسامع أن يكون إطار العلاقات بين المدركات واحدا عندهما معا، وإطار العلاقات - كما بينا - مما يمكن الاتفاق عليه؛ لأنه عام لا خاص.
ولما كانت العلوم الطبيعية في تحديدها لألفاظها، وفي صياغتها لقوانينها، إنما تركن إلى العلاقات؛ أي إلى «الإطار» دون المضمونات الحسية عند الأفراد المدركين، كان التفاهم في مجالها أمرا ميسورا؛ فالحرارة - مثلا - عند العالم الطبيعي ليست هي لسعتها على الجلد، بل هي عمود من الزئبق يرتفع أو ينخفض، وليس اللون عنده هو ما تراه العين، بل هو طول معين؛ أي بعد بين نقطتين على مسار الضوء، كلا ولا الجاذبية عنده هي «شعور» الإنسان حين يسقط من النافذة إلى الأرض، بل هي حركة تقاس سرعتها، وهكذا؛ ولا كذلك العلوم، أو إن شئت دقة في التسمية فقل «أشباه العلوم» التي تجعل مدارها المضمونات الشعورية الإحساسية عند الناس، كالأخلاق حين تتحدث عن «صوت الضمير»، وعلم الجمال حين يتحدث عن النشوة الجمالية، وهكذا.
5
كان من أبرز معالم الطريق التي سارت عليها جماعة فيينا في تحليلها للغة، ذلك الجهد الذي اضطلع به «رودلف كارناب»
16
إزاء التركيب اللغوي واستخراج ما يكمن فيه من مبادئ منطقية، ولعل كارناب هو أول من تصدى لمثل هذا البحث بكتابه «الأساس المنطقي في التركيبات اللغوية»
17
الذي أخرجه سنة 1934م، وذلك بعد أن سبقه وتجنشتين إلى التنبيه بأن قواعد المنطق إن هي إذا ما حللناها إلا قواعد اللغة. وإن هذا التوازي بين قواعد المنطق من ناحية وقواعد اللغة من ناحية أخرى، ليتبين واضحا إذا ما صورنا كلا منهما في نسق رمزي صوري قوامه رموز عارية من مضمونات المعاني؛ فعندئذ نرى أن النسقين متماثلان. ولقد حاول المناطقة منذ أرسطو قديما حتى برتراند رسل حديثا أن يقيموا للمنطق نسقه الرمزي الصوري، وبقي أن يتصدى الباحثون لمثل هذا العمل نفسه في اللغة، فيحاول تفريغ العبارات اللغوية من مضمونها لتبقى هياكلها الفارغة أو إطاراتها الخالية؛ فجملة مثل «الكتاب على المنضدة» تصبح «س على ص»، بل قد نتخلص من كلمة «على» الدالة على العلاقة بين الطرفين، فيكون الرمز هو ع
2 (س، ص)، ومعناها أن شيئين يرتبطان بعلاقة ذات طرفين . وهكذا نقول إن المنطق قد وجد على مر العصور من يحاول بيان قواعده خلال نسق رمزي صوري، وبقي أن تجد اللغة من يحاول ذلك فيها لنتبين صدق هذه الدعوى التي كان وتجنشتين أول من ذهب إليها، وهي أن صورة المنطق وصورة اللغة متشابهتان، أو إن شئت فقل إن الفكر واللغة شيء واحد؛ فكان «كارناب» هو أول من استجاب لهذا التحدي.
لم يرد «كارناب» أن يدير بحثه على التركيبات الصورية للغة بعينها، كالألمانية مثلا أو الإنجليزية؛ لأن هذه اللغات المستعملة فعلا إنما يتميز بعضها من بعض بمميزات قد تستر عن أعيننا الأسس المنطقية التي تكون في اللغة كائنة ما كانت؛ فكما أن المنطق الصوري حين يستخرج قواعد الاستدلال السليم لا يقصر اهتمامه على مشكلة بعينها في هذا العلم أو ذاك، بل يستخرج القواعد المنطقية التي تصدق مهما تكن المشكلة الفكرية المطروحة أمام الفكر، فكذلك - في رأي كارناب - لا بد لنا في مجال اللغة من مجاوزة حدود اللغات القائمة فعلا في هذا البلد أو ذاك - ويسميها باللغات الوصفية - لنحصر انتباهنا في البناء الصوري المنطقي للغة باعتبارها لغة على الإطلاق.
في هذه اللغة الصورية الرمزية التي يريد «كارناب» أن يخلقها من عنده خلقا ليتبين خلالها طبيعة اللغة، كما يضع العالم نموذجا من مادة في مخبار ليتبين طبيعتها، لا يشير إلى الأشياء بكلمات، بل يشير إليها بأرقام - كما نفعل في دنيانا العملية حين نسمي المنازل أو السيارات أو الجنود بأرقام - وبهذا يضمن - من الوجهة النظرية البحتة - أن يكون لكل شيء واحد من أشياء الوجود رمز واحد، وألا يشير الرمز الواحد إلا إلى شيء واحد - لاحظ هنا الفرق بين هذه اللغة الصورية وبين لغتنا كما نستخدمها في الحياة اليومية؛ فنحن في لغتنا نجيز - مثلا - أن نستخدم كلمة واحدة مثل «إنسان» أو «طائر» لندل بها على ملايين الأشياء في العالم؛ ومن ثم ننصب لأنفسنا الفخاخ، فنزل في الخطأ من حيث لا ندري.
وكما نضع لكل شيء رمزا رقميا يدل عليه وحده ولا يدل على سواه، فكذلك نرمز برموز كهذه لشتى الصفات وشتى العلاقات التي تصف الأشياء أو تصل بينها؛ وبهذا الجهاز الرمزي الصوري نستطيع أن نصف أي واقعة من وقائع العالم؛ لأن الواقعة كائنة ما كانت لا تخرج عن كونها مركبة من أشياء بما لها من صفات وما بينها من علاقات.
وبعد أن يفرغ كارناب من وضع الرموز التي تعيننا على تكوين الصيغة المصورة للواقعة المراد تصويرها، يأخذ في وضع قواعد التحويل؛ أي قواعد اشتقاق صيغة من صيغة أخرى، بادئا هذه القواعد بطائفة من البديهيات التي هي عبارة عن تحديد لاستعمال الرموز المنطقية؛ ليشتق بعدئذ من البديهيات ما يترتب عليها من نتائج. وما دمنا قد وضعنا قواعد تكوين الجمل ثم قواعد اشتقاق جملة من جملة، فقد وضعنا هيكل اللغة وإطارها، مهما تكن هذه اللغة؛ فاللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الصينية وما شئت من لغات الأرض كلها، واقعة أو ممكنة، إن هي إلا مجموعة من رموز وضعت لها قواعد لتكوين الجمل ثم قواعد لاشتقاق جملة من جملة.
إنه إذا كان الفكر هو اللغة نفسها، بحيث يجيء تحليل اللغة تحليلا للفكر في الوقت نفسه، كان هذا التحليل المنطقي للغة ركيزة هامة وعملا ذا خطر وشأن في الفلسفة الوضعية المنطقية التي تجعل مدارها في قبول الفكرة المعينة أو رفضها على تحليل الجملة المجسدة لتلك الفكرة، والتحليل وحده كاف لبيان منزلة هذه الجملة من حيث القبول أو الرفض؛ ذلك لأنه ما دام الناس المستخدمون للغة ما قد اتفقوا على «بديهياتها» أولا؛ أي إنهم قد اتفقوا على تحديد معنى رموزها المنطقية، مثل «ليس» و«أو» و«كل» و«إذا» وما إليها، ثم اتفقوا على طريقة تكوين الجمل كيف تكون، كما اتفقوا على قواعد اشتقاق جملة من جملة، بحيث إذا قلت - مثلا - «محمد وعلي يتسابقان»، كان هذا مساويا لقولي «علي ومحمد يتسابقان»، ومساويا لقولي «السباق قائم بين محمد وعلي»، وهكذا، أقول إنه ما دام أصحاب اللغة الواحدة قد اتفقوا على هذا كله، فقد بات ميسورا لمن يحلل كلام المتكلم في موضوع ما ، أن يقول إذا كان هذا الكلام مما يمكن أن يحمل للسامع معنى أو أنه ليس كذلك؛ قياسا على ما قد تواضع عليه الناس من قواعد في استعمال لغتهم.
إنه ليس هناك شيء اسمه «اللغة» بصفة عامة بحيث لا تكون لغة سواها، بل هنالك في شعوب الأرض لغات تختلف في رموزها وفي طرائق تركيبها، وليس يتوقف صواب الاستعمال أو خطؤه في لغة ما إلا على ما قد اشترطه أصحاب تلك اللغة بعضهم على بعض من حيث طرائق استخدام رموزها تكوينا وتحويلا. ولما كان هذا الاشتراط أمرا فيه حرية اختيار وليس هو ضربة لازب لا محيص للناس عن الأخذ بها، كان لأصحاب اللغة كل الحق في أن يشترطوا للغتهم ما شاءوا من رموز، وما شاءوا لهذه الرموز من قواعد في حالتي تكوينها جملا وتحويلها جملة إلى جملة تساويها أو لا تساويها. على أنه إذا ما تم الاتفاق وجرى العرف على اتفاق معين في كيفية بناء الجمل وتحويلها في لغة ما، كان على أصحابها بعدئذ أن يلتزموا ما قد تم الاتفاق عليه وجرى العرف به.
لهذا أمكن أن تقوم في العالم لغات عدة، لكل منها رموزها وقواعد تكوينها وتحويلها، والصواب والخطأ في التركيبة اللغوية المعينة لا يكون الحكم فيهما إلا بالرجوع إلى قواعد اللغة نفسها، وليس لأحد أن يسأل لماذا كانت التركيبة اللغوية الفلانية جائزة في هذه اللغة وغير جائزة في تلك؛ لأن الأمر مرهون بالاتفاق الصرف بين أهل اللغة على ما يكون خطأ أو صوابا في لغتهم. وإن اشتركت اللغات كلها في أصول واحدة، فإنما تشترك في الأصول المنطقية وحدها، كأن تكون اللغة مجموعة من رموز، وأن يكون في هذه الرموز ثوابت ومتغيرات، وأن يكون للرموز الثوابت معان محددة منذ البداية؛ ومن ثم تكون هي بمثابة البديهيات في بناء اللغة، وأن يكون للجمل قواعد معينة في تكوينها وقواعد معينة أخرى في تحويلها إلى ما يساويها أو ما يناقضها وهكذا.
وكان من أهم ما انتهى إليه كارناب في تحليله للغة واستخراج قوائمها المنطقية ، تفرقته الواضحة بين الجملة حين يكون تكوينها مطابقا لواقعة ما من وقائع العالم الخارجي مطابقة مباشرة، والجملة حين لا تكون كذلك على الرغم من أنها قد تبدو وكأنها تشير إلى واقعة من وقائع العالم؛ فلئن كانت الجملة من النوع الأول جملة لغوية بمعناها الصحيح، فالجملة من النوع الثاني هي في الحقيقة «شبه جملة»؛ لأنها تشبه الجملة الحقيقية في ترتيب ألفاظها، لكنها لا تؤدي ما تؤديه. ولنا أن نسمي الجملة من النوع الأول بالجملة الشيئية؛ لأنها تشير إلى شيء معين في العالم إشارة مباشرة، كأن نقول - مثلا - «هذا الكتاب عربي»، وأن نسمي الجملة من النوع الثاني بالجملة الشارحة؛ لأنها في حقيقتها - كما سنبين بعد - تتحدث عن كلمات أو عن جملة أخرى، ولا تتحدث عن شيء في العالم الخارجي حديثا مباشرا، كأن نقول - مثلا - إن «الكتاب» كلمة مركبة من ستة أحرف، أو إنها كلمة تحتوي على كاف واحدة وتاء واحدة وباء واحدة.
إنني لأرجو من القارئ أن يتمهل هنا في قراءته ليستوعب هذه التفرقة استيعابا يمكنه من إدراكها إدراكا دقيقا؛ وذلك لما تنطوي عليه من نتائج خطيرة؛ فليلاحظ جيدا أن المسمى واسمه ليسا شيئا واحدا، بل هما شيئان مختلفان أبعد اختلاف، وكل ما في الأمر أننا نتخذ من أحدهما رمزا ينوب عن الآخر في التفاهم؛ فليس جبل المقطم الذي هو بروز من الصخر في موقع معين من الأرض، هو نفسه «جبل المقطم» الذي هو كلمتان مكتوبتان بالمداد على الورق. جبل المقطم الشيء ليس هو نفسه «جبل المقطم» اللفظ؛ الأول صخر نمشي عليه ونبني عليه المنازل، والثاني قطرة من المداد سكبناها على صورة متفق عليها؛ فلو قلت «جبل المقطم صخوره رملية» كنت تقصد «جبل المقطم الشيء»، أما إذا قلت «جبل المقطم كلمتان عربيتان» كنت تقصد «جبل المقطم الاسم».
وكارثة الكوارث التي تصيب الإنسان في تفكيره فتضله وتفسده، هي أن يجري حديثه على غرار النوع الثاني فيحسبه جاريا على غرار النوع الأول. كارثة الكوارث في تفكير الإنسان هي أن يجيء حديثه في حقيقته عن «كلمة» فيحسبه قد جاء عن «الشيء» الذي تسميه تلك الكلمة؛ وذلك لأنه كثيرا ما تكون الكلمة التي هي مدار الحديث اسما بغير مسمى في عالم الواقع، فيظن المتحدث أنه ما دام قد تحدث عن الاسم فقد تحدث عن المسمى، مع أنه لا مسمى هناك، ولو كان مثل هذا الخطأ قليل الوقوع لهان أمره، لكن ما ظنك وهو خطأ يقع كلما استخدم الإنسان في حديثه كلمة كلية عامة؟ فأنت مثلا إذا قلت عبارة كهذه «المصري يتصف بالصبر»، فقد تظن أنك إنما تتحدث بها عن «شيء» في عالم الواقع، مع أن «المصري» كلمة ليس لها في ذاتها مدلول فيما عدا الأفراد الذين هم مصريون والذين لكل منهم اسم خاص به؛ وإذن فحقيقة الأمر هنا هي أنك تقول إن «المصري» كلمة تطلق على فلان وفلان وفلان ممن يتصفون بالصبر. وإذا أردت أن تدرك الفرق بين الحالتين، فقل عبارة أخرى كهذه «الغول حاد الأضراس»، ثم سل نفسك: أأتحدث بهذه العبارة عن «شيء» أم أتحدث عن «كلمة»؟ واضح أنك هنا تتحدث عن كلمة «غول» ولا تتحدث عن شيء مجسد من أشياء الواقع، فكأنما تقول: الغول كلمة نطلقها على كائن يكون حاد الأضراس. أما أن تكون هذه الكلمة اسما لمسمى أو لا تكون فذلك أمر آخر. وهكذا قل في كل جملة موضوعها اسم كلي عام، فهي جملة بحكم تكوينها النحوي لا بحكم تكوينها المنطقي؛ لأنها إنما تتحدث عن «كلمة» لا عن «شيء»، تتحدث عن «اسم» لا عن «مسمى»، وقد يكون للكلمة شيء يقابلها وقد لا يكون.
وأولى مهام الفلسفة عند كارناب هي هذا التحليل الذي يبين إن كانت الجملة المعينة تحمل إشارة مباشرة إلى العالم الخارجي؛ وبهذا يجوز لها أن تكون جزءا من مادة علم معين، أم إنها بدل أن تشير إلى الأشياء نفسها تتحدث عن مدركات أو قضايا أو نظريات؛ أي تتحدث لا عن أشياء العالم الخارجي، بل عن الكلمات والعبارات التي نتحدث بها عن تلك الأشياء. ومثل هذا التحليل كفيل أن يوضح لنا متى تكون الجملة ذات معنى (إما ذات معنى مباشر بإشارتها إلى أشياء العالم الواقع، أو ذات معنى غير مباشر بتحدثها عن عبارة أو لفظة تشير إلى أشياء العالم الواقع) ومتى لا تكون.
وإذا جعلنا من الفلسفة تحليلا كهذا، انتهى بنا الأمر إلى تحديد لمهمة الفلسفة تحديدا يجعل منها علما؛ لا لأنها تعنى بالمدركات العلمية والقضايا العلمية فحسب، بل لأنها عندئذ ستنهج منهج العلم في الدقة والتحديد. نعم إنها لن تشغل نفسها قط بما يشغل به العلم نفسه من مشكلات تتصل بأمور الواقع؛ لأن هذه الأمور مقسمة بين العلوم الخاصة، كل منها يتناولها من إحدى نواحيها، لكنها كذلك لن تخلق لنفسها عالما آخر من «حقائق واقعة» تتصوره قائما إلى جانب العالم الواقعي المادي الذي نعيش فيه حياتنا اليومية، أقول إنها لن تخلق لنفسها عالما خاصا بها، تتحدث عنه وتجعل منه موضوعا خاصا تسميه «ميتافيزيقا» تصول فيه وتجول ولا تسمح للعلماء أن يناقشوها فيه الحساب؛ من أين جاءت بالشواهد الدالة على صدق ما تدعيه؟ كلا، إن الفلسفة بالمعنى المحدد الذي نريده لها لا تورط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالات أخرى غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمتها تحليلا منطقيا للمدركات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم؛ أي تصبح منطقا للعلم أو تحليلا له، وهدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة؛ فليس هناك من عالم إلا عالم الواقع، وليس لأحد أن يتحدث عن العالم حديثا موضوعيا إلا رجال العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتحلل وتوضح. للعلم أن يقرر، وللفلسفة أن توضح له ما يقرره، والخير كل الخير أن يجيء التوضيح نفسه على أيدي العلماء أنفسهم؛ لأنهم مشربون بمواد علومهم، لكنهم إذا ما فعلوا فلن يكونوا عندئذ علماء، بل يصبحون فلاسفة لعلومهم التي يتناولونها بالتوضيح والتحليل.
الفصل الرابع
الكلمات ومدلولاتها
1
الكلمات التي نتحدث عنها الآن هي رموز اللغة أو ما يقوم مقامها، حين لا يقصد بها أبدا أن تشير فيما تشير إليه إلى شيء مما يختلط بالجانب الوجداني من حياة الإنسان، فهكذا يراد للكلمات أن تخلو من شحنتها العاطفية الشعورية كلها حين يراد لها أن تكون أداة في نقل المعرفة العلمية، أو المعرفة الإخبارية التجريبية بمعنى أوسع، وفي هذا المجال العلمي وحده نسوق الآن الحديث.
فإذا نظرنا إلى الكلمات هذه النظرة التي نريدها، لم تكن إلا أحداثا كأي أحداث أخرى مما يقع في عالم الحس؛ فالكلمة المسموعة هي صوت كأي صوت آخر، والكلمة المكتوبة هي قطرة من مداد أو من غير المداد من المواد التي قد تكون الكلمة مكتوبة بها؛ الكلمة - مسموعة أو مرئية - حدث يحدث في الطبيعة كأي حدث آخر، وتكون وسيلة إدراكها هي الحواس التي هي نفسها وسيلة إدراك سائر أحداث الطبيعة، فليس للكلمة المعينة «سر» إلا ما يضيفه إليها الإنسان باتفاقه واختياره.
على أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة» إلا على سبيل التجوز؛ فكلمة «قلم» - مثلا - وهي منطوقة إنما تخرج من فم المتكلم موجات من هواء، وعندئذ تكون كأي موجات هوائية أخرى، كائنا فيزيقيا تقاس طول موجاته ويوزن الهواء المكون له، ويحلل إلى عناصره الذي هو مركب منها وهكذا، ثم تطرق الكلمة أذن سامعها، وعندئذ تتحول إلى كائن آخر ذي طبيعة أخرى؛ لأنها عندئذ ستكون اهتزازا - لا في الهواء الخارجي - بل في أسلاك العصب وذرات المخ، إنها عندئذ فقط تكون «صوتا»؛ لأن الهواء الخارجي لا يكون له صوت حتى ينتقل إلى حركة في الأعصاب وخلايا المخ؛ فالكلمة باعتبارها صوتا مسموعا هي في الحقيقة حدث كغيره من الأحداث التي تطرأ على أجهزة الجسم؛ وبالتالي فهي إن اتخذت موضوعا للبحث كانت من شأن علماء وظائف الأعضاء. والمهم هنا هو أن نشير إلى الفارق الكبير من حيث طبيعة التكوين بين الكلمة وهي «منطوقة» وبينها وهي «مسموعة»؛ فالحوادث الفيزيقية التي تحدث في العالم الطبيعي حين ينطق الناطق بكلمة «قلم»، ليست هي بذاتها الحوادث الفسيولوجية التي تحدث في الجهاز العصبي حين يسمع السامع صوت هذه الكلمة.
أما إذا كتبت على الورق كلمة «قلم» كنت في مجال آخر مختلف عن المجالين السابقين كل الاختلاف؛ لأنك عندئذ تكون بصدد علامة من المداد، وليست ذرات المداد المتجمعة على الورق في كلمة «قلم» شبيهة أدنى شبه باهتزاز الهواء في حالة نطق الكلمة أو بحركة الأعصاب في حالة سمعها؛ وإذن فاللفظة «المكتوبة» نوع من الحوادث الفيزيقية يقع في عالم الطبيعة كأشباهه من الحوادث التي تنتج عن تجمعات للذرات المادية في هذا الجسم أو ذاك؛ فإذا وقعت عليها عين الرائي بحيث أصبحت «مقروءة» نشأت مجموعة أخرى من الحوادث في الجهاز العصبي وذرات المخ، بادئة هذه المرة من العين؛ فللكلمة «الواحدة» - إذن - أربع صور، وكل صورة منها مؤلفة من مجموعة معينة من حوادث الطبيعة أو الجهاز العصبي. على أن هذه المجموعات الأربع تختلف إحداها عن الأخرى اختلافا بعيدا، بحيث لا يمكن أن يقال عن إحداها إنها هي نفسها الأخرى إلا على سبيل التجوز وبمقتضى اتفاق خاص بين من يستخدمون هذه الرموز في التفاهم، وإلا فهل تحتم البداهة أن يكون الهواء المتموج عند نطق كلمة «قلم» مقابلا لقطرة المداد التي أخط بها على الورق كلمة «قلم» بهذه الصورة المعينة؟ ولكن التلازم الشديد المطرد بين «نطق» الكلمة و«كتابتها» أو بين «سمعها» و«رؤيتها»، قمين أن يخدعنا عن حقيقة الموقف بحيث نحسب أنها شيء واحد بعينه لا يتغير؛ فهو هو الكلمة الفلانية المعينة سواء جاءت نطقا أو ترقيما على الورق، سمعا بالأذن أو رؤية بالعين.
قارن بين الكلمة «الواحدة» في حالتي النطق بها وكتابتها، تجدها في الحالة الأولى مجموعة من حوادث (اهتزازات في الهواء) تتعاقب على فترة معينة من الزمن، بحيث إذا حدث آخر جزء من الكلمة كان أولها حدثا ماضيا، وأما الكلمة في حالة الكتابة فهي مجموعة من ذرات مادية تجمعت في حيز معين من المكان؛ فلئن كان «الزمن» جانبا هاما في الكلمة المنطوقة ف «المكان» جانب هام في الكلمة المكتوبة؛ الكلمة المنطوقة لا تكون أبدا قائمة معا في لحظة واحدة، وأما الكلمة المكتوبة فتكون كلها قائمة معا في حيز مكاني واحد. العلاقة الكائنة بين أجزاء الكلمة المنطوقة هي علاقتا «قبل» و«بعد»، فتقول عن حدث من حوادثها إنه يقع في «الزمن» قبل حدث آخر أو بعده، وأما في الكلمة المكتوبة فالعلاقات بين أجزائها مكانية، فتقول عن جزء إنه «على يمين» جزء آخر أو «على يساره» أو «فوقه» أو «تحته». أرأيت إذن أن الكلمة المنطوقة كائن طبيعي يختلف عن الكلمة المكتوبة التي هي أيضا كائن طبيعي؟
وأمضي في المقارنة بينهما ليزداد الفرق وضوحا إذ يزداد اتساعا؛ فقد كانت الكلمة المكتوبة (إلى ما قبل التسجيل الصوتي) أبقى وأدوم وأوسع انتشارا من الكلمة المنطوقة؛ لأن الأولى حالة في حيز من مكان على قطعة من الورق مثلا، فستبقى ما بقيت هذه القطعة من الورق، ثم هي ستتسع نطاقا كلما انتقلت قطعة الورق من مكان إلى مكان، وأما الكلمة المنطوقة فمحدودة الزمن لأنها تزول بزوال فترة نطقها، ومحدودة الانتشار لأنها مقيدة بقدرة الأذن على السمع، ولكن جاء التسجيل الصوتي - وهو في الحقيقة ضرب من الكتابة بوجه من وجوهها؛ لأنه تخطيط على شريط - ففقدت الكلمة المكتوبة شيئا من أهميتها بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة؛ إذ يمكن للكلمة المنطوقة الآن أن تسمع في أرجاء العالم كله دفعة واحدة، وأن تبقى مسجلة على شريطها أمدا طويلا، ومن يدري؟ فلعل يوما يجيء، حيث تسجل الوثائق والمعاهدات على أشرطة وأسطوانات، وتكون التوقيعات فيها صوتية، فينطق كل متعاقد باسمه، وربما جاء وقت قريب يسجل فيه المؤلف أفكاره لا بالكتابة على الورق، بل بالنطق أمام جهاز التسجيل الصوتي. إننا نقول هذا كله للتفرقة بين الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة، ويمكن أن نقول شيئا كهذا للتفرقة بين مجموعة الحوادث التي تكون الكلمة وهي مسموعة وبينها وهي مقروءة، نقول هذا كله لننتهي بالقارئ إلى التفرقة الواضحة بين الكلمة «الواحدة» في صورها المختلفة ليعلم أنها ليست في الحقيقة «واحدة».
1
على أن هذه الوحدانية المزعومة للكلمة «الواحدة» تمحي حتى في كل صورة على حدة من الصور الأربع التي ذكرناها؛ أعني أننا لو أمعنا النظر في الكلمة وهي منطوقة فحسب، وجدناها أبعد ما تكون عن «الكلمة الواحدة». وخذ مرة أخرى كلمة «قلم» مثلا؛ فأولا ليست هي حدثا واحدا بسيطا يعز على التحليل الطبيعي إلى ما هو أبسط منه، بل النطق بهذه الكلمة مرة واحدة هو في الحقيقة مجموعة من حركات يهتز بها اللسان والحلق والأحبال الصوتية، هي مجموعة من حركات متتابعة كما تكون القفزة - مثلا - مجموعة من حركات، وكما يكون المشي مجموعة من حركات، والأكل مجموعة من حركات، وهكذا.
هذا، والكلمة منطوقة مرة واحدة، ولكن الإنسان الواحد ينطق بها مرات عدة، دع عنك الحالات التي لا تحصى حين ينطق بها سائر الأفراد، أتقول مثلا إن هنالك في عالم الحوادث قفزة واحدة أو مشية واحدة أو أكلة واحدة، ما دامت مجموعات الحوادث التي تتكون منها كل قفزة أو كل مشية أو كل أكلة شبيهة بمجموعات الحوادث التي تتكون منها سائر القفزات والمشيات والأكلات؟ إنني أجمع حالات القفز كلها في كلمة واحدة على سبيل التجوز والتيسير، وإلا فكل حالة فردية من حالات القفز مجموعة من الحركات قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلا أو كثيرا عن حالات القفز الأخرى؛ قل هذا في كل فعل، بما في ذلك الأفعال التي هي حالات النطق بكلمة معينة، كالنطق بكلمة «قلم»، فها هنا أيضا تكون كل حالة من حالات النطق مجموعة حركية قائمة بذاتها، قد تختلف، بل لا بد أن تختلف قليلا أو كثيرا عن حالات النطق بها في لحظات أخرى؛ فنحن إذ نقول إن الكلمة المنطوقة «قلم» كلمة «واحدة»، فإنما نعني في الحقيقة أنها أسرة كبيرة من أفراد متشابهة؛ فوحدانيتها أمر اتفاقي نراعي فيه تيسير التفاهم والتعامل، ولا نراعي فيه دقة التحليل.
وكما أن اللفظة الواحدة «قلم» هي في الحقيقة ملايين الحالات من اللفظ المنطوق ليست هي بالبداهة متطابقة تطابقا ذاتيا، بل هي متشابهة تشابها أجاز لنا أن نقول عنها إنها لفظة «واحدة»، فكذلك قل في الحالات الثلاثة الأخرى للكلمة، أعني حالات «سمعها» و«كتابتها» و«قراءتها»؛ إذ إنها في كل واحدة من هذه الحالات الثلاث ليست «واحدة »، بل هي ملايين الصور التي تتشابه؛ فأنت تسمع كلمة «قلم» سمعا يختلف كل مرة باختلاف طريقة نطقها، ومع ذلك تراك تتجاهل الفوارق بين هذه المسموعات المختلفة، تتجاهل الفوارق لأن أوجه الشبه أقوى من أوجه الاختلاف. وتعد هذه المسموعات الكثيرة المختلفة كأنما هي حالة سمعية واحدة، هي ما تسميه لفظة «قلم». وقل هذا بعينه في حالتي الكتابة والقراءة؛ فملايين الناس يكتبون كلمة «قلم» على صور تعد بالملايين، لاختلاف الناس في طريقة الكتابة حتى في اللغة الواحدة، اختلافا يمكن الخبراء من معرفة الكاتب بطريقة كتابته كما يعرفونه بملامح وجهه وبصمات أصابعه، ولكن أوجه الشبه بين هذه الصور الكثيرة لكتابة الكلمة أقوى من أوجه الاختلاف؛ ولذلك نعد هذه الصور كلها وكأنما هي صورة واحدة لكلمة واحدة.
كلمة «قلم» - إذن - ليست كلمة «واحدة» كما يسهل على الناس أن يظنوا، بل كما يسهل على الفلاسفة أنفسهم أن يزعموا حين يزعمون أن هنالك كلمة «واحدة» من ناحية، ومسميات كثيرة هي أفراد النوع المسمى من ناحية أخرى، ثم يجعلون المشكلة الفلسفية في هذا الصدد هي: كيف أمكن لكلمة واحدة أن تسمي أفرادا كثيرة؟ أو بعبارة أخرى: ما طبيعة الاسم الكلي؟ وهم يقصدون ب «الاسم الكلي» اسما واحدا يطلق على أفراد النوع كلها، لكن ها نحن أولاء قد رأينا أن الاسم في الحقيقة ليس واحدا، بل هو مجموعة ضخمة من حالات مختلفة من طرائق النطق والكتابة وصور السمع والقراءة، ويقابل هذه المجموعة الكبيرة من ناحية الكلمة مجموعة كبيرة ضخمة من ناحية المسميات. ونعود إلى مثال «القلم» فنقول إن هنالك في عالم الحوادث الواقعة أسرتين كبيرتين جدا نجعل الواحدة منها دالة على الأخرى؛ فمن جهة هناك أسرة أفرادها هي حالات الكلمة، ومن جهة أخرى هناك أسرة أفرادها هي الأقلام القائمة في عالم الأشياء، وأي فرد من أفراد الأسرة الأولى يكون دالا على أي فرد من أفراد الأسرة الثانية؛ فلفظ «القلم» في أي صورة من صوره الأربع (منطوقا أو مسموعا أو مكتوبا أو مقروءا)، وفي أي حالة من ملايين الحالات التي تتبدى فيها كل صورة من تلك الصور، كاف للدلالة على أي قلم على كثرة ما هنالك من أقلام وعلى اختلاف ما بينها من صفات.
لكن ما أيسر الوقوع في الخطأ هنا، لا أقول بين عامة الناس، بل بين الفلاسفة أنفسهم، بحيث يظنون أن هنالك كلمة واحدة، هي كلمة «قلم» من ناحية، وأسرة كبيرة من الأقلام من ناحية أخرى، ثم يسألون بعد ذلك هذا السؤال: أين مسمى هذه الكلمة الواحدة؟ افرض أننا أطلقنا على كل قلم من مجموعة الأقلام اسما خاصا به يميزه من سائر الأقلام - كما نفعل في أفراد الإنسان مثلا - فها هنا سيكون لكل قلم فرد اسمه الجزئي الخاص به، فماذا يكون مدلول لفظ «قلم» العام عندئذ؟ لا شيء. أيكون لكل اسم جزئي مسماه، ولا يكون لهذه الكلمة العامة مسمى؟ كلا - هكذا يفكر الأفلاطونيون - بل لا بد أن يكون لهذه الكلمة الكلية مسمى كذلك في العالم الخارجي ليكون شأنها في ذلك - على الأقل - شأن أسماء الأفراد؛ وإذن فلا بد أن يكون هنالك في العالم الخارجي «قلم» عام يقابل هذا الاسم العام، وهذا «القلم العام» يختلف عن الأقلام الفردية في اقتصاره على الصفات الرئيسية التي تجعل من القلم قلما، واستغنائه عن الصفات العرضية التي إن وجدت في قلم ما فقد لا توجد في غيره من الأقلام، ويسمون هذا «القلم العام» مثال القلم أو فكرة القلم، ولكن أين نجد هذا المثال أو هذه الفكرة؟ إنها بالبداهة لا تكون في عالمنا الأرضي لأنه عالم قوامه الجزئيات المحسوسة؛ وإذن فلا بد أن يكون إلى جانب هذا العالم الأرضي عالم آخر يكون قوامه الأفكار العامة أو المثل. وهكذا يؤدي خطأ التحليل لطبيعة الكلمة إلى خطأ في النتيجة التي ننتهي إليها. ولو عرفنا منذ البداية أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة واحدة، بل هي ملايين الحالات لتطابق ملايين الأفراد الجزئية، كل حالة من اللفظ تقابلها حالة جزئية من أفراد المسميات، لما اضطررنا إلى سؤالنا: ماذا عسى أن يكون مسمى هذه الكلمة «الواحدة» العامة، وبزوال السؤال تزول المشكلة ونجتنب الوقوع في الخطأ.
2
إذا كان الذي بين أيدينا هو مجموعتان من الأشياء - وإن شئت دقة في التعبير فقل إن بين أيدينا مجموعتين من الأحداث - فمجموعة منها هي الصور والحالات التي تكون عليها الكلمة، ككلمة «قلم» - مثلا - ومجموعة أخرى هي أفراد الأقلام، ثم إذا كنا قد جعلنا المجموعة الأولى دالة على المجموعة الثانية، فلنا الآن أن نسأل: ما الذي يبرر لحدث من أحداث الطبيعة أن يكون «اسما» ولحدث آخر أن يكون مسمي؟ إذا كان الاسم ومسماه من طبيعة واحدة، فكلاهما أحداث طبيعية تطرأ على المادة - وهل هناك فرق جوهري بين الذرات المادية التي اجتمعت معا فكونت قلما، وبين الذرات المادية التي اجتمعت معا في قطرة المداد التي نكتب بها كلمة «قلم»؟ - أقول إذا كان الاسم ومسماه كلاهما من طبيعة واحدة لأن كليهما من أحداث، فما الذي يجعل واقعة طبيعية اسما دالا على واقعة طبيعية أخرى؟
الجواب هو: الاتفاق الصرف؛ فليس في أية لفظة في الدنيا سر خفي يحتم أن تدل على ما تدل عليه، اللهم إلا ما قد تواضع عليه الناس من أن يكون «صوت» معين دالا على شيء معين، أو أن تكون صورة مدادية معينة دالة على شيء معين؛ فاللفظة المنطوقة هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر، هي صوت كما أن حفيف الشجر صوت، وزمجرة الهواء على صخور الجبل صوت، وخرير الماء أو هديره صوت، وقرقعة الرعد صوت، وهكذا؛ هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر مما يخرج عن حنجرة الإنسان، كصرخة الصارخ وقهقهة الضاحك، فما الذي يميزها من سائر الأصوات بحيث تصبح - دونها - لفظا ذا مدلول؟ الجواب هو: الاتفاق الصرف ولا شيء غير ذلك، وللناس أن يغيروا من اتفاقهم كيفما شاءوا وفي أي وقت شاءوا، إنه لا فرق بين أن يتفقوا على أن تكون كلمة «أحمر» دالة على اللون الذي نطلق عليه هذه التسمية، وبين أن يتفقوا على أن يكون النور الأحمر في علامات المرور دالا على وجوب الوقوف عن السير، في كلتا الحالتين كان يمكن أن يتغير الاتفاق؛ لأنه في كلتا الحالتين ليس في طبيعة «الرمز» شيء يحتم أن يكون دالا على ما اتفق الناس أن يدل عليه.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين «العلامة الطبيعية» و«الرمز الاتفاقي»؛ فإذا كان البرق علامة طبيعية تدل على أن صوت الرعد وشيك الوقوع في الأسماع، أو كان شحوب الوجه علامة طبيعية على المرض، وهكذا، فإن أمثال هذه العلامات الطبيعية ليست من صناعة الإنسان ولا رهن اتفاقه، بل إن العلامة ودلالاتها كليهما من الحوادث الطبيعية المقترنة، سواء أراد لها الإنسان أن تقترن أو لم يرد. وأما «الرمز الاتفاقي» فغير ذلك؛ فالناس هم الذين اتفقوا على أن يكون الثوب الأسود رمزا للحداد، وأن يكون الأبيض رمزا للنقاء، وأن يكون صوت جرس معين رمزا لعربة الإسعاف، وصوت جرس آخر رمزا لقيام القطار؛ كل هذه رموز اتفاقية لم يكن هنالك في طبائع الأشياء ما يحتم أن نجعلها دالة على ما هي دالة عليه، ولا ما يمنع أن نستبدل بها رموزا أخرى تدل على ما هي دالة عليه - وكلمات اللغة هي من قبيل الرموز الاتفاقية في دلالتها، وليست من قبيل العلامات الطبيعية.
يقول الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»: إن الكلمة المفردة في دلالتها على معناها ليست من إملاء العقل، بل هي محض اتفاق؛ «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد» (ص39). وليس هنالك «صواب» أو «خطأ» في دلالة الكلمة على مسماها الذي اتفق الناس على أن تدل عليه، وإنما يبدأ الصواب أو الخطأ في استعمال الناس لهذه الكلمة بعد أن تم بينهم الاتفاق على استعمالها؛ فإذا كنا قد اتفقنا على أن يكون لفظ «قلم» دالا على هذه الأداة المعينة التي نكتب بها، أصبح من الخطأ أن نستخدم هذه اللفظة لغير ما وضعت له، إلا إذا نبهنا السامع أو القارئ للتغيير الذي أحدثناه في معناها.
ليس للكلمات من قوة سوى أنها رموز تدل على ما اتفقنا أن تدل عليه، فليس فيها وراء ذلك سر ولا سحر، ما دمنا نستخدمها للتفاهم لا لغرض فني أو وجداني آخر. ليس لكلمة «سمسم» في التفاهم إلا أن تكون دالة على البذور المعروفة بهذا الاسم، أما أن يكون لها من السحر ما ينفتح له الجبل الأصم فشيء يحكى ليشبع الخيال لا ليخدم أغراض العقل. يقول لويس كارول في كتابه الفكه الممتع الذي يحكي فيه عن مغامرات «ألس» في أرض العجائب:
قال «همتي دمتي»: أرأيت هذا المجد؟
فقالت ألس: لست أدري ماذا تعني بكلمة «المجد»!
فابتسم لها «همتي دمتي» ابتسامة المزدري، وقال: بالطبع أنت لا تعلمين معناها حتى أدلك أنا على هذا المعنى، فقد قصدت بكلمة «المجد» نقاشا أهزم فيه معارضي هزيمة ساحقة.
فقالت «ألس» معترضة: لكن كلمة «المجد» ليس معناها هزيمة العدو في المجادلة هزيمة ساحقة.
فأجابها «همتي دمتي» في نغمة الساخر: إذا استخدمت أنا كلمة لتدل على شيء معين، فإنها لا تعني إلا ذلك الشيء الذي قصدت بها إليه، لا أكثر ولا أقل.
إن هذه السخرية الجادة التي أوردها لويس كارول على لسان «همتي دمتي» هي الصواب بعينه؛ فمدلول الكلمة إنما يتحدد بعد الاتفاق، ولا يكون إلا ما قد تم عليه الاتفاق. ولقد كان «مارك توين» يتفكه فكاهته الحلوة حين صور آدم وحواء جالسين تمر أمامهما صنوف الحيوان ليطلقا على كل صنف منها اسما يعرف به بعدئذ، ومر حيوان وأخذت آدم حيرة بماذا يسميه، فسأل حواء: بماذا نسمي هذا الحيوان؟ فأجابته حواء: نسميه «حصانا». فسألها آدم: وفيم اختيارك هذا اللفظ دون سواه؟ فقالت: لأني أرى هذا الحيوان يشبه الحصان. أقول إن «مارك توين» كان يتفكه فكاهته الحلوة بهذه الصورة وهذا الحديث من أولئك الذين قد يتوهمون أن للكلمة معنى أزليا سابقا على اتفاق الناس عليها وعلى ما يكون معناها؛ فالشيء يسبق اسمه في الوجود، حتي إذا ما وجد ورأي الناس ضرورة الاتفاق على لفظ يسميه اتفقوا جزافا على لفظ كائن ما كان، وفي ذلك يقول شيكسبير قوله المشهور: «ماذا في اسم؟ إن ما قد أطلقنا عليه اسم وردة كان سيظل على رائحته الزكية مهما يكن الاسم الذي أطلقناه عليه.»
وكأنني أسمع القارئ يهمس لنفسه بأن هذا الذي نقوله إن هو إلا البدائه، وهل هناك من يقول عن اللفظة إنها تعني غير ما اتفق الناس على أن تعنيه؟ مع أن هذا القارئ نفسه - في أغلب الظن - سيكون بين الساخطين الغاضبين الناقمين إذا ما رآني أتطلب منه التطبيق الكامل لهذا المبدأ، فإذا وردت في حديثنا - مثلا - كلمة «عقل» طالبته بأن يحدد لي الشيء المسمى بهذه الكلمة والذي بغيره لا يكون للكلمة معنى، أو وردت كلمة «شعور» أو كلمة «قوة» أو ما إلى ذلك من كلمات، طالبته بتطبيق المبدأ، وأغلب الظن عندئذ أنه سيغضب من هذه «السفسطة»، فكيف أطالبه بمدلول لفظة «عقل» والأمر هنا لا يحتاج إلى ريبة؟ إنه لن يرضيه مني أن أجعل مدلول هذه اللفظة حركات معينة يتحركها البدن أو يتحركها اللسان إذ هو ينطق بعبارات معينة، أو أن أجعل مدلول هذه اللفظة ذرات من مداد تجمعت على ورق أو تجمعت من طباشير على سبورة، لن يرضيه شيء من هذا؛ لأن هذه كلها - عنده - أمور ظاهرة، وأما العقل فكائن غيبي خفي قائم وراء هذه الظواهر كلها؛ فليس «العقل» هو العبارات اللغوية، إنما هو الذي يوحي بها ويمليها، لكننا سنصر على تطبيق المبدأ بحذافيره؛ المبدأ الذي ظنه أول الأمر من البدائه التي لا تكون موضع ريبة؛ أعني المبدأ الذي يقول إن الكلمة كائنة ما كانت ما دامت تساق لتسمي شيئا فلا بد أن يكون هنالك الشيء المسمى، وإلا كانت كلمة بغير معنى. لا بد أن يكون هنالك طرفان؛ طرف الرمز من جهة، وطرف الشيء المرموز إليه من جهة أخرى ليتم للغة التفاهم ما جاءت من أجله.
إن من أفحش الخطأ أن يظن ظان بأن الكلمة من كلمات اللغة هي في حد ذاتها ضمان كاف لوجود مدلولها؛ لأن الإنسان - لسوء حظه - قد أكثر في حديثه من الألفاظ التي راح الناس يتداولونها دون أن يكون لها من المدلولات في عالم الأشياء ما يجعلها ألفاظا كاملة الأداء. وقد تسأل: ومن ذا اضطره إلى خلق رموز لا يكون لها في حياته أشياء يرمز بها إليها؟ ونجيبك بأنه إنما فعل ذلك ليعبر عن أوهامه وأحلامه، فأطلق طائفة من الرموز ليشير بها إلى طائفة من أوهام وأحلام؛ فهو يخاف الوحدة والظلام - مثلا - ويخاف أن يكون هنالك في جوف الظلام كائنات خفية تتربص به؛ وإذن فليطلق أسماء على هذه الكائنات. ولا غبار على ذلك ما دام المتكلم والسامع على وعي تام عند استخدام هذه الأسماء وما إليها بأنها إنما أطلقت على أوهام؛ وعندئذ يؤخذ الكلام من زاويته الفنية من حيث استثارته لضرب من المشاعر أحسها المتكلم وأراد أن يثير مثلها في نفس سامعه. أما أن ينسى المتكلم أو السامع ذلك، بحيث لا يري فرقا بين كلمتي «عفريت» و«منضدة»، ويظن أن كلا منهما اسم دال على شيء، كأنما وجود الاسم بذاته كفيل لنا بوجود مسماه، فهو بهذا بمثابة من يخلق الصنم ثم يخشاه ويعبده؛ فالكلمات - كما يقول هوبز - وسيلة يستخدمها العاقلون أدوات للحساب والعد، أما الغافلون فيجعلونها هي نفسها النقود التي يعيشون بها وعليها. الكلمات لا تقصد لذاتها (إلا في مجال الفن)، بل تقصد من أجل ما تشير إليه من أشياء، ومن كانت ثروته ألفاظا لا تشير إلى شيء كان هو الفقير المدقع الذي لا يملك من دهره شيئا.
3
على أن الرموز اللغوية التي نستخدمها - بل التي لا بد أن نستخدمها - دون أن تكون بذاتها كفيلة لنا بوجود مسميات لها، أكثر جدا من الأسماء التي نسمي بها كائنات نسجها لنا الخيال كالعفريت والعنقاء وما إليها، هي أكثر جدا من هذا، بل هي توشك أن تكون ألفاظ اللغة كلها إذا استثنينا عددا قليلا منها وهو أسماء الأعلام، وسنبين لك فيما يلي كيف تكون الكثرة الغالبة من ألفاظ اللغة رموزا ناقصة - بتعبير برتراند رسل - أي إنها رموز وضعت دون أن تكون بذاتها ضمانا مؤكدا لوجود الأشياء التي ترمز إليها.
ولنبدأ أولا بشرح الرمز الكامل الذي هو الرمز الذي نطلقه على مسمى محدد جزئي معلوم، بحيث إذا ذكر الرمز عرف الشيء المرموز إليه في عالم الأشياء معرفة جازمة حاسمة لا لبس فيها ولا ازدواج.
وأول ما يرد إلى الذهن من هذا القبيل هو أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي نطلقها على هذا الفرد من الناس أو ذاك، على هذا النهر أو ذاك، وهكذا، كاسم «العقاد» يميز فردا من الناس دون سائرهم، واسم «النيل» يميز نهرا معينا، واسم «المقطم» واسم «القاهرة»، إلى آخر هذه الأسماء الجزئية الفردية التي يقال إنها تشير بكل واحد منها إلى فرد واحد.
لكن نظرة تحليلية سرعان ما تبين لنا أن ما قد ظنناه «فردا» ليس هو في الحقيقة إلا سلسلة طويلة من حالات جزئية؛ فليس «العقاد» فردا بمعنى أنه حالة واحدة معينة كانت بالأمس هي نفسها ما هي عليه اليوم وما ستكون عليه غدا؛ فلقد كان «العقاد» طفلا فشابا فرجلا، وكان آنا مريضا وآنا صحيح البدن، كان آنا في السجن وآنا طليقا، هو الآن سائر في الطريق، وكان منذ لحظة جالسا يقرأ، وسيكون بعد حين ممسكا بقلمه يكتب؛ هي سلسلة من حالات لا ينتهي عددها إلى حد معلوم. وكذلك قل في «النيل» الذي ظنناه شيئا واحدا من أشياء العالم، إنه يغير من مائه في كل لحظة، بل في كل معشار من اللحظة الواحدة، إن ماءه متدفق فلا يكون الماء الآن في هذه النقطة المكانية من مجراه هو نفسه الماء الذي كان فيها منذ لحظة، ولن يكون هو الماء الذي سيكون فيها بعد لحظة. وما أصدق الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس حين أشار إلى هذه الحقيقة المتغيرة بقوله إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين، مشيرا بذلك إلى أن واضع قدمه في الماء إذا ما رفعها ثم غمسها مرة أخرى لقيت قدمه في هذه المرة الثانية ماء جديدا كأنما هو بالنسبة إليها نهر جديد.
وإذا كان ذلك كذلك، فما تسميتنا ألوف الألوف من الحالات المتعاقبة باسم واحد، فنقول «العقاد» أو «النيل» كأنما نحن مشيرون بكل اسم منها إلى حالة واحدة من حالات هذا العالم الزاخر؟ إننا لو أردنا مجموعة رمزية كاملة لنشير بها إلى حالات العالم واحدة واحدة، لجعلنا لكل حالة من سلسلة الحالات التي تكون «العقاد» ولكل حالة من سلسلة الحالات التي تكون «النيل» اسما خاصا؛ وعندئذ فقط يكون لكل اسم مسماه الجزئي الواحد، فلا تزدوج المسميات ولا تتعدد للاسم الواحد. وشيء كهذا هو ما يصنعه الجغرافيون حين يريدون تحديد نقطة معينة من الأرض، إنهم لا يقولون «القاهرة» - مثلا - لأن القاهرة مسطح كبير من الأرض، وإنما يقولون التقاء خط طول 32 بخط عرض 30، لكننا إن استطعنا من الوجهة النظرية المنطقية وحدها أن نتصور لكل حالة جزئية في هذا العالم رمزا لغويا يشير إليها دون سواها، بحيث لا يشير الرمز الواحد لأكثر من حالة جزئية واحدة في الشيء الواحد، وبحيث لا يكون هنالك رمزان لغويان مشيرين كليهما إلى حالة جزئية واحدة، أقول إننا لو تصورنا إمكان ذلك من الوجهة النظرية المنطقية، فإن إجراءه من الناحية العملية متعذر أو مستحيل؛ ولذلك اكتفينا بأن نطلق اسما معينا كاسم «النيل» - مثلا - على مجموعة من الحالات الجزئية والحوادث الفردية قد يكون بينها ما يبرر لنا أن نجمعها معا في حزمة واحدة لنطلق عليها اسما واحدا، ومع ذلك فينبغي أن نكون على استعداد دائما إذا ما طلب إلينا أن نشير إلى المسمى الذي أطلقنا عليه اسما معينا، ك «العقاد» أو «النيل» أو «المقطم» أو «القاهرة»، أن نجد الحالة الجزئية التي نشير إليها قائلين «هذا»، فليطلب مني من شاء أن أعين له الشيء الذي أسميته «النيل» وسأصطحبه إلى مكان معين من نهر معين، حيث سأكون وإياه إزاء إحدى حالات ذلك النهر، وعندئذ سأشير إليه بإصبعي قائلا «هذا»، فيعلم السائل أن لاسم «النيل» مسمى، وأنه لذلك رمز كامل على سبيل التجوز المقبول؛ إذ إن الرمز الكامل هنا هو كلمة «هذا»؛ لأن هذه الكلمة هي وحدها التي تحدد الشيء المشار إليه. ولا عجب أن جعله «رسل» اسم علم بالمعنى الدقيق لاسم العلم ؛ لأنه يستحيل عليك أن تستخدم اسم الإشارة «هذا» استخداما يؤدي إلى غرضه دون أن يكون هنالك الشيء الذي تشير إليه به.
ومع ذلك كله ، فحتى إذا عددنا أسماء الأعلام ك «العقاد» و«النيل» وما إليهما رموزا كاملة على سبيل التجوز، فهذه الأسماء نفسها قلة قليلة بالنسبة إلى سائر الرموز اللغوية التي يستخدمها الناس فيما بينهم من تفاهم واتصال؛ لأن الكثرة الغالبة من هذه الرموز هي ما يطلق عليه رجال المنطق اسم «الكلمات العامة» أو «الأسماء الكلية»، مثل «إنسان» و«نهر» و«جبل» و«مدينة» ... إلخ، وسنحلل لك فيما يلي هذه الكلمات وأمثالها لنبين أنها رموز ناقصة ما في ذلك شك؛ أي إن الكلمة منها ليست كفيلة بوجود مسماها؛ إذ قد يستخدمها الناس استخداما يؤدي إلى الغرض المقصود كاملا، ومع ذلك فقد لا يكون لها مسمى يقابلها في عالم الأشياء.
الاسم الكلي أو الكلمة العامة التي نطلقها لا لتدل على فرد بعينه، بل نطلقها لتدل على مجموعة من الأفراد تجمع بينها صفات مشتركة، هي في الحقيقة جملة بأسرها ضغطت في كلمة واحدة، ولو حللنا مكنونها وأخرجناه لكان لنا بذلك عبارة وصفية مجهولة الموصوف، وقد يكون هذا الموصوف الذي تشير إليه العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية ذا وجود فعلي وقد لا يكون له وجود؛ فكلمة «إنسان» - مثلا - تحليلها هو أن فردا ما غير متعين صفاته هي كذا وكذا وكيت مما يجعل الإنسان إنسانا، لكن من هو هذا الفرد؟ الجواب هو: أي فرد تلقاه مما يوصف بهذه الصفات. ولكن ماذا لو بحثت عن فرد يحقق هذه الصفات فلم أجد، كما هي الحال في اسم مثل «عفريت» أو «جبل من الذهب»؟ الجواب هو: إذا بحثت عن فرد يحقق الصفات المقصودة من الكلمة الكلية فلم تجد، ظلت الكلمة دالة على مجموعة من الصفات لا تجد ما يلبسها من أفراد العالم الخارجي؛ أي إنها تظل كالقالب الفارغ الذي لا يجد المادة المتعينة التي تملؤه؛ وإذن فالكلمة الكلية - كما قلنا - هي عبارة وصفية مجهولة الموصوف، فكأننا نقول إذ نقول كلمة كلية «س يتصف بكذا وكذا من الصفات»، دون أن يقتضي ذلك وجود «س». وهذا هو معنى قولنا إن الكلمة الكلية في الحقيقة رمز ناقص لا يدل بذاته على وجود الفرد الذي يحقق مجموعة الصفات التي تدل عليها تلك الكلمة.
فالاسم الكلي العام شأنه في دلالته شأن العبارة الوصفية كائنة ما كانت، وليس شأنه في الدلالة شأن أسماء الأعلام التي يتحدد لكل اسم منها مسماه. غير أن العبارات الوصفية نوعان؛ فمنها ما ليست تنطبق الصفات الواردة فيها إلا على فرد واحد، مثل قولنا «أول الخلفاء الراشدين»، ومنها ما تنطبق الصفات الواردة فيها على أي فرد من مجموعة معينة، مثل قولنا «خليفة المسلمين»، وفي كلتا الحالتين لا تحتم العبارة الوصفية بذاتها أن يكون لها مسمى في عالم الكائنات الفعلية، بل تدل على تركيبة وصفية قد تجد وقد لا تجد المسمى الذي يحققها في الوجود الفعلي.
إنني لا أعرف غلطة في التحليل زلت فيها الفلسفة طوال عصورها أفحش من هذه الغلطة؛ لفداحة ما يترتب عليها من النتائج الخطيرة؛ فلك أن تركب من البناءات الوصفية ما شاء لك خيالك، وأن تعبر عن هذه البناءات بلفظة واحدة أو بمجموعة ألفاظ، لكن الذي ليس من حقك ولا من حق أي إنسان عاقل أن يجاوز بناءه الوصفي ليقرر أنه ما دام هذا البناء قائما فلا بد أن يكون هنالك الكائن الفعلي الذي تنطبق عليه المجموعة الوصفية، ليس ذلك من حقك إلا إذا أعطيت حواسك كائنا فردا مما يشار إليه بقولي «هذا»، وترى أن هذا الكائن الفرد يحقق بالفعل ما كانت تدل عليه المجموعة الوصفية التي ركبتها وبنيتها في رأسك.
الرمز اللغوي - كلمة كان أو عبارة - إن دل على مجموعة من الصفات، فهو لا يقتضي بالضرورة أن يكون مسماه موجودا وجودا فعليا؛ إذ قد يكون هنالك المسمى الذي تنطبق عليه تلك الصفات وقد لا يكون؛ فقل - مثلا - «حصان أبيض ذو ذيل أصفر وغرة سوداء» يكن لك بذلك بناء وصفي، لكن هذا البناء الوصفي لا يقتضي بالضرورة أن يكون الكائن الموصوف موجودا بالفعل أو غير موجود؛ فالحواس وحدها هي التي تدلني إن كان لمثل هذا الكائن وجود بين الكائنات أو لم يكن. أي وضوح هو أوضح من هذا المبدأ الذي نقرره - لا تعسفا - ولكن بحكم طبيعة اللغة ذاتها وبحكم الخبرة التي نمارسها جميعا في حياتنا الفكرية والعملية على السواء؟ ومع ذلك فقد أفلتت هذه الحقيقة الواضحة الجلية من أنظار الفلاسفة فلم يروها.
إن الرمز الوصفي «أول من وقف على قمة إفرست» مفهوم الدلالة من حيث الصفات التي يشير إليها، ومع ذلك فقد لا يكون هنالك من حقق هذه الصفات، بل إنه منذ أعوام قليلة جدا لم يكن قد صعد إلى هذه القمة أحد بعد، فكان يمكن عندئذ للعبارة الوصفية أن تقوم دون أن يكون هنالك الفرد الذي تشير إليه. وإنه لمما يجدر ذكره في هذا السياق أن نزاعا طريفا قام - ولم يزل قائما - عن الرجل الذي كان له حظ الوصول إلى قمة إفرست قبل أي إنسان سواه؛ وذلك أن الرحالة «هلاري» الإنجليزي كان يستصحب هنديا في صعوده الجبل، وكلاهما قد بلغ القمة في رحلة صعودية واحدة، لكن من منهما كان السابق ومن كان اللاحق؟ كل من الرجلين يدعي لنفسه الأسبقية في شهود القمة والوقوف عليها. وأيا ما كان الأمر، فالعبارة الوصفية «أول من وقف على قمة إفرست» لا تزال على دلالتها، سواء وجد الرجل الذي وقف على القمة أو لم يوجد، وسواء كان هذا الواقف هو الرحالة الإنجليزي أو زميله الهندي.
والأمر شبيه بذلك في أي اسم يكون مدلوله مجموعة من الصفات؛ فعندئذ قد تجد من يثبت وجود المسمى وقد تجد من ينكر؛ فكم من الباحثين في تاريخ الأدب من يقرر أن اسم «هومر» لا يسمي أحدا بذاته، وكم منهم من يقرر أنه يسمي؛ ذلك لأن «هومر» - وإن يكن اسما على هيئة أسماء الأعلام - إلا أنه في الحقيقة دال على مجموعة وصفية، منها مثلا إنشاء الإلياذة ومنها التجوال في القرى وهكذا، ولكن السؤال لا يزال قائما: أتكون هذه المجموعة الوصفية قد تجسدت في شخص بعينه هو الذي نطلق عليه اسم «هومر»، أم تكون مجرد بناء وصفي بغير المسمى الواحد الذي تجسدت فيه؟ ولقد قامت في مصر مشكلة من هذا النوع بين دارسي الأدب وتاريخه حول امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية؛ فمنهم من ذهب إلى أن امرأ القيس اسم وهمي اخترع اختراعا لينسب إليه ما ينسب من الشعر، ومنهم من يرد هذا الزعم بما ينفيه وما يؤيد الوجود التاريخي الفعلي لامرئ القيس؛ فما معنى هذا فيما نحن الآن بصدده؟ معناه أن مجموعة الصفات التي هي كل ما يقال عن امرئ القيس قد يكون لها - منطقيا - من يلبسها من الأفراد وقد لا يكون؛ ذلك لأن البناء الوصفي في حد ذاته لا يقتضي بالضرورة أن يكون هنالك الفرد الذي يجسده؛ فالبناء الوصفي كالثوب تراه معلقا، وإما أن يكون للثوب بعد ذلك لابس أو لا يكون.
وانظر بعد ذلك إلى الكلمات الرئيسية التي عليها تدور الفلسفة الميتافيزيقية، ترها جميعا من قبيل الرموز الدالة على مجموعات من الصفات، لا من قبيل الأسماء الدالة على أفراد جزئية مما يشار إليه بقولنا «هذا»؛ فهذه الفلسفة إنما تدور حول «المطلق» و«الروح» و«النفس» و«الجوهر» و«الشيء في ذاته» وما إلى ذلك. وواضح أن الكلمة من هذه الكلمات لا ترمز إلى كائن جزئي مما يشار إليه بالإصبع، ولكن كل واحدة منها تلخيص مضغوط لعدد كبير من الصفات؛ فلو سألت مثلا: ما المطلق؟ أجابك المتكلم لا بالإشارة إلى أحد الموجودات الفعلية، بل بعدد من الجمل؛ وقف عند ما شئت من هذه الجمل أو مكوناتها اللفظية واسأل، وسيكون الجواب دائما بجمل أخرى وهكذا؛ ومعني ذلك أن كلمة «مطلق» هي - كما قلنا - تلخيص لفظي لعبارات وصفية كثيرة. وإذا كانت العبارة الوصفية لا تقتضي بالضرورة أن يكون لمسماها وجود فعلي، كانت الكلمة بالتالي من قبيل الثوب الذي يظل ينتظر من يلبسه؛ فحتى لو فهمنا كل الصفات المتضمنة فيه، فهذا الفهم ليس دليلا على وجود الكائن الموصوف أو على عدم وجوده، إلى أن تأتي خبرة حسية بعد ذلك فتقرر أحد الشقين؛ فإن كان الكائن الموصوف بحكم وصفه ليس مما يقع في خبرة حسية، ظلت أوصافه إلى أبد الآبدين بغير دليل على وجوده.
4
قدمنا لك حتى الآن نوعين من الكلمات لتبين حدود الدلالة لكل نوع منهما، وهما أسماء الأعلام من جهة والأسماء التي هي في حقيقة أمرها مركبات وصفية من جهة أخرى، وقلنا في اسم العلم بمعناه الشائع كاسم «العقاد» مثلا، إنه في الحقيقة يجمع تحته ألوف الحالات التي هي الحالات التي مرت متتابعة فكونت تاريخ حياة رجل هو الذي نطلق عليه اسم «العقاد»؛ وإذن فما يظن أنه اسم يشير إلى فرد جزئي هو في الحقيقة رمز يشير إلى سلسلة طويلة من الأحداث، ولو شئنا اسم علم بمعناه الصحيح لجعلنا اسما لكل حالة جزئية من حالات العقاد. ولعل اسم الإشارة «هذا» خير ما يدلنا على الحالة الجزئية الواحدة؛ فكل حالة نستطيع أن نشير إليها بقولنا «هذا» أو «هذه» تكون هي الحالة الجزئية الواحدة من حالات الفرد الواحد؛ ومعنى ذلك أننا إذا شئنا أن نتبين إزاء اسم ما إن كان اسما يطلق على فرد ذي وجود فعلي أو لم يكن، تحتم أن نتصور لذلك الفرد حالة معينة جزئية يمكن الإشارة إليها في نقطة معينة من نقاط المكان، وفي لحظة معينة من لحظات الزمن، قائلين: «هذه.»
وكذلك قلنا في الكلمات التي هي في الحقيقة مركبات وصفية، ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه منطبقا على فرد واحد، كقولنا «العدد الذي يقع بين 3، 5»، أو «القائد العربي الذي فتح مصر»؛ ومنها ما يكون المركب الوصفي فيه مشيرا إلى أي فرد من مجموعة متشابهة الأفراد، مثل قولنا «إنسان» و«نهر»؛ قلنا في أمثال هذه الرموز الوصفية إنها لا تقتضي بالضرورة وجود مسماها وجودا فعليا، فلا يكفي أن يكون الرمز اللغوي قائما بيننا لنقول إن له مسمى في عالم الأشياء الواقعة، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك وقوعنا على الفرد الموصوف في الحالة الأولى أو على أحد أفراد المجموعة الموصوفة في الحالة الثانية؛ إذ لا فاصل هنا بين الكائن الوهمي والكائن الفعلي إلا شهادة الحواس.
وننتقل الآن إلى ضرب ثالث من الكلمات هو أخطرها جميعا من الناحية المنطقية، وإن لم تكن كلماته مما يشير إلى شيء إطلاقا في عالم الواقع، وأعني به تلك الكلمات التي تصل أجزاء الكلام بعضها ببعض وصلا تكون له دلالته في الاستدلال العقلي، ولا تكون له إشارة إلى شيء واقع، مثل واو العطف، وكلمة «أو»، وكلمة «إذا»، وكلمة «ليس»، وكلمة «كل»، وكلمة «بعض»، وما إليها؛ فليس في العالم الخارجي شيء بين الأشياء اسمه «أو» أو شيء اسمه «إذا» أو «ليس»؛ فإذا قلت إنني «رأيت البرق وسمعت الرعد»، كان الذي حدث في عالم الواقع حدثان هما «رؤية» و«سمع»، وأما «و» التي تصل بينهما فلم تكن حدثا ثالثا ولم تكن جزءا من أي من الحدثين. وكذلك لو قلت «الشمس إما طالعة أو غاربة»، كان الذي هو حادث في عالم الواقع أحد أمرين، ولما كنت أجهل أيهما عبرت عن هذا الجهل بقولي «أو»، لكن عالم الأشياء لا تردد فيه، إن فيه أمرا واحدا، ففيه الشمس طالعة أو فيه الشمس غاربة، وأما التردد فحالة عقلية عندي أنا القائل الذي يعلم أن أحد الأمرين لا بد واقع ثم لا يعلم أيهما يكون.
وهم يسمون أمثال هذه الكلمات بالكلمات المنطقية أو بالكلمات البنائية؛ لأن عملها مقصور على بناء العبارة اللغوية بناء يجعل منها فكرة، واستعمالها يقتضي وجود كلمات سابقة عليها في الوجود، فلا تستطيع أن تقول «مقعد أو منضدة» إلا إذا عرفت أولا كلمتي «مقعد» و«منضدة»؛ ولذلك ترى أسماء الأشياء يأتي تعلمها أولا في حياة الطفل ثم تأتي بعد ذلك أمثال هذه الكلمات، فيستحيل أن يبدأ الطفل تعلمه للغة بكلمة «أو» أو كلمة «إذا»، لكنه يبدأ بكلمات مما تسمي كل كلمة منها شيئا مما يقع في خبرته، ثم يتعلم بعد ذلك كيف يبني من هذه الكلمات الشيئية أفكارا باستخدامه للكلمات المنطقية التي ذكرناها .
والكلمات المنطقية هي الركائز الثابتة التي تحدد «صورة» الفكرة، بينما تحدد الكلمات التي هي أسماء أو صفات «مادة» الفكرة؛ ففي قولنا - مثلا - «صيف وشتاء » تستطيع أن تستبدل بكلمتي «صيف» و«شتاء» كلمتين أخريين فتتغير «مادة» الفكرة، فنقول - مثلا - «حساب وهندسة» أو «قيس وليلى»، لكنك لا بد أن تحتفظ بالكلمة المنطقية «و» إذا أردت أن تحتفظ للفكرة «بصورتها»، بل تستطيع أن تسقط الكلمتين اللتين تحددان مادة الفكرة، وتضع مكانهما رموزا متغيرة مثل «س» و«ص»، وتحتفظ بواو العطف، فتحتفظ بصورة الفكرة كما هي، والصورة في هذه الحالة هي: ««س» و«ص».» ولعلك تعلم أن تجريد الأفكار عن «مادتها» وإبقاء «صورها» هو مما يبحث فيه المنطق؛ ولذلك فهو كثيرا ما يسمى ب «المنطق الصوري» لأنه يهتم بالصورة بعد إفراغ مادتها؛ لأن مقارنة الصور الفارغة بعضها ببعض أيسر من مقارنة الأفكار وهي مليئة بمادتها، وهو إنما يهتدي إلى صورة الفكرة لو اهتدى إلى متغيراتها من جهة وثوابتها من جهة أخرى، فيسقط الأولى واضعا مكانها رموزا، ويبقي على الثانية فتبقى له الصورة التي هي الإطار الأساسي المعد لأي حشو يملؤه، فيكون هذه الفكرة أو تلك مما يقع كله تحت صورة واحدة؛ فالصورة واحدة في عبارتي «حساب وهندسة» و«قيس وليلى»، والصورة واحدة في عبارتي «الأربعاء أو الخميس» و«السينما أو المسرح»، والصورة واحدة في عبارتي «إذا رأيت البرق سمعت الرعد» و«إذا أمطرت السماء اخضر الزرع»، وهكذا. ولو اهتدى المنطقي إلى مجموعة الصور المختلفات في فكر الإنسان، اهتدى إلى العناصر الأساسية التي ينحل إليها ذلك الفكر.
إنه إذا اختلف فلاسفة المنطق في عصرين في تحليلهم للصور التي يرد عليها الفكر الإنساني على اختلاف مادة ذلك الفكر، كان اختلافهم ذلك دالا على اختلاف في مذاهبهم الفلسفية بصفة عامة، وكان اختلافهم - بالتالي - دليلا على تغير الجو الفكري كله في أحد العصرين عنه في العصر الآخر؛ فها هو ذا أرسطو يستعرض الأفكار ويحللها، مسقطا متغيراتها مبقيا على ثوابتها ليستخرج صور الفكر؛ فإذا بالتحليل ينتهي به إلى أن العلاقة الثابتة في كل فكرة كائنة ما كانت، وهي العلاقة التي تحدد صورة الفكرة مهما تكن مادة هذه الفكرة، هي علاقة الموصوف بصفته، كأنما كل فكرة يمكن صبها في هذا القالب: «س هي ص.» فقل - مثلا - «الحصان أبيض»، أو «الإنسان عاقل»، أو «العدد 3 يقع بين العددين 4، 5»، أو «القاهرة أكبر من الإسكندرية»، أو ما شئت من قول، تجد - في رأي أرسطو - أن قولك يرتد إلى موضوع معين تصفه صفة ما؛ أي إن كل فكرة قوامها موضوع ومحمول كما يقول أهل المنطق؛ وإذن فلا فرق من حيث الصورة بين فكرة وفكرة مهما بعدت الفكرتان بعد ذلك في مادتهما؛ ففي كل مثل من الأمثلة السابقة يمكنك أن تعيد الصياغة بحيث تصبح الجملة «كذا هو كيت».
وإن كان ذلك كذلك، ثم إذا كانت أفكارنا تنبئ عن حقيقة العالم، كان قوام العالم أشياء وصفاتها، أو موضوعات ومحمولاتها، أو جواهر وأعراضها؛ وهذه الموضوعات نفسها منها الأعم ومنها الأخص، بحيث تستطيع أن تعلو في سلم التدرج من الخاص إلى العام، حتى تنتهي إلى جوهر خالص تأتي سائر الصفات فتصفه فيكون هذا الكائن أو ذاك. وهكذا ترى كيف ينتهي المنطق الذي يجعل صورة الفكرة كائنة ما كانت هي صورة «الموضوع والمحمول»؛ أي صورة «الموصوف وما يحمل من صفات»، كيف ينتهي بك هذا المنطق إلى نوع من الميتافيزيقا يرد الكون إلى جوهر واحد، تختلف أسماؤه عند مختلف الفلاسفة لكن الأساس المذهبي واحد.
قارن ذلك بمنطق يحلل الأفكار فلا ينتهي بها إلى صورة واحدة كالتي انتهى إليها أرسطو، بل ينتهي بها إلى كثرة من صور لا يمكن رد بعضها إلى بعضها الآخر؛ فالجملة الدالة على موصوف وصفته، كقولنا «هذا الحصان أبيض»، تختلف في صورتها عن جملة تتناول بالحديث موضوعين لا موضوعا واحدا، أو قل إنها تتناول طرفين لا طرفا واحدا، ثم تذكر العلاقة التي تربط هذين الطرفين، مثل قولنا «قيس يحب ليلى»، فليلى ليست من قيس بمثل ما يكون البياض من الحصان الأبيض؛ ففي حالة الحصان الأبيض يختفي اللون باختفاء الحصان، وأما في حالة قيس وحبه لليلى فلا تختفي ليلى باختفاء قيس. ها هنا موضوعان وبينهما علاقة، لا موضوع واحد وما يحمله من صفة . وقد تجد من العلاقات ما يتطلب طرفين كما في المثل الذي ضربناه، وقد تجد منها كذلك ما يتطلب ثلاثة أطراف أو أربعة أطراف وهكذا؛ فالعلاقة التي تمثلها كلمة «بين» لا تتحقق إلا إذا كان في عالم الواقع ثلاثة أطراف مرتبطة بها، فتقول مثلا: «العدد 3 يقع بين العددين 4، 5.» فهنالك أعداد ثلاثة لا بد منها «3، 4، 5» لتكمل علاقة «بين». وهكذا قل في سائر الجمل التي تأتي مصورة لوقائع ذوات أطراف عدة تصلها علاقات من هذا النوع أو ذاك.
إن منطقا كهذا - وهو المنطق الذي يعرف به برتراند رسل وغيره من المعاصرين - لا ينتهي بك إلى واحدية الكون في جوهر واحد مطلق وما يطرأ عليه من صفات، بل ينتهي بك إلى كثرة من وقائع، لكل واقعة منها خصائصها؛ فواقعة قوامها جزئية واحدة وصفتها، وواقعة قوامها جزئيتان والرابطة بينهما، وثالثة قوامها ثلاث جزئيات والرابطة بينها، ورابعة قوامها أربع جزئيات وما بينها من علاقات تربطها وهلم جرا.
إنها اختلافات بعيدة المدى تلك التي تفرق بين رجلين، أحدهما يجري في تفكيره على المنطق الأرسطي، والآخر يحلل الأمور على نحو ما يحللها برتراند رسل؛ فالأول سيتعقب «الجوهر» الذي هو موضوع لكل أفكارنا؛ إذ كيف يفهم فكرة إذا لم يفهم موضوعها؟ فإذا قال قائل عن الإنسان - مثلا - إنه يتصف بالحياة وبالعقل، كانت هاتان الصفتان - بالبداهة - كائنتين في طبيعة الإنسان نفسه؛ وإذن فما على الباحث إلا أن يمعن النظر في «الإنسان» ليدرك «جوهره»؛ فيدرك بالتالي صفاته التي تصفه فتجعل منه إنسانا، ولكن في أي إنسان يمعن الباحث نظره؟ أيمعن نظره في زيد أو في عمرو أو في خالد؟ كلا، بل يمعن نظره في «فكرة» الإنسان، أو في «مفهوم» الإنسان، أو في «تعريف» الإنسان، أو في «صورة» الإنسان، أو في «مثال» الإنسان، أو ما شئت من هذه الكلمات التي تتردد على أفواه الفلاسفة. إنه لا يبلغ العلم الثابت عن الأشياء إذا هو اقتصر على ملاحظة الجزئيات العابرة في هذا الفرد أو ذاك، بل يبلغ العلم الثابت إذا أدرك «الجوهر». ولما كان «جوهر» شيء ما هو بدوره مرتبط بجوهر شيء آخر، فالإنسان - مثلا - فرع عن الحيوان، ولا يفهم جوهره على حدة إلا إذا فهم جوهر الحيوان؛ فإن الأمر كله سينتهي بالباحث إلى وجوب تصور العالم كله كائنا واحدا عضويا، بحيث يكفي أن تفهم أي جزء منه لتفهم سائر الأجزاء، وبحيث لا يمكن أن تفهم أي جزء منه إلا إذا فهمت سائر الأجزاء.
وأما ثاني الرجلين، وهو الآخذ بمنطق الكثرة، فسيرد العالم إلى وقائع من جهة وقضايا نصف بها تلك الوقائع من جهة أخرى، بحيث تكون الواقعة الواحدة مكونة من جزئية واحدة أو أكثر مرتبط بعضها ببعض بعلاقات، وبحيث تعتمد معرفة الواقعة الواحدة - لا على غيرها من الوقائع - بل على إدراك جزئياتها التي تكون منها بمثابة الأطراف الموصولة بهذه العلاقة أو تلك، لكن الجزئية الواحدة لا تدرك إلا بالاتصال الحسي المباشر؛ وإذن فنهاية الشوط هي الارتكاز على هذا الاتصال الحسي المباشر بالجزئيات الذرية التي منها تتكون الواقعة الواحدة، ثم من مجموعة الوقائع يتكون العالم.
والفرق الأساسي بين «الجوهر» الذي هو أساس المنطق التقليدي والفلسفة التقليدية، و«الجزئي» الذي هو أساس المنطق المعاصر والفلسفة المعاصرة، هو أن الأول مزعوم له الثبات والدوام، والثاني مفروض فيه التغير والزوال، حتى ليقال عن الجزئي إنه حادثة تحدث ثم تزول؛ الأول يجعل المعرفة مطلقة والعالم ساكنا، والثاني يجعل المعرفة نسبية والعالم متحركا متغيرا.
يقول المنطق المثالي والفلسفة المثالية إنك لا تستطيع أن «تفهم» طبيعة الجزئي الواحد إلا إذا «فهمت» سائر الكون؛ فلا تستطيع أن «تفهم» هذا القلم الذي أمسكه بيدي الآن إلا إذا «فهمت» الكون كله. لماذا؟ لأن القلم جزء مني، وأنا جزء من الغرفة، والغرفة جزء من البناء، والبناء جزء من القاهرة، وهذه جزء من الكرة الأرضية التي هي جزء من المجموعة الشمسية، وهلم جرا. وبعبارة أخرى، فإن القلم سيرد في مجموعة كبيرة من القضايا التي تقال عن أشياء أخرى في العالم؛ وإذن فلا يمكنك «فهم» طبيعته إلا إذا فهمت تلك القضايا جميعا.
والأمر في هذا القول معكوس، والصواب هو أنك لا تستطيع فهم قضية يرد فيها ذكر القلم إلا إذا كان هذا القلم قد وقع في خبرتك الحسية المباشرة؛ فمعرفة المركب تتوقف على معرفة البسائط التي منها يتركب، وليست معرفة الجزئية البسيطة هي التي تتوقف على معرفة الكون المركب. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فليس من الدقة في استعمال الكلمات أن نقول إننا «نفهم» طبيعة هذا الشيء أو ذاك، إننا لا «نفهم» القلم ولا «نفهم» الكون بأسره، وإنما ينصب الفهم على «الكلمة» أو على «القضية»؛ أقول إنني قد فهمت هذه الكلمة إذا ما عرفت مسماها، وفهمت هذه القضية إذا ما عرفت الواقعة التي تشير إليها؛ فالفهم يكون للغة لا للأشياء التي تشير إليها اللغة.
ونعود إلى موضوعنا الأصلي في هذه الفقرة، وهو الكلمات المنطقية، مثل «و»، «أو»، «ليس»، «كل» ... إلخ، فنقول إنها وإن تكن لا تسمي شيئا من أشياء الواقع، إلا أنها هي الإطار الذي يحدد صورة الفكرة، إنها أدوات يستخدمها الإنسان المدرك لينظم بها علمه عن الأشياء المدركة. إن كلمة «أو» - مثلا - لا تكون شيئا من الأشياء التي تحتل أجزاء المكان، ولكنها تكون علاقة نربط بها أقوالنا التي نقولها عن تلك الأشياء. إنني إذ أنظر إلى المنضدة أمامي وأقول «ليس القلم على المنضدة»، فلا أقول ذلك لأنني أرى «ليس» فيما أراه، بل كل ما أراه هو كتب وأوراق. إنني بكلمة «ليس» لا أسمي شيئا أراه، وإنما أستخدمها ل «أستدل» نتيجة مما أراه. إنني أرى ما هو كائن هناك مما تنطبع صورته على حاسة بصري، ولست أرى ما ليس هناك، لكني أستدله؛ وإذن فيستحيل علي أن أستعمل كلمة «ليس» إلا إذا سبقت لي لغة أصف بها ما هو كائن فعلا؛ وبالتالي لا أستطيع أن أستخدم النفي إلا إذا سبقته معرفة إيجابية هي معرفة ما تنطبع به الحواس.
5
قد أسلفنا لك القول في ثلاثة ضروب من الكلمات من حيث دلالتها على مسميات خارجية؛ فهنالك أسماء الأعلام التي يدل كل اسم منها على مسماه الجزئي، وإنه ليتحتم منطقيا لاسم العلم أن يكون له مسمى وإلا فهو لا يحقق تعريفه. على أننا أشرنا في هذا الصدد إلى أن اسم العلم بمعناه المنطقي؛ أي بمعناه الذي يجعل له مسمى جزئيا واحدا، هو كلمة تدل على حالة واحدة، يشار إليها بقولنا «هذا» أو «هذه». ولما كان الفرد الواحد من الناس كالعقاد، أو من الأشياء كهذه المنضدة التي أكتب عليها، هو في الحقيقة سلسلة من حالات متتابعة، كان اسم العلم في هذه الحالة هو اسم الإشارة الذي يشير إلى العقاد في إحدى حالاته أو إلى المنضدة في إحدى حالاتها.
وهنالك إلى جانب أسماء الأعلام ضرب آخر من الأسماء هو ما يطلق عليه «الأسماء الكلية»، مثلي «إنسان» و«جبل»، وواضح أن كل كلمة من هذه الكلمات لا تقتصر على تسمية فرد بعينه، بل هي تلخيص لمجموعة وصفية إن وجد لها فرد تنطبق عليه، كان ذلك الفرد واحدا من الفئة التي تطلق عليها الكلمة. على أن النقطة المهمة هنا هي أن المجموعة الوصفية التي تدل عليها الكلمة الكلية، لا تقتضي بالضرورة أن يكون لها فرد تتحقق فيه؛ ومن ثم كانت الكلمة الكلية رمزا ناقصا؛ لأنها لا تدل بذاتها على ضرورة أن يكون لها مسمى. والكلمة الكلية في حقيقة أمرها هي عبارة وصفية بأسرها، لا اسم واحد، غير أن تلك العبارة الوصفية المضغوطة في الكلمة الكلية الواحدة عبارة ذات ثغرة؛ أعني عبارة مجهولة الفرد الذي تنطبق عليه، ولا يتم تكوينها إلا إذا وضعنا مكان الثغرة اسم علم يملؤها؛ فكلمة «إنسان» تحليلها «س تتحقق فيه صفات أ، ب، ج»، وقد نجد بعد ذلك فردا معينا نضع اسمه مكان س فتصبح العبارة الناقصة جملة كاملة، وقد لا نجد فردا تتحقق فيه الصفات المذكورة، فتظل العبارة على نقصها، لا تدل وحدها على معني كامل؛ أي لا تدل وحدها على وجود ما ترمز إليه بين كائنات الوجود الفعلي.
والضرب الثالث من الكلمات هو ما أسميناه بالكلمات المنطقية، مثل «إذا» و«ليس» و«أو» وما إليها، وهي كلها كلمات لا تدل على مسميات في الخارج، ولكنها ضرورية لربط الأسماء ربطا يجعل منها جملة ذات فكرة معينة؛ فالكلمة من هذه الكلمات المنطقية هي التي تخلع على الجملة صورتها، وهي التي تحدد لها حالات صدقها أو عدم صدقها؛ فمثلا إذا قلت جملة كهذه: «إذا قرأت أهل الكهف أدركت قدرة الحكيم الفنية.» كانت كلمة «إذا» هنا محددة لأربع حالات من حالات الصدق والكذب، هي: (1) أن تقرا أهل الكهف وأن تدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تصدق الحالتان معا. (2) ألا تقرأ أهل الكهف ومع ذلك تدرك قدرة الحكيم الفنية (من قراءة كتاب آخر مثلا)؛ أي أن تكذب الحالة الأولى ولكن تصدق الحالة الثانية. (3) ألا تقرأ أهل الكهف ولا تدرك قدرة الحكيم الفنية؛ أي أن تكذب الحالتان معا. كل هذه الحالات الثلاث تجيزها كلمة «إذا»، وهنالك حالة رابعة مستحيلة بحكم استعمال كلمة «إذا»، وهي أن تقرأ أهل الكهف ومع ذلك لا تقدر قدرة الحكيم الفنية؛ فلو كانت هذه هي الحالة كان استعمال المتكلم لكلمة «إذا» خارجا عن الحدود الجائزة في استعمالها الصحيح.
هذه ضروب ثلاثة من الكلمات: اسم العلم، والاسم الكلي، والكلمة المنطقية. وليس فيها ما هو رمز كامل يدل حتما على وجود مسماه وجودا فعليا في دنيا الأشياء إلا اسم العلم؛ أي الكلمة التي تشير إلى جزئي واحد معين.
وبقي أن نحدثك عن ضرب رابع من الكلمات، هو الكلمات التي تدل على قيمة خلقية أو قيمة جمالية، أو بصفة عامة، الكلمات التي تدل على أن في المتكلم انفعالا من نوع معين، لكنها لا تشير إلى كائن خارجي. ولنضرب مثلا رجلا وقف إزاء الشمس الغاربة بما تخلفه وراءها من أصباغ، فقال: هذا جميل. وقد يقولها في أي صورة شاء؛ إذ قد يخرج لفظا معينا في تنغيم معين، مثل لفظة «الله»، أو لفظة «يا سلام»، ويريد بها نفس ما يريده إذ يقول: هذا جميل. فأين مدلول هذه الكلمات؟
إن كلمة «جميل» وما يدور مدارها من كلمات، لا تشير إلى شيء قائم في عالم الأشياء الخارجية، بل تشير إلى حالة نفسية يحسها قائلها؛ فليس في الشفق «الجميل» إلا سحاب مصبوغ بألوان يمكن تحديدها بأطوال موجاتها الضوئية، وإنما «الجمال» فيها هو من نفس رائيها؛ وإذن فكلمة «جميل» دالة على حالة ذاتية عند فرد معين بحيث لا يكون ثمة تناقض بين شخصين يقفان أمام الشفق الواحد، ويقول أحدهما إنه «جميل» بينما يقول الآخر إنه «خلو من الجمال»، أقول إنه لا تناقض في هذا؛ لأن الحكمين لا ينصبان على حالة واحدة أو على شيء واحد، بل هما حكمان كل منهما يشير إلى حالة غير الحالة التي يشير إليها الحكم الثاني، ولا فرق في ذلك بين هذين الرجلين اللذين يحكمان حكمين مختلفين على وقع الشفق في نفس كل منهما، وبينهما إذ يقول أحدهما إنه يشعر بعضة الجوع بينما يقول الآخر إنه لا يشعر بها، أو يقول أحدهما إنه يشعر بنشوة الحب إزاء فتاة معينة بينما يقول الآخر إنه لا يشعر إزاءها بشيء من ذلك.
إن قصارى ما يستطيعه من يرى جمالا في الشفق إزاء زميله الذي لا يرى فيه الجمال، هو أن يشير له إلى دقائق في المنظر لعله قد عمي عنها، أما إذا استنفد كل ما يستطيع ذكره من دقائق المنظر، وظل الزميل على موقفه منكرا أن يكون في الشفق جمال، فلا حيلة بعدئذ إلى التقاء وجهتي النظر، اللهم إلا أن تعاد تربية أحدهما بحيث ينصب في قالب شبيه بالقالب الذي انصب فيه الآخر؛ حتى يمكنه أن يري ما يراه ويعجب بما يعجب به.
إنه مهما تعددت الآراء في تحديد معنى الجمال، فهي جميعا على اتفاق بأن جزءا من المعنى - على الأقل - هو في التأثر الداخلي الخاص الذي يتعرض له من يشهد شيئا جميلا، لكن اختلاف الآراء يظهر بعد ذلك في تحديد الجانب الخارجي الإدراكي من معنى الجمال؛ فماذا يكون في الشيء الجميل نفسه - بغض النظر عن تأثر الإنسان المدرك - من عناصر بحيث تكون هذه العناصر هي ما تشير إليه كلمة «جمال»؟ إن الأشياء التي توصف بالجمال كثيرة منوعة؛ فالبحر والجبل والغروب والصورة الفنية والتمثال والطائر والمرأة وقصيدة الشعر وقطعة الموسيقى كلها يتصف بالجمال، فما هي إذن تلك العناصر الخارجية التي تسمى بكلمة «جمال» والتي توجد في هذه الأشياء جميعا؟ لقد طرح أفلاطون مثل هذا السؤال، وأجاب عنه بقوله إنه لا بد أن يكون هنالك ما تشترك فيه هذه الأشياء الجميلة كلها، وإلا لما جاز لنا أن نطلق عليها اسما واحدا، وعنده أن موضع الاشتراك بينها هو أنها كلها تشارك «مثالا» واحدا، أي «فكرة» واحدة؛ وذلك جريا على مذهبه في المثل، ومؤداه أن كل ما نراه على هذه الأرض من كائنات محسوسة جزئية إنما جاءت على نحو ما جاءت عليه لأنها صيغت على نمط عقلي كان موجودا منذ الأزل؛ فالمثلث - مثلا - قد جاء على صورته المألوفة له؛ لأنه صيغ على غرار فكرة المثلث التي كانت قائمة منذ القدم؛ وهكذا قل في كل شيء. ومن بين الأفكار الأزلية هذه فكرة «الجمال»؛ فقد كانت هناك قائمة قبل أن يظهر إلى الوجود أي شيء جميل، وبعدئذ أخذت الأشياء الجزئية المحسوسة تظهر إلى الوجود، فما كان منها شبيها بمثال الجمال، أي ما كان مجسدا لفكرة الجمال، عددناه جميلا؛ وإذن فلو سألت أفلاطون وأتباعه؛ كلمة «جمال» ما مدلولها؟ أجابوك بأن مدلولها هو مثال الجمال الكامن بين المثل.
ومعنى ذلك أن الفلسفة الأفلاطونية وما يجري مجراها تذهب إلى أن للجمال وجودا موضوعيا خارج وجود الإنسان ومستقلا عنه، وأن كلمة «جمال» في هذه الحال تكون اسما يطلق على ذلك الوجود الخارجي، شأنها في ذلك شأن سائر الأسماء التي تسمي الموجودات الفعلية مثل «إنسان» و«نهر» ... إلخ، ولكننا في الحقيقة لا ندري كيف يمكن أن يكون لمثل هذا الكلام معنى؛ فأولا ليس هنالك من الأسماء ما يدل على موجودات فعلية إلا أسماء الأعلام؛ أي الأسماء التي تكون مسمياتها حالات جزئية محددة المكان والزمان، بحيث يشار إلى الحالة التي هي مسمي لكلمة باسم الإشارة «هذا» أو «هذه»؛ فكما قلنا في الفقرات الأولى من هذا الفصل، إن أي كلمة كلية مثل «إنسان» هي في حد ذاتها رمز ناقص لا يرمز إلى شيء محدد، إلى أن يعرف الفرد الجزئي الذي يتصف بمجموعة الصفات التي تدل عليها هذه الكلمة. وكذلك نقول في كلمة «جمال»؛ فهي ليست كلمة واحدة كما قد يبدو، ولكنها مجموعة من صفات لا يكون لها مدلول فعلي إلا إذا وقعنا على الفرد الجزئي الذي تتمثل فيه تلك الصفات؛ أي إن هذه الكلمة في حقيقة تحليلها ليست اسما لشيء محدد معين.
وثانيا، فحتى لو فرضنا أن كلمة «جمال» اسم لفكرة معينة نراها متمثلة في كل الأشياء التي نقول عنها إنها جميلة، فنحن نسأل: ما هذه الفكرة الواحدة التي تكون في الشفق وتكون في قصيدة الشعر في آن واحد؟ فلئن كان جمال الشفق في لونه فليس لقصيدة الشعر لون، وإن جمال القصيدة من الشعر في صور ترسمها أو في لفظها الموزون المنغم؛ فليس للشفق صور ولا لفظ موزون منغم. قل ما شئت في العنصر الذي تراه مصدر الجمال في شيء ما، تجد أن هذا العنصر غائب في أشياء أخرى مما تصفه بالجمال. ويزيد الأمر تعقيدا أن هذا العنصر الواحد المعين الذي قد تراه مصدر الجمال في شيء ما، تعود فتراه هو نفسه قبيحا في سياق آخر؛ فما كل لون أحمر - مثلا - جميل مهما اختلف السياق الذي يرد فيه، بل إنك لتراه جميلا هنا قبيحا هناك. وفي هذا يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: «هل تجد أحدا يقول هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها؟» (ص36).
قد يقال إن المسمى الموضوعي الخارجي الذي تشير إليه كلمة «جمال» حين يقال عن شيء ما إنه جميل، هو الوحدة العضوية التي تكون بين أجزائه، وأن هذه الوحدة العضوية هي العنصر المشترك بين الأشياء الجميلة كلها؛ فهي في قصيدة الشعر وفي الزهرة وفي المرأة وفي الجبل وفي شفق الغروب؛ أي إن موضع الجمال في كل هذه الأشياء هو أن كل جزء من الشيء الجميل موضوع بالنسبة إلى سائر الأجزاء، بحيث يجيء في موضعه ذاك سندا ضروريا لا غناء عنه في إحداث الأثر الذي يتركه الشيء الجميل في نفس رائيه أو سامعه، ولو عمدت في الشيء الجميل إلى تغيير جزء من أجزائه زال الأثر الأصلي أو تغير تغيرا جوهريا؛ ففي الفنون المكانية كالنحت والتصوير والبناء تكون الوحدة العضوية في اتساق الأجزاء واتزانها، وفي الفنون الزمانية كالموسيقى والشعر تكون الوحدة العضوية في النمو الذي يحدث كلما أضفت نغمة جديدة أو بيتا جديدا؛ أقول إن الوحدة العضوية في الشيء الجميل قد يقال عنها إنها هي العنصر الموضوعي الخارجي الذي تشترك فيه الأشياء الجميلة كلها، وعندئذ تكون هي المدلول الذي تشير إلينا كلمة «جمال»، ولكنا نعود فنسأل: إنه على فرض أن الوحدة العضوية شرط لا بد من توافره في كل شيء جميل، فهل تكون هذه الوحدة العضوية قائمة في الشيء أم إنها صفة نخلعها عليه نحن حين ننظر إليه من وجهة نظر تجعله بالنسبة إلينا كائنا ذا وحدة عضوية؟ لماذا يكون التماثل في أجزاء البناء - مثلا - علامة اتساق وتناغم وجمال؟ أليس ذلك لأنه شبيه بالإنسان في تكوينه المتماثل؛ وإذن يكون التماثل في البناء جميلا لأن نظرة الإنسان الخاصة هي التي جعلته كذلك؟
إنك مهما حللت المدلول الموضوعي لكلمة «جمال» وجدته في النهاية يرتد إلى أمر ذاتي عند الإنسان المدرك؛ مما يجعلنا نقرر أن معنى هذه الكلمة لا يكون في الخارج، إنما يكون في الحالة النفسية الباطنية. وقل هذا في كل كلمة أخرى تدل على قيمة أو تعبر عن انفعال؛ فقولنا عن شيء ما إنه جميل ليس من قبيل قولنا عنه إنه مربع؛ لأن التربيع صفة يمكن ترجمتها إلى مقاييس موضوعية لا يتدخل الإنسان فيها بميوله الذاتية إلا بالحد الأدنى الذي يجعل عملية القياس متأثرة بحواس الإنسان، وأما الجمال فصفة لا يمكن ترجمتها إلى شيء من هذا. نعم قد تجعل تعريف الجمال في بعض الأشياء الجميلة أن تتحقق فيه مقاييس معينة، كأن نحدد أطوالا معينة لأعضاء الجسم الإنساني الذي نقول عنه إنه جميل، وأوزانا معينة لأجزاء القصيدة التي نقول عنها إنها شعر جميل، وهكذا، ولكن الأمر في ذلك كله مرهون بالأذواق المتغيرة من زمان إلى زمان ومن بلد إلى بلد، فضلا عن اختلاف المقاييس المقررة في مختلف الأشياء الجميلة؛ فهي في بيت الشعر غيرها في جسم المرأة، وليس لها وجود في الشفق والجبل. إن الشيء لا يكون مربعا وغير مربع في آن واحد بالنسبة لرجلين مختلفين؛ لأن تساوي الأضلاع أمر مرده إلى قياس موضوعي، وأما الجمال فقد يوجد في الشيء لهذا وينعدم فيه لذلك، حتى ليقول الرجلان المختلفان عن الشيء الواحد في اللحظة الواحدة إنه جميل وغير جميل؛ جميل لأحدهما وغير جميل للآخر، ولا تناقض عندئذ في القول؛ لأن الكلمة في كل من الحالتين تشير إلى أثر نفسي غير الأثر النفسي الذي تشير إليه في الحالة الأخرى؛ كما لا يكون تناقض في أن يكون أحد الرجلين مبصرا والآخر كفيف البصر، أو أن يكون أحد الرجلين سليما والآخر عليلا.
لذلك يقال عن الكلمات الدالة على قيم إنها نسبية في مدلولاتها؛ أي إن الكلمة منها - مثل كلمة «جميل» - لا يكون لها معنى إلا بالنسبة إلى فرد معين من الناس، فإذا قلت عن شيء إنه جميل، لم يكن لقولك معنى إلا إذا أكملته بإضافة اسم الفرد أو الجماعة التي تراه جميلا؛ جميل عند من؟ هو جميل عند فلان أو عند فئة معينة من الناس؛ ومتى كان الشيء الجميل جميلا عند من يقول عنه إنه جميل؟ إنه كان جميلا في أعين المصريين القدماء أو هو الآن جميل في أعين سكان الصحراء، وهكذا.
كلمة «جميل» وأشباهها من ألفاظ القيم، هي كالكلمات الدالة على علاقات لا تفهم وحدها ولا تفهم مع أحد الطرفين المرتبطين بالعلاقة دون الطرف الآخر؛ العلاقة التي تدل عليها كلمة «أكبر من» أو «على يمين» ليس لها وحدها معني ، كلا ولا يتم معناها إذا قلت عبارة ناقصة كهذه «س أكبر من»، أو «س على يمين»، ووقفت عند هذا الحد من القول، أكبر من ماذا أو على يمين ماذا؟ وهكذا قل في العبارة التي نقول فيها عن شيء إنه جميل، جميل عند من؟ ومتى وفي أي سياق كان الجميل جميلا؟
ولا يقلل من نسبية الجمال وما إليه من قيم أن تجمع فئة كبيرة من الناس على جمال شيء معين، بل لا يقلل من نسبيته أن يجمع العالم كله على جمال شيء معين؛ لأن الأمر رغم ذلك الإجماع سيظل من الناحية المنطقية عرضا قد يزول بغير وقوع في التناقض؛ فليس ما يمنع الناس من تحول تقديرهم للشيء فيقبح في أعينهم بعد جمال، أو يجمل بعد قبح.
وخلاصة القول هي أن الألفاظ الدالة على قيمة جمالية أو قيمة خلقية ليست من قبيل الأسماء التي تسمي شيئا بذاته في عالم الأشياء كأسماء الأعلام، وليست هي من قبيل الأسماء الكلية التي تدل الواحدة منها على مجموعة وصفية قد تتحقق عناصرها في شيء بذاته من أشياء العالم الخارجي، وليست هي من قبيل الكلمات المنطقية مثل «أو» و«إذا» مما لا يكون له مدلول خارجي لكنه يربط أجزاء الجملة ليجعل منها وحدة، بل هي نوع رابع وفريد؛ إذ هي لا تشير إلى أي مدلول خارج الإنسان الذي يسوقها في كلامه ليخرج بها انفعالا أحس به، وربما أراد أن يثير انفعالا شبيها به عند سامعه.
الفصل الخامس
وحدات التحليل
1
هذا العالم الذي نعيش فيه قوامه حوادث، وأعني بالحوادث ما تحسه الحواس من لقطات متتابعة، كلمعان الضوء ولمسات الأصابع ونبرات الصوت؛ فكل شيء نقول عنه إنه ذو كيان واحد متصل لفترة من الزمن تطول أو تقصر، كهذا القلم الذي بين أصابعي، وهذه الورقة التي أكتب عليها، وتلك الشجرة، والشمس والقمر، كل شيء من هذه الأشياء ليس في حقيقة أمره كيانا واحدا متصلا كما قد نتوهم، إنما هو - إذا ما حللت الموقف إلى عناصره الأولية البسيطة - حادثات يتبع بعضها بعضا؛ كل شيء من هذه الأشياء هو سلسلة حالات، أو قل هو سلسلة من ظواهر، والذي يخلع عليه الواحدية هو ما بين تلك الحالات من روابط وعلاقات؛ فهو نفسه الذي يخلع الواحدية على أجزاء المسرحية أو ألحان النغم. لماذا نقول عن المسرحية إنها أثر واحد مع أنها مكونة من آلاف الكلمات؟ ولماذا نقول عن النغم إنه واحد مع أنه نبرات من الصوت متتابعات؟ إنك تقول عن المسرحية أو النغم إنه كيان واحد لما بين أجزائه الكثيرة من روابط وعلاقات، وهكذا قل في هذا القلم وفي هذه الورقة وفي الشمس والقمر والنهر والشجرة، بل هكذا قل في الفرد الواحد من الناس؛ فلست أنت بالجزئية الواحدة ذات الكيان الواحد المستمر المتصل، بل أنت تاريخ من حوادث، أنت هو ما قد عشته من دقائق ولحظات، لك في كل واحدة منها حالة تختلف قليلا أو كثيرا عن سابقتها وعن لاحقتها. ولا تتوهمن أنك أنت شيء قائم بذاته تطرأ عليه هذه الحالات، بل أنت هو حالاتك هذه، ولكنها اللغة نستخدمها في التعبير هي التي توهمنا بطريقة تركيبها أن المبتدأ شيء والخبر شيء آخر، أو أن الموضوع شيء ومحمولاته شيء آخر؛ فإذا قلت «البرتقالة صفراء» ظننت أن البرتقالة شيء مستقل عن لونه الأصفر، مع أن البرتقالة هي هي حالاتها من لون وشكل وما إليها، وقد ارتبطت هذه الحالات بعضها ببعض عند إدراك الإنسان إياها بحيث أصبح بينها واحدية في البناء على تعدد العناصر التي دخلت في هذا البناء.
وأعود فأقول إن العالم الذي نعيش فيه قوامه هذه الحوادث التي ترتبط في مجموعات، نجعل كل مجموعة منها شيئا واحدا، كالعقاد والمقطم والنيل والقاهرة، ومن أشياء هذا العالم الواقعي ألفاظ اللغة وعباراتها؛ فالكلمة أو العبارة - منطوقة أو مكتوبة - هي كذلك مجموعة من حوادث. الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة «واحدة»، بل هي ملايين الملايين من حالات متفرقة؛ فكل مرة ينطق فيها أحد الأفراد بكلمة ما، وكل مرة يكتب فيها كاتب هذه الكلمة؛ هي حالة من حالات الكلمة. وكذلك قل في العبارة اللغوية التي هي من كلمات، إنني أريد أن أجمع قوتي كلها لأؤكد بكل ما وسعني من قوة هذه الفكرة التي أسوقها، وهي: إن الكلمة أو العبارة من كلمات اللغة وعباراتها هي من مادة العالم الواقع، لا فرق بين كلمة «كتاب» أنطق بها موجة من هواء، وبين العاصفة التي تهب وتقتلع الأشجار وتهدم المنازل إلا في الدرجة وحدها؛ ولا فرق بين كلمة «كتاب» أكتبها قطرة من مداد - والمداد مادة - وبين جبال الهملايا سوى أن كلمة «كتاب» كومة صغيرة من ذرات المادة، والهملايا مرتفع شامخ منها؛ فكلمات اللغة وعباراتها - إذن - من مادة الواقع، هي جزء من الواقع، وقد اتخذنا بعض وقائع العالم لنرمز بها إلى بعضها الآخر؛ إذ اتخذنا من موجة صوتية معينة رمزا يشير إلى «المقطم»، واتخذنا كذلك من رسم معين أخطه على الورق رمزا يشير إلى ما شئنا أن نسميه بهذا الرسم من أشياء؛ وبهذا يصبح الرمز المختار ذا «مدلول» و«معني».
إن لكلمة «معني» معاني عدة، تلتقي كلها في أن شيئا يرمز إلى شيء آخر، والكلمات والعبارات اللغوية هي واحدة من أنواع الرموز ذوات «المعنى»؛ فقد يلاحظ الإنسان بين ظاهرتين طبيعيتين ارتباطا، بحيث إذا ظهرت إحداهما توقع الأخرى، كارتباط البرق والرعد، فإذا رأينا البرق توقعنا أن نسمع صوت الرعد، وعندئذ يكون «معنى» البرق أن رعدا سيتلوه، ومعنى السحاب ذي الخصائص المعينة أن مطرا وشيك الهطول، ومعنى انخفاض الزئبق في البارومتر أن عاصفة ينتظر هبوبها، وهكذا. ولما كان ارتباط السبب بالمسبب هو من قبيل هذا الارتباط الذي يجعلنا نتوقع ظاهرة إذا ما بدت ظاهرة، جعلنا السبب هو «معنى» المسبب؛ فإذا رأيت نافذة دارك مكسورة مع أنك قد تركتها مغلقة، فلك أن تسأل: ما «معنى» هذا؟ ليكون الجواب عن سؤالك هو ذكر السبب الذي أحدث الظاهرة التي أدهشتك. ومن قبيل ذلك روبنسن كروسو وهو وحده في الجزيرة، إذ رأي ذات يوم آثار أقدام على الأرض، فكان «معناها» عنده أنه لا بد أن يكون في الجزيرة إنسان سواه. وظواهر المرض عند المريض لها عند الطبيب الفاحص «معنى»، وهذا المعنى هو العلة التي عنها حدثت تلك الظواهر.
وكما أن السبب قد يتخذ معنى للمسبب، فكذلك قد يتخذ المسبب «معنى» لسببه؛ فلو رأيت رجلا يحمل حقائبه ويجري في الطريق، وسألت: ما معنى هذا؟ فقد يكون الجواب: إنه يريد أن يلحق بالقطار. أو أن أرى رجلا يتحدى آخر بكلامه وسلوكه فأسأل: ما معنى هذا التحدي؟ ليكون الجواب: إن صاحب التحدي يريد أن يستثير القتال. وهكذا.
معان مختلفات لكلمة «معنى». ومن بينها أن أري رسما على الورق (هو رسم كلمة أو عبارة) فأسأل: ما معناه؟ ليكون الجواب إشارة إلى ما قد جاء هذا الرسم ليرمز إليه. وهكذا ترى أن «المعنى» دائما هو أن شيئا يرمز إلى شيء، وكلا الشيئين يكونان من كائنات العالم الواقع.
غير أننا ها هنا سنقصر حديثنا على مجموعة واحدة من مجموعات الأشياء الرامزة، وهي مجموعة الألفاظ والعبارات اللغوية، وسنتصور دنيانا الواقعة ذات شقين؛ فالكائنات والوقائع من جهة، واللغة التي ترمز إليها من جهة أخرى. وإذا كانت دراسة الكائنات والوقائع هي من نصيب العلماء كل فيما يختص به، فإن اللغة باعتبارها رموزا تشير إلى عالم الأشياء هي وحدها المجال الذي تجول فيه الفلسفة بالمعنى الذي نريده لها؛ ومن ثم نفهم ما يقال الآن عن الفلسفة - على الأقل بالمعنى الذي نريده لها - إنها علم «المعنى».
لكن الفلسفة إذ تجعل «المعنى» موضوع بحثها على وجه التحديد، فهي لا تريد بذلك أن تكتب القواميس لتضع إلى جانب كل كلمة معناها؛ ففرق بعيد بين أن يسأل المتعلم عن معنى لفظة أو رمز معين، كأن يسأل: ما معنى «زاوية قائمة» أو «قمر صناعي» أو «اشتراكية»؟ وبين أن يسأل الفيلسوف قائلا: ما المعنى؟ ما الشروط التي تتوافر في الشيء الذي نقول إنه «معنى» لشيء آخر مهما كان نوع الشيئين؟ فالأمر هنا شبيه في عالم الاقتصاد بالفرق بين أن يسأل سائل: «ماذا أستطيع شراءه بهذا القرش؟» أو «بكم تباع الأقة من اللحم؟» وبين أن يسأل الاقتصادي قائلا: ما هي القوة الشرائية بصفة عامة؟ بغض النظر عن الثمن المدفوع والشيء المشترى في الحالات الخاصة من حالات البيع والشراء.
والبحث في «المعنى» ماذا يكون وكيف يكون هو الشغل الشاغل للكثرة العظمى من المشتغلين بالفلسفة في يومنا هذا. وليس الأمر جديدا كل الجدة؛ فسقراط لم يشغله شيء بمقدار ما شغله تحديد المعنى لهذه الكلمة أو تلك، وكذلك أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته يجعل تحديد المعنى جزءا هاما من عمله الفلسفي، وأرسطو في منطقه قد جعل «التعريف» الذي يحدد معاني الكلمات موضوعا لبحثه، وكثير جدا غير هؤلاء من فلاسفة العصور الوسطى وفلاسفة العصر الحديث قد جعلوا مشكلة المعاني وتحديدها أمرا جديرا بالاهتمام والبحث، لكن الموضوع لم يكن قط على نحو ما هو عليه اليوم من حيث يراد له أن يكون هو موضوع الفلسفة الذي لا موضوع لها سواه؛ ذلك لأن أولئك الفلاسفة الأولين حين كانوا يبحثون في المعاني كانوا من جهة يبحثون في تحليل المدركات بغض النظر عما تشير إليه، ومن جهة أخرى كانوا يظنون أن عمل الفلسفة الرئيسي هو البحث في حقيقة الوجود نفسه؛ فلا بأس - مثلا - في أن يتحدث الفيلسوف عن الفلك وعن التطور كما يتحدث العلماء؛ فالفرق بين المعاصرين وأسلافهم من حيث اهتمام الفريقين بالمعنى هو باختصار - وسنذكر الأمر تفصيلا فيما بعد - أن الأسلاف كانوا يجعلون وحدة التحليل هي مفهوم الكلمة الواحدة، فما «الشجاعة» مثلا وما «الروح»؟ بينما المعاصرون يجعلون الوحدة هي الجملة، أو إن شئت فقل باصطلاح المنطق إنها القضية؛ لأن الرموز اللغوية كلها تكون بغير معنى إلا إذا وضع الرمز في قضية، لماذا؟ لأن قوام العالم الخارجي هو كائناته الجزئية وهي مجتمعات بعضها مع بعض في «وقائع»، والواقعة الواحدة لا تصورها إلا جملة تكون كلماتها مقابلة للجزئيات التي هي أطراف الواقعة، وعلاقاتها مقابلة للروابط التي تصل هاتيك الأطراف فتجعل منها واقعة واحدة.
وفرق آخر بين المعاصرين والأسلاف في اهتمام الفريقين بالبحث في «المعنى»، وهو أنه بينما المعاصرون يقصرون أنفسهم على جانب اللغة وحده يحللونه من حيث قوته الرامزة، ترى الأسلاف يتناولون بالبحث جانب الكون المرموز إليه؛ فبينما عمل المعاصرين منطق صرف - أي تحليل للكلام من حيث دلالته ومعناه - نرى عمل الأسلاف يجاوز المنطق إلى حيث البحث في الطبيعة، بل وفيما وراءها.
2
وما دمنا بصدد الخصائص العامة التي تميز الفلسفة المعاصرة عما سبقها، وهي اهتمامها بالبحث في «المعنى» وجعلها القضية - لا الاسم - هي وحدة الفكر التي ينتهي إليها التحليل، فجدير بنا أن نستطرد قليلا لنذكر المراحل الرئيسية التي تطور الأمر خلالها حتى أصبح على ما هو عليه اليوم.
ليعجب القارئ ما شاء له العجب إذا ما علم أن الفلاسفة لم يفكروا تفكيرا جادا في تحديد موضوعهم إلا منذ عهد قريب؛ فلم يكد واحد منهم يسأل نفسه: ماذا تحاول الفلسفة أن تصنعه مما ليس يصنع مثله العلم الطبيعي أو العلم الرياضي أو اللاهوت؟ ولعل «كانت» أن يكون أول فيلسوف حديث يلقي هذا السؤال جادا، ويحاول الإجابة عنه إجابة يقرر بها أن علماء الرياضة والطبيعة ورجال اللاهوت لهم أن يقولوا ما يريدون أن يقولوه؛ فليس من شأن الفيلسوف أن يشاركهم القول، ولا أن يحكم على قول معين بالصواب وعلى آخر بالخطأ، ولكنه يتناول هذه الأقوال المختلفة ليبحث عن الشروط التي ينبغي أن تتوافر حتى يمكن إطلاقا لصاحب القول أن يقول ما يقوله.
على أن المهمة التي تضطلع بها الفلسفة على وجه التحديد، متميزة بها عن سائر العلوم، لم تتبلور ولم تستوقف الأنظار بصورة واضحة إلا في أوائل هذا القرن العشرين. وإذا جاز لنا أن نسمي البحث في تحديد موضوع الفلسفة «فلسفة الفلسفة» كان لنا أن نسأل متعجبين: كيف أمكن للفلسفة طوال عصورها أن تفلسف شتي جوانب المعرفة ولا تفلسف نفسها؟ كيف أمكن للفلاسفة أن يتعرضوا لكل ما قد تعرضوا له من شئون المعرفة والكون ولا تتعرض أولا لرسم معالم طريقها؟
لم تحاول الفلسفة إلا منذ عهد قريب جدا أن تحدد الرقعة التي تبني عليها دارها، ولا عجب أن رأيناها تجاوز حدودها وتبني على أرض الجيران، حتى نهض هؤلاء الجيران فطردوها من أرضهم واحدا بعد واحد؛ فحتى أواخر القرن الماضي - ودع عنك القرون السوالف - لم يكن للفيلسوف عمل خاص كما يكون - مثلا - لعالم النبات أو عالم الكيمياء عمل خاص، فكان الفيلسوف هو العلامة كائنا ما كان العلم الذي يحيط به؛ فلم يكن مما يخرج بالكلمة عن معناها المألوف أن تسمي عالم الفلك أو عالم الكيمياء أو عالم النبات فيلسوفا، ولم يكن مما يخرج بالأمر عن حدوده المألوفة أن يجيء إنتاج الفيلسوف محتويا على ضروب من العلم مختلفات؛ فابن سينا فيلسوف بمنطقه وبطبه على السواء، وديكارت فيلسوف بنظرية المعرفة وبنظرية البصريات على السواء. أليس عجيبا ألا تنشأ في اللغة الإنجليزية كلمة تدل على العلم بمعناه الخاص (أعني كلمة
Science ) إلا في القرن الماضي، فصاغها من صاغها لأول مرة عام 1840م؟
1
ثم أليس عجيبا ألا يكون عندنا في اللغة العربية كلمة تدل على هذا المعنى الخاص حتى اليوم؛ فكلمة «علم» وكلمة «عالم» بالمعنى الذي يحدد استعمالها لعلم الطبيعة لا تعرفها اللغة العربية، وكل من تعلم شيئا فهو عالم ومعرفته علم؛ فدارس الشريعة عالم، ودارس النحو والصرف عالم، كما أن دارس الفلك أو الكيمياء عالم. نعم، لم يكن للفلسفة معنى يقصرها في ميدان متميز عن ميادين العلوم الطبيعية والرياضية وعن ميدان اللاهوت؛ إذ كان للفيلسوف أن يتحدث فيما شاء من هذه الموضوعات، غير متميز - أحيانا - إلا بشيء واحد، وهو أنه لا يعتمد على شهادة الحس في ملاحظاته وتجاربه، بل يعتمد على ما يستخرجه من جوفه مستعينا بما يسميه «الحدس» أو البصيرة النافذة إلى حقائق الأمور دون حاجة منه إلى ممارسة هذه الأمور بحواسه الظاهرة.
ولعل الخطوة الرئيسية الأولى في الطريق إلى تحديد الفلسفة وتحديد عملها، قد جاءت أول ما جاءت على أيدي فئة من رجال الرياضة، مثل «فريجه» و«هوسرل» و«رسل» الذين أرادوا أن يخلصوا الرياضة من كل شائبة تشوبها مما ليس برياضة في طبيعته؛ أعني أن يخلصوها من كل ما هو تجريبي أو نفسي؛ ذلك لأن المدركات الرياضية كانت حتى «جون ستيوارت مل» في القرن الماضي ممتزجة مختلطة بصنوف من المعرفة التي تجيء عن طريق الحواس، أو التي تجيء عن طريق الاستبطان لما يجري في الشعور؛ ففكرة العدد 2 مثلا، أو فكرة المثلث القائم الزاوية قد جاءت إلينا من تعميم وصلنا إليه خلال ما قد شاهدناه بحواسنا من أزواج أو مثلثات، فلا فرق بين الطريقة التي كونت بها فكرتي عن «الشجرة» بصفة عامة والطريقة التي كونت بها فكرتي عن العدد 2 أو عن المثلث القائم الزاوية؛ فكل من الطريقين يبدأ من مشاهدات جزئية وينتهي إلى تعميم كلي. هكذا كان يقول «مل»؛ لأنه لم يكن يفرق من حيث الأساس المنطقي بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، كما لم يكن أغلب الفلاسفة من قبله يفرقون، إلا أن اتجاه السير يختلف عنده عنه عندهم؛ فبينما هو يجعل العلوم الرياضية كالعلوم الطبيعية في طريقة تحصيلها لأنها تجريبية مثلها واحتمالية مثلها، كان الفلاسفة السابقون يجعلون العلوم الطبيعية كالعلوم الرياضية في طريقة الوصول إليها؛ لأنها قبلية مثلها، يدركها العقل بغير حاجة ضرورية إلى تجربة الحواس؛ ولهذا فهي يقينية مثلها، أو ينبغي أن تكون كذلك.
ثم جاء في النصف الثاني من القرن الماضي هؤلاء الرياضيون يحاولون تخليص الرياضة مما يخلطها بعلوم الطبيعة؛ لأنهم رأوها مختلفة عنها في أساسها المنطقي نفسه؛ فالرياضة البحتة لا نحصلها بالاستقراء كما نحصل العلم بكائنات الطبيعة، كلا، ولا نحصلها بالاستبطان النفسي كما نحصل العلم بذواتنا الشاعرة؛ فحقائق الرياضة البحتة من صنف فريد، لا هو شبيه بهذا ولا بذلك؛ فمصطلحاتها محددة وبراهينها قاطعة، ونظرياتها تصدق صدقا ضروريا وشاملا. نعم، إن المنطق الصوري (وهو جزء من الفلسفة بمعناها في العرف القديم، لكن ما كل فلسفة منطق في ذلك العرف) كالرياضة يحدد مصطلحاته، ويقطع في براهينه، وتجيء نظرياته صادقة صدقا ضروريا وشاملا؛ فلا فرق بين أن تقول في الرياضة إن 2 + 2 = 4، وأن تقول في المنطق الصوري إنه إذا كانت أ هي ب، وكانت ب هي ج، كانت أ هي ج؛ فإذا كانت الرياضة والمنطق الصوري معا لا يجعلان الكائنات الطبيعية المحسوسة موضوعهما ، ولا يجعلان المشاعر النفسية موضوعهما كذلك، فأين يقع ذلك الموضوع؟ أيكون هنالك مجال آخر إلى جانب المجالين اللذين قد جرى العرف طوال العصور على قسمة العالم إليهما، وهما الطبيعة من ناحية، والذات من ناحية أخرى؟ نعم. هكذا أجاب هؤلاء الرياضيون بادئ ذي بدء؛ إذ نهضوا لتخليص الرياضة من شوائب التجربة الحسية والمشاعر النفسية في آن معا. نعم هنالك مجال ثالث إلى جانب الطبيعة والنفس، وكائناته كائنات منطقية خالصة، فلا هي من «مادة» كالطبيعة ولا هي من «وجدان» كالنفس والشعور؛ كائناتها منطقية خالصة، مثل «كل» و«إذا» و«أو» و«حق» و«باطل»، ومثل «الفئات» (أي الأنواع) و«الأعداد» و«استنباط النتائج من مقدماتها» وغير ذلك. ولو قلنا إنه قد تبين أن هنالك مجالا ثالثا إلى جانب مجالي علم الطبيعة وعلم النفس، وأن ذلك المجال الثالث يشمل كائنات منطقية خالصة، فقد قلنا بالتالي إن جانبا من ميدان الفلسفة - جانبا واحدا على الأقل - وهو المنطق، قد خرج من نطاق البحث الفلسفي كما كان مفهوما في عصور التاريخ.
وأعقبت ذلك مرحلة أخرى، حرمت فيها الفلسفة من جانب آخر من جوانبها، وذلك حين انتقل علم النفس من ميدان الاستبطان الذاتي إلى ميدان البحث التجريبي والحساب الإحصائي، وبعد أن كان الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية كيف تفكر وكيف تعرف وكيف تسير الجسم في طريق سلوكي معين، أقول بعد أن كان هؤلاء الفلاسفة الباحثون في النفس الإنسانية من شتى نواحيها يعدون أنفسهم من المشتغلين ب «العلوم العقلية»، جاءت التجارب العلمية في معامل علم النفس الجديد لتتناول بآلاتها ومقاييسها وإحصاءاتها ما كان هؤلاء يتناولونه - وهم جالسون على كراسيهم - بالتأمل الحدسي. وها هنا تساءل القوم: ماذا بقي لرجال الفلسفة من موضوعات «المعرفة» و«الأخلاق» و«المنطق» إذا لم تعد هذه الأشياء من الحالات التي يصح فيها القول بمجرد التأمل الحدسي؟
ثم جاءت خطوة ثالثة وأخيرة في تطور موضوع البحث الفلسفي، كما كان مفهوما عند النظرة التقليدية؛ فقد خرج المنطق الصوري ليكون مع الرياضة في مجال مستقل عن مجالي الطبيعة والنفس، ثم خرج علم النفس ليدخل معامل التجارب وقوائم الإحصاء مع سائر العلوم الطبيعية، وأخيرا جاء «برنتانو» (فيلسوف نمساوي كان أستاذا بجامعة فيينا في أواخر القرن التاسع عشر) ليبرز مبدأ استمد أصوله من فلسفة العصور الوسطى، وهو أن الحالات العقلية والعمليات العقلية كلها لا بد أن تشير إلى شيء خارج حدودها؛ فكما يقال عن الفعل المتعدي إنه يتطلب حتما مفعولا به ليتم معناه، فكذلك يقال عن أية حالة أو عملية عقلية إنها متعدية بحيث تتطلب طرفا خارج كيانها ليتم معناها؛ فالفكرة من أفكارك لا بد أن تكون فكرة عن شيء، والحالة الوجدانية في لحظة معينة من حياتك لا بد أن تكون وجدانا متعلقا بشيء، وعلى الجملة لا بد لكل فعل شعوري من موضوع ينصب عليه؛ فلا تفكير ولا وجدان ولا إرادة «في الهواء» كما يقولون، بل يتحتم أن يكون لهذه الحالات الشعورية كلها أطراف خارجية تتعلق بها. إنك إذا قلت إني أرى فلا بد أن تكون الرؤية منصبة على مرئي، وإذا قلت إني حزين فلا بد أن يكون الحزن ناشئا عن شيء بعثه في نفسك، وهكذا. وليست الحالة الشعورية من طبيعة الشيء الذي يكون مدارها؛ فقد أتخيل - مثلا - جنية لها وجه امرأة وذيل سمكة، فيكون خيالي هذا كائنا عقليا موجودا وجودا فعليا، مع أن الشيء الذي يتعلق به الخيال - وهو الجنية - ذو جسم مشكل على نحو معين وليس له وجود. وقد أفرض أنني أسكن قصرا شامخا، فيكون الفرض حالة عقلية موجودة فعلا في مجري شعوري، على حين أن موضوع الفرض غير ذي وجود. وباختصار فإن الحالة الشعورية أو الفعل الشعوري شيء غير موضوعه الذي يتعلق به.
وتبع «برنتانو» اثنان من تلاميذه، هما «مينونج» و«هوسرل»، وذهبا كما ذهب أستاذهما إلى مبدأ «التعدي» الذي شرحناه، والذي يشترط لأي فعل شعوري طرفا يتعلق به ليتم معناه. غير أن «مينونج» و«هوسرل» قد اقتصرا في بحثهما على الحالات العقلية الإدراكية دون الحالات الشعورية الأخرى من وجدان وإرادة، وانتهي كلاهما إلى القول بأنه لا بد لكل تصور عقلي، أو حكم، أو تذكر، أو استدلال، أو غير ذلك من العمليات الإدراكية، لا بد له من طرف خارجي يشير إليه ويتعلق به؛ فإذا تكون في رأسي تصور كلي مثل «إنسان»، أو حكم مثل «الإنسان فان»، أو استدلال مثل «إذا كانت الحرارة تذيب الأجسام فهي إذن تذيب الجليد»؛ إذا تكون في رأسي شيء من هذا، فلا بد أن يكون هنالك شيء خارجي يكون هو معنى هذه الأشياء ومثبتا لصدقها، ولكن أين عساها أن تكون؟ إنني قد أفرض ما ليس له وجود في العالم الطبيعي، كأن أفرض - مثلا - أن شجرة سمقت بفروعها حتى بلغت عنان السماء، كيف يكون لهذا الفرض معنى إذا لم يكن هنالك الكائن الفعلي الذي يصوره الفرض؟ لكن هذا الكائن الفعلي الذي يجعل للفرض معنى ليس له وجود في العالم الطبيعي، كلا ولا وجود له في العالم النفسي؛ لأن الشجرة التي هي من خشب وجذوع وفروع لا تكون داخل الرأس؛ إذن فأين يكون الشيء الذي يجعل لهذا الفرض معنى؟ أين يكون المسمى الذي يجعل معنى لكلمة «إنسان»؟ إنها كلها أشياء لا بد من افتراض وجودها ليكون لكلامنا معنى؛ وإذن فلا بد من افتراض مجال ثالث أو عالم ثالث إلى جانب الطبيعة من جهة والنفس من جهة أخرى، هو مجال «المعاني»، وهو هو نفسه المجال الذي تختص به الفلسفة والمنطق لتترك الطبيعة لعلومها والنفس لعلمها؛ فلئن كانت الكائنات الطبيعية من ضوء وصوت وكهرباء وماء ونبات من شأن علمي الطبيعة والحياة، ثم إن كانت أفعال العقل وحالاته من شأن علم النفس، فهنالك مجال ثالث هو ميدان الرياضة والفلسفة والمنطق، وأعني به المجال الذي تكون كائناته هي ما تشير إليه أفكارنا ومشاعرنا وأحكامنا؛ فالفكرة أو الوجدان أو الحكم ليس ضوءا ولا صوتا ولا شجرا ولا ماء حتى يكون موضوعا للعلوم الطبيعية، وليس هو مجرد حالات عابرة يجري بها تيار العقل، تظهر وتختفي، ليكون مما يبحثه علم النفس، ولكنها ثوابت، ولا بد أن تكون مشيرة إلى ثوابت مثلها كائنة في عالم وحدها.
وما إن استهل القرن العشرون بسنواته الأولى، حتى أدرك رجال الفلسفة والمنطق أن مجال نشاطهم ليس هو مجال العلوم الخاصة؛ فليست الفلسفة علما يقف إلى جانب العلوم الأخرى من طبيعة وكيمياء وفلك ونفس، كلا، ولا هي مما يحصل بالاستقراء والمشاهدة وإجراء التجارب، بل هي تجول في هذا المجال الثالث الذي أشار إليه «مينونج» و«هوسرل»، والذي قوامه معاني ما يطوف بعقولنا من أفكار ومبادئ، وبخاصة في العلوم الصورية التي هي المنطق والرياضة؛ فأين أجد - مثلا - معني قانون الذاتية في المنطق الذي يقول إن الشيء يظل هو ما هو؛ أي إن أ = أ؟ وأين أجد معنى العدد صفر أو العدد 3 أو أي عدد شئت؟ وأين أجد معنى المثلث والدائرة؟ لا تقل إنك واجد هذه المعاني في دنيا الأشياء الجزئية، فتجد قانون الذاتية - مثلا - في أن صديقك محمدا هو اليوم ما كان بالأمس، وتجد معنى الثلاثة في هذه البرتقالات الثلاث، ومعنى الدائرة في هذا القرش؛ لا تقل ذلك لأن هذه كلها تطبيقات جزئية للفكرة، وأما معنى الفكرة نفسها فلا بد أن يكون شيئا آخر غير تطبيقاتها، بحيث لو انعدمت هذه الحالات التطبيقية كلها بقيت الفكرة من جهة ومعناها من جهة أخرى، وأعود فأسأل: أين يكون معناها؟ وجواب «مينونج» و«هوسرل» هو أن المعنى إنما يكون في عالم ثالث غير عالم الطبيعة وعالم النفس.
تلك إذن أفلاطونية من طراز جديد؛ فقد كان أفلاطون يفترض إلى جانب العالم الطبيعي والعالم الذهني عند الواحد من الناس، عالما ثالثا قوامه معاني الأفكار الكلية التي تكون في العقل الإنساني؛ فمثلا هناك جزئيات في العالم الطبيعي، كأفراد الناس من زيد إلى عمرو وخالد، ثم هنالك في عقلي فكرة عامة كلية عن «الإنسان»، وهي فكرة تتمثل في زيد وعمرو وخالد، لكن هؤلاء ليسوا معناها؛ إذ قد ينمحي هؤلاء الأفراد وتبقى فكرة الإنسان تتطلب معنى، وأخيرا هنالك عالم ثالث يفترض وجوده أفلاطون، هو عالم المثل، يجعله مقرا لمعاني الأفكار الكلية التي في رءوسنا؛ ففكرة «الإنسان» تجد معناها في مثال الإنسان؛ أي في تعريفه أو جوهر حقيقته الذي هو من كائنات العالم الثالث.
أقول إنها كانت أفلاطونية من طراز جديد؛ تلك التي جاء بها «برنتانو» و«مينونج» و«هوسرل» حين افترضوا عالما ثالثا إلى جوار الطبيعة والنفس يكون هو المجال الذي نلتمس فيه معاني أفكارنا. نعم قد كانت لفتة قوية منهم وجهوا بها أنظارنا إلى «المعنى» وضرورة أن يكون هو الشاغل الأول للفيلسوف، لكن لماذا نضطر إلى خلق عالم ثالث ليكون مستقرا للمعاني؟ إننا قد نوافقهم على أن معنى قضية ما، مثل «إذا كانت أ أصغر من ب، وكانت ب أصغر من ج، كانت أ أصغر من ج»، نوافق على أن قضية كهذه لا نجد معناها قائما بين الأشياء، ولكن هل لا بد للمعنى أن يكون «شيئا» حتى أضطر إلى البحث له عن عالم يستقر فيه؟ ألا يجوز أن يكون المعنى هو طريقة أداء أتناول بها ما في الطبيعة من أشياء، فإن وجدت أن القضية المذكورة أداة تمكنني من التصرف العملي في أشياء الطبيعة كانت ذات معنى وإلا فهي بغير معنى؟
إنني لو جعلت المعنى هو طريقة الأداء، زالت ضرورة العالم الثالث، عالم المعاني؛ بهذا يكون «المعنى» لا هو من الأشياء الطبيعية ولا هو من الحالات النفسية؛ لا لأنه من كائنات عالم ثالث، بل لأنه ليس كائنا على الإطلاق؛ أي ليس شيئا، بل هو طريقة عمل ووسيلة أداء.
فإذا قلنا إن الفلسفة هي علم المعاني وجب ألا نفهم من ذلك أنها علم يتناول أشياء بذواتها مستقلة عن هذا العالم بشقيه الطبيعي والعقلي، بل هي علم المعاني كما هي متمثلة في هذين المجالين. والأمر هنا شبيه بقولنا عن الاقتصاد إنه علم القيم في عمليات التبادل، حين لا نريد بالطبع أن نقول إن هناك مجالات ثلاثة؛ مجال السلع، ومجال النقود، ومجال القيم في عمليات التبادل. وإن هذا المجال الثالث هو مجال البحث في علم الاقتصاد. إننا بالطبع لا نريد شيئا كهذا، بل نريد أن نجعل القيم في عمليات التبادل متمثلة في مجالي السلع والنقود.
2
الفلسفة هي علم المعاني، ومسائلها - كما يقول وتجنشتين - هي مسائل لغوية؛ بمعنى أنها تنحل بتحليل العبارات التي تعبر عنها، لكنا لا نقصد أن يكون البحث اللغوي هنا من قبيل النحو أو الصرف أو طريقة النطق أو البلاغة وما إلى ذلك، بل نريد بحثا ينصب على منطق اللغة من حيث هي أداة ترسم لنا طرائق السلوك إزاء العالم الذي نعيش فيه.
3
الجملة اللغوية كائنا ما كان نوعها مؤلفة من عدد من الكلمات، ومعناها مستمد من معاني كلماتها، ولا بد أن تكون بين هذه الكلمات وحدة تجعل منها رمزا واحدا له من الخصائص ما ليس للكلمات المفردة الداخلة في تكوينها.
لقد أسلفنا لك القول في الفصل السابق عن مدلولات الكلمات وهي مفردة، وذكرنا لك منها أربعة أنواع؛ فنوع تكون الكلمة من كلماته اسما لمسمى واحد لا يتكرر، وهذا الشرط يتحقق في اسم الإشارة «هذا»، ويتحتم بطبيعة الحال أن يكون لمثل هذا الاسم مسماه، وإلا فقد وظيفته التي من أجلها وجد؛ ونوع ثان تكون الكلمة من كلماته اسما لمجموعة أعضاء تجتمع كلها في فئة واحدة لتشابه صفاتها، مثل «إنسان»، وفي مثل هذه الحالة لا يتحتم أن يكون للاسم مسمى؛ لاحتمال أن تكون الصفات الدال عليها الاسم غير متحققة تحققا فعليا في فرد من الأفراد؛ ولذلك عد هذا النوع من الكلمات رموزا ناقصة لجواز أن يوجد الرمز بغير المرموز إليه؛ ونوع ثالث كلماته بغير مدلول في عالم الأشياء، لكنها ضرورية في بناء الجملة بما توجده من الروابط بين كلماتها، مثل «إذا» و«ليس». وأمثال هذه الكلمات يسمونها بالكلمات المنطقية؛ لأنها هي التي تحدد صورة الجملة وتحدد حالات صدقها؛ ونوع رابع وأخير قوامه كلمات دالة على قيمة جمالية أو خلقية أو معبرة عن انفعال، وأمثال هذه الكلمات يشير إلى داخل المتكلم ولا يشير إلى شيء خارجه، ومن هنا كانت بغير معنى إذا قصدنا بالمعنى مدلولا خارجيا يشترك في مشاهدته أكثر من شخص واحد.
لكن ما كل صف من الكلمات يكون جملة ذات معنى؛ فأول ما يشترط ليكون للجملة معنى هو أن تكون بين كلماتها رابطة توحد بينها في رمز واحد له من الخصائص ما ليس لمفرداته . وكثيرا ما يندمج التركيب اللغوي اندماجا يضللنا عن حقيقة العناصر المكونة له؛ فلا بد لمن شاء أن يحلل العبارة اللغوية التي يكون إزاءها أن يطمئن أولا إلى أنها جملة واحدة لا مجموعة من الجمل متداخل بعضها في بعض؛ وذلك لأن ما يعده النحو جملة واحدة قد لا يكون كذلك من الناحية المنطقية؛ فمن الناحية المنطقية لا تكون الجملة جملة واحدة إلا إذا كانت دالة على واقعة بسيطة واحدة، ولا يستطيع من يريد مراجعة الكلام ليتحقق من صدقه أن يحكم على الجملة بصدق أو بكذب إلا إذا كانت جملة واحدة تقابلها واقعة بسيطة واحدة؛ وعندئذ يمكنه مراجعة الجملة على الواقعة فيتبين صدقها أو عدم صدقها؛ فعبارة كهذه «أبو بكر وعمر من الخلفاء الراشدين» ليست جملة واحدة، بل جملتان هما: «أبو بكر من الخلفاء الراشدين» و«عمر من الخلفاء الراشدين»، ولا يتوقف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وكل منهما يتطلب تحقيقا يثبتها على حدة. أما قولنا «أبو بكر وعمر متساويان في الطول» فهو جملة واحدة من الناحية المنطقية؛ لأن المرجع في صدقها واقعة خارجية واحدة. ونسوق لك مثلا آخر يوضح الفرق بين ما هو جملة واحدة من الناحية المنطقية وما هو أكثر من جملة؛ فعبارة مثل قولنا «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلا»، جملتان لا يتوقف صدق الواحدة على صدق الأخرى، وهما «خرجت بالأمس» و«كان المطر هاطلا»؛ فقد يكون صدقا أني خرجت بالأمس لكن المطر لم يكن عندئذ هاطلا، وكذلك قد يكون صدقا أن المطر كان بالأمس هاطلا لكني لم أخرج من الدار. أما قولنا «خرجت بالأمس حين كان المطر هاطلا» فجملة واحدة؛ لأن تحقيق الشطرين لا يكون إلا بمراجعة واقعة خارجية واحدة، فهل كان في اللحظة الفلانية من لحظات الأمس أن حدث حادثان معا هما خروجي ونزول المطر؟
ولا تكون الجملة جملة واحدة من الناحية المنطقية إلا إذا بلغت من البساطة حدا يستحيل معه انقسامها إلى جملتين أو أكثر. ولا نبلغ هذه البساطة في التحليل إلا إذا بلغنا مرحلة تكون فيها الأسماء الواردة في الجملة أسماء أعلام؛ أي أسماء حالات جزئية بالمعنى الذي شرحناه فيما مضى؛ ذلك لأن وقائع العالم الخارجي التي سنراجع عليها الجملة لنحكم عليها بالصدق أو بالكذب، لا تكون إلا حالات جزئية مرتبطا بعضها ببعض بهذه الرابطة أو تلك؛ فقولي - مثلا - «المصري يتكلم اللغة العربية» ظاهرها بسيط، لكنها ليست كذلك من وجهة النظر المنطقية؛ لأن كلمة «المصري» ليست اسما على حالة جزئية واحدة، بل هي كلمة عامة تنطبق على أي واحد من المصريين؛ وبهذا تكون بمثابة عبارة وصفية تلخص مجموعة من الصفات إذا ما توافرت في شخص كان مصريا؛ وإذن فهي بالتالي «رمز ناقص»؛ أي إنها رمز لا يرمز إلى شيء بعينه، وعلى ذلك فلا يمكن تحقيق القضية التي وردت فيها هذه الكلمة إلا إذا أحللت مكان «المصري» اسما آخر ذا دلالة جزئية محددة معينة؛ وبهذا يصبح الرمز الناقص رمزا كاملا. ترى هل إذا وضعت مكانها اسما ك «العقاد» بحيث أصبحت الجملة «العقاد يتكلم اللغة العربية»، أكون قد وصلت بذلك إلى جملة بسيطة؟ كلا، ولا هذا؛ لأن «العقاد» ليس حالة جزئية واحدة، بل هو سلسلة طويلة من حالات، هو تاريخ بأسره، وحالاته الماضية لم تعد مما يمكن الإشارة إليه باسم الإشارة «هذا»؛ وإذن فلا بد من تحليل «العقاد» إلى حالاته لأضع إحدى هذه الحالات فقط موضوعا للحديث، كأن أحدد الحالة المعينة بالتقاء نقطة من المكان مع لحظة من زمان، أو أن أحددها بالإشارة المباشرة إليها قائلا: هذا يتكلم اللغة العربية. وإلى هنا نكون قد فرغنا من الوصول بالموضوع وحده إلى المرحلة الذرية البسيطة التي تقابلها في عالم الواقع حادثة ذرية بسيطة كذلك. وبقي أن نحلل الصفة الواردة في الجملة مثل هذا التحليل؛ فالعقاد في اللحظة التي أشير إليه فيها لا يتكلم «اللغة العربية» كلها، بل هو ينطق بعبارة منها الآن، وقد نطق بعبارة أخرى في لحظة ماضية، وهكذا؛ وإذن فكل ما أستطيع الإشارة إليه من وقائع الدنيا فيما نحن بصدده هو إحدى حالات العقاد، وهي حالة نطقه بإحدى عبارات اللغة العربية، ثم أجيز لنفسي بعد ذلك أن أضم سلسلة الحالات كلها التي هي تاريخ حياة العقاد وأجعل منها كائنا واحدا أسميه «العقاد»، ثم أتخذ من العبارة الواحدة العربية التي سمعت العقاد ينطق بها إشارة تدل على أنه يتكلم من هذه اللغة عبارات غير العبارة التي سمعتها منه، بحيث يجوز أن أقول عنه إنه يتكلم اللغة العربية بغير تحديد.
العالم قوامه وقائع، ويصور كل واقعة منها في كلامنا جملة، أو يمكن أن تصورها جملة. أما الواقعة الواحدة البسيطة التي لا تنحل إلى ما هو أبسط منها فنقول عنها إنها جملة «ذرية»، وأما الجملة الواحدة البسيطة التي تصورها فنقول عنها إنها جملة «ذرية» كذلك. والواقعة الذرية الواحدة لا تكون أبدا من جزئية واحدة كلمعة ضوء أو نبرة صوت؛ إذ لا بد - لكي تكون واقعة - أن تتصف هذه الجزئية الواحدة بصفة ما، أو أن تتصل بغيرها من الجزئيات في مركب واحد يكون ذريا ما دمنا لا نستطيع حله إلى أكثر من واقعة واحدة، والجزئي الواحد من جزئيات الطبيعة يقابله في اللغة اسم العلم، والصفة التي تصفه في الطبيعة يقابلها في اللغة كلمة نسميها باصطلاح المنطق «المحمول»؛ فإن كان بين الجزئي الواحد وغيره من الجزئيات علاقة تربطهما معا في واقعة ذرية واحدة، كان في اللغة كلمات دالة على هذه العلاقات لتربط بين الأسماء الواردة في الجملة ربطا يجعل منها جملة ذرية واحدة.
فلو كان ما أشير إليه من وقائع العالم الخارجي هو هذه الورقة التي أمامي ولونها الأبيض، كانت الجملة التي تقابل ذلك هي «هذه الورقة بيضاء». هذه قضية بسيطة، وتحقيقها يكون بالرجوع إلى الواقعة البسيطة التي جاءت القضية مصورة لها. وفي مثل هذه الحالة نستطيع القول عن هذه الجملة إنها ذات «معنى»؛ لأن مدلولها هناك يشار إليه إشارة مباشرة، وتنطبع به الحواس انطباعا مباشرا . قارن ذلك بجملة وصفية أخرى يظن أن بينها وبين الجملة المذكورة شبها في الصورة، كقولنا مثلا «مدنية الغرب علمية»، وانظر هل يكون لهذا الكلام «معنى» بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يكون للقضية مدلول في عالم الوقائع، فاسأل: أين هو الشيء المسمى ب «مدنية الغرب»؟ فإذا أشير لك إليه فانظر هل هو متصف بصفة العلمية، تماما كما جاز لك أن تسأل أين هو الشيء المسمى ب «هذه الورقة»، وأن تنظر في صفة البياض التي وصفت بها. وواضح أنك لن تجد جزئية من جزئيات الواقع اسمها «مدنية الغرب»؛ لأن هذه كلمة أريد بها أن تطلق على مجموعة كبري من مجموعات ضخمة؛ فهي مجموعة تضم الدين والفن والعلم والحكومة والتربية والاقتصاد ... إلخ إلخ، وكل كلمة من هذه الكلمات في ذاتها تعود فتضم ملايين الجزئيات؛ فالدين كلمة تطلق على آلاف الجمل في مئات الصفحات، والفن كلمة تطلق على آلاف وآلاف من قطع الموسيقى وقصائد الشعر والصور والتماثيل ... إلخ إلخ، ويستحيل أن ترجع في العالم الخارجي الواقع إلا إلى مفرد واحد من هذه المفردات ثم تعقب عليه بمفرد ثان فمفرد ثالث؛ وعلى ذلك فلو أردنا أن يكون طريق التحقيق لكلامنا ميسورا، وجب أن ينحل هذا الكلام إلى عبارات لا تشير كل واحدة منها إلا إلى مفرد واحد من جمل النصوص الدينية أو إلى مفرد واحد من الآثار الفنية، وهكذا؛ وإذن فليس قولنا «مدنية الغرب علمية» هو من الأقوال ذوات «المعنى» المباشر؛ لأنه قول لا يشير إلى واقعة ذرية واحدة، ولا يكون له معنى إلا إذا تحول إلى جمل ذرية تتحدث كل منها عن شيء واحد جزئي يمكن الرجوع إليه بالحس المباشر.
قارن هذا التحليل بما قد ذهب إليه أرسطو وأتباعه من أن وحدة التحليل التي لا يمكن للتفكير أن ينحل إلى ما هو أبسط منها هي جملة تتحدث عن نوع بأسره؛ أي عن فئة بأسرها من الأفراد، كأن يقال - مثلا - «الإنسان عاقل» و«الشعر كلام مقفى» وما إلى ذلك. إنه لو كانت كلمة «الإنسان» أو كلمة «الشعر» هي الوحدة الأولية التي يرجع إليها للتحقق من أنها تتصف ما يدعي المتكلم أنها تتصف به، لوجب أن أبحث عنها - لا في عالم الأشياء الخارجية - بل في رأسي وفي عالم فكري؛ لأنه ليس في عالم الأشياء «إنسان» بصفة عامة، ولا «شعر» بصفة عامة. ولو أخذت بهذه النظرة لانتهيت إلى أن أقبل كلام المتكلم سواء أشار إلى دنيا الأشياء أو لم يشر؛ ومن ثم يستطيع المتكلم أن يتوهم ما شاء من كائنات ثم يتحدث عنها بما يشاء، ولا يكون لي الحق - أنا السامع - في مراجعته على دنيا الواقع؛ ذلك لأنني لو جعلت دنيا الواقع هي الفيصل بيني وبينه، لما كان لي بد من الرجوع إلى أفراد بأعيانها؛ فلا «إنسان» هناك إلا زيد وعمرو وخالد، ولا «شعر» هناك إلا هذه القصيدة المعينة أو تلك.
كلا، لم يوفق أرسطو في تحليله إلى الصواب؛ إذ جعل الأنواع آخر مراحل التحليل، وإذ جعل القضايا التي تكون موضوعاتها كلمات كلية هي الوحدات البسيطة الأولية؛ فالجملة التي يكون موضوعها فئة لا فردا، مثل «الطائر ذو جناحين» و«بعض من أتموا دراستهم الثانوية يدخلون الجامعة»، ليست في الحقيقة قضية كاملة يمكن الحكم عليها بصواب أو خطأ، بل هي ما يقولون عنه في المنطق الحديث «دالة قضية»؛ أي إنها عبارة ناقصة فيها ثقب شاغر يحتاج إلى اسم جزئي ليملأه فتكمل العبارة وتصبح صالحة للتحقيق؛ فبدل قولي «الطائر ذو جناحين» أضع مكان «الطائر» اسم طائر بعينه يمكن الإشارة إليه، فتصبح العبارة «هذا الببغاء ذو جناحين»؛ وعندئذ فقط يمكن مراجعة القول على الواقعة التي يشير إليها.
أضف إلى هذا النقص في التحليل الأرسطي لوحدات الفكر نقصا أخطر وأفدح؛ وذلك أنه قد ظن أن كل الأفكار مهما يكن نوعها فهي في النهاية يمكن ردها إلى جملة تصف موضوعا ما بصفة معينة؛ أي يمكن ردها - بلغة المنطق - إلى موضوع ومحمول، إلى موضوع وما يحمله ذلك الموضوع من صفات، ولكن هذا النوع الذي ظنه أرسطو شاملا لكل ضروب الفكر إن هو في الحقيقة إلا نوع واحد من أنواع كثيرة أخرى؛ فإلى جانب الجملة التي تتحدث عن موضوع واحد بصفة معينة، هنالك الجملة التي تتحدث عن موضوعين في آن واحد واصلة بينهما بصلة تربطهما، كقولي عن بروتس إنه قتل قيصر؛ فالحديث هنا ليس حديثا عن بروتس أكثر منه حديثا عن قيصر، هو حديث عنهما معا بما قد وصل بينهما من علاقة هي علاقة القتل. واللغة نفسها تمكنك من أن تبدأ الحديث بأي الطرفين شئت؛ فلا بأس من قولك «قيصر قتل بفعل من بروتس»، فتصف بذلك نفس الواقعة التي تصفها بقولك «بروتس قتل قيصر»؛ ومعني هذا أن ليس قوام هذه العبارة موضوعا وصفته، بل قوامها موضوعان وما بينهما من علاقة. وقد يكون في الواقعة الواحدة أكثر من طرفين، فيكون فيها ثلاثة أطراف مثلا أو أربعة أو أكثر من ذلك؛ وعندئذ تأتي العبارة المخبرة عنها ذات ثلاثة موضوعات أو أربعة أو أكثر، بحيث يتساوي عدد الموضوعات في الجملة مع عدد الأطراف في الواقعة التي هي موضوع الحديث. وفي اللغة كلمات أعدت للتعبير عن العلاقة ذات الأطراف الثلاثة والعلاقة ذات الأطراف الأربعة وهكذا؛ فقولي - مثلا - إن العدد 3 يقع بين العددين 2، 4 هو قول ذو موضوعات ثلاثة هي «2، 3، 4» ربطت بينها كلمة «بين»، وهكذا.
قد تقول: وماذا يترتب على هذا التحليل الجديد للفكر مما لم يترتب على تحليل أرسطو؟ ما الفرق بين أن أقول إن عبارة «بروتس قتل قيصر» هي قضية ذات موضوع هو «بروتس» ومحمول هو «قتل قيصر»، وبين أن أقول عنها إنها قضية مؤلفة من موضوعين هما «بروتس، قيصر» ربطت بينهما علاقة؟ ونجيب لك عن سؤالك هذا بقولنا إن الفرق عميق في تكوين وجهة النظر إلى العالم؛ فالتحليل الأرسطي منته بصاحبه إلى أن الكون حقيقة واحدة وله هذه الصفة أو تلك، وأما التحليل الجديد فينتهي بصاحبه إلى أن الكون حقائق عدة؛ ذلك لأني إذا أخذت بوجهة النظر الأرسطية فسأظل أصعد في سلم الموضوعات من أدناها إلى أعلاها، وفي شتى هذه المراحل الصعودية لا يكون لدي ما أقوله عنها إلا صفات تحملها تلك الموضوعات، حتى أنتهي في غاية الشوط إلى موضوع واحد يضم كل ما تحته من فروع، ولا يكون لدي ما أقوله عن ذلك الموضوع الواحد إلا صفاته التي يحملها. وأما الآخذ بالتحليل الجديد فلن يشترط بادئ ذي بدء أن تكون وقائع الكون من صنف معين، بل سينتظر التجربة وما تأتيه به من معلومات؛ فآنا تقول التجربة عن شيء ما إنه ذو صفة معينة، وآنا تقول عن شيئين أو عن ثلاثة أشياء إنها مرتبطة برباط لا يجعل واحدا منها أعلى تعميما ولا أقل تعميما. وأهم من ذلك كله أن التحليل الجديد للفكر يحتم على صاحبه أن يجعل الوقائع الجزئية هي وحدها المرجع الذي يرتد إليه المفكر في تحقيق أفكاره وأفكار الآخرين.
4
تريد الفلسفة التحليلية أن تبلغ بتحليل الفكر إلى حده الأدنى، شأنها في ذلك شأن العلم الطبيعي حين يتناول مادة الأشياء بالتحليل إلى غايته القصوى، فينتهي به إلى الذرات الأولية وإلى طريقة بناء الذرة الواحدة من هذه الذرات الأولية. وإنما ينشد التحليل الفلسفي والتحليل الطبيعي هذه الوحدات الأولية في عالم الفكر أو في عالم الطبيعة؛ أملا في أن يعرف المركب إذا عرف بسائطه الذي يتكون منها.
وقد انتهى رجال التحليل الفلسفي المعاصرون - وعلى رأسهم رسل - إلى ما قد أسموه بالقضية الذرية وحدة أولية بسيطة، مخالفين بذلك أرسطو الذي ظن أن القضية التي تتحدث عن فئة بأسرها وحدة فكرية أولية. والقضية الذرية الأولية - كما أسلفنا لك القول - هي التي تقابلها في عالم الأشياء واقعة ذرية أولية، كل منهما في مجاله لا يقبل التحليل والانقسام؛ فالواقعة الذرية الأولية قد تكون جزئية واحدة وصفة تنعتها، وقد تكون جزئيتين أو ثلاث جزئيات أو أكثر مع رابطة تصل هذه الجزئيات لتجعل منها بناء واحدا، بحيث لو انحلت الرابطة وانفرطت الأطراف لم يعد لأي طرف منها على حدة شيء من المعنى الذي كان للبناء وهو متصل. وكذلك القضية الذرية الأولية - على غرار الواقعة التي تقابلها - إما أن تكون اسما واحدا وصفة تنعته، أو اسمين أو ثلاثة أسماء أو أكثر تصلها كلمة علاقية تجعل من هذه الأسماء وحدة واحدة، بحيث لو أزلنا كلمة العلاقة وانفرطت الأسماء لم يعد لأي منها شيء من المعنى الذي كان للقضية وهي بناء متصل.
ونريد الآن أن نمضي في التحليل خطوة أخرى، فنقول إنه حتى الجملة التي تكون مكونة من اسم جزئي وصفة تنعته مثل «هذا أحمر» التي نقولها مشيرين إلى بقعة لونية حمراء قائمة أمام الحس (وهذه القضية الوصفية هي أقرب الأنواع إلى القضية كما عرفها أرسطو وأسماها القضية الحملية)، أقول إنه حتى هذه القضية الوصفية الأولية يمكن تحليلها لبيان أنها هي الأخرى قضية دالة على بناء ذي أطراف وما بينها من علاقة. ولو تحقق لنا ذلك لانتهينا إلى نتيجة عامة، وهي أن كل فكرة من أفكار الإنسان، مهما تكن ذرية بسيطة أولية، فهي مكونة من أطراف جزئية وعلاقة تربطها؛ وبهذا نستغني استغناء تاما عن «الصفات» أو عن «الكيفيات»، ولا يعود لدينا من العالم الخارجي من جهة، واللغة أو الفكر من جهة أخرى، سوي جزئيات ذرية وعلاقات تربطها.
فما تحليل قولنا «هذا أحمر»؟ إنه قول لا يتيسر لنا قوله ما لم يكن قد مر بنا بادئ ذي بدء بقعة لونية أشير لنا إليها ونطق مع الإشارة بالصوت «أحمر»، فأصبحت تلك البقعة اللونية معنى لكلمة «أحمر» بالتعريف، حتى إذا ما مرت بقعة لونية أخرى «تشبه» البقعة الأولى قلنا عنها إنها «حمراء»؛ وعندئذ يكون تحليل قولنا هذا هو: هنالك بقعتان لونيتان؛ بقعة أ وبقعة ب متشابهتان؛ وبهذا يرتد قولنا «هذا أحمر» إلى «أ تشبه ب»، وهي قضية ذات علاقة ثنائية؛ أي إنها قضية ذات طرفين وما يربطهما من علاقة، وليست هي بالقضية التي تصف موضوعا واحدا بصفة معينة.
إن الغاية التي نستهدفها بهذا التحليل وأمثاله هي أن يكون القارئ على وعي بما يتضمنه الكلام الذي يستخدمه في التفاهم من حصيلة حسية، حتى إذا ما زعمنا له بعد ذلك أن الجملة الإخبارية إذا لم يمكن ترجمتها إلى مضمونها الحسي كانت جملة بغير معني، أدرك ما ينطوي عليه هذا الزعم؛ فكل منا يتحدث الحديث المألوف وهو لا يدري على وجه الدقة من أي جذور نشأ المعنى الذي يراد للسامع أن يفهمه من ذلك الحديث، ومهمة الفلسفة التحليلية هي إبراز هذه الجذور الأساسية الخفية؛ لأنها إذا ما انكشف عنها الغطاء وسلط عليها الضوء، ازددنا قدرة على نقد الكلام وتمييز ما له معنى مما ليس له معنى.
فقد يقول قائل «الورد أحمر» ويظن أنه بذلك إنما يقول عن خبرة بسيطة مباشرة، على حين أن «الورد» اسم كلي يدل على مجموعة وصفية ولا يدل بذاته على ضرورة أن يكون لهذه المجموعة الوصفية جزئية معينة تلبسها؛ وإذن فلا بد أولا من أن نستبدل بهذه الكلمة اسما جزئيا ليكون للعبارة معنى، فتصبح «هذه الوردة المعينة حمراء»، ثم تأتي بعد هذه الخطوة التحليلية خطوة أخرى، وهي أن ننسب «هذه الوردة» إلى بقعة لونية سبقت رؤيتها وسبق ربطها بكلمة «أحمر»، لنرى أن «هذه الوردة» و«تلك البقعة» شبيهتان، فيتم التحليل ويتحقق المعنى مستندا إلى الخبرات الحسية الماضية والحاضرة؛ فالذي يجعل عبارة «الورد أحمر» ذات معنى، ويجعل عبارة «الجن أحمر» غير ذات معنى، هو أننا نستطيع أن نمضي بتحليل العبارة الأولى إلى آخر مراحله، على حين أننا لا نستطيع ذلك بالعبارة الثانية.
على أن العبارات اللغوية التي نستخدمها في الحديث تتفاوت تعقيدا في تركيبها؛ وبالتالي فهي تتفاوت صعوبة في تحليلها؛ فها نحن أولاء قد رأينا أن عبارة جزئية مثل «هذا أحمر» لا تتطلب في تحليلها أكثر من أن نضع «هذا» الجزئي الذي نحسه الآن مع طائفة الجزئيات التي أحسسناها فيما مضى، والتي نراه شبيها بها؛ وبهذا يتم لنا فهم المعنى المقصود، لكن ما هكذا عبارة مثل «مات قيصر»؛ فها هنا نحن إزاء مجموعتين من حوادث ليستا من قبيل واحد؛ فأما «مات» فهو اسم لحادثة جزئية وقعت في لحظة زمنية معينة، ولو كنا مشاهدين لتلك الحادثة لحظة وقوعها وأشرنا إليها قائلين «هذا موت»، لكان الموقف عندئذ شبيها بقولنا «هذا أحمر» من حيث التحليل، لكنا ها هنا نريد أن نتصور مجموعتين من الحوادث مختلفتين اختلافا بعيدا، تلاقتا معا في نقطة ما وفي لحظة معينة، فتكون من تلاقيهما ما نقول عنه «مات قيصر». أما المجموعة الأولى فهي مجموعة الميتات التي كان موت قيصر واحدا من أعضائها، وأما المجموعة الثانية فهي سلسلة الحالات الجزئية التي تتابعت فكونت ما أسميناه «قيصر»، وقد تلاقت هذه السلسلة عند آخر حلقاتها مع أحد أفراد المجموعة التي يقال لها «موت»، فكانت نتيجة التلاقي هي قيصر في حالة موته.
3
هكذا تتفاوت العبارات في درجة تعقيدها وصعوبة تحليلها، لكنها جميعا ترتد - كما ترى - إلى حالات جزئية يمكن التعبير عنها بجمل ذرية بسيطة أولية؛ وبهذا التحليل الذي يردها إلى أصولها البسيطة ندرك مضمونها الحسي الذي منه يتولد معناها؛ وهنا ننتقل إلى «الوحدة» التي لا بد منها في الجملة الواحدة لتربط أجزاء المضمون الحسي في حقيقة واحدة هي التي جاءت القضية لتعبر عنها. إنه من الواضح أن معنى القضية الواحدة ليس هو حاصل جمع معاني مفرداتها؛ بدليل أنك قد تغير من ترتيب المفردات فيتغير المعنى الجملي مع أن حاصل جمع معاني المفردات لا يتغير؛ وإذن ف «الوحدة» التي تربط أجزاء الجملة ربطا يكسبها معناها ذات صلة ب «الترتيب»، أو إذا شئت مصطلحا رياضيا فقل إن «وحدة» الجملة ذات صلة ب «التسلسل» الذي يكون بين مفرداتها، كأنما الجملة عدد ذو أرقام، تتغير قيمته بتغير ترتيب أرقامه. وعلى الرغم من أن العدد تتوقف قيمته على قيم أرقامه، إلا أن قيمته لا تكون بالطبع هي حاصل جمع تلك القيم المفردة.
لكن هذا «الترتيب» أو «التسلسل» الذي يخلع على الجملة معناها الموحد لا يزال بحاجة منا إلى تحليل، فماذا عساه أن يكون؟ إنه يرتد في النهاية إلى تسلسل زمني؛ أي إلى تتابع في لحظات الزمن، بحيث إذا كان التتابع في اتجاه معين هو الذي يدل على المعنى الصواب، كان اختلاف الاتجاه دالا على خطأ؛ فقولي إن «بروتس قتل قيصر» لا يعتمد في معناه الجملي على معاني الفئات الداخلة في تكوينه، وهي: (1) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكون المجموعة التي نسميها «بروتس». (2) فئة الحالات الجزئية التي تكون كل حالة منها حالة قتل مفردة، ومن مجموعها يتكون معنى كلمة «قتل». (3) فئة الحالات الجزئية التي منها تتكون المجموعة التي نسميها «قيصر». أقول إن المعنى الجملي لقولي «بروتس قتل قيصر» لا يتكون من مجرد حاصل جمع هذه المجموعات، بل لا بد أن يقع النطق باسم المجموعة الأولى سابقا على النطق باسم المجموعة الثانية، وهذا بدوره سابق على النطق باسم المجموعة الثالثة.
وهنالك من حيث التسلسل الذي من هذا القبيل أنواع ثلاثة؛ فمنها التسلسل الذي لا يجوز فيه الاتجاه العكسي بحيث نحتفظ للجملة الواحدة بمعناها الأصلي، وتسمى العلاقة التي تربط الأجزاء في هذه الحالة بالعلاقة اللاتماثلية، ومن قبيل ذلك قولنا: «أ أكبر من ب»، «أ والد ب»، «أ قبل ب»، «أ قتل ب»، وهكذا. ومنها ما يجوز فيه الاتجاه العكسي مع بقاء المعنى الأصلي على حاله، وتسمى العلاقة في هذه الحالة بعلاقة التماثل، ومن قبيل ذلك قولنا: «أ تساوي ب»، «أ تشبه ب»، «أ تختلف عن ب»، «أ نقيض ب»، وهكذا. ومنها ما يلتبس فيه الأمر، فلا يعرف من الجملة نفسها إن كان الواقع الذي هو معنى الجملة مما يمكن فيه الاتجاه العكسي أو مما لا يمكن فيه ذلك، ومن هذا القبيل قولنا: «أ يحب ب.» فعندئذ لا ندري من الجملة وحدها إن كان «ب» يحب «أ» كذلك أو أن الأمر غير ذلك.
ومهما يكن من أمر، فهذا التسلسل بين أجزاء الجملة هو الذي يخلع على الجملة وحدتها، ووحدتها هي التي تجعل لها معنى غير مجموع معاني مفرداتها. وإنه لمن عبقرية اللغة أن تكون ألفاظها الدالة على علاقات دالة في الوقت نفسه على نوع التسلسل الذي ينبغي أن يتحقق بين المفردات ليتم للجملة معناها؛ فالأمر حين أنطق لسامعي بعبارة «قامت الدولة الأموية ثم قامت الدولة العباسية»، أقول إن الأمر هنا لا يقتصر على أن تقع لفظتا «الدولة الأموية» في أذن سامعي قبل أن تقع فيها لفظتا «الدولة العباسية»، وإنه بهذا الترتيب الزمني يعرف كيف كان ترتيب الحوادث الخارجية في الوقوع، بل إن كلمة «ثم» تحدد له نوع التتابع بحيث يعرف منها معرفة إضافية أن أسبقية الاسم في العبارة اللغوية دالة على أسبقية وقوع مدلوله في دنيا الحوادث كذلك.
ونلخص فنقول إن مهمة الفلسفة كما نراها هي تحديد المعاني، غير أن الوحدة التي نحدد لها معناها هي الجملة، بحيث لا نكتفي بتحديد الكلمات التي منها تتكون الجملة الواحدة؛ إذ إن للجملة معنى غير معاني مجموعة كلماتها، ويحدد لنا معناها هذا وحدتها التي تنشأ من نوع الترتيب الذي ينظم مفرداتها.
ولكن تحديد المعنى في الجملة الواحدة يقتضي تحليلها لنتبين وحداتها البسيطة التي منها تتكون، وما هذه الوحدات البسيطة إلا القضايا الذرية التي تندمج في كيانها، وبغير إبراز هذه القضايا الذرية لا يمكن إدراك العلاقة بين الكلام من ناحية والعالم الخارجي الذي عنه قد قيل الكلام من ناحية أخرى. أما إذا تكلم المتكلم بحيث لم يرد بكلامه أن ينصرف إلى عالم الواقع، وبحيث يكفيه أن تكون أجزاؤه متسقة بعضها مع بعض؛ فعندئذ تتكون ضروب أخرى من البناءات الرمزية لا يكون المدار فيها مراجعة الرمز على مسماه، بل يكون المدار مراجعة الرمز على رمز آخر في البناء الذي أقمناه، ومن أهم هذه البناءات الرمزية المكتفية بذاتها، غير المعتمدة في معانيها على وقائع العالم الخارجي، بناء المنطق وبناء الرياضة البحتة؛ فكلاهما صوري، يحافظ على ألا يكون بين أجزائه تناقض، دون أن يتوقف صدق البناء كله على مطابقته أو عدم مطابقته للعالم الخارجي.
الفصل السادس
مطلب اليقين
1
كان إدراك العلم اليقين بالكون أملا يراود الفلاسفة طوال عصورهم؛ فقد جاهدوا ما وسعهم الجهد أن يكشفوا عن حقيقة هذا العالم بكل من فيه وما فيه. ولم يكن يكفيهم في مطلبهم ذاك أن يحيطوا بالأمر إحاطة المتشكك المرتاب، بل أرادوا علما لا يأتيه الباطل من أية ناحية من نواحيه. ولم يكونوا في هذا السعي وراء الحق يفرقون بين علم وعلم، فسواء كان موضوع البحث منطقا صوريا أو هندسة أو فلكا أو أجسادا أو نفوسا، فلا مناص في هذا كله من بلوغ العلم اليقين الذي ما دونه لا يكون من العلم في شيء، حتى لقد كانوا يجعلون اليقين جزءا من تعريفهم للعلم أو للمعرفة بمعناها الصحيح، وأما ما يحتمل الخطأ فظن لا يرقى إلى أن يكون علما.
وسرعان ما كانوا يجدون الفرق واضحا من حيث الصواب بين ما يحصلونه بحواسهم عن العالم الخارجي، وبين ما يستنبطونه بعقولهم من حقائق الرياضة وما إليها؛ فالضرب الأول قابل للخطأ، والضرب الثاني يقين ثابت؛ فمن الضرب الأول - مثلا - أن تقول عن الشمس إنها تتحرك في السماء من الشرق إلى الغرب بناء على شهادة الحواس، ومن الضرب الثاني أن تقول عن الخطين المتوازيين إنهما لا يتلاقيان مهما امتدا؛ فقد يثبت - كما ثبت فعلا - أن الشمس لا تتحرك كما يوهمنا البصر، وأما الحقيقة الثانية عن الخطين المتوازيين أنهما لا يتلاقيان - وهي من استنباط العقل - فثابتة مهما شهدنا بالعين أنهما يتلاقيان عند الأفق. وقد كان شغلهم الشاغل في هذا الصدد أن يبحثوا عن سر اليقين فيما هو علم يقيني؛ لعلهم يطوعون علمنا بالطبيعة إلى مثل ما في الرياضة من يقين؛ وبذلك يبني الإنسان علمه على أساس متين.
وسقراط هو الفيلسوف المنهجي الأول الذي أراد أن يلتمس للمعرفة الإنسانية سواء السبيل فلا تضل ولا تخطئ، حتى لقد احتل مكانته الرئيسية في الفكر اليوناني بفضل منهجه قبل أي شيء آخر. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أن أرسطو حين ألقى على نفسه هذا السؤال: ماذا أفادت الفلسفة من سقراط؟ أجاب: «إنهما شيئان ينبغي أن ينسبا بحق إلى سقراط، وهما: إقامة الحجج على أسس استقرائية، والتعريف الذي يشمل كل أفراد النوع.»
1
أي إنه كان صاحب منهج جديد، ولا نزال حتى اليوم نصف بعض الاتجاهات الفكرية بأنها «جدلية»، وهي كلمة تشير إشارة صريحة إلى المنهج السقراطي الذي كان يجري على أسلوب الحوار.
وكانت خطته في حواره هي الرجوع من النتائج إلى المقدمات؛ أي من النتائج إلى المبادئ التي تولدت عنها تلك النتائج، هي الرجوع من المواقف الجزئية إلى الفروض التي تكمن في صميم تلك المواقف؛ ذلك أننا كثيرا ما نتكلم أو نسلك بحيث يكون كلامنا أو سلوكنا قائما على مبدأ معين ونحن لا ندري، بل كثيرا ما يكون ذلك المبدأ الخبيء في كلامنا وسلوكنا محل اعتقادنا الجازم، ومع ذلك ترانا - على غير وعي منا بما نكون فيه من تناقض - ننكره في جدالنا مع خصومنا؛ فانظر - مثلا - إلى فيلسوف من الظاهريين ينكر أن يكون في الشيء إلا مجموعة ظواهره التي تبدو للحواس؛ أي إنه ينكر أن يكون للشيء جوهر عنصري ثابت دائم بغض النظر عن الظواهر وتغيرها وزوالها، إنه ينكر ذلك وفي الوقت نفسه تراه يبحث عن قلمه الذي ضاع وعن كتابه الذي لا يذكر أين وضعه آخر مرة. وفي هذا السلوك نفسه دليل على اعتقاد كامن في نفسه بأن القلب والكتاب لا يزالان قائمين رغم انعدام ظواهرهما بالنسبة إلى ما تدركه الحواس.
هكذا يصدر الناس في سلوكهم العملي عن مبادئ متضمنة تحتاج إلى تحليل يبرزها في صراحة ووضوح، وما التحليل هنا إلا الرجوع من الحالات الجزئية في سلوكنا إلى ما هو دفين في طيها من مبادئ؛ أي الرجوع من السلوك الفعلي إلى مبرراته العقلية. وفي هذا الرجوع من الظواهر السلوكية الجزئية إلى مبرراتها العقلية، أي إلى مبادئها، ترانا نطرح من تلك المواقف الجزئية جوانبها العرضية لنخلص إلى ما هو جوهري فيها، فيكون هذا الجانب الجوهري المبدأ العقلي الذي نبحث عنه، والذي كانت الظواهر السلوكية صادرة عنه منبنية عليه. جاء في محاورة أوطيفرون ما يلي:
سقراط :
أتوسل إليك أن تنبئني حقيقة التقوى والفجور التي قلت إنك تعلمها جيد العلم، أليست التقوى في كل فعل هي هي دائما؟ وكذلك الفجور، أليس دائما نقيض التقوى؟ ثم أليس هو هو دائما، فله تعريف واحد يشمل كل ما هو فاجر؟
أوطيفرون :
كن على يقين من ذلك يا سقراط.
سقراط :
وما التقوى وما الفجور؟
أوطيفرون :
التقوى هي أن تفعل كما أنا فاعل.
سقراط :
تذكر أني لم أطلب إليك أن تضرب للتقوي مثلين أو ثلاثة، بل أن تشرح الفكرة العامة التي من أجلها تكون الأشياء التقية كلها تقية. أنبئني ما حقيقة هذه الفكرة حتى يكون لدي معيار أنظر إليه وأقيس به الأفعال، سواء في ذلك أفعالك أو أفعال سواك، وحينئذ أستطيع أن أقول إن هذا العمل المعين تقي وإن ذلك فاجر.
2
فواضح في هذا الحوار أن سقراط يريد ممن يحاوره أن يطرح من الموقف السلوكي الجزئي الذي كان يمارسه أوطيفرون ساعتئذ كل ما هو جزئي خاص بذلك الموقف وحده؛ ليرتد راجعا به إلى المبدأ الذي على أساسه عد أوطيفرون موقفه عندئذ (شكواه أباه في المحكمة لقتله عبدا) حالة من حالات التقوى.
هذا السير الراجع من الأمثلة الجزئية إلى ما وراءها من مبادئ عامة ليس من شأنه أن يكشف لنا عن معرفة جديدة؛ فلن نزداد علما بالحالة الجزئية الواقعة أمامنا والتي اتخذناها نقطة ابتداء، بل كل ما هنالك من أمر هو أننا سنجعل المتضمن صريحا؛ فقد كان المبدأ في عقولنا يعلن عن نفسه في سلوكنا؛ أي إنه يخرج من عالم العقل إلى عالم الفعل ملتفا في تفصيلات السلوك العملي، ونريد الآن أن نزيل عنه لفائف الجزئيات السلوكية ليقوم وحده عاريا فيتضح.
من هنا كانت طريقة سقراط في إلقاء الأسئلة على محاوره يستولد المبادئ العقلية الكامنة فيه، والتي هي مصدر سلوكه؛ فالموازنة هنا واقعة بين ما هو خارج أنفسنا وما هو داخلها، بين ما هو موضع الإدراك الحسي وما هو موضع الإدراك العقلي، بين ما يعتمد على المشاهدة وما يستند إلى الفكر؛ فسلوك الإنسان في المواقف المعينة ظاهر للعين، لكنه ليس عند سقراط علما مهما شهد من دقائقه، وإنما العلم هو أن يغوص وراءه إلى المبدأ الذي هو الأصل العقلي لذلك السلوك الظاهر.
ولم تكن هذه الموازنة بين المعرفة التي تأتي من مشاهدة الحوادث الخارجية والمعرفة التي تنبع من الفكر، أقول إن هذه الموازنة لم تكن جديدة، بل تناولها فلاسفة قبل سقراط ، نخص منهم بالذكر بارمنيدس؛ ومن ثم فقد كان هؤلاء الفلاسفة قبل سقراط بمثابة من يوازنون بين نوعين من العلم؛ العلم بالطبيعة من جهة والعلم الرياضي من جهة أخرى، وكانوا يدركون أن العلم بالطبيعة معرض للخطأ، وأما العلم الرياضي فيقيني ثابت.
لكن الجديد الذي استحدثه سقراط هو أن ينقل البحث في الأخلاق من مجال العمل الطبيعي إلى مجال العلم الرياضي، فلا يركن فيه إلى مشاهدة الحواس بل إلى منطق العقل؛ لأننا لو جعلنا السلوك الجزئي المتغير موضوعه، كان موضعا للاختلاف في الرأي بين إنسان وإنسان، وأما إذا أردنا له اليقين واتفاق الحكم بين الناس جميعا، فسبيلنا فيه هي أن نبدأ من السلوك الظاهر سائرين القهقرى حتى نصل بالتأمل العقلي إلى المبادئ التي انبنى عليها ذلك السلوك.
ونعود الآن إلى ما قد أسلفناه من قول أرسطو في فضل سقراط على التفكير الفلسفي، إذ قال إن شيئين ينبغي أن ينسبا بحق إلى سقراط، وهما انتهاج الطريقة الاستقرائية والبحث عن التعريف الشامل؛ فنلاحظ أن ما قد أسماه أرسطو في الطريقة السقراطية منهجا «استقرائيا» ليس شبيها بالاستقراء الذي تنهجه العلوم الطبيعية اليوم إلا في شيء واحد، وهو أن كليهما يبدأ من مواقف جزئية، ثم يختلفان بعد ذلك، فبينما استقراء العلوم الطبيعية الحديثة قائم على إدراك الروابط بين أكثر من حقيقة واحدة، كأن ندرك الرابطة بين الرياح الشمالية وسقوط المطر، ترى الاستقراء السقراطي قائما على تحليل مدرك واحد - كالتقوي مثلا كما تتبدي في أحد مواقفها السلوكية - لينفذ خلال ذلك المدرك إلى ما هو جوهري فيه؛ وبالتالي إلى تعريفه الكامل الشامل.
المنهج السقراطي هو حفر في السلوك الجزئي المشاهد لنستخرج منه المبدأ الكامن فيه، كما يحفر المثال قطعة الرخام ليخرج منها تمثالا معينا يريد إخراجه؛ فيروى أن سقراط قد رأي أباه - وكان مثالا - رآه ذات مرة وهو ينحت من الصخرة رأس أسد ليقام على نافورة ماء، فتناول قطعة الرخام وأخذ ينقرها بإزميله الغليظ، ثم بأزاميل وأدوات أكثر دقة، وهكذا أخذت تظهر تفصيلات التمثال المنشود شيئا فشيئا؛ أخذ الفم في الظهور، ومن فوقه الأنف الأفطس والعينان واللبد؛ فسأل سقراط أباه كيف عرف الطريقة التي يضع بها إزميله وإلى أي عمق يضربه، فأجابه أبوه قائلا : عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنا في قطعة الرخام، تراه رابضا هناك تحت سطح الحجر، حتى إذا ما تصورت في وضوح أين يقع وما حدوده، كان عليك بعدئذ أن تطلق سراحه. وكلما أحسنت بادئ ذي بدء رؤية الأسد في موضعه من الحجر، عرفت أين تضرب بالإزميل وإلى أي عمق تغوص به.
والبحث الفلسفي عن الحقيقة في نفس صاحبها هو عملية حفر كهذه؛ ولذلك لا يجوز للفيلسوف أن يقدم الحقائق إلى تلاميذه معدة «جاهزة»، بل عليه أن يعطي أزاميل الحفر لهؤلاء التلاميذ، وأن يهديهم أن يضربوا بها ليخرج إلى العلن ما قد كان كامنا في أنفسهم من مبادئ يسلكون على أساسها دون أن يعلموا ماذا عساها أن تكون في شكلها وحدودها، أو على الأقل هذا هو ما ظن سقراط أنه فاعله مع محاوريه؛ لأننا نراه كثيرا ما يخرج على منهجه؛ إذ لم يكن دائما يترك فئوس الحفر في أيدي تلاميذه يحفرون بها تحت إرشاده، بل كثيرا ما كان ينفرد هو وحده بالكلام، مكتفيا من محاوريه بقولهم «نعم» و«هذا صحيح». والحقيقة أننا كثيرا ما نعجب لهؤلاء المحاورين كيف يوافقون سقراط بهذه السرعة على ما يوافقونه عليه، مع أنه قد يكون أمرا أبعد ما يكون عن الوضوح.
3
حجر الأساس في المنهج السقراطي هو البحث عن المبادئ الثابتة وراء الظواهر المتغيرة، هو البحث عن الكلي وراء جزئياته، على أساس أن العلم بالمتغيرات ليس من العلم الصحيح في شيء؛ فلكي يكون العلم علما يجب أن يتصف باليقين الذي لا يزعزعه اختلاف الناس ولا اختلاف العصور؛ فإذا ما كان الوصول إلى المبدأ الذي يفسر الظواهر الموضوعة تحت البحث أمرا ميسورا بطريقة مباشرة؛ أعني أنه إذا كانت رؤية الحقائق الثابتة رؤية مباشرة شيئا لا قبل لنا به، فلتكن سبيلنا إليها بادئ ذي بدء استعراض ما يقوله الناس عنها ؛ وبهذا لا نضع أمامنا المبدأ العقلي المنشود، بل الذي نضعه أمامنا للبحث هو «أقوال» و«نظريات» يقولها القائلون تأويلا للظاهرة المراد تأويلها.
هذه الأقوال أو هذه الآراء التي يبديها الناس تأويلا لما يراد تأويله من الظواهر، إنما تكون بطبيعة الحال متضادة متباينة؛ فهذا يفسر الظاهرة على نحو، وذلك يفسرها على نحو آخر، ونحن نريد أن نصل إلى اليقين الثابت من ثنايا هذه الأقوال المختلفة، فنوازن بينها ونعارض بعضها ببعض لعل ذلك يغنينا في بلوغ الحق المنشود عن معاينته معاينة مباشرة، كما يحاول القاضي أن يصل خلال أقوال الشهود المتضاربة إلى الحقيقة التي لم يتح له أن يراها رؤية العين.
وقد أطلق سقراط على هذا المنهج اسم «الديالكتيك». وهي كلمة معناها المحاورة أو المناقشة؛ لأن فيها ما يكون في الحوار من أخذ ورد، وقد لا يتحتم أن يشترك في المحاورة أكثر من شخص واحد؛ إذ الشخص الواحد يستطيع أن يلقي على نفسه السؤال ثم يجيب لنفسه عنه؛ وبهذا تتم فيه وحده عملية التفكير بجانبيها.
وقد شاءت سخرية القدر أن يكون هذا المنهج السقراطي في معارضة الآراء بعضها ببعض تمحيصا للحق الثابت، هو نفسه موضع التهجم من أعدائه؛ فهذه هي نفسها النقطة التي استغلها الكاتب المسرحي المعاصر لسقراط، أرستوفان، في مسرحية «السحاب»؛ وذلك أن بروتاجوراس السوفسطائي كان قد قال قبل سقراط إن لكل أمر وجهين، وإن المتكلم القدير يستطيع أن يعرض الوجه الأضعف عرضا يبديه للسامع كأنه الأقوى. فأخذ أرستوفان هذا القول ونسبه إلى سقراط، ثم هزأ به فوق المسرح، بأن جعل الرذيلة تبدو في يد المتحدث البارع فضيلة والفضيلة رذيلة.
وطريقة السير المنهجي عند سقراط تبدأ بأن يفرض مبدأ على أنه هو الحق، ثم يتخذ من هذا المبدأ المفروض نقطة ابتداء؛ ليرى ماذا عسى أن تكون النتائج التي تستنبط منه، فتكون صحيحة كذلك ما دام المبدأ قد فرض فيه الصواب؛ فالفرض باعتباره فرضا لا يكون هو نفسه موضع بحث ونقاش ما دامت عملية استنباط نتائجه قائمة؛ لكي يكون هو معيار الصواب والخطأ، فما اتفق وإياه واتسق كان صوابا، وما ناقضه وخالفه كان خطأ، ثم يفرض مبدأ آخر ويتعقبه إلى نتائجه ليوازن بعدئذ بين البناءين؛ فلعل الموازنة تنتهي به إلى اليقين - على أن أي مبدأ من هذه المبادئ المفروضة، وإن تكن فوق المناقشة أثناء استنباط نتائجها، إلا أنه يجوز بعد ذلك أن نتناول أحدها بالبحث فنفرض له مبدأ أعم منه يشتمل عليه بين نتائجه؛ وبهذا نكون قد وضعناه في موضعه بالنسبة إلى معارف الإنسان؛ فهو نتيجة لما هو أعم منه ومقدمة لما هو أخص منه، حتى نصل إلى المبدأ الواحد الأعلى الذي ليس فوقه مبدأ أعم منه، والذي تندرج تحته شتى المبادئ كلها، فيفسر لنا الكون بأسره تفسيرا يقينيا لا تفسيرا يقوم على الرأي والظن.
ولعلك تلاحظ أن هذا المنهج السقراطي هو نفسه منهج الرياضة؛ فالرياضة - كما في هندسة إقليدس مثلا - تبدأ من فروض هي المسلمات وهي نقطة الابتداء، ثم تسير بعد ذلك في استنباط ما يمكن استنباطه من نتائج، فتكون هذه النتائج يقينية لأنها تولدت عن مقدمات فرض فيها الصواب. ولو أردت في الهندسة أن تثبت نظرية معينة، فما عليك إلا أن تبحث عما هو أعم منها مما يسبقها من نظريات ومسلمات، حتى تنتهي بمجموعة النظريات إلى مبادئ قليلة تفسرها كلها. وفضل سقراط الأكبر في التفكير الفلسفي هو محاولته أن ينهج في بحث المدركات الأخلاقية نفس المنهج الذي ينهجه عالم الرياضة في نظرياته الهندسية، فكيف أفسر ظاهرة سلوكية معينة في موقف معين؟ أفسرها بالمبدأ العقلي الكامن وراءها. وكيف أفهم هذا المبدأ العقلي نفسه؟ أفهمه بأن أبحث عن المبدأ الذي هو أعم منه ويحتويه، وهكذا حتى يتكامل البناء الخلقي كله مستندا إلى مبادئ معينة لا بد من التسليم بها، كما يتكامل البناء الرياضي على هذه الصورة نفسها.
2
وكان العلم اليقيني - لا الآراء والظنون - هو كذلك الأمل الذي راود أفلاطون كما راود أستاذه سقراط، وكان منهج ذلك هو نفسه منهج هذا، لولا أنه ازداد على يدي أفلاطون دقة وإحكاما.
فكان سقراط قد اكتفى بالمقابلة بين المعرفة الحسية من جهة والمعرفة العقلية من جهة أخرى؛ أي إن الأمر عنده كان ذا طرفين؛ فطرف في الخارج يبدو أمام الحواس ظاهرة بين الظاهرات الجزئية المتغيرة، وطرف في الداخل يكون في العقل مبدأ ثابتا عنه انبثقت تلك الظاهرة التي تبدت للحواس؛ فما تلك الظاهرة بالنسبة للمبدأ العقلي إلا بمثابة المثل التطبيقي الواحد. وكان يمكن أن يتبدى المبدأ في مثل تطبيقي آخر؛ نقول إن سقراط كان قد اكتفى بقسمته الأمر وجهين؛ معرفة حسية من جهة، ومعرفة عقلية من جهة أخرى، كأنما المعرفة الحسية كلها من درجة واحدة في سلم الحق، وكأنما المعرفة العقلية كذلك من درجة واحدة. وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون فرق بين الرياضة والفلسفة باعتبارهما عقليين، مع أن المعرفة الفلسفية - عند أفلاطون - من درجة أعلى.
أمعن أفلاطون في الموازنة بين ضروب المعرفة ودرجاتها، فتنبه لما لم يتنبه له سقراط، وهو أن كل مرحلة من المرحلتين الرئيسيتين يمكن قسمتها قسمة فرعية إلى مرحلتين؛ فالمعارف الحسية درجتان، وكذلك المعارف العقلية درجتان، بحيث تكون كلها أربع درجات متفاوتة من حيث ما تحققه كل منها من الصواب. وهاك ما يقوله في ذلك أفلاطون، في آخر الكتاب السادس من «الجمهورية»: «افرض أنك قد قسمت خطا قسمين غير متساويين، يمثل أحدهما مجموعة الأشياء المرئية، ويمثل الآخر مجموعة الحقائق العقلية، ثم قسمت كلا من القسمين جزأين بنفس النسبة التي بين القسمين الكبيرين؛ فعندئذ إن جعلت أطوال الأجزاء (الأربعة) تمثل درجات الوضوح أو عدمه، كان أحد الجزأين في قسم الأشياء المرئية ممثلا لطائفة الصور؛ وأعني بها الظلال أولا، والانعكاسات على سطح الماء وغيره من المواد المصقولة الملساء اللامعة ثانيا. وكان الجزء الثاني ممثلا للأشياء الحقيقية التي هي أصول تقابلها هاتيك الصور؛ وأعني بالأشياء الحقيقية صنوف الحيوان من حولنا وكافة أشياء العالم الطبيعي وعالم المصنوعات.
وأما القسم الثاني الكبير، فأحد جزأيه يمثل حقائق نبحثها مستعينين بأشياء الطبيعة وصورها (في جزأي القسم الأول)؛ فها هنا نبدأ بالفروض، ونسير - لا في طريقنا إلى المبدأ الأول - بل نسير إلى النتائج التي تتولد عن تلك الفروض. وأما الجزء الثاني من القسم الثاني فيمثل حقائق النفس حين تبدأ من الفروض - لا هابطة إلى النتائج - بل صاعدة إلى المبدأ الأول. وهذا المبدأ لا يكون مشروطا بشرط، ولا هو بحاجة إلى معونة أشياء الطبيعة وصورها؛ فالنفس ها هنا لا تستعين في طريق رحلتها إلا بالمثل الحقيقية التي هي من الأشياء ماهياتها.»
هذا نص غاية في الأهمية، يبين درجات الوضوح في مختلف العلوم؛ فالعلوم الطبيعية لا تجاوز حدود التخمين والظن؛ لأنها تتناول بالبحث أشياء جزئية متغيرة. والعلوم الرياضية وإن تكن يقينية إلا أنها على شيء من القصور؛ لأنها أولا معتمدة في ظهور حقائقها على الأشياء الجزئية، وثانيا لأنها لا بد أن تفترض فرضا تجعله نقطة الابتداء، ومنه تسير نازلة إلى النتائج التي تتولد عن ذلك الفرض. وأما المعرفة الفلسفية فهي الحدس المباشر للمثل على حقيقتها.
فالعالم الرياضي إذا ما أراد أن يبحث في خصائص المربع - مثلا - رسم مربعا وافترض أنه مربع حقيقي، قائلا: افرض أن أ ب ج د مربع. ولماذا يفرض أنه مربع؟ يفرض ذلك لأن ما قد رسمه وإن يكن قريب الشبه بالمربع إلا أنه ليس هو المربع كما يقتضيه تعريف المربع في الهندسة؛ فقد لا يكون السطح تام الاستواء، وقد لا تكون الخطوط تامة الاستقامة، على حين أن المربع بحكم التعريف هو السطح المستوي المحاط بأربعة خطوط مستقيمة ومتساوية ومتعامدة؛ وإذن فلا مناص للرياضي من أن «يفرض» أن الشكل الرسوم مربع ليمضي في إقامة البرهان على ما يريد أن يقيم عليه البرهان. أما إذا أراد أن يعرف المربع كما تقتضيه ماهيته، فلا يكون سبيل ذلك فرضا يفرضه، بل سبيله أن يتصور بعقله مثال المربع فيراه رؤية مباشرة، ورؤية المثل هي غاية الفلسفة.
ويهمنا من هذا كله طبيعة التفكير الرياضي الذي أراد سقراط أن يصطنعه في تحليله للمدركات الخلقية ليصل في هذه المدركات إلى العلم اليقيني؛ فالمنهج الرياضي - كما رأينا عند سقراط وعند أفلاطون معا - ضرب من التفكير يتخذ لنفسه بداية يبدأ منها شوطه نازلا إلى النتائج، ولا يصعد مجاوزا تلك البداية؛ أي إنه لا يجعل البداية نفسها محل بحث، بل يسلم بصدقها ثم يستنبط.
لم يكن علما - عند اليونان - ما ليس يبلغ درجة اليقين؛ ولذلك فالفلسفة الديالكتيكية علم لأنها تصعد بصاحبها إلى قمة ينظر فيها إلى الحقائق العقلية نظرا حدسيا مباشرا. والرياضة علم لأنها تسلم بنقطة الابتداء ثم تستنبط النتائج التي يتحتم أن تكون صحيحة ما دامت نقطة الابتداء صحيحة. وأما علم الطبيعة الذي يبحث في الجزئيات فلم يكن عندهم وجود بالمعنى الذي يفهمه أصحاب هذا العلم في العصر الحديث؛ فجزئيات الطبيعة متغيرة عابرة، والعلم ينشد حقا له ثبات ودوام.
ولا غرابة بعد هذا أن نجد أرسطو حين أراد أن يستخلص منطق الفكر من واقع الفكر اليوناني، لم يجد ما يصلح أن يكون منطقا إلا الصور القياسية؛ فلا فكر بغير استدلال النتيجة من مقدماتها. وهو يعرف القياس بأنه: «قول قدم له بمقدمات معينة؛ فلزم عنها بالضرورة شيء غير تلك المقدمات.» أي إنه لا بد للعملية الفكرية السليمة من وجود مقدمات مسلم بها، ثم تتولد عنها نتائج مضمونة الصدق؛ لأن المستدل لا يضيف من عنده شيئا؛ ومن ثم فهو لا يتعرض للخطأ.
وجاءت بعد ذلك العصور الوسطى؛ فمسيحية في الغرب وإسلام في الشرق الأوسط، ولكل من الديانتين رجال أرادوا تحليل أصول عقيدتهم تحليلا يستخرج فروعها ويبرز نتائجها ويوضح تطبيقاتها؛ فأين عساهم أن يجدوا أداة تعينهم في عملهم خيرا من المنطق القياسي الذي فصل أرسطو شروطه وقواعده؟ إن بين أيديهم كتابا أو كتبا لا يجوز عندهم أن تكون موضع شك ولا ريبة، وكل ما يطلب منهم هو إخراج ما يمكن إخراجه من نتائج كامنة في نصوص تلك الكتب؛ أي إن العمل المطلوب هو استنباط النتائج لا وضع المقدمات؛ فالمقدمات قد نزل بها الوحي من السماء، وأعني بها نصوص العقيدة؛ فالباحث هنا لا يخلق الجنين بل يستولده. وهو بالطبع لا يبيح لنفسه أن يستولد من النتائج ما يمكن أن يكون موضع شك ، بل لا بد له من الوصول إلى أحكام يقينية، وهو لا محالة واصل إليها ما دام قد أخذ نفسه بالحذر في استخراج النتيجة من النص استخراجا لا يضيف إليه من عنده شيئا.
3
وذهبت العصور الوسطي وجاء العصر الحديث، فكان ديكارت في مستهله يمثل ما كان سقراط في موضعه من تاريخ الفكر اليوناني، على بعد ما بين الرجلين من اختلاف؛ فكلاهما قد جاء حين كانت فترة من الشك مدبرة وفترة من التفكير الإيجابي مقبلة، وكلاهما كان صاحب منهج يقدمه فاتحة للعصر الإيجابي الجديد، وكلا المنهجين قام على أساس ما قد ظن صاحبه أنه علم يقين يصح أن يكون نموذجا لكل تفكير يريد أن يكون يقيني النتائج، وكلا الرجلين لم يجدا بدا من التشكك فيما كان يعرفه؛ لكي يتسنى للمنهج الجديد أن يبنى على أرض صلبة وأساس متين، وكلاهما قد فرقه بين مصدرين للمعرفة؛ فمعرفة تأتي من الخارج عن طريق الحس، ومعرفة تنبع من الداخل عن طريق الفكر، مؤثرا أن يلتمس المعرفة الصحيحة من المصدر الداخلي لا من خبرة الحواس. وفوق هذا وهذا وذاك من أوجه الشبه بين الرجلين أن كليهما قد جعل العلم الرياضي مفتاح المنهج الجديد.
لكن الرجلين وإن يكونا قد اتفقا على أن ينهجا في البحث نهج العلوم الرياضية ليبلغا ما تبلغه هذه العلوم من يقين، إلا أنهما قد اختلفا في طريقة استخدامهما لهذا المنهج؛ فأما سقراط - كما رأينا - فقد استخدمه في طريقته الجدلية؛ بمعنى أنه كان يعارض مختلف الآراء في الموضوع الواحد بعضها ببعض، كان عندئذ يلجأ إلى أن يضع فرضا يفترض فيه الصواب ويجعله نقطة ابتداء، ثم يستدل منه ما وسعه استدلاله من نتائج، ثم يغير الفرض الأول ويمضي في استدلاله وهكذا؛ لكي تتضح الفوارق بين الآراء خلال ما يترتب عليها من نتائج. والمنهج هنا رياضي؛ بمعنى أنه يصطنع ما تصطنعه الرياضة من فرض مسلمات أولية تكون هي نقطة الابتداء، ثم يكون السير بعد ذلك استنباطا للنتائج.
وأما ديكارت فلم يستخدم المنهج الرياضي على هذا النحو، على الأقل كراهية منه للطريقة الجدلية التي كانت شائعة في العصور الوسطى، والتي كانت تدور بأصحابها في طاحونة لفظية لا تغني ولا تفيد؛ فكيف استخدم ديكارت المنهج الرياضي تحقيقا للعلم اليقيني المنشود؟ إنه بالطبع لم يرد أن يتعلم الرياضة لذاتها، بل أراد أن يطبق منهجها على سائر العلوم؛ إذ الرياضة نفسها ليست سوى حالة من حالات التطبيق لذلك المنهج. وعنده أن كل موضوع علمي صالح للمنهج الرياضي - طبيعة كان أو إنسانا أو ما وراء الطبيعة - فما خصائص هذا المنهج؟
خصائصه الرئيسية هي اعتماده على الحدس أولا في رؤية الطبائع البسيطة، ثم الاستنباط من هذه البسائط ما يمكن استنباطه من نتائج، لكن هذا الكلام الموجز بحاجة إلى مزيد من الشرح ليتضح أولا، ولندرك الفرق بين هذا المنهج الديكارتي والقياس الأرسطي ثانيا.
فنحن نسمي الإدراك حدسا (بالاصطلاح الفلسفي) إذا ما كان نتيجة عيان عقلي مباشر، كأنما هو لمعة يلمع بها فكر الإنسان فيرى؛ فالإدراك الحدسي لقطة عقلية واحدة تتم في لحظة زمنية واحدة، وليس الأمر مرهونا بمقدمات يتلو بعضها بعضا ونقارن بعضها ببعض لنستدل منها نتائجها. ومثل هذا الإدراك الحدسي هو أقرب شيء إلى النور الفطري، أو إن شئت فقل أقرب إلى الإدراك الغريزي الذي جبل عليه الإنسان ليرى بعض الحقائق رؤية لا تتوقف على تعلم أو تدريب. وبطبيعة الحال لا يقال عن الإدراك الحدسي إنه قد «يخطئ»؛ إذ الخطأ إنما يكون في الحكم لا في مجرد الرؤية المباشرة، والحدس رؤية مباشرة.
بهذا الحدس ندرك الطبائع البسيطة إدراكا مباشرا، ويكون إدراكنا لها - كما هي الحال في المنهج الرياضي - هو نقطة الابتداء؛ فما هي تلك التي أسماها ديكارت بالطبائع البسيطة والتي هي من بناء المعرفة بمثابة الأساس؟
العجيب هنا هو أن فيلسوف الوضوح لم يكن واضحا كل الوضوح في أمر «الطبائع البسيطة» على خطرها في بنائه الفلسفي؛ فهي - كما أسلفنا - حجر الزاوية من البناء كله؛ لأنها هي البداية التي لا نبحث عما هو أبسط منها لنبدأ به؛ هي البداية التي نطمئن إليها لأنها يقينية حتما، واضحة حتما، متميزة حتما، وإلا لما كانت «بسيطة» كما نزعم لها. ومهما يكن من أمرها فهي عند ديكارت أربعة أنواع رئيسية؛ بسائط تصدق على الأشياء كلها كائنة ما كانت، مثل «الوجود» و«الجوهر» و«العدد» و«الوحدة» و«الأمد»؛ فكل شيء كائنا ما كان تستطيع أن تقول عنه إنه «موجود»، وتستطيع أن تقول عنه إنه يتصف بكذا وكيت من الصفات مما يدل على أن له جوهرا ثابتا تطرأ عليه الصفات، وهكذا دون أن تكون بحاجة لفهم هذه الطبائع - «الوجود» و«الوحدة» و«الجوهر» ... إلخ - إلى شيء غير النظر المباشر في ذاتك الشاعرة، وبمثل هذا العيان العقلي تدرك معاني هذه الأشياء. والنوع الثاني من البسائط يصدق على الأشياء الطبيعية وحدها دون الكائنات العقلية، مثل «الامتداد» و«الشكل» و«الاستقامة» و«الحركة»؛ فلك أن تقول عن هذا الكتاب - مثلا - إنه يمتد فيشغل حيزا من المكان، أو إنه مستطيل، أو إن طرفه خط مستقيم، أو إنه يتحرك من أعلى إلى أسفل إذا ما أخليت عنه قبضتك، دون أن تكون بحاجة إلى وسيلة غير الرؤية العقلية المباشرة لتعلم ماذا يعني قولك عن الكتاب إنه ممتد أو إنه مستطيل الشكل، وهكذا. والنوع الثالث من البسائط يصدق على الأشياء العقلية وحدها دون الكائنات الطبيعية، مثل «فكر» و«شك» ... إلخ؛ فأنت تعلم علما حدسيا مباشرا أنك الآن «تفكر» في كذا وكذا، وأنك «تشك» إن كانت السماء ممطرة أو لم تكن. وأما النوع الرابع من البسائط فهي علاقات أو بديهيات تستخدم في ربط بسائط الأنواع الثلاثة المتقدمة؛ فمن العلاقات علاقة «التساوي» وعلاقة «التشابه» وعلاقة «علة ومعلول»، ومن البديهيات البديهية القائلة إنه «إذا أضيفت كميات متساوية إلى كميات متساوية كانت النتائج متساوية»، والبديهية القائلة إنه «إذا كان هنالك شيئان كل منهما يطابق شيئا ثالثا، كان الشيئان متطابقين»، والبديهية القائلة «إن لكل شيء سببا». وبسائط النوع الرابع هذه (أي العلاقات والبديهيات) هي التي تمكننا من توليد المعرفة من بسائط الأنواع الثلاثة الأولى؛ فهنالك - مثلا - في بسائط النوع الأول «العدد »، فأستطيع بواسطة علاقة التساوي أن أستولد نتيجة كقولي إن اثنين وثلاثة تساويان خمسة. وهنالك في بسائط النوع الأول «الجوهر»، وفي بسائط النوع الثاني «الامتداد»؛ فأستطيع أن أرى رؤية حدسية ما بينهما من علاقة تجعل الامتداد محالا بغير جوهر يرتبط به.
هنالك - إذن - طبائع بسيطة كالتي ذكرناها، وهنالك علاقات بسيطة كذلك. ونعني ب «البساطة» هنا أنها تدرك بالنور الفطري إدراكا مباشرا. وبعض العلاقات يربط بعض الطبائع البسيطة ربطا ندرك إزاءه أنه ضروري يستحيل أن يكون على غير ما هو كائن؛ فكون الاثنين أو الثلاثة من جهة والخمسة من جهة أخرى يتساويان علاقة ضرورية بين الطرفين، وكون الامتداد يرتبط بجوهر ما أمر ضروري لا مندوحة عنه. والعلاقات الرياضية كلها هي من هذا الضرب الذي يدرك الإنسان فورا أنه ضروري وأنه محال ألا يكون على نحو ما هو كائن. وسؤالنا الآن هو: من أين جاءت هذه الضرورة؟
إنه إذا كانت الحقيقة البسيطة بسيطة حقا، بالمعنى الذي أسلفناه، وجب ألا يعتمد إدراكها على شيء سواها؛ فكل «بسيطة» من البسائط مستقلة بذاتها، يدركها الحدس إدراكا مباشرا، بغير أن يشترك في إدراكها إدراك «بسيطة» سواها؛ فيجب - مثلا - أن أفهم «الوجود» معنى قائما وحده بغض النظر عن «الامتداد» أو «العدد» أو غيرهما؛ ومعنى ذلك أنه كان ينبغي أن تفهم «البسائط» بغير حاجة إلى علاقات تربطها بعضها ببعض. دع عنك أن تكون هذه العلاقات «ضرورية» بحيث يستحيل ألا تكون البسائط المرتبطة بها غير مرتبطة على النحو الذي هي مرتبطة به؛ فالحقيقة «البسيطة» ما دامت تدرك وحدها إدراكا مباشرا فيه وضوح تام وفيه تميز يميزها من كل ما عداها، فهي مما لا يمكن «تعريفه» بغيره؛ أي إنها مما لا يمكن تحليله إلى ما هو أبسط منه، مع أنه إذا كان بعض هذه البسائط مرتبطا ارتباطا ضروريا بغيرها، كان معنى هذا الارتباط الضروري أنها لا هي مدركة وحدها، ولا هي واضحة بذاتها، ولا هي متميزة مما عداها، ولا هي مما لا يمكن تعريفه أو تحليله.
ولو كان ذلك كذلك في أمر البسائط من حيث وجوب استقلالها في الإدراك الحدسي، بحيث يمكن استغناء الواحدة منها عن كل ما عداها، فمن أين تأتي «ضرورة» الرياضة، مع أن الرياضة إن هي إلا ضروب من العلاقات بين حقائق بسيطة، بحيث نحس إزاء تلك العلاقات أنها ضرورية وأنها محال ألا تكون على غير ما هي عليه؟ إن ديكارت يعلق أهمية كبرى على يقين الحقائق الرياضية وضرورتها، إلى الحد الذي يجعل الرياضة عنده نموذجا لا مناص من احتذائه في العلوم الأخرى لنبلغ فيها مثل اليقين الذي تحققه الرياضة؛ وإذن فمن المهم أن نسأل سؤالنا هذا: من أين جاءت للرياضة ضرورتها عند ديكارت؟
إنه لمما يجدر ذكره هنا أن ديكارت في «التأمل الأول» من تأملاته قد شك في إدراكه الحسي أولا، وبقيت لديه الحقائق الرياضية لا يعرف كيف يكون سبيل الشك فيها إلا أن يفترض وجود شيطان خبيث يضلله فيوهمه أن اثنين وثلاثة تساويان خمسة، وأن للمربع أضلاعا أربعة، مع أنها ليست كذلك؛ أقول إن ديكارت في التأمل الأول لا يجد الشك في الحقائق الرياضية من اليسر بمثل ما وجده في الحقائق الطبيعية المدركة بالحس؛ فبالنسبة لهذه الحقائق الطبيعية يستطيع - مثلا - أن يحتمل إمكان أن تكون هذه الأشياء كلها مرئية في الحلم لا في اليقظة، أما بالنسبة للحقائق الرياضية «فسواء كنت متيقظا أو نائما، هنالك حقيقة ثابتة، وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا».
4
أعود فأسأل: ما مصدر الضرورة في الحقائق الرياضية عند ديكارت؟ إنها بالطبع ليست مجرد كون الحقائق الرياضية تعتمد أول ما تعتمد على طبائع بسيطة تدرك بالحدس فلا يكون إدراكها معرضا للخطأ؛ ذلك لأن الحقيقة الرياضية قوامها علاقات تربط هذه الطبائع البسيطة، ونحن نقول عن هذه العلاقات إنها ضرورية، لكننا الآن نسأل: من أين جاءت لها هذه الضرورة؟ أكان محالا على الله أن يخلق الحقائق الرياضية على غير ما خلقها عليه؟ كلا، بل كان ذلك ممكنا في رأي ديكارت كما ورد في بعض رسائله التي يقول فيها إن الله كان يمكنه - لو أراد ذلك - ألا يجعل للمثلث زوايا ثلاثا، وألا يجعل أنصاف الأقطار في الدائرة متساوية، وأن يجعل الجبال تنهض على الأرض بغير وديان تقابلها، وألا يجعل الأربعة مضروبة في اثنين تساوي ثمانية، وباختصار فإنه لم يكن ثمة ما يلزم الله أن يجعل النقيضين لا يجتمعان.
5
ولعل هذا الإمكان - إمكان أن يخلق الله الحقائق الرياضية على غير ما هي عليه - هو الذي أجاز لديكارت أن يحتمل وقوعه في الخطأ - بفعل شيطان خبيث - إذا ما قال عن مجموع اثنين وثلاثة إنه يساوي خمسة، وعن المربع إن أضلاعه لا تزيد عن أربعة؛ فأمثال هذه الحقائق الرياضية تبدو لديكارت واضحة ومميزة، ولكنه مع ذلك يحتمل أن يضله الشيطان فيها؛ وإذن فإلى جانب الوضوح والتميز لا بد من شيء آخر لكي يثق في يقين ما يري، وهو هداية الله له في إدراكه هداية تنجيه من ضلالات الشيطان.
لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم من أن القضية الرياضية تحليلية لا تركيبية، تكرارية لا إخبارية؛ بمعنى أن يكون قولنا - مثلا - «إن للمثلث زوايا ثلاثا» قولا لا يزيد على تكرار جانب من الجوانب المتضمنة في تعريف المثل نفسه، فكأنما القائل لا يقول بقوله هذا شيئا أكثر من «أن المثلث هو المثلث»؛ أقول لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم في طبيعة القضية الرياضية، لما شك في أن يكون مضللا بفعل شيطان خبيث في إدراكه للحقائق الرياضية؛ إذ كيف يضلل الشيطان من لا يقول شيئا؟ نعم، لو رأي ديكارت ما نراه نحن اليوم في القضية الرياضية لعرف أن اليقين في الرياضة مصدره أن الرياضة لا تقول شيئا جديدا بحيث تتعرض للخطأ من أجله؛ وبالتالي فيستحيل أن يكون منهجها صالحا للعلوم الطبيعية التي من شأنها أن تحكي عن الطبيعية فيكون الخطأ فيها محتمل الوقوع.
لكن ديكارت كان من رأيه أن الحقيقة الرياضية تركيبية لا تحليلية؛ أي إنها تنبئ عن الطبيعة وما يقع فيها؛ وبالتالي فهي كأي خبر عن الطبيعة آخر معرضة للخطأ لولا هداية من الله، بل إن كل حقيقة أخرى - غير الحقائق الرياضية - يكون قوامها بسائط مرتبطة بعلاقة، بحيث تكون البسائط والعلاقة معا مما يدركه الإنسان بحدسه المباشر ، هي كذلك حقيقة تركيبية لا يكون المحمول فيها مجرد تحليل للموضوع، بل يكون إضافة تضاف إلى الموضوع؛ ومن ثم فقد يخطئ الإنسان في إدراكها لولا هداية من الله تعصمه. خذ - مثلا - حقيقة كهذه: «الجسم له امتداد.» فإنه على الرغم من أن الامتداد لا يكون إلا في جسم، وأن الجسم لا يكون بغير امتداد، بحيث كان يكفي القائل أن يقول كلمة «جسم» ليحللها السامع إذا أراد فيجد في عناصرها صفة الامتداد؛ وبهذا تكون عبارة «الجسم له امتداد» من قبيل التكرار، وما دام الأمر تكرارا لشيء واحد مرتين، دون أن تكون هنالك إضافة جديدة، فيتحتم قطعا أن تكون العبارة صادقة صدقا يقينيا وضروريا؛ أقول إنه على الرغم من أن صفة «الامتداد» يوصل إليها بتحليل الموضوع الذي هو «جسم» فإن حقيقة كهذه - شأنها شأن الحقائق الرياضية عنده - تكون تركيبية خبرية؛ لأن «الامتداد» - في رأيه - طبيعة بسيطة تدرك مستقلة عن «الجسم»؛ وإذن فالربط بينهما في حقيقة واحدة ليس هو من قبيل التحليل، بل هو من قبيل الخبر الذي يضيف شيئا إلى شيء آخر. نعم، إن عبارة كهذه يقينية ضرورية في رأيه، شأنها كذلك شأن الحقائق الرياضية، ولكن من أين جاءت الضرورة وجاء اليقين هنا؟ إنهما قد جاءا مما أمد الله الإنسان به من نور فطري يدرك به أمثال هذه العلاقات بين الأشياء. وكان يمكن ألا يمده بذلك النور، فيرى أضلاع المربع أكثر من أربعة أو أقل، ويري زوايا المثلث أكثر من ثلاث أو أقل، كما يرى الجوهر بغير امتداد.
إننا في تحليلنا للقضايا الرياضية اليوم - كما سنفصل القول فيما بعد - نري أنه ما دام الرياضي يبدأ بمسلمات (وهذه المسلمات عند الرياضي ثلاثة أنواع: تعريفات وبديهيات ومصادرات)، فإن كل نظرية تأتي بعد ذلك نتيجة لهذه المسلمات تكون تحليلية؛ لأنها بمثابة ما يكرر بعض العناصر المتضمنة في تلك المسلمات، وما دام الأمر تكرارا فهو ضروري ويقيني، فكأنك إذ تستدل نظرية رياضية تقول: إننا ما دمنا قد سلمنا ب «أ» و«ب» و«ج»، إذن تكون «ب » صحيحة. أما ديكارت فالأمر عنده على خلاف ذلك؛ لأنه يقول إننا لو كنا نبدأ بتعريفات صريحة ثم نستخرج منها قضايا تحليلية تعيد ما كان متضمنا في تلك التعريفات، انتهينا إلى قضايا لا تقول شيئا، لكن ما هكذا - في رأيه - يكون المنهج الرياضي؛ فأهم ما في هذا المنهج هو أننا نبدأ بمجموعة من البسائط التي بعضها حدود وبعضها علاقات، ثم نلاحظ أن علاقة ما من تلك العلاقات البسيطة تربط حدين من تلك الحدود البسيطة أيضا، وأن هذا الربط نراه ضروريا لا بد من قيامه؛ ومن ثم يتاح لنا أن نستدل من هذه البداية نتائجها فتكون النتائج ضرورية كذلك؛ فبهذا لا نكون إزاء قضايا تحليلية تكرارية، بل إزاء «تركيبات» فيها ما ينبئ عن العالم كيف تكون حقائقه. وحتى في الحالات التي قد يبدو فيها أن القضية تكرارية لا جديد في محمولها عما هو كائن في موضوعها، لو أنك أمعنت فيها النظر، وجدت فيها هي نفسها من الروابط ما لم يأتنا عن طريق التحليل الخالص، بل كان لا بد له من رؤية حدسية تدرك ما فيه من تركيب وبناء. ونعود إلى المثل الذي أسلفناه منذ أسطر قليلة، وهو: «الجسم له امتداد.» فها هنا موضوع القضية الذي هو «الجسم» ليس طبيعة بسيطة، بل هو مركب من بسيطتين هما «الجوهر» و«الامتداد»؛ فلو حللنا الموضوع إلى عنصريه أصبحت القضية: «الجوهر ذو الامتداد له امتداد.» أو بتعبير ديكارت نفسه وهو بصدد عرض هذه النقطة: «إن ما له امتداد له امتداد.»
6
ولكن بالرغم مما في هذا القول من تحليل تكراري ظاهر، فلا يزال ديكارت يصر هنا على وجهة نظره، وهي أن في الأمر تركيبا إخباريا، وهو في هذا المثل إدراك الرابطة الضرورية لا بين «الجسم» من ناحية و«الامتداد» من ناحية أخرى، بل بين العنصرين اللذين هما قوام «الجسم»، ألا وهما «الجوهر» و«الامتداد»؛ فكيف عرفت أن هذين يستحيل ألا يكونا متلازمين تلازما تتكون منه الأجسام؟
عرفت ذلك لا بالتحليل، ولكن بالإدراك الحدسي لما بين البسائط من علاقات. ولسوء الحظ إن ديكارت - وهو فيلسوف الوضوح - قد ترك هذه النقطة الهامة عند هذا الحد فلم يزدها توضيحا، مع أنها هي هي الأساس الذي يقوم عليه ما في الرياضة من ضرورة ويقين. إنه يرتد إلى المجاز، فيقول إن العلاقة الضرورية التي تربط «الجوهر» ب «الامتداد» (أو أي علاقة ضرورية أخرى) إنما نراها ب «عين العقل» أو ب «الرؤية العقلية» أو ب «الضياء الروحي» أو ب «النور الفطري». هذه كلها استعارات يستخدمها ديكارت ليعبر بها عن الطريقة التي بها ندرك ضرورة العلاقة التي تربط البسائط، وواضح أن «النور الفطري» هنا يشير إلى نور العقل ينصب على موضوع إدراكه فيكشف عما فيه من علاقة وأطرافها، لكن كيف يدرك العقل هذا الذي يدركه؟ وما طبيعة العلاقة الضرورية هذه؟ سؤالان يتركهما ديكارت بغير جواب.
أتكون هذه الضرورة ناشئة عن البسائط نفسها المرتبطة بمثل هذه العلاقة الضرورية؟ كلا بالطبع؛ لأن ذلك الفرض يقتضي أن تكون البسيطة من البسائط شيئا ذا صفة تقتضي كذا وتستلزم كيت، وإذن فلن تعود البسيطة بالبساطة التي فرضناها لها؛ لأنها عندئذ ستفقد استقلالها من حيث هي وحدة قائمة بذاتها، وسيكون إدراكها معتمدا حتما على إدراك ما هي متعلقة به بحكم طبيعتها. لتوضيح ذلك نقول: افرض أن «أ» و«ب» بسيطتان، وأن «ج» علاقة بسيطة، فكيف أعرف أن «أ» و«ب» يرتبطان ضرورة بالعلاقة «ج»؟ إن الجواب يستحيل أن يكون في تحليل «أ» و«ب» ولا في تحليل «ج»؛ لأن هذه كلها بسائط يمكن إدراك كل منها على حدة مستقلة عن كل ما عداها؛ إذن فكيف أدرك ضرورة الارتباط بين هذين الطرفين بهذه العلاقة؟ يجيب ديكارت: إنه النور الفطري ينصب على الحقيقة فيكشف عنها أطرافا وعلاقات. وفي ذلك غموض ظاهر.
ولعل هذا الغموض نفسه هو الذي أحس به ديكارت حين أخذه القلق - في التأمل الأول من تأملاته - إزاء اليقين الرياضي؛ فبينما هو يقول «سواء كنت متيقظا أو نائما، هنالك حقيقة ثابتة، وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما، وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا»، بينما هو يقول ذلك عن الحقائق الرياضية، تراه وكأنما هو لا يدري من أين جاءت إليه طمأنينة النفس إزاءها؛ إنها لم تجئه عن طريق الطبائع البسيطة ذاتها، التي جعلها نقطة الابتداء في شوط التفكير؛ لأن تلك البسائط (وبعضها حدود وبعضها علاقات) بحكم طبائعها لا تدل على أنها سترتبط على صورة دون أخرى. إن اثنين أو ثلاثة من جهة وخمسة من جهة أخرى - باعتبارها بسائط - لا تحتم بحكم طبائعها أن يكون التساوي هو العلاقة الرابطة بين الطرفين؛ بدليل أن ديكارت يعترف - كما أسلفنا - بأن الله كان يمكنه أن يجعل الأمر على غير ذلك لو أراد؛ ولهذا فهو بحاجة إلى أداة أخرى تكون مفطورة في جبلته يستعين بها على إدراك هذه الضرورة التي يراها في مثل هذه العلاقة الرياضية؛ ومن ثم فقد أكمل مذهبه في «البسائط» بمذهب آخر في «النور الفطري» الذي يهدي الإنسان في إدراكه للروابط الضرورية على النحو الذي ذكرنا.
لو أن ديكارت قد رأي ما نراه نحن اليوم من أن ضرورة الصدق الرياضي هي من صناعة الإنسان وليست هي بالحق الموضوعي الكائن في العالم الخارجي نفسه، وهي من صناعة الإنسان لأنه هو الذي يضع مجموعة المسلمات - ولو شاء لغير منها ما أراد أن يغير وكيف أراد - ثم يبني على ذلك بناءه الرياضي، لأدرك ما ندركه نحن اليوم من أن اليقين الرياضي مصدره هو أننا نحلل المسلمات ونكرر عناصرها في النظريات؛ فليس في الأمر - كما ظن - حقائق خالدات؛ بدليل أننا قد نعدد البناءات الرياضية ويكون كل بناء منها صحيحا ما دامت أجزاؤه متسقة بعضها مع بعض، لكنه لو فعل ذلك لقوض بيديه مذهبه العقلي؛ فهو من الفلاسفة العقليين - بل هو إمامهم في العصر الحديث - الذين يجعلون ضرورة الحق كائنة في الوجود الخارجي، وأن العقل يكشف عما هنالك ولا ينتحل من عنده شيئا. غير أنه من ناحية أخرى لم يجد مناصا من التذبذب بين وجهي مذهبه؛ فلو سأله سائل: ما مصدر الضرورة في الحقائق الرياضية ؟ أجابه حينا بقوله إنها واضحة بذاتها، وحينا آخر بقوله إنها إرادة الله شاءت للأمور أن ترتبط على هذا النحو، ثم شاءت لنا أن نهتدي إليها بما جبل في فطرتنا من نور.
أراد ديكارت أن يمسك العصا من وسطها كما يقول المثل السائر؛ إذ أراد أن يجعل للحقائق الرياضية يقينا وضرورة موضوعيتين كائنتين في طبائع الأشياء نفسها، ولكنه أراد في الوقت نفسه أن يجعل لله قدرة على خلق العلاقات الرياضية في صورة غير صورتها الراهنة التي اختارها. والحق أن مثل هذا الموقف لو حللناه، انتهى بنا إلى نتيجة هي نفسها النتيجة التي أراد ديكارت في إصرار أن يجتنبها، وهي أن الله عندئذ يكون قد خدع الإنسان حين جعله يدرك في الحقائق الرياضية ضرورة ليست فيها؛ ذلك لأن مثل هذه الضرورة لا يراها الله في الحقائق الرياضية بمثل ما أراها أنا، ولو فعل لاستحال أن يكون هنالك سواها أمامه ليختار منها إذا شاء، مع أن ديكارت يقرر أن الله كان يستطيع ألا يجعل أضلاع المربع أربعة وزوايا المثلث ثلاثا؛ ومعنى ذلك أن ما هو جائز في نظر الله مستحيل في نظري أنا الإنسان؛ فكأن ضرورة الصدق في القضية الضرورية لها معنيان؛ معنى إلهي ومعني بشري؛ فهي بالمعنى البشري استحالة تصور النقيض، وهي بالمعنى الإلهي مجرد كونها الحالة التي وقع عليها اختيار الله من بين حالات محتملة أخرى؛ فكأن الله قد خلقني على نحو يجعلني أرى ضرورة الصدق حيث لا ضرورة. إن النقطة الجوهرية هنا هي أن العقل الإلهي والعقل الإنساني - على هذا الأساس - مختلفان لا في الدرجة وحدها، فهذا محدود وذلك مطلق، بل في النوع؛ فالله يري جائزا ما أراه محالا، بل إن ما أراه تناقضا خلوا من المعنى - كأن أقول مثلا بأن أضلاع المربع ليست أربعة - هو في إدراك الله ممكن جائز الوقوع لو أن إرادته شاءت. وهكذا بينما كان ديكارت يعتقد أن الكون مقام على أساس عقلي، وأن العقل في مستطاعه أن يكشف عن ذلك الأساس بما يدركه بنوره الفطري من علاقات ضرورية تربط بين الطبائع البسيطة، كان في الوقت نفسه يذهب مذهبا قد ينتهي به إلى أن الضرورة المزعومة هي من وهم الإنسان.
7
تلك هي الطبائع البسيطة التي أرادنا ديكارت على أن نجعل منها نقطة ابتداء؛ لأننا عندئذ - كما يري - نضع أقدامنا على أرض صلبة. وقد رأينا في التحليل الذي أسلفناه كيف ينطوي هذا الرأي على مفارقات قد تنتهي بهدم ما أراد ديكارت بناءه.
وننتقل الآن إلى خطوته الثانية؛ خطوة الاستنباط من تلك البسائط الأولية؛ فما دام إدراكنا لتلك البسائط يقينيا لأنه إدراك حدسي، فكل ما يستنبط منه يكون يقينيا كذلك؛ فلو بدأت - مثلا - بهذه البسائط: الأعداد 5، 4، 3، ثم العلاقة «أكبر من»، ثم لو رأيت رؤية مباشرة بنور العقل هذه الحقيقة الرياضية الآتية: «5 أكبر من 4.» وبعدئذ رأيت كذلك بنور العقل هذه الحقيقة الرياضية الثانية: «4 أكبر من 3.» فعندئذ يتاح لي من هذين الإدراكين الحدسيين المباشرين أن أستنبط هذه الحقيقة: «5 أكبر من 3.» وكذلك «3 + 2 أكبر من 3.» وهكذا أمضي في استنباطات يقينية استمدت يقينها من يقين الحدوس الأولى التي حدستها بالنور الفطري.
لقد قيل عن ديكارت إنه بمنهجه الرياضي هذا قد أحدث ثورة فلسفية نفضت غبار العصور الوسطى، وقد كان هذا الغبار نفسه من مخلفات القياس الأرسطي، فلنا أن نتساءل: ما الفرق الجوهري بين القياس الأرسطي والاستنباط الديكارتي؟ يقولون إن هذا الفرق الأساسي بين المنهجين هو أن ديكارت يبدأ شوطه بإدراك حدسي لبسائط يرتبط بعضها مع بعض بعلاقات ضرورية كما أسلفنا، فيبدأ - مثلا - برؤية مباشرة لاستقامة كل ضلع من أضلاع المربع، ثم بعد لهذه الأضلاع فإذا هي أربعة، وعندئذ يقول في يقين إن للمربع أضلاعا مستقيمة أربعة، وبعد ذلك يرتب على هذه الحقيقة ما استطاع من نتائج. وأما القياس الأرسطي ففي مقدمتيه مقدمة واحدة على الأقل تكون كلية. وواضح أن الحكم الكلي - كقولنا كل إنسان فان - هو في حد ذاته حكم يجوز أن يكون باطلا؛ لأن رؤية الحقيقة فيه لا تكون حدسا مباشرا، بل تكون نتيجة لتعميم من خبرات سابقة؛ فهي إذن عملية طويلة دقيقة الخطوات. وما أكثر ما ينتهي الإنسان من خبراته إلى تعميمات يخطئ فيها، ومع ذلك يتخذها مقدمات لأقيسة يستدل منها النتائج التي يظن أنها يقينية ما دامت مستخرجة استخراجا سليما من مقدماتها.
لكننا إنصافا لأرسطو في هذا السياق نقول إننا في الحقيقة نبتر المنهج الأرسطي بترا مضللا لو وقفنا فيه عند قياس واحد قائلين: هذا قياس مقدمتاه موضع ظن؛ وإذن فنتيجته هي الأخرى موضع ظن. ذلك لأننا لو تعقبنا المنهج الأرسطي إلى بدايته الأولى، سائلين: من أين جاءت هذه المقدمات نفسها؟ فسيكون الجواب: إنها هي بدورها نتائج لمقدمات سبقتها. ومن أين جاءت هذه السابقة؟ جاءت من مقدمات سبقتها، وهكذا دواليك حتى نصل إلى حقيقة أو مبدأ ندركه بالحدس المباشر؛ وإذن فأرسطو - مثل ديكارت - يرتد إلى بداية حدسية، ولسنا نرى أين يكون الفارق بينهما اللهم إلا أن يقال إن أرسطو حين يحدس الخطوة الإدراكية الأولى فإنما يحدس تصورات كل تصور منها على حدة، كأن يحدس مثلا حقيقة «الإنسان» ثم حقيقة «الفناء»، ثم يصل ما بين الحدسين في قضية فيقول: «الإنسان فان.» أما ديكارت فهو إذ يحدس مقدماته فإنما يحدسها دفعة واحدة بطرفيها والعلاقة الضرورية الرابطة بينهما، لكننا قد أفضنا الحديث فيما مضى عن تحليل هذا الموقف الإدراكي عند ديكارت ووجدناه منطويا على مشكلات ليس من اليسير مواجهتها وحلها.
4
سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكثيرون غيرهم من أئمة الفلسفة في شتى عصورها يرون أن الصدق اليقيني هو علامة الفلسفة بمعناها الصحيح، وأن هذا الصدق اليقيني هو ضالة الفيلسوف المنشودة؛ فهو يريد أن يعرف الحقيقة، وأن تكون معرفته إياها يقينا لا يحتمل الخطأ. ولقد وجدوا هذا اليقين المنشود في العلم الرياضي، وبقي أن يجدوه كذلك في سائر العلوم من طبيعية وإنسانية ولاهوتية وميتافيزيقية، فكيف السبيل إلى ذلك؟ كان هذا هو سؤالهم؛ فآنا تري الفيلسوف يائسا من اليقين في العلوم الطبيعية لاعتماد تحصيلها على الحواس أولا؛ ولذلك فهو يرفضها ويقضي بعدم جوازها؛ لأن العلم فيها لا يعدو الظن والاحتمال، ومن هؤلاء أفلاطون، الذي لا يكون العلم عنده علما إلا إذا كان مرئيا بالعقل رؤية اليقين. ولما كان ذلك لا يتيسر في معرفتنا بالأشياء الجزئية - أشياء هذه الدنيا التي نعيش فيها - وجب إهمالها. واليقين المنشود عنده لا يتحقق إلا في الرياضة من جهة وفي الميتافيزيقا من جهة أخرى، والفرق بينهما هو أن الرياضة تستند إلى فروض تبدأ منها استنتاجاتها اليقينية، وأما الميتافيزيقا فهي رؤية الصور الكاملة للأشياء، أي المثل، رؤية مباشرة بالمواجهة الحدسية كما تواجه قرص الشمس لتراها. وآنا آخر ترى الفيلسوف لا ييئس من أن يصب العلم الطبيعي في قالب اليقين الرياضي - مثل ديكارت - وإنما تكون وسيلة ذلك عنده هي اتباع منهج الرياضة عند التفكير في الطبيعة؛ فكما تبدأ الرياضة بحقائق بسيطة كالعدد ثم تمضي في طريقها إلى التركيب، فكذلك يبدأ العلم الطبيعي بطبائع بسيطة كالجوهر والامتداد، ثم يمضي في طريقه إلى التركيب؛ وبذلك يكون اليقين مضمونا هنا كما هو مضمون هناك.
وهؤلاء الفلاسفة جميعا على اختلافهم في المذهب والطريق يتفقون على أن ما يدركه العقل الخالص وحده عن الوجود الخارجي هو نفسه ما عسانا واجدوه في الوجود الخارجي كما هو واقع؛ فما على العقل إلا أن ينسج من طبيعته خيوطا، بادئا بالبديهيات الواضحة ومنتهيا إلى نتائجها، وإذا بهذا النسيج الذي نسجه في الداخل هو صورة ما يقع في الخارج؛ فهذا هو إقليدس - مثلا - يقيم بناءه الهندسي على أساس عقلي صرف؛ بمعنى أنه يبدأ بمسلمات يضعها، بأن يعرف طائفة من المفاهيم الهامة في الهندسة، كالنقطة والخط والسطح وما إلى ذلك، ويقدم ببديهيات ومصادرات يطلب التسليم بها من غير برهان؛ لأنها عنده بمنزلة الفروض، والمناقشة لا تكون في الفروض ذاتها، بل تكون في النتائج التي تستدل منها؛ أقول هذا هو إقليدس يبني هندسته على فروض بناء عقليا صرفا، لكنه في الوقت نفسه يتوقع أن تكون تفصيلات هذا البناء هي نفسها صورة الواقع الطبيعي؛ فإذا انتهى في بنائه العقلي مثلا إلى أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساويا لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، كان هذا هو نفسه ما أجده على سطح الأرض لو رسمت عليه مثلثا قائم الزاوية ثم رسمت مربعات على أضلاع ذلك المثلث؛ إذ إني سأجد عندئذ أن مساحة المربع المنشأ على الوتر تساوي مجموع مساحة المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.
كيف أمكن هذا؟ كيف أمكن أن يكون اليقين الذي يصل إليه العقل تفكيره الرياضي هو نفسه الحالة الواقعة فعلا في العالم الطبيعي؟ كان ذلك هو السؤال عند «كانت»؛ فهو لم يتردد أبدا في أن القضية الرياضية التي هي ضرورية الصدق إنما تصور في الوقت نفسه وقائع الطبيعة، وأخذ يسأل: كيف أمكن لما هو صادق صدقا لا يعتمد على الخبرة أن يكون صادقا كذلك على أساس الخبرة؟ أو بتعبيره الاصطلاحي: كيف أمكن قيام قضية قبلية وتركيبية في آن واحد؟ قضية لم نستمدها من الخبرة، لكنها مع ذلك تخبر عما هنالك في عالم الوجود الفعلي؟
حتى جاء فلاسفة التحليل المعاصر فألقوا ضوءا جديدا على طبيعة القضية الرياضية، وإذا بهذا الضوء الجديد يزيل كل هذه المشكلات بضربة واحدة. وإن هذا الكشف عن طبيعة القضية الرياضية ليعد أهم كشف فلسفي في القرن الأخير كله، وهو هو موضع الثورة في الفلسفة المعاصرة كلها؛ فيقين الرياضة ليس له مصدر سوى أن القضية الرياضية تكرار لفظي في الرموز؛ فلا فرق في طبيعة العبارة الرمزية بين أن تقول 2 + 2 = 4، وبين أن تقول إن الماء هو الماء، وسبيلنا الآن إلى شرح ذلك في شيء من التفصيل.
القضية الرياضية ضرورية الصدق؛ فصدقها غير مرهون بمكان معين ولا زمان معين، صدقها ليس مرهونا بمجموعة من الظروف دون أخرى، بل إن صدقها ضروري هنا وعلى المريخ، وصدقها ضروري الآن كما كان ضروريا عند إنسان الكهوف؛ فماذا نعني ب «الضرورة» هنا؟ نعني بها أن النقيض مستحيل.
والاستحالة المقصودة هنا هي الاستحالة المنطقية؛ ذلك لأن هنالك ثلاثة أنواع من الاستحالة كثيرا ما يخلط الناس بينها، وتوضيحها لا بد منه في هذا السياق؛ فهنالك - أولا - الاستحالة المنطقية التي أشرنا إليها، وهي لا تقال إلا على جملة فيها شيء ونقيضه؛ فإذا قلت مثلا إن المربع له أربعة أضلاع وليس له أربعة أضلاع، كنت تقول بذلك عبارة مستحيلة منطقيا لأن ألفاظها ينقض بعضها بعضا. كذلك قولك إن الدائرة مربعة قول مستحيل منطقيا؛ لأننا لو حللناه بأن وضعنا مكان الدائرة تعريفها ومكان كلمة «مربعة» تعريف المربع، ألفينا أنفسنا إزاء كلام ينقض بعضه بعضا؛ لأنك عندئذ تكون بمثابة من يقول إن الخط المنحني هو في الوقت نفسه خط مستقيم؛ أي إن الخط المنحني ليس خطا منحنيا. وكثيرا ما يخفى مثل هذا التناقض في كلام الناس، بحيث يقولون ما هو مستحيل منطقيا بالمعنى الذي أسلفناه، وفي الوقت نفسه يظنون أنهم يقولون كلاما متسقا لا تناقض فيه. خذ مثلا القائلين بأن روح الميت يمكن استحضارها وهي تتكلم وتسلك كما كانت تفعل في حياة جسدها. وفي ذلك استحالة منطقية؛ لأن العبارة نفسها تحمل الكلمة ونقيضها، ويتضح ذلك لو عرفنا الألفاظ المستعملة في هذه العبارة، وأولها كلمة «روح»، ومن عجب أن هؤلاء القائلين أنفسهم هم الذين يتمسكون بأن يكون التعريف دالا على أن الروح شيء غير مادي؛ أي إنه شيء لا يحتل نقطة من مكان، ومع ذلك يجعلون هذه التي ليست مكانا يجعلونها أمواجا هوائية هي الصوت المسموع، والأمواج الهوائية لا تكون إلا في مكان؛ فهم إذن بمثابة من يقولون إن ما ليس له مكان له مكان.
وهنالك - ثانيا - استحالة تجريبية، وهي استحالة تكون في الجملة إذا كانت تقرر شيئا يناقض قانونا من قوانين الطبيعة كما استخلصتها المشاهدة والتجارب؛ فمن قوانين الطبيعة أن الماء يغلي في درجة مائة وهو في مستوى سطح البحر، وإذن فإذا قال قائل إن الماء لا يغلي في درجة مائة وهو في مستوى سطح البحر، كان بذلك يقول ما هو مستحيل من الوجهة التجريبية. وإن يكن غير مستحيل من الوجهة المنطقية، فالقول لا تناقض فيه ؛ أي إن لفظا من ألفاظه لا يناقض لفظا آخر؛ كانت الاستحالة لتكون منطقية لو قال القائل: «إن هذا الماء الذي أمامي يغلي ولا يغلي.» لكنه يقول عبارة بين أجزائها اتساق، وكل ما في الأمر أنها عبارة تقدم صورة للواقع غير الصورة التي قد قررتها التجربة العلمية. إننا نريد للقارئ أن يكون هنا على حذر شديد، فلا يصف بالاستحالة المنطقية ما هو مستحيل من الناحية التجريبية وحدها؛ ذلك لأنه قمين أن ينفر من العبارات التي تقرر أشياء تخالف المألوف مخالفة صارخة، نفورا قد يدعوه إلى الحكم على تلك العبارات بأنها تجاوز حدود المنطق العقلي ذاته، ولا تكتفي بمجاوزتها لحدود التجربة وحدها؛ فمثلا لو قيل: «إنك إذا ألقيت من النافذة بحجر سار سيرا أفقيا في الهواء.» كان هذا القول مستحيلا من الناحية التجريبية وحدها لا من الناحية المنطقية؛ إذ ليس في العبارة نفسها تناقض بين أجزائها حتى تكون استحالتها منطقية، وكل ما في الأمر أنها تقرر شيئا غير الذي قد قررته التجارب. ولو قيل: «إن أمطار هذا الشتاء قد نزلت من السماء لبنا وعسلا.» كانت استحالة القول هنا كذلك تجريبية لا منطقية؛ لأنها استحالة تنفيها التجربة ولا ينفيها أن بين أجزائها تناقضا.
وهنالك - ثالثا - استحالة فنية، وهي الحالة التي لا يكون القول فيها مستحيلا من الناحية المنطقية لخلوه من التناقض بين أجزائه، وكذلك لا يكون مستحيلا من الناحية التجريبية لعدم تعارضه مع أي قانون من قوانين الطبيعة، ولكنه في الوقت نفسه قول مستحيل الصدق في الظروف الحاضرة؛ لأن الوسائل العلمية والأدوات المخترعة لا تعين الآن على قيام الحالة التي تصفها العبارة المذكورة، لكن تلك الوسائل والأدوات قد يصيبها التقدم فيما هو آت من الزمن فيصبح ممكنا ما هو اليوم مستحيل التنفيذ؛ فالسفر إلى القمر مستحيل حتى الآن، لا لأن قولي: «سافر فلان إلى القمر.» فيه شيء من التناقض الذي يأباه المنطق، ولا لأن السفر إلى القمر فيه ما يتعارض مع قوانين الطبيعة، وكل ما في الأمر أن الأدوات الفنية المعينة على ذلك لم تكمل بعد، وقد تكمل في المستقبل وقد لا تكمل؛ وإذن فالاستحالة هنا لا هي منطقية ولا هي تجريبية، ولكنها فنية، وزوالها مرهون بالزمن وتقدم العلم .
أما وقد فرقنا بين هذه الأنواع الثلاثة من الاستحالة، فإننا نعود إلى سؤالنا الذي طرحناه منذ قليل: ما معنى «الضرورة» حين نصف قضية رياضية بأنها ضرورية الصدق؟ وجواب ذلك هو أن نقيض القضية يكون مستحيلا استحالة منطقية؛ فالذي يجعل قولنا: «إن المثلث له زوايا ثلاث.» ضروري الصدق هو أن نقيض هذا القول ينطوي على تناقض بين أجزاء العبارة نفسها؛ وإذن فاستحالته منطقية؛ فالنقيض هو: «ليس للمثلث زوايا ثلاث.» وبقليل من التحليل الرياضي نجد أن هذا القول الجديد يتضمن قولا آخر، هو: «ليس للمثلث أضلاع ثلاثة.» ولما كان تعريف المثلث هو أنه سطح مستو محوط بأضلاع ثلاثة، كان معنى قولنا الأخير هو: «ليس المثلث مثلثا.» وهكذا ننتهي إلى عبارة متناقضة الأجزاء لو أننا نقضنا القضية الأولى التي وصفناها بأنها ضرورية الصدق.
ودعوانا هي أن القضية الرياضية تستمد يقينها من لفظها؛ فهي تكرار للرمز الواحد مرتين، وإن يكن هذا التكرار يختبئ عادة وراء اختلاف صورة الرمز في كل من الحالتين؛ فليس في يقين الرياضة سر ولا سحر يغري الفلاسفة بجعله نموذجا لكل علم سواها، بل إن من يطلب اليقين الرياضي هو بمثابة من يطلب من المتكلم أن يكرر الموضوع ولا يضيف إليه خبرا جديدا؛ فالقضية الرياضية رمزها البسيط هو أ هي أ، وأما القضية في العلوم الطبيعية على اختلافها فرمزها هو أ هي ب؛ أي إنه في الحالة الأولى لا خلاف بين المبتدأ والخبر، وأما في الحالة الثانية فلا بد أن يكون الخبر شيئا يختلف عن المخبر عنه. نعم، إن دعوانا التي نحن الآن في سبيل تأييدها، هي أن القضية الرياضية ضرورية الصدق لمجرد كونها تكرارا لفظيا؛ وبذلك يكون نقيضها مستحيلا منطقيا؛ لأنك بينما تقول صدقا ضروريا إذ تقول إن الماء هو الماء، تراك تقول استحالة منطقية إذا نقضت قولك ذاك بحيث أصبح: «الماء ليس هو الماء.» هذا هو صدق الرياضة، وهذه هي ضرورتها.
الصدق في القضية الرياضية مقطوع به قبل أن تجاوز حدود القضية نفسها؛ فليس بك حاجة إلى مراجعة العالم الخارجي لتستيقن من أن الماء هو الماء حقيقة، أما إذا قيل لك إن الماء يتركب من عنصرين هما الأكسجين والهيدروجين، فعندئذ يختلف الموقف، ويصبح حتما عليك - إذا أردت التحقق من صدق هذا الزعم - أن تجاوز حدود العبارة نفسها إلى الواقع الشيئي الذي تصوره العبارة، محاولا أن ترى إن كان القول صادقا في وصفه لذلك الواقع أو لم يكن، وهذا هو المعنى المقصود حين يقال عن القضية الرياضية إنها «قبلية»، وعن القضية في العلوم الطبيعية إنها «بعدية»؛ فالأولى صدقها في صلب تكوينها اللفظي، وأما الثانية فصدقها مرهون بما هو موجود خارج حدودها. صدق الأولى ظاهر في طريقة بنائها، وصدق الثانية معتمد على طرف آخر تشير إليه العبارة.
القضية الرياضية «ضرورية» الصدق لأن نقيضها مستحيل منطقيا، ومعرفتنا بصدقها هي معرفة «قبلية»؛
8
لأننا ندرك ذلك الصدق من طريقة البناء الرمزي أو البناء اللغوي نفسها. وليس حتما أن تكون القضية ذات الطابع الرياضي قضية لغتها أرقام حسابية أو رموز جبرية، بل إنها لتمتد حتى تشمل كل قضية يظهر التحليل أنها مجرد تكرار المبتدأ في الخبر؛ فإذا قلت مثلا إن الأرملة امرأة مات زوجها، لم تقل أكثر من «أن المرأة التي مات زوجها امرأة مات زوجها»؛ ذلك لأنك لو وضعت مكان كلمة «الأرملة» تعريفها، وهو «امرأة مات زوجها»، كان لك بذلك هذا التكرار الذي رأيت؛ ومن ثم ضرورة الصدق ويقينه؛ فليس بك حاجة إلى مجاوزة العبارة نفسها لتتأكد من صدقها، ليس بك حاجة إلى السؤال عن الأرامل لتستيقن من أن كلا منهن قد مات زوجها؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما صح أن تسمى بكلمة أرملة. ومن قبيل ذلك أيضا قولك: «كل جسم له امتداد.» فأنت هنا أيضا لا تزيد على قولك: «إن ما له امتداد له امتداد.» لأنك لو وضعت مكان كلمة «جسم» تعريفها، لكان لك بذلك هذا التكرار، وهكذا.
لا غرابة - إذن - أن تكون القضية ذات الطابع الرياضي صادقة بالضرورة صدقا قبليا؛ فهي صادقة على كل مكان وكل زمان، وصدقها غير مشروط بظروف خاصة، وهي أيضا صادقة صدقا يدل عليه بناؤها نفسه؛ لأن بناءها تكرار للرمز الواحد مرتين، وإن يكن هذا الرمز الواحد ذا صورتين مختلفتين ظاهرا، إلا أنهما يتخذان صورة واحدة عندما يوضع مكان أحد الشطرين تعريفه، لكن ما هكذا تكون الحال في جملة تقول إن سكان القاهرة ثلاثة ملايين، وإن الحجر الملقى يسقط على الأرض ولا يرتفع في الهواء؛ فها هنا لا بد من مجاوزة الجملة إلى ما تشير إليه من حقائق الواقع، ومهما حاولت أن تضع مكان الكلمات هنا ما يعرفها فلن تصل إلى قول تكراري كالذي نصل إليه عند تحليل القضية الرياضية. نعم، لا بد لك من مجاوزة الجملة إلى ما هو خارجها من حقائق الواقع إذا ما كانت الجملة تحمل خبرا عن الواقع، وبعد ذلك فقد أجد الواقع مصدقا للجملة أو مكذبا لها، قد أجد أن سكان القاهرة فعلا يزيدون أو ينقصون عن الثلاثة الملايين التي زعمتها الجملة، وقد أجد الحجر الملقى لا يتجه إلى أسفل كما تدعي الجملة؛ وإذن فأمثال هذه الجملة أو تلك صدقها لا ضرورة فيه، وهو لا يعرف إلا «بعد» خبرة تؤكد الصدق أو تنفيه.
إننا إذ نقول عن الجملة الرياضية إنها «قبلية» فلسنا نعني بذلك أن معرفتنا بها قد جاءت قبل الخبرة من حيث الترتيب الزمني؛ أي إننا لا نعني أننا عرفناها أولا ثم جاءت بعد ذلك خبراتنا؛ إذ ليس هنالك معرفة قط سبقت خبرة الإنسان في الزمن، فأقل ما يقال هنا هو أن الإنسان لا بد له أولا أن يتعلم الرموز التي ترد في الجملة الرياضية التي نقول إننا نعرفها معرفة «قبلية»؛ كلا، لسنا نريد بهذه «القبلية» أسبقية في زمن الحدوث، بل نعني شيئا يتصل بطريقة تحقيقها؛ ففي تحقيق صدقها نعلم أنها صادقة قبل أن نحتكم في ذلك إلى خبرة؛ لأن تكوينها الرمزي ذاته دال على ضرورتها ويقينها؛ إذ إنها لا تعدو أن تقول عن الشيء إنه هو الشيء نفسه، ولو نقضناها أخطأنا حتما؛ لأننا عندئذ نكون بمثابة من ينكر أن يكون الشيء هو الشيء نفسه؛ فالجملة الضرورية اليقينية دائما تحليلية؛ أي إنها دائما تحصيل حاصل، تحصل في محمولها ما سبق لها أن حصلته فعلا في موضوعها، وصورتها دائما ترتد إلى «أ هي أ»؛ أي إنها دائما خالية من الخبر. وقد يكون هذا الخلاء من الإخبار باديا للنظرة الأولى كقول القائل إن الماء هو الماء، وقد يحتاج إلى تحليل قصير أو طويل لإظهاره وإبرازه.
الجملة التكرارية (أو التحليلية) «قبلية» ما في ذلك إشكال ولا خلاف، والجملة الإخبارية (أو التركيبية) «بعدية»؛ لأن تحقيق صدقها يتطلب مراجعة الواقع، وهي مراجعة قد تنتهي بتأييدها أو بتفنيدها، ولكن هل يمكن للجملة الإخبارية - التي تقول عن العالم الخارجي شيئا - أن تكون قبلية كذلك؟ أعني هل يمكن الحكم على قضية إخبارية بالصدق الضروري اليقيني من مجرد النظر إلى تكوينها، كما نفعل في القضية الرياضية؟ جوابنا عن هذا السؤال بالنفي، وأما «كانت» فليس جوابه عنه بالإيجاب فحسب، بل إنه يسلم بهذا الإيجاب تسليما كما لو كان الأمر بديهية واضحة بذاتها، ثم يسأل بعد ذلك: «كيف أمكن للقضية الإخبارية أن تكون معرفتها قبلية؟» وقد جاءت فلسفته إجابة عن هذا السؤال.
موقفنا هو استحالة الجمع بين الخبر وضرورة الصدق في جملة واحدة، فإذا كانت الجملة إخبارية فهي ليست ضرورية الصدق؛ إذ يحتمل أن نراجعها على الواقع فإذا هي باطلة. وإذا كانت الجملة ضرورية الصدق فهي إذن فارغة من الخبر، وهي تكرار وتحصيل حاصل. أما «كانت» فرأيه أن قضايا الرياضة وقضايا الطبيعة سواء في أنها ذات مضمون خبري، وأنها في الوقت نفسه ضرورية الصدق، ومعرفتنا بها هي معرفة قبلية، لا تستدعي مراجعة الواقع الخارجي في تحقيقها. ومن الأسس التي يبني عليها وجهة نظره هذه أن بديهيات الهندسة ليست تحصيل حاصل؛ إذ فيها من المضمون ما يطابق وقائع العالم الخارجي، ومع ذلك فهي ضرورية الصدق، ومعرفتنا بذلك الصدق قبلية؛ ومن ثم جاز أن نستدل منها نظريات يقينية يمكن تطبيقها على العالم الطبيعي. خذ - مثلا - بديهية في الهندسة تقول إن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات متساوية كانت النتائج متساوية، فهي صادقة بالضرورة، وصدقها واضح من بنائها اللغوي ذاته، ومع ذلك فإذا طبقتها على كميات من البرتقال أو كميات من الماء انطبقت؛ ومعنى ذلك أنها قبلية وأنها في الوقت نفسه خبرية، ولا تناقض بين الوجهين.
إن الزعم هنا هو أن العالم الرياضي - إقليدس مثلا - إذ يضع المسلمات في صدر بحثه، ليأخذ في استنباط النظريات المترتبة عليها، لم يستمد مسلماته تلك من الخبرة، ومع ذلك فهي مطابقة للخبرة، هي وكل ما يترتب عليها من نظريات؛ فيكون معنى ذلك أن ما قد صدق صدقا عقليا صرفا وجد أنه كذلك صادق صدقا تطبيقيا على الواقع، وهنا ينشأ سؤال «كانت»: كيف أمكن لمثل هذا التوافق أن يكون؟ والخطأ هنا هو في الاعتقاد بأن بديهيات الرياضة ونظرياتها منطبقة حتما على الواقع الخارجي؛ فقد أثبتت نتائج البحث الرياضي في المائة السنة الأخيرة (منذ منتصف القرن الماضي أو نحو ذلك) أن مسلمات إقليدس يمكن تغييرها، واستبدال غيرها بها، والوصول بعد ذلك إلى نظريات غير نظرياته، دون أن يكون معنى هذا التغيير خطأ في هندسة إقليدس ولا خطأ في هندسة تقام على مسلمات غير مسلماته وتنتهي إلى نظريات غير التي انتهى هو إليها؛ ذلك لأن الصدق في الرياضة هو صدق اتساق لا صدق تطابق، فيكفي أن يكون البناء الرياضي متسقا مقدماته مع نتائجه، مهما تكن تلك المقدمات، لنقول عنه إنه بناء صحيح من الناحية الرياضية البحت، أو قل من الناحية المنطقية البحت؛ لأن العبارتين معناهما واحد، فكلا المنطق والرياضة علم صوري إذا اتسقت فيه الصورة توافرت له بذلك شروط الصواب.
تغير أساس الرياضة بحيث لم تعد المسلمات في البناء الرياضي أمرا محتوما له أن يصدق أيضا على الواقع، بل هي مسلمات لأنها فروض يجوز تغييرها وتبديلها؛ فينشأ نتيجة لكل تغيير أو تبديل بناء رياضي مختلف، دون أن نعرف من البناء الرياضي نفسه إن كان هو الذي يطابق الطبيعة الخارجية أم يطابقها بناء رياضي آخر؟ وإذن فقد انهار الأساس الذي بنى عليه «كانت » فلسفته كلها؛ ففلسفته كلها بحث عن الشروط العقلية التي جعلت في الإمكان أن تكون مسلمات الرياضة - مثلا - صادقة صدقين في آن واحد؛ فهي صادقة قبل الخبرة وصادقة بعد الخبرة معا. ولم يكن ليقول ذلك لو علم أن تلك المسلمات يمكن استبدال غيرها بها دون أن يتأثر الصدق الرياضي في شيء.
وفيما يلي تحليلات لأمثلة من قضايا الرياضة نوضح بها ما نذهب إليه من أنها تكرارية كلها؛ فضرورة صدقها ويقين ذلك الصدق ناشئان من أنها في صميمها خالية من المضمون، ولا تقول شيئا إيجابيا عن العالم بحيث تتعرض فيه للخطأ.
5
خذ هذه القضية في الحساب «2 + 2 = 4» التي هي مضرب الأمثال بيقينها، واسأل: من أين جاءها هذا اليقين؟ هل يتوقف صدقها اليقيني حتما على أنها مطابقة لحالات الواقع فوق صدقها الناشئ عن تكوينها وبنائها؟ بعبارة أخرى، هل هي يقينية ضرورية لأنها تحصيل حاصل كما نقول نحن، أم لأن العالم يجري مجرى الحقائق الرياضية كما يقول الفلاسفة العقليون؟ هل هي قضية تحليلية تكرارية تحليلا صرفا وتكرارا خالصا، بحيث لا يكون فيها قط ما يقتضي أن تشير به إلى شيء في عالم الأشياء، أم هي تركيبية إخبارية تصور العالم الخارجي على الرغم من أن صدقها لا يتوقف على خبراتنا بذلك العالم؟
لهذه الأسئلة إجابات ثلاث تختلف باختلاف المدارس الفلسفية؛ فهنالك - أولا - العقليون الذين يرون إمكان الجمع في قضية واحدة بين أن تكون مخبرة عن العالم وأن تكون في الوقت نفسه قبلية غير معتمدة في تحصيلها وإدراكها على خبرة الإنسان بالعالم. نعم، قد يختلف الفلاسفة العقليون فيما بينهم على أي القضايا يكون فيه هذا الجمع بين تينك الصفتين، أهي قضايا الرياضة وحدها، أم هي قضايا الرياضة والطبيعة على السواء، لكن يكفينا أن يعتقد الفيلسوف في قضية واحدة يقول فيها إنها صادقة على الخبرة الحسية دون أن تكون مستقاة من خبرة حسية لنقول عنه إنه فيلسوف عقلي يأخذ بهذه الوجهة من النظر.
وهنالك - ثانيا - فلاسفة المذهب التجريبي في صورته التقليدية، كما يتمثل مثلا في جون ستيوارت مل ، وهم يقولون أن ليس هنالك قضية واحدة يمكن أن تجتمع فيها صفتا الإخبار والضرورة معا؛ لأن القضية إن أخبرت بشيء كان معني ذلك احتمال تعرضها للخطأ فيما أخبرت به؛ ولهذا ترى هؤلاء التجريبيين ينكرون بتاتا أن تكون هنالك قضية ضرورية الصدق، حتى قضايا الرياضة والمنطق - في رأي «مل» - إن هي إلا حصيلة الخبرة؛ وبالتالي يجوز عليها البطلان.
وثالثا هنالك أنصار التجريبية المنطقية - أي الوضعية المنطقية - فهم كالتجريبيين التقليديين ينكرون في حسم أن تجتمع صفتا الإخبار والضرورة معا في قضية واحدة، إلا أنهم على خلاف أنصار التجريبية التقليدية، لا يرون أن قضايا الرياضة والمنطق مستقاة من الخبرة الحسية، بل هم يقولون إن القضية إما أن تكون إخبارية؛ وبذلك يستحيل عليها أن تكون ضرورية الصدق، وإما أن تكون ضرورية الصدق؛ وبذلك يستحيل عليها أن تكون إخبارية، بل إنها في هذه الحالة تكون تحصيل حاصل، تكرر جزؤها الأول في جزئها الثاني دون أن تضيف نبأ جديدا.
وهذه الإجابة الأخيرة هي ما نأخذ به، ونعود إلى المثل الذي سقناه لنجري عليه عملية التحليل، وهو «2 + 2 = 4»؛ فهذه قضية ضرورية الصدق، لكنها في الوقت نفسه لا تقول شيئا مما يمكن أن تتعرض به للخطأ؛ فنحن وإن كنا نستطيع الحكم على صدقها «قبل» الرجوع إلى الخبرة، إلا أن ذلك نفسه معناه أنها خاوية لا تنبئ بشيء، شأنها شأن العبارة القائلة إن الماء هو الماء. وهاك التحليل الذي يبين ذلك:
العدد 4 معناه بحكم القضية نفسها هو 2 + 2.
العدد 2 معناه بحكم التعريف 1 + 1.
إذن فقولنا 2 + 2 = 4 مساو لقولنا 1 + 1 + 1 + 1 = 1 + 1 + 1 + 1. فإذا كان هذا القول يقيني الصدق وضروري الصدق، وصدقه يعرف بغض النظر عن أي خبرة بأشياء العالم الخارجي، فلأنه تكرار لا خبر فيه. وها هنا قد يختلط الأمر على القارئ فيسأل: ألسنا في عالم الأشياء نرى شيئين مضافين إلى شيئين تكون أربعة في مجموعها؟ فقلمان وقلمان أربعة أقلام، وبرتقالتان وبرتقالتان أربع برتقالات، وهكذا؟ كيف إذن نزعم أن لا علاقة بين هذه القضية الرياضية وبين عالم الأشياء؟
الواقع أننا في علم الحساب إذ نتعلم أن 2 + 2 = 4، فنحن لا نتعلم بهذا إلا طريقة استخدام رموز مكان رموز أخرى إذا ما جرى الاتفاق بأن يكون الرمزان مترادفين؛ فلا فرق أبدا بين أن أعلم الطفل الناشئ بأن الرمز «4» يمكن وضعه مكان الرمز «2 + 2» في أي موضع شاء دون أن يتأثر تكوين العبارة، لمجرد الاتفاق بين المشتغلين بهذه الرموز على أن يكون الرمزان مترادفين؛ أقول إنه لا فرق أبدا بين هذا وبين أن أعلمه بأن «ابن الخطاب» هو نفسه «عمر» ثاني الخلفاء الراشدين، وله أن يضع أحد الاسمين مكان الآخر في أي عبارة شاء، أو كما أعلمه أن «الليث» اسم آخر ل «الأسد»، وأن الاسمين مترادفان، وله أن يستبدل أحدهما بالآخر. وتظل «2 + 2 = 4» صادقة حتى لو فرضنا أن العالم كله ليست فيه أربعة أشياء؛ فقد يكون في العالم كائن واحد، ومع ذلك يجوز لنا القول بأن 2 + 2 = 4؛ مما يدل على أن صحة استخدام هذه الصيغة الرمزية لا يقوم حجة على طبيعة العالم الخارجي.
يقول «كانت» وهو في سياق رأيه بأن القضية الرياضية إخبارية، ما معناه أن فكرة «2 + 2» ليست هي نفسها فكرة «4»، وأننا إذ نفكر الفكرة الأولى فلا نفكر في الوقت نفسه في الفكرة الثانية؛ إذ ليست «الأربعة» متضمنة في أي من جزأي الفكرة الأولى، فلا هي في «الاثنين» الأولى ولا هي في «الاثنين» الثانية؛ وإذن فهي إضافة جديدة أضافها الإنسان إلى علمه بالعالم حين عرف أن الفكرة الأولى - فكرة «2 + 2» - والفكرة الثانية - فكرة «4» - متساويتان. وهذا صحيح، فمن ذا الذي زعم له أن «2 + 2 = 4» قانون نفسي مؤداه أننا لا نفكر الفكرة الأولى إلا إذا فكرنا الفكرة الثانية أيضا! إننا لا نزعم ذلك، لا نزعم أن التفكير في الأولى يؤدي حتما إلى التفكير في الثانية بناء على قانون في علم النفس يحتم ذلك، بل نقول إن هنالك «اتفاقا» على استخدام الرموز يجعل الرمز الأول والرمز الثاني مترادفين. إنك إذا قرأت كلمة «ليث » فعرفت أنها مساوية لكلمة أخرى هي «الأسد»، لم يكن معنى ذلك أن قانونا نفسيا يحتم علينا أننا إذا ما استحضرنا إلى أذهاننا فكرة «الليث» تبعتها فكرة «الأسد»، كلا، ولا معناه أيضا أننا قد اكتسبنا علما جديدا بالعالم الخارجي حين عرفنا أن «الأسد» هو نفسه «الليث»، بل كل ما هنالك أننا قد ألممنا بالطريقة الاتفاقية التي تواضع عليها المتكلمون باللغة العربية على استخدام الرموز.
وكثيرا ما يقال لنا اعتراضا على رأينا في القضية الرياضية من أنها تحصيل حاصل، إن تحصيل الحاصل إن يكن واضحا في قضية مثل «2 + 2 = 4»، فليس هو بهذا الوضوح في العمليات الرياضية المعقدة؛ فمن ذا الذي ينظر - مثلا - إلى العددين «31913» و«95890» فيدرك من فوره أنهما «127803»؟ أو من ذا الذي ينظر إلى الرمز الجبري «س + ص»
2
فيعلم من فوره أنه مساو للرمز الجبري «س
2 + ص
2 + 2 س ص»؟ لكن أمثال هذه الاعتراضات في رأينا سطحية وساذجة؛ لأنك دائما إذا حللت الشق الثاني من أي معادلة رياضية وجدته في النهاية يرتد إلى نفس العناصر التي يتكون منها الشق الأول، وإلا فلم تكن «المعادلة» لتستحق اسمها هذا. والخلاصة أنك إذا ما كنت إزاء معادلة رياضية، فأنت عندئذ تكون إزاء رمز واحد مكرر مرتين، وإن يكن هذا التكرار قد جاء على صورتين مختلفتين.
وكذلك الأمر في النظريات الهندسية؛ فكل نظرية منها مستولدة من المسلمات الأولى، حتى لكأنها هي نفسها تلك المسلمات قد أعيدت كتابتها على صورة أخرى. ولو كان في النظرية الهندسية إضافة جديدة إلى ما قد تضمنته المسلمات، لكان ذلك نفسه علامة على فساد استدلالها؛ إذ النتيجة في الاستنباط لا يجوز لها أن تأتي بما لم يرد في المقدمات؛ فمن تعريف المثلث في هندسة إقليدس بأنه سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي 180 درجة، وقد نظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية. ولو كان الأمر كذلك لصح قول القائلين بأن القضية الرياضية قبلية وإخبارية في آن معا، لكن حقيقة الموقف غير ذلك؛ فهذه النتيجة صحيحة على فرض التعريف الذي أسلفناه للمثلث، وهو أنه سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، ولكن ماذا لو غيرنا التعريف فجعلنا المثلث هو سطح منحن محوط بثلاثة خطوط منحنية (كالمثلث المرسوم على سطح كرة مثلا)؟ عندئذ تتغير النتيجة بالنسبة لمجموع الدرجات في زواياه، وتكون هذه النتيجة صوابا كما كانت النتيجة الأولى صوابا؛ لأن صواب كل منهما ليس متوقفا على مطابقته لما يحدث في الطبيعة الخارجية، بل متوقف على صحة استدلاله من المقدمة المفروضة. وإنه ليجمل بنا في هذا الصدد أن نقول إن هندسة إقليدس بفرضها أن السطح مستو قد انتهت إلى نتائج، منها أن زوايا المثلث تساوي قائمتين، وقد نجد أن هذه النتيجة تنطبق على الطبيعة أيضا، ولكن انطباقها هذا في الحقيقة ناتج عن أن الأسطح التي نمارسها في حياتنا العملية دائما من الصغر (الصغر النسبي) بحيث لا يبدو فيها الانحناء، ولكن لما وجد أن هذه النتائج نفسها لا تنطبق على المساحات الكونية الكبرى، كأن تأخذ مثلثا - مثلا - رأسه الشمس، وضلعاه شعاعان من الضوء، وقاعدته سطح الأرض، فترى عندئذ أن نتائج إقليدس غير منطبقة على الواقع الطبيعي، وإن تكن رغم ذلك محتفظة بصدقها الرياضي؛ لأنها لا تزال نتائج مستنبطة استنباطا سليما من مقدماتها المفروضة.
إن التفكير الرياضي هو أشبه شيء بطاحونة معدة لطحن كل أنواع الغلال؛ فالآلة تطحن سواء كان الموضوع فيها قمحا أو شعيرا، وهي تطحن طحنا مقبولا ما دامت تستخرج من الغلال الموضوعة فيها كل ما تحتوي عليه من الدقيق، وليس على الطحان أن يكون الطحين ناصع البياض أو ذا سمرة خفيفة؛ لأنه - باعتباره طحانا - لا يسأل عن شيء إلا أن يكون هذا الدقيق من تلك الغلال. وهكذا يكون الرياضي في الرياضة البحت، لا يطلب منه إلا أن تكون نتائجه صحيحة الاستنباط من تلك المسلمات المفروضة، ولا شأن له بعد ذلك أن تجيء تلك النتائج مطابقة للعالم الطبيعي أو غير مطابقة. وبعبارة أخرى، شأن الرياضي هو أن يحسن التكرار - تكرار المقدمات في النتائج - وليس شأنه أن يحسن الإخبار.
ومبادئ المنطق - كقضايا الرياضة - هي كذلك صورية خالصة؛ لأنها قوالب فارغة من المضمون الحسي؛ فصدقها إن يكن ضروريا، والعلم بها إن يكن قبليا، فما ذلك إلا لأنها لا تقول شيئا إيجابيا عن الطبيعة بحيث تتعرض من أجله للخطأ؛ فهي في صميمها ليست إلا قواعد وضعناها لنستخدم الرموز اللغوية على أساسها، وليس فيها شيء من الحق فوق ذلك.
إننا في الحقيقة نسوق عباراتنا في عمليات التفاهم على نحو يجعل تلك العبارات ذات معنى عند السامع، هو نفسه المعنى الذي أراد أن ينقله المتكلم؛ ولهذا وجب أن نسلك ألفاظنا في عقود متفق على أشكالها ليصلح كل عقد منها في موقف معين. والعجيب أننا إذا ما استللنا تلك الخيوط من عقود الألفاظ المرتبطة بها، ووضعناها عارية أمامنا، رأيناها في حد ذاتها خاوية إلى الدرجة التي تجعل البحث فيها ضربا من العبث، لكن هذه الخيوط العارية الخاوية الخالية من كل مضمون هي نفسها «المبادئ المنطقية» التي اتفقنا - حين اتفقنا على لغة التفاهم - أن تكون هي القوالب التي نصب فيها ما نريد أن يقوله بعضنا لبعض.
وخلاء القالب من كل مضمون وفحوي هو الذي يجعله معدا لأن يمتلئ بأية مادة مما يصلح أن تنصب فيه، لكنك إذا ما ملأته بهذه المادة أو تلك خرج عن كونه مبدأ منطقيا مجردا، وأصبح فكرة من الأفكار الجارية على غرار ذلك المبدأ، أما المبدأ نفسه فلا يكون موضع نقاش لأنه موضع اتفاق، وأما الفكرة التي تجري على غراره فهي التي يصح أن تكون موضعا لاختلاف الرأي والجدل. وإذا أردت أن تهتدي إلى المبدأ المنطقي الكامن في إحدى أفكارنا - أو قل في إحدى عبارات الكلام - فما عليك إلا أن تفرغ القالب من مضمونه ليصبح هيكلا فارغا؛ فعندئذ تكون قد وصلت إلى المبدأ المنطقي المنشود، أو إلى الصورة المنطقية الخالية. ابدأ مثلا بهذه العبارة: «قيس أحب ليلى.» وامض في تجريدها من مضمونها المعنوي خطوة خطوة حتى يتم لك تفريغها؛ فالخطوة الأولى هي أن تقول: «س أحب ليلى.» والخطوة الثانية هي أن تقول: «س أحب ص.» والخطوة الثالثة هي أن تقول: «س ع ص» (ع هنا معناها علاقة). فها هنا تجد القالب الفارغ الذي قد تملؤه بمادة غير مادته الأصلية، فتتكون لك بذلك فكرة هي والفكرة الأصلية من طراز منطقي واحد، كأن تملأ القالب - مثلا - بقولك «بروتس قتل قيصر»، أو «الكتاب فوق المنضدة»، وهكذا.
مثل هذا التفريغ - تفريغ أفكارنا من مادتها لتبقى لنا هياكلها الفارغة - هو الذي ينتهي بنا إلى ما نسميه مبادئ المنطق، كالمبادئ التي أطلق عليها أرسطو «قوانين الفكر»، وهي: (1)
قانون الذاتية: ق هي ق. (2)
قانون عدم التناقض: ق لا تكون صادقة وكاذبة في آن واحد. (3)
قانون الثالث المرفوع: ق إما أن تكون صادقة أو كاذبة.
وكالمبادئ التي نتخذها قواعد للاستدلال، مثل: (1)
إذا كانت ق تستلزم ك، وكانت ق صادقة، لزم أن تكون ك صادقة كذلك. (2)
إذا كانت إما ق أو ك صادقة، ثم كانت ق كاذبة، كانت ك صادقة.
فما الذي يجعل هذه المبادئ المنطقية كلها صادقة صدقا ضروريا نعرفه فيها معرفة قبلية؟ هنا يجيب العقليون إنها كذلك لأنها وليدة العقل وطبيعته من جهة، ولأن العالم الواقع قد جاء على غرار العقل وطبيعته من جهة أخرى؛ ومن ثم كانت صادقة على قضايا الفكر وعلى وقائع العالم على حد سواء. وأما نحن أنصار التجريبية العلمية فنقول إن صدق هذه المبادئ كلها قائم على نفس الأساس الذي قام عليه صدق الرياضة، وهو الاتفاق على استخدام الرموز بطريقة معينة؛ فقد اتفقنا - مثلا - على أن يكون معنى «إذا» حين تربط قضيتين أن يكون صدق القضية الثانية تابعا لصدق القضية الأولى، وعلى أن يكون معنى «أو» حين تربط قضيتين أن يكون صدق الواحدة تابعا لكذب الأخرى، واتفقنا على أن يكون معنى كلمة «ليس» (أو أي كلمة نافية أخرى) هو أننا إذا أسمينا شيئا «نهرا» أخرجناه من سائر أشياء الكون التي ليست أنهارا؛ أي إننا عندئذ نقسم العالم قسمين؛ قسم يدخل فيه الشيء المسمى، وقسم آخر يخرج منه، بحيث لا يجوز للشيء المسمى أن يعد عضوا في القسمين معا؛ فإذا زعمنا له مثل هذه العضوية المشتركة، كنا بذلك قد خرجنا على قواعد استخدام الرمز «ليس» كما تواضعنا فيما بيننا أن نستخدمه؛ فالشيء لا يكون ق وليس ق في آن واحد، وكذلك اتفقنا على معنى «أو»، بحيث يكون الشيء إما «ق» أو «لا - ق» في الوقت الواحد.
مبادئ المنطق كقضايا الرياضة - وإن تكن أعم منها - يقينية وضرورية؛ لا لأن فيها سرا ولها سحرا يفتن الفلاسفة العقليين فتنة تغريهم بأن يتخذوا يقينها وضرورتها شرطا لازما لكل معرفة أخرى، بل إن يقينها وضرورتها ناشئان عن كونهما صورة فارغة من الفحوى؛ فهي تحصيل حاصل يصدق على كل شيء في الوجود ولا يعني شيئا بذاته، وما ليس يعني شيئا بذاته لا يقول شيئا؛ قولك عن الدنيا «إنها إما أن تمطر غدا أو لا تمطر» قول يقيني ضروري الصدق لسبب واحد هو أنه لا يقول شيئا عن الغد.
الفصل السابع
علمنا بالعالم
1
في الرياضة وما يدور مدارها من أنواع التفكير الاستنباطي، لا يحتاج صدق القضية أكثر من أن يكون تكوينها خاليا من التناقض، فلا تناقض بين أجزائها ولا تناقض بينها وبين المقدمات التي استنبطت منها؛ وإذن فلا حاجة بك إلى مجاوزة النسق الرمزي نفسه إلى حيث العالم الخارجي لتعلم إن كانت القضية الرياضية صادقة أو غير صادقة؛ أي إنه لا حاجة بك إلى مجاوزة البناء اللفظي أو الرمزي إلى ما عداه؛ ومن ثم قيل عن الرياضة إن صدقها ضروري، وإن المعرفة بذلك الصدق قبلية.
وأما إن كانت القضية التي بين أيدينا تنبئ عن واقعة من وقائع العالم الخارجي، كان حتما لمن أراد أن يراجع صدقها أن يجاوز حدودها اللفظية إلى حيث الواقعة التي تشير إليها تلك القضية؛ أي إنه لا بد في هذه الحالة من مخرج نخرج منه إلى حيث المصدر الذي منه استقينا هذا العلم الذي جئنا الآن نسلكه في العبارة التي نقولها والتي هي موضع التحقيق ؛ فلئن كان اتساق أجزاء التركيب الرمزي بعضها مع بعض وخلوها من التناقض وحده كافيا للحكم بالصدق على قضايا الرياضة، ففي قضايا العلوم الطبيعية لا يكفي ذلك ، ولا بد من الاحتكام إلى شيء آخر خارج حدود التركيب الرمزي أو التركيب اللغوي، لنقابل بينه وبين الصورة التي يصورها هذا التركيب؛ فإن تطابقا، أو كانت بينهما صلة كائنة ما كانت بحيث تجعل التركيب الرمزي رمزا يصلح أن ينوب عن الشيء أو الواقعة التي كان الرمز رمزا لها، صح لنا عندئذ أن نقول عن التركيب الرمزي أو اللغوي إنه عبارة صادقة.
وهذه العودة بالعبارة إلى ما يقابلها من وقائع العالم تقتضي أن تكون العبارة مما يتحدث عن جزئية واحدة من حيث علاقتها بجزئية أخرى أو أكثر؛ ذلك لأن العالم الخارجي قوامه جزئيات، وما دمت تريد أن تبحث للعبارة عن أصل يطابقها في ذلك العالم، فلا بد أن يكون بين الجانبين هذا التقابل الذي يجعل كل اسم وارد في العبارة مقابلا لجزئية واحدة من جزئيات العالم، وأن يكون في العبارة من الألفاظ الدالة على علاقات ما يقابل العلاقات القائمة في الخارج بين الجزئيات والتي تربطها معا في واقعة واحدة.
ويندر جدا أن يجيء كلام الناس في هذه الصورة الجزئية التي تجعل العبارة الواحدة منه مقابلة لواقعة واحدة معينة من وقائع العالم الخارجي، بل إن الناس يتحدثون بعبارات عامة تتناول أنواعا بأسرها من الأشياء والكائنات جملة واحدة، فما أيسر أن يقال - مثلا - «الرياح تهب على مصر من الشمال أحيانا»، و«القطن ينضج في الخريف دائما»، و«البرتقال أصفر»، لكن هذه العبارات وأمثالها إنما تتحدث عن مجموعات بأسرها من الأشياء؛ فالعبارة الأولى لا تقول إن الرياح التي تهب هذه اللحظة آتية من الشمال، بل تعمم القول لتجعله شاملا لحالات كثيرة. والعبارة الثانية لا تقول هذه شجرة قطن، وهي ناضجة الثمر، ونضجها تم اليوم الذي هو من أيام الخريف، بل تعمم القول ليشمل أشجار القطن كلها في كل فصل من فصول الخريف. والعبارة الثالثة لا تقول هذه البرتقالة التي أمسكها الآن بيدي صفراء، بل تعمم القول ليشمل البرتقال كله. هكذا يتحدث الناس، وهكذا تجيء عبارات العلوم الطبيعية عامة لا تقتصر الواحدة منها على جزئية واحدة؛ فسبيلك إلى تحقيقها - إذن - لا بد أن تبدأ بخطوة تحليلية ترد العبارة العامة إلى قائمة من جمل أولية ذرية تتناول كل منها واقعة ذرية واحدة؛ حتى تستطيع أن تقابل بين الجملة من ناحية وبين الواقعة التي ترمز إليها الجملة من ناحية أخرى؛ ومعني ذلك أن محك الصدق في العبارة التي موضوعها عام هو إمكان ردها إلى عبارة موضوعها جزئي، ثم المقابلة بعدئذ بين هذه الأخيرة وما يقابلها من أجزاء الطبيعة.
والجملة الأولية الذرية التي ينتهي إليها تحليلك بحيث تتمكن بعدئذ من مراجعة القول على وقائع الطبيعة، شرطها - بطبيعة الحال - أن تكون مكتفية بذاتها ولا تكون نتيجة مستدلة من جملة أخرى؛ لأنها لو كانت نتيجة مستنبطة من سواها، كان صدقها متوقفا على صدق ذلك الأصل الذي استنبطت منه؛ فكل ما تعتمد عليه الجملة الأولية الذرية في صدقها هو أن تكون لدى قائلها خبرة حسية مباشرة تنطبع بها حواسه ساعة نطقه بالجملة؛ فها أنا ذا أنظر إلى الورقة التي أمامي وأقول: «هذه بقعة بيضاء.» فيكون قولي هذا جملة أولية ذرية عمادها في الصدق هو هذا الانطباع اللوني المباشر الذي أخبره الآن ببصري. وهكذا نريد لكل جملة عامة يقولها قائل ويزعم لها الصدق، أن تكون مما يمكن تحويله إلى مواقف خبرية مباشرة على هذا النحو، بأن نرتد بها إلى قضايا أولية ذرية كل قضية منها مكتفية بذاتها في تحقيق صدقها؛ لأنها لا تتطلب من أجل التحقيق أكثر من مثل هذه الخبرة الحسية المباشرة. وهنا يجمل بنا أن نذكرك بطبيعة القضية في الرياضة من حيث إن صدقها دائما متوقف على صدق المقدمة التي منها استنبطت، وهذه المقدمة بدورها متوقفة في صدقها على صدق مقدمتها، وهكذا دواليك حتى تنتهي إلى قمة السلم، وهي المسلمات التي يطلب التسليم بها من غير رجوع إلى خبرات الحواس؛ لتعلم أن صدق القضية الرياضية ناتج دائما من صدق قضية أخرى، أما صدق القضية الإخبارية فهو متوقف في النهاية على الإشارة إلى موقف فيه حالة إدراك حسي مباشر.
وشرط آخر ينبغي أن يتوافر للقضية الذرية التي ينتهي إليها تحليلك - فوق اكتفائها بذاتها في الصدق - وهو ألا تكون مما يمكن أن تجد له نقيضا ينقضه وينفيه؛ وذلك لأنها ما دامت تشير إلى خبرة حسية جزئية مباشرة، كانطباع عيني بهذا اللون الأبيض الذي أمامي الآن، فمحال أن يكون لهذه الخبرة نقيض ممكن؛ فحتى لو نظر ناظر آخر إلى البقعة اللونية نفسها وقال إنها خضراء، لما كان قوله نافيا لخبرتي الحسية؛ لأننا عندئذ نكون بمثابة شخصين، يقول أحدهما إنه يشعر بألم في ضرسه ويقول الآخر إنه لا يشعر بمثل ذلك الألم، هذا إلى أن سائر خبراتي الحسية في تلك اللحظة التي أرى فيها البقعة البيضاء لا يمكن أن تنقض خبرتي باللون عندئذ؛ فقد أكون في اللحظة نفسها لامسا للقلم بأصابعي وشاعرا بصلابته، وشاما لرائحة الطعام المنبعثة من غرفة مجاورة، وسامعا لصوت العربات في الطريق، لكن لا لمس القلم ولا شم رائحة الطعام ولا سمع أصوات المارة بذي شأن في إدراكي بالعين للبقعة اللونية البيضاء. وهكذا تكون الخبرة الحسية المباشرة مستحيلة التكذيب على أساس خبراتي الأخرى، أو على أساس خبرات الآخرين.
محك الصدق في كل كلام يدعي صاحبه أنه يقول به شيئا عن العالم هو أن يرتد هذا الكلام إلى أولياته التي منها تكون، وهذه الأوليات قضايا أولية تشير إلى مواقف جزئية من إدراكنا الحسي، والقضية الأولية يمكن تعريفها بأنها القضية التي تنشأ منسوبة إلى حالة جزئية من حالات الإدراك الحسي، فتكون هذه الحالة الإدراكية الحسية نفسها هي شاهد صدقها، بحيث لا يطلب على صدقها دليل آخر من قضية أخرى، وكذلك تكون القضية الأولية على صورة تجعلها مستحيلة على النقض بقضية أخرى من نفس صورتها؛ أي إن أي قضيتين أوليتين لا يمكن أن يتنافرا إذا كانتا مستمدتين من إدراكين حسيين مختلفين؛
1
ومعنى ذلك بعبارة أخرى هو أننا لو رتبنا كل معلوماتنا عن العالم الطبيعي ترتيبا يجعل كل خطوة في البناء مستمدة من خطوة سابقة، وجدنا أن الأساس الأول الذي أقيم عليه البناء كله هو حالات من الإدراك الحسي، كل حالة منها تعبر عنها قضية أولية.
هذه الجمل الأساسية الأولية التي هي محكات الصواب في معارفنا التجريبية، قد شغلت جماعة الوضعيين المنطقيين منذ أول تكوينها في فيينا، لكنهم لم يكونوا فيها على رأي واحد؛ فمنهم من ذهب إلى الرأي الذي أسلفناه، والذي نأخذ به ونؤيده، وهو أن يكون محك الصواب للعبارة اللغوية شيئا غير اللغة نفسها وخارج نطاقها، وهو الخبرة الحسية، ولكن منهم كذلك من رأى رأيا آخر، مثل «نوراث» و«همبل» و«كارناب»، وهو رأي لا نؤيدهم فيه ولا نأخذ به، ومؤداه أن ليس هناك مجموعة من القضايا الأولية مما يمكن أن نقول عنه إنه الأساس الأول لبناء علمنا التجريبي كله، بحيث تكون تلك القضايا الأولية بمثابة المقدمات الأولى، وبقية أجزاء البناء بمثابة النتائج التي ترتبت على تلك المقدمات. وهم يذهبون إلى أن الحق كله، كائنا ما كان موضوعه، رياضيا كان أو تجريبيا، متوقف على تكوين الجمل اللغوية واستدلال بعضها من بعضها الآخر، وليس هو متوقفا - حتى في العلوم التجريبية - على علاقة الجمل بوقائع الخارج؛ ذلك أن القضية المعينة - كائنة ما كانت - إنما تكون صوابا أو لا تكون بالنسبة إلى المجموعة الرمزية التي توضع فيها وتكون جزءا منها؛ فإن وضعت في مجموعة بحيث يكون بينها وبين سائر الأجزاء اتساق وائتلاف وعدم تناقض كانت صوابا هناك، لكنها هي نفسها يمكن أن تنتزع من تلك المجموعة وتوضع في مجموعة أخرى لا تتسق معها فتكون خطأ هنا. وعند هؤلاء الذاهبين هذا المذهب من جماعة المنطقيين الوضعيين أنه يستحيل المقابلة بين اللغة من ناحية وبين ما ليس بلغة من ناحية أخرى، ولا يمكن المقارنة التي يكون أحد طرفيها «جملة لغوية» إلا بجملة لغوية أخرى، لا بحالة من الإدراك الحسي؛ أي إن عالم اللغة - بناء على هذا الرأي - عالم مغلق على نفسه، ومحال على من يريد التسلل منه إلى العالم الخارجي أن يجد له منفذا.
إن وجهة نظرهم هذه هي نفسها التي شرحناها في الفصل السابق قائلين إنها النظرة التي تبين طبيعة العلوم الرياضية، لكن هذه الطائفة من فلاسفة الوضعية المنطقية تريد أن تعمم النظرة نفسها لتشمل كل أنواع الكلام، تحليليا كان أو تركيبيا تكراريا أو إخباريا، من العلوم الرياضية أو من العلوم الطبيعية، مع أن أقوال الرياضة - كما شرحنا بالتفصيل في الفصل السابق - تحصيلات حاصل، وأقوال العلوم الطبيعية ذوات مضمون خبري، ولا بد أن يكون هنالك اختلاف بين الحالتين في وسائل التحصيل ووسائل التحقيق معا. وهم بمحوهم للفرق الجوهري بين الحقائق الرياضية والحقائق الطبيعية إنما يرتدون - على غير وعي منهم - إلى مذهب العقليين ديكارت وسبينوزا وليبنتز، والمثاليين أمثال هيجل؛ فهؤلاء جميعا يجعلون معيار الحق اتساقا والتئاما بين أجزاء النسق الفكري، بحيث يخلو هذا النسق من التناقض، فلا يقال عن «ق» إنها «ليست ق» في النسق الواحد. وكل الفرق بين هيجل - مثلا - وبين نوراث هو هذا: أن القضية الواحدة عند هيجل تكون إما صادقة صدقا مطلقا أو باطلة بطلانا مطلقا؛ لأن هنالك نسقا واحدا تكون هذه القضية جزءا منه. وأما نوراث فلا يرى ما يمنع أن نبني أي عدد شئنا من النسقات كل منها يتسق بعضه مع بعض، بحيث يمكن للقضية الواحدة أن تتسق في نسق ما فتكون صوابا فيه، وألا تتسق في نسق آخر فتكون باطلة فيه. «نوراث» و«همبل» هما على رأس القائلين بهذا الرأي من بين جماعة الوضعيين المنطقيين، وقد شرحاه في مقالات نشر بعضها في مجلة «التحليل
Analysis »، ونستطيع أن نلخص رأيهما فيما يأتي: (1) كل قضايا العلم، بما في ذلك القضايا الأساسية التي نتخذها محكا لصدق ما عداها، إنما تساق نتيجة لقرارات إرادية يقررها زاعمو تلك القضايا، ولهم أن يغيروها، وكل ما يراعونه في كل حالة هو أن تكون مجموعة القضايا العلمية المزعومة على اتساق بعضها مع بعض. (2) فإذا قلنا عن قضية علمية معينة إنها باطلة، كان أساس حكمنا هذا هو أننا وجدناها متنافرة مع بقية القضايا العلمية، لا تتسق معها في بناء فكري واحد. (3) فبدل أن يكون لدينا نسق واحد من القضايا بحيث نقول عنه إنه النسق الذي لا نسق سواه، يمكن أن نبني نسقات عدة كل واحد منها تتسق أجزاؤه، لكنها في جملتها يختلف الواحد منها عن سواه، أما أي هذه النسقات هو الذي ينطبق على العالم فذلك أمر يقرره السلوك العملي ولا يقرره المنطق؛ لأن النسقات كلها عند المنطق سواء.
ولمن شاء أن يرجع إلى مقال هام نشره «همبل»
2
في عدد يناير لسنة 1935م من مجلة التحليل، يعرض فيه هذا المذهب الذي أخذ به بعض القادة من جماعة الوضعية المنطقية. وهو يتتبع في مقاله ذاك كيف تطور الأمر من الأخذ بالقضايا الذرية التي انتهى إليها وتجنشتين بتحليله على أن تكون هي السند النهائي الذي نستند إليه في رد الجملة التجريبية إلى مقوماتها الأولية، حتى إذا ما بلغنا هذه المرحلة من التحليل خرجنا من حدود اللغة إلى عالم الأشياء لموازنة كل قضية ذرية مع واقعتها التي تقابلها في ذلك العالم. تطور الأمر من الأخذ بهذا الرأي إلى القول بأن مجموعة القضايا في البناء العلمي الواحد إنما تستند في صدقها إلى جمل أساسية، يسمونها «جمل البروتوكول»، تكون بمثابة المقدمات الصادقة لبقية القضايا العلمية، وصدقها ذاك كان أول الأمر متوقفا على أنها نتيجة ملاحظة مباشرة، ثم وجد فيما بعد أنها في الحقيقة أوليات تفرض فرضا وتختار اختيارا من رجال العلم، بحيث يجوز لهم أن يغيروها فتتغير النتائج حتى يحافظوا على الشرط الواحد المطلوب للحق المنطقي، وهو اتساق الأجزاء وخلوها من التناقض.
ويروي لنا «همبل» في هذا المقال عن «كارناب» رأيه القائل بأنه ليس هنالك في بناء العلم أوليات مطلقة تكون هي المقدمات الصادقة التي ليس غيرها مقدمات، والتي تأتي القضايا العلمية كلها بعد ذلك نتائج لها؛ فللعرف العلمي أن يتفق على أي أساس شاء المشتغلون بالعلم؛ لأن العبرة في النهاية هي بأن تجيء مجموعة قوانينهم وأقوالهم بناء متسقا. وليس معنى هذا - هكذا يقول «همبل» - أن «كارناب» و«نوراث» ينكران أن يكون إلى جانب عالم اللغة عالم آخر من واقع عيني، بل الأمر على خلاف ذلك؛ لأن العبارات اللغوية نفسها عندهما هي واقع من الواقع التجريبي؛ فكل ما أراداه هو أن يجعلا الناس على وعي تام بأن العبارة اللغوية المعينة إذا قيل عنها إنها «تعبر عن» واقعة خارجية معينة، فلا يجوز أن نخلط بين الطرفين بحيث تنمحي الفوارق بينهما، حتى لنظن أن الأولى هي نفسها الثانية، مع أن الأولى «لغة» والثانية «واقعة». وعالم اللغة وإن يكن هو نفسه جزءا من عالم الواقع، إلا أنه قائم بذاته، وله خصائصه التي تميزه من سائر أجزاء العالم الواقع؛ وكيف أعرف أن جملة ما هي الصواب؟ أعرف ذلك بأن أراها من حيث موضعها مع سائر الجمل التي أقولها في مجال القول الذي وردت فيه تلك الجملة؛ فإن اتسقت معها كانت صوابا.
تلك نظرة أخذ بها فريق من الوضعيين المنطقيين لا نؤيدهم فيها، ونأخذ برأي الفريق الآخر الذي لا يري مناصا في نهاية الأمر من اللجوء إلى الخبرات الحسية نصدق بها العبارات اللغوية أو نكذبها، ما دامت تلك العبارات قد سيقت سياق الإخبار عن العالم الخارجي وما يجري فيه؛ فالجملة الإخبارية إذا لم تشر إلى شيء واقع خارج حدودها، لم تعد تؤدي المهمة التي إنما خلقت اللغة لكي تؤديها.
2
قلنا إن تحقيق القضية الإخبارية يقتضي حتما أن يكون موضوعها جزئيا لكي يتسنى لنا مراجعتها على الواقعة الخارجية التي تقابلها؛ وذلك لأن الوقائع لا تكون إلا جزئية المقومات، فلن تجد في العالم الخارجي «إنسانا» بصفة عامة بل ستجد أفرادا، ولن تجد «لونا» بصفة عامة بل ستجد هذه البقعة الحمراء وتلك البقعة الصفراء؛ فإذا كانت القضية التي نحن بصدد تحقيقها كلية، وجب تحليلها أولا إلى ما ينضوي تحتها من قضايا فردية، وها هنا تأتي مشكلة عسيرة؛ إذ ما كل قضية كلية يمكن تحليلها إلى قضاياها الفردية تحليلا كاملا.
فالتحليل ممكن إذا ما قصدنا بالتعميم في القضية تعميما محدد الأعضاء، بحيث يمكن أن نفرد لكل عضو على حدة قضية تتحدث عنه وحده؛ فإذا قلنا - مثلا - عن طلبة كلية الآداب بجامعة القاهرة اليوم إنهم جميعا تزيد أعمارهم عن السادسة عشرة، كان هذا قولا عاما يمكن تحليله عند التحقيق إلى قضايا جزئية فردية موضوع كل منها فرد واحد، بحيث يكمل تحليل القضية العامة إلى كل القضايا الفردية التي تنضوي تحتها، لكن ما هكذا تكون الحال إذا قلنا تعميما كهذا: «كل غاز يقل حجمه إذا زاد الضغط الواقع عليه»، أو «كل شعاع ضوئي ساقط على سطح مستو مصقول ينعكس بزاوية تساوي زاوية السقوط». فها هنا محال أن أحصي الحالات الفردية التي منها يتكون قولنا «كل غاز» أو قولنا «كل شعاع ضوئي»، وليست الاستحالة قاصرة على أن الحالات القائمة فعلا مستحيل حصرها، بل تجاوز ذلك إلى استحالة أخرى، وهي أن التعميم يشمل حالات الماضي وحالات المستقبل مما يستحيل الرجوع إليه تحقيقا للقضية العامة؛ فإذا عرفنا أن قوانين الطبيعة كلها هي من هذا القبيل، أدركنا أن مثل هذا التعميم المطلق تجب العناية بالنظر في أمر تحقيقه على الواقع كيف يكون.
إن هذه الاستحالات كلها التي تحول دون تحليل العبارة العامة بالمعنى اللامحدود تحليلا كاملا يترجمها إلى جميع القضايا الفردية الداخلة فيها، هي التي حدت ببعض رجال التحليل الحديث - مثل «وتجنشتين» و«رامزي» و«شليك» - ألا يجيزوا من ضروب القول إلا القضايا الذرية، والقضايا المركبة من عدد من القضايا الذرية،
3
كقولنا مثلا: «إذا كان هذا الشعاع الضوئي ينعكس على سطح مصقول فإنه ينعكس بزاوية تساوي زاوية سقوطه.» (هذه القضية مركبة من قضيتين ذريتين ربطت بينهما كلمة «إذا».) وذلك لأن أمثال هذه القضايا التي تحدثنا عن شيء واحد فرد - كهذا الشعاع المعين من الضوء - هي وحدها التي يمكن مقابلتها مع عالم الواقع مقابلة تتيح لنا تحقيقها تحقيقا حاسما، على خلاف القضايا الكلية غير المحدودة الأعضاء؛ فإن مثل هذه المقابلة فيها محال أن تكون كاملة وقاطعة.
ولا شك أن هذه الوجهة من النظر تستتبع نتائج خطيرة في التفكير العلمي؛ لأنك إذا لم تجز القول حين يكون تعميما مطلقا غير محدد الأفراد، أنكرت بالتالي إمكان التحدث عن كل فكرة تتناول عددا لا نهائيا من الأفراد ، فلا تجيز مثلا أن أقول عن الخط المستقيم إنه عدد لا نهائي من النقط. وأنكرت كذلك إمكان التحقيق المقنع في كل قوانين العلوم الطبيعية؛ لأن كل قانون منها هو قول يشمل حالات لا نهائية في تطبيقه. أم تقول إن القانون العلمي لا ينبغي له أن يجاوز حدود القضايا المركبة من قضايا ذرية، تصف ما قد لوحظ في المعامل وصفا محددا جزئيا يمكن العودة إليه عند تحقيقها؟ إنك إذا قلت هذا أنكرت أهم جوانب القانون العلمي، وهو إمكان التنبؤ بما عساه أن يحدث في حالات مستقبلة إذا ما توافرت ظروف معينة؛ أي إنك في مثل هذه الحالة ستقتصر على وصف ما قد وقع، مع أن قوة القانون العلمي هي في انطباقه على حالات جديدة غير التي وقعت فعلا ولوحظت في إبان البحث العلمي.
لهذا لجأ شليك إلى مهرب آمن ينجيه من هذا الاعتراض؛ وذلك أن يعد القانون العلمي - لا قضية كلية تقرر عن العالم شيئا محددا معينا - بل يعده قاعدة من قواعد السلوك، كأنما هو خطة إرشادية تهدي الناس بعدئذ ماذا يصنعون في الظروف والمواقف الفلانية. إنني إذا زعمت أن في الظروف الجوية المعينة يكون عمود الزئبق في البارومتر مشيرا إلى الدرجة الفلانية، فأنا لا أقول بهذا الزعم شيئا عن وقائع العالم كما هي قائمة؛ لأن تلك الظروف الموصوفة قد لا تقع أبدا؛ وإذن فصدق القانون العلمي لا يعتمد مباشرة على مطابقته لشيء من الواقع، بل إن القانون العلمي في صيغته العامة لا يوصف بصدق؛ إذ هو أقرب إلى الجملة التي تحدثنا عن مجهول، مثل: «س حرارته خمسون درجة مئوية.» لا يقال عنها إنها صادقة إلا إذا وضعت مكان «س» قيمتها؛ أي مدلولها. فهكذا القانون العلمي، هيكل لا يملؤه مضمون معين محدد؛ ولهذا يظل الحكم عليه بالصدق معلقا حتى ترد حالة جزئية فتملأ ذلك الهيكل، وتبين عندئذ إذا كان القول بعد امتلائه بالمضمون المحدد مطابقا للحالة الواقعة أو غير مطابق لها.
القانون العلمي قول عام غير محدد المضمون؛ ولذلك فهو ما نسميه في المنطق الحديث «دالة قضية»؛ أي إنه صيغة رمزية فيها ثغرة، وإلى أن تمتلئ هذه الثغرة باسم جزئي معين المسمى لا نستطيع الحكم عليها بالصواب أو بالخطأ. وهكذا قل في كل عبارة عامة مطلقة؛ فهي دالة قضية لا قضية، هي عبارة فيها رمز لمجهول وليست هي بالعبارة الكاملة، ولا بد من تحويلها إلى قضية كاملة قبل الحكم عليها، وهذا التحويل لا يكون إلا إذا أحللنا مكان الرمز المجهول القيمة اسما جزئيا معروف المسمى في دنيا الأشياء المحسوسة؛ فهل قولي عن الذهب إن وزنه النوعي مقداره كذا قول صادق أو غير صادق؟ الجواب: هذا قول ناقص لا يحكم عليه إلا إذا كمل؛ فهو بصورته هذه تحليله: س قطعة من الذهب، ووزنها النوعي هو كذا. ولا يمكن الحكم على مثل هذه العبارة بأنها صادقة إلا إذا وجدت ما يملأ مكان «س»؛ أي إلا إذا وجدت قطعة من الذهب وأجريت عليها التجربة لأستيقن من صدق العبارة أو عدم صدقها. هل القول بأن الشعر الجاهلي مصور لحياة البادية قول صواب؟ الجواب: الحكم هنا محال إلا إذا رجعت إلى قصائد بعينها من الشعر الجاهلي؛ فهذا القول السالف صورته المنطقية هي هذه: س قصيدة من الشعر الجاهلي، وهي مصورة لحياة البادية؛ فإلى أن أجد القصيدة المعينة التي تجعل الرمز المجهول الدلالة معلومها، لا يمكن الحكم لأنه ليس هنالك ما يحكم عليه.
ونكرر هذا الرأي بصورة أخرى لأهميته في وجهة النظر التي نريد لها الشيوع؛ فالقول العام، الذي هو مطلق التعميم، هو في الحقيقة صيغة لفظية بغير معنى، ولا يكتسب معناه إلا بعد أن يتحول من تعميمه إلى التخصيص الذي يحدد فردا بعينه من الأفراد التي جاء القول العام ليصفها بهذه الصفة أو تلك، إذ العبارة العامة - كما أسلفنا - هي عبارة ناقصة، فيها فجوة لا بد أن تملأ باسم فرد معين يمكن الرجوع إليه في دنيا الأفراد لنقابل بينه كما نلاحظه بحواسنا وبين العبارة التي جاءت تتحدث عنه وعن بقية أفراد نوعه جملة واحدة؛ فإذا قال لك قائل عن «كل إنسان» بأنه فان، طالبته بأن يحول عبارته بحيث تصبح: سقراط إنسان وهو فان. أو قال لك قائل إن «الروح خالدة»، طالبته بأن يجيئك بالفرد الذي يملأ مكان «س» في هذه العبارة الناقصة التي صورتها: «س روح، وهي لا تفنى.» وإلى أن يجد لك ذلك الفرد الذي يحول المجهول معلوما، سيظل كلامه بغير معنى؛ أي سيظل مستحيلا على التحقيق.
ولكن هبني قد اتخذت هذه الخطوات التحليلية إزاء القول المطلق التعميم، أفأكون بذلك قد ضمنت صوابه إن كان صوابا؟ إذا قيل لي مثلا: «كل حيوان مجتر مشقوق الظلف.» ثم حولت القول إلى صورته المنطقية التي هي: «س حيوان مجتر وهو مشقوق الظلف.» ثم عقبت على ذلك بأن بحثت فوجدت بقرة بذاتها فوضعت الإشارة إليها مكان الرمز «س»، بحيث أصبحت العبارة الأخيرة: «هذه البقرة مجترة وهي مشقوقة الظلف.» ثم مضيت هكذا أضع إشارات إلى أفراد جزئية من الحيوان أراها مجترة ومشقوقة الظلف معا، فهل تكون العبارة العامة الأصلية قد تم تحقيق صوابها بهذه الخطوات؟ أفلا يجوز أن تكون الحالات الجزئية التي وقعت عليها مختلفة عما قد أقع عليه بعد ذلك من الحالات؟ بعبارة أخرى، أفلا يجوز أن تظهر في المستقبل حالات مختلفة عن الحالات المبحوثة وكلها من حالات الحاضر الذي سرعان ما يصبح ماضيا؟
كلا، بل إن هذا الذي أجريته إنما «يؤيد» صدق الدعوى التي ادعاها صاحب العبارة العامة السالفة الذكر، والتأييد وحده لا يكفي، بل لا بد إلى جانبه من محاولة إيجاد حالة تنقض العبارة المزعومة؛ فإن وجدت كان نقضها حاسما، وإن لم توجد كان الصواب مرجحا لها. وسنسمي هذه المرحلة الثانية من مرحلتي تحقيق الفرض «فحصا»، وكل عبارة كلية هي فرض ينتظر التحقيق.
هذه نقطة نريد الوقوف عندها قليلا لأهميتها الكبرى في تكوين العقل العلمي، وخلاصتها هي أن النظرية العلمية لا تكون جديرة باسمها هذا ما لم يترتب عليها انتفاء وقوع الحوادث على صورة معينة كما يترتب عليها تقرير وقوع الحوادث على صورة أخرى؛ أعني أن النظرية العلمية لا تكتفي بأن تبين ماذا يقع، بل لا بد إلى جانب ذلك أن تبين ماذا يستحيل عليه أن يقع بالنسبة إلى الموضوع الذي يكون مجال بحثها. وإذا وجدت نظرية لا تعرف كيف يمكن دحضها بحالة في مستطاعك أن تتصورها بحيث لو وقعت تلك الحالة لقضي على النظرية بالبطلان، أقول إن نظرية لا تستطيع أن تتصور لها حالة تنقضها لا تكون علمية بالمعنى الكامل لهذه الكلمة؛ فتأييد النظرية بأمثلة تشهد بصوابها لا بد أن يتممه فحص لها من حيث إمكان دحضها، وبمقدار ما يمكن تصور الحالات التي إذا وقعت كانت النظرية باطلة، تكون هذه النظرية أقرب إلى التفكير العلمي الصحيح.
افرض أن زاعما زعم لك عن شيء اسمه «النفس»، ثم زعم لك كذلك أن تلك النفس عنصر بسيط؛ أي إنها غير مركبة من عدة عناصر بحيث يمكن تحليلها أو تحللها؛ فما مقياسك الذي تقيس به علمية هذا القول؟ هو هذا: أن تسأل ما الحالة التي يمكن تصورها بحيث إذا وقعت كان الزعم باطلا. والبينة على من ادعى؛ فصاحب هذا الزعم مسئول أن يوضح لي كيف يمكن دحض هذه النظرية في حالة بطلانها؛ ماذا أرى أو ماذا أسمع أو ألمس من وقائع الدنيا إذا ما كان هذا الزعم باطلا؟ إن صاحب هذا الزعم في حقيقة أمره لا يقول كلاما ذا معنى إذا عجز عن تحقيقه تأييدا ومحاولة تفنيد في آن معا، وأغلب الظن أنه عاجز؛ لأنه على الأرجح قد ابتكر من عنده كلمة هي كلمة «نفس»، ثم عرفها بأنها كائن غير مادي بسيط العنصر، حتى إذا ما جاء بعد ذلك يسوق الكلمة وتعريفها لم يكن ينبئ عن الدنيا بنبأ، بل كان يلعب لعبة قوامها ألفاظ، ولا فرق بينه وبين من يقول - مثلا - «جنية البحر» اسم سأشير به إلى كائن يكون له ذيل سمكة ورأس إنسان؛ فإذا ما قال بعدئذ «جنية البحر لها ذيل سمكة ورأس إنسان» لم يكن يفعل بقوله هذا أكثر من أن يعيد على الناس قرارا نتخذه في شأن كلمة واستعمالها.
التأييد بالأمثلة الإيجابية أولا، ومحاولة التفنيد بتصور حالات إذا ما تحققت ثبت البطلان ثانيا، مرحلتان لا بد منهما لأي نظرية يقدمها صاحبها ليفسر بها ظواهر الطبيعة أو ليقرر بها على أي نحو تجيء اطرادات الحوادث في الطبيعة؛ ومن أجل هذا نرى كثيرا من النظريات التي تدعي العلمية - وخصوصا في العلوم الإنسانية كعلم النفس - بعيدة عن هذه الدقة التي نريدها لتفكيرنا العلمي. خذ مثلا نظرية فرويد في علم النفس التي تفسر السلوك الإنساني بدوافع لا شعورية دست في النفس منذ الطفولة الباكرة؛ فما مدى هذه «النظرية» من العلمية الدقيقة؟ إننا قد نستطيع «تأييدها» إيجابيا؛ إذ ما علينا إزاء كل سلوك يسلكه إنسان في أي موقف من المواقف سوى أن نقول إن العقدة الفلانية عند صاحب السلوك هي علة سلوكه. ولكن هذا وحده لا يكفي؛ فلا بد إلى جانب هذا من السؤال: ما الحالات التي إذا ما وقعت عددنا النظرية باطلة؟ على أي نحو يكون سلوك الإنسان لو لم يكن صادرا عن عقد مكبوتة؟ افرض سلوكين مختلفين لشخصين في موقف واحد؛ أما الأول فبغير أسباب ظاهرة يدفع طفلا إلى الماء ليغرقه، وأما الثاني فلا يلبث أن يرى ذلك حتى يقفز في الماء لينقذ الطفل المشرف على الغرق؛ فلو كانت نظرية فرويد صالحة لتعليل السلوك الأول لوجب أن تكون باطلة بالنسبة للسلوك الثاني، لكن لا، اعرض السلوكين واحدا بعد الآخر على أنصار هذه «النظرية» يفسروا لك السلوكين المتناقضين معا بعقدة ما تنفس عن مكبوتها تنفيسا مباشرا عند الشخص الأول، وتنفس تنفيسا فيه إعلاء عند الشخص الثاني؛ وإذن فما زلنا نسأل: وكيف يكون السلوك في هذه الحالة على فرض بطلان النظرية؟ لا جواب؛ وإذن فالنظرية ينقصها كثير جدا لتبلغ الدقة العلمية بمعناها المرتجي.
4
إننا في هذا الكتاب لا نطلب سوى أن يجيء كلام المتكلم مهما يكن موضوعه قابلا للتحقيق العلمي، ما دام المتكلم قد تصدى للعالم الخارجي يتحدث عنه؛ فلسنا في الحقيقة نتشيع لرأي دون رأي في هذا العلم أو ذلك، وفي هذا المذهب الفلسفي أو ذلك، إلا إذا وجدنا أحد الرأيين محققا على نحو علمي لم يتوافر مثله للرأي الثاني، ولا نرخص للفيلسوف بما لا نرخص بمثله للعالم الطبيعي؛ فكلاهما مسئول عن صواب فكرته صوابا تمليه طبيعة اللغة نفسها التي لجأ كلاهما إليها للتعبير عن رأيه؛ فإذا ما قال لنا عالم فلكي إن الأرض تدور حول الشمس بدليل كذا وكذا من شواهد الإثبات، طالبناه بأن يبين لنا ماذا تكون الحال إذا لم تكن الأرض تدور حول الشمس كما يدعي؛ كيف كانت أوضاع الظواهر الطبيعية لتتغير لو لم تكن الشمس ثابتة والأرض دائرة حولها. وكذلك إذا قال لنا فيلسوف إن إلى جانب هذا العالم الطبيعي المليء بالجزئيات عالما آخر من كائنات عقلية، سألنا السؤال نفسه: كيف كانت الأمور لتتغير على فرض أن ليس هناك هذا العالم العقلي المزعوم؟ فإذا لم يكن في وسعنا قط أن نتصور وضعا للحالة لو تحقق أبطل الرأي المتقدم، كان هذا الرأي مما لا يجوز عليه التحقيق العلمي؛ وبالتالي كان كلاما بغير معنى. •••
موضوعنا في هذه الفقرة هو القضية الكلية وعلاقتها بالوجود الفعلي، أو هو على الأصح تحديد العلاقة بين القضية إذا لم تكن تعني فردا جزئيا معينا وبين الوجود الفعلي؛ لأنه إذا كانت القضية تحدد حديثها بفرد جزئي معين لم يكن ثمة إشكال؛ لأنها عندئذ ستقابل الواقعة الخارجية المقصودة مقابلة مباشرة؛ وبهذا يمكن تحقيقها بالمطابقة بين الجانبين؛ جانب اللغة من جهة، وجانب الواقع الشيئي من جهة أخرى.
لكن الإشكال العسير هو كيف نتثبت من صدق كلام هو بطبيعته غير محدد المعنى؛ أي إنه لا يقصد الإشارة إلى جزئي معين من جزئيات الواقع العيني. ومن قبيل هذا الكلام القضايا التي تتحدث عن فئة بأسرها من الأشياء، مما يصح أن تستخدم فيه كلمة «كل» أو «بعض» أو ما إليهما، مثل قولي «كل طائر له جناحان»، و«بعض النبات لا ينمو في المناطق الحارة». ومن قبيل هذا الكلام غير المحدود المعنى أيضا القضايا التي تتحدث عن فرد نكرة لا عن فرد معرف معلوم، كأن أقول: شخص ما واقف أمام الباب. وسؤالنا هو: كيف يمكن التثبت من صدق أمثال هذه القضايا على حين أنها لا تقصد فردا بعينه حتى نستطيع المقابلة بينها وبين الفرد المقصود في عالم الأشياء؟
أما القضايا العامة التي تصب الحديث على «كل» أفراد فئة معينة أو على «بعض» أفراد تلك الفئة، فأول ما نلاحظه عليها هو أن حالتيها هاتين (كونها تتحدث عن «كل» أو عن «بعض» أفراد فئة ما) هما في الحقيقة وجهان لحالة واحدة؛ فوجه للإثبات ووجه للنفي؛ وذلك لأن كل قضية مثبتة عن «كل» أفراد فئة معينة يكون نفيها بقضية سالبة عن «بعض» أفراد تلك الفئة. ويدخل في هذا أن نتحدث بالسلب عن فرد واحد من أفراد تلك الفئة؛ فإذا قلت عن الزجاج - مثلا - إن «كل زجاج قابل للكسر» أمكنك أن تنفي هذا الإثبات الكلي بملاحظة واحدة سالبة إذا وجدت، بحيث تقول: «بعض الزجاج لا ينكسر.» وهكذا تكون قضايا «كل» وقضايا «بعض» نوعا واحدا من حيث طريقة الإثبات أو النفي؛ لأن أحدهما يؤدي حتما إلى الآخر، وابدأ من حيث شئت، ابدأ بقضية «كل» تجدها ممكنة التحويل إلى قضية «بعض»، أو ابدأ بقضية «بعض» تجدها ممكنة التحويل إلى قضية «كل»، على أنك إذا بدأت بالإثبات كان عليك أن تنتهي بالنفي، أو بدأت بالنفي كان عليك أن تنتهي بالإثبات؛ فإذا قلت عن الناس «إن كل إنسان فان»، كان معنى هذا القول نفسه أن لا أحد من بني الإنسان متصف بالخلود.
هذه القضايا العامة بنوعيها، ما يتحدث منها عن «كل» وما يتحدث منها عن «بعض» أفراد فئة ما، إثباتا أو نفيا، لا تقتضي أن يكون الموضوع الذي تتحدث عنه ذا وجود فعلي؛ فإذا قلت - مثلا - «كل سارق في شبه الجزيرة العربية تقطع يده» لم يكن هذا القول بذاته دليلا على أن هنالك سارقا، إنما الأمر ينحل في حقيقته إلى جملة شرطية هي: إذا وجد سارق قطعت يده. هذه نقطة هامة لا أمل من تكرارها غير معتذر للقارئ عن هذا التكرار؛ لأنها مفتاح رئيسي في التحليل الجديد؛ فما كل كلام يقتضي لمجرد وجوده أن يقابله شيء في عالم الواقع، حتى القوانين العلمية - وهي من قبيل الأحكام العامة - لا تقتضي بذاتها أن يكون هنالك في العالم الخارجي الظواهر التي تتحدث عنها؛ فقولنا عن الخشب إنه يطفو على الماء ليس دليلا بذاته على أن هنالك في عالم الحوادث هذه الحالة، حالة قطعة من الخشب طافية على الماء، بل قد نكون حيث لا خشب ولا ماء، ومع ذلك نظل نقول هذا القول عن الخشب إنه يطفو على الماء؛ لأن الأمر - كما أسلفنا - يرتد إلى عبارة شرطية هي: «إذا وجدت قطعة من الخشب وألقي بها في الماء فإنها تطفو.»
وقد غابت هذه الحقيقة عن أرسطو نفسه، فتراه في منطقه يجيز أن يستدل الوجود الفعلي لأحد أفراد فئة معينة من قضية كلية عن كل أفراد تلك الفئة؛ فإذا قلنا إن كل إنسان فان، جاز لنا - في رأيه - أن نستدل من هذه القضية الكلية إن كانت صادقة صدق قضية أخرى تقول عن سقراط إنه فان، فما ينطبق على الكل ينطبق على كل جزء منه. وموضع المغالطة هنا هو افتراض الوجود الفعلي لما تدل عليه القضية الكلية، مع أن هذه القضية الكلية قضية شرطية لا تستلزم بالضرورة الوجود الفعلي لمضمونها، وذلك على خلاف القضية التي تتحدث عن فرد واحد معين مثل سقراط، فها هنا لا يجوز الحديث من الناحية المنطقية إلا إذا كان للفرد الذي هو موضوع الحديث وجود فعلي؛ وإذن فلا يجوز استدلال حديث عن فرد معين مقضي عليه بالوجود الفعلي من جملة كلية هي في حكم العبارة الشرطية التي لا تستلزم لموضوعاتها وجودا فعليا.
إنه لو كانت القضايا العامة تتضمن الوجود الفعلي لموضوعاتها، لنتج عن ذلك مغالطات لا حصر لها في منطق القياس الأرسطي. وخذ لذلك مثلا قياسا من الشكل الثالث مقدمتاه هما: الأفعوان من صنوف الحيوان، والأفعوان يزفر اللهب؛ إذن فبعض صنوف الحيوان يزفر اللهب. هذا قياس صحيح من وجهة النظر الأرسطية، لكن وجه الخطأ فيه إنما يظهر حين نفهم العبارات الكلية على حقائقها المنطقية، وهي أنها عبارات شرطية لا تقتضي الوجود الفعلي؛ وإذن فنحن هنا بمثابة من يقول: إنه إذا كان هنالك أفعوان فهو يدخل في عداد الحيوان، ثم إذا كان هنالك أفعوان فهو يزفر اللهب، ومن هذين القولين الشرطيين لا يجوز أن أستدل نتيجة تشير إلى وجود فعلي بأي وجه من الوجوه.
ويجمل بنا في هذا السياق أن نقول عن ليبنتز إنه حاول أن ينسق منطقا رياضيا شبيها بما قد نجح في تنسيقه «رسل» وغيره من المعاصرين، لكنه في الوقت نفسه كان شديد الاحترام للمنطق الأرسطي، فكان كلما تناول القياس من الشكل الثالث - كالمثل الذي سقناه الآن - لمس فيه هذه المغالطة التي أشرنا إليها، فكان يعود إلى العمل من جديد، دون أن يطوف بباله أن القياس الأرسطي يمكن أن يكون موضعا لخطأ ومصدرا لمغالطات، «وذلك وحده يعلمك ألا تسرف في تقديرك لنوابغ الرجال».
5
3
قطب الرحى في علمنا بالعالم الخارجي هو الإدراك الحسي للواقعة التي بها تتحقق القضية التي نكون بصدد تحقيقها؛ فإن كانت هذه القضية تتحدث عن فرد جزئي معين محدد بنقطة من مكان ولحظة من زمن، كان تحقيقها معتمدا على إدراكنا لهذا الفرد الجزئي الذي تحدثنا عنه القضية لكي نستيقن من صدقها برجوعنا إلى الأصل الحسي الذي جاءت لتحكي عنه، أما إن كانت العبارة المراد تحقيقها لا تتحدث عن فرد بذاته، كأن تكون عبارة كلية تتحدث عن فئة بأسرها من الأفراد أينما وجد هؤلاء الأفراد مكانا وزمانا، لم تكن تلك العبارة في حقيقة أمرها قضية بالمعنى المنطقي لهذه الكلمة؛ لأنها في هذه الحالة لا تكون بذاتها ممكنة التحقيق إلا بعد تحويلها إلى قضايا جزئية فردية تتحدث كل منها عن كائن واحد؛ فالعبارة الكلية هي باصطلاح المنطق الحديث «دالة» قضية؛ أي هي عبارة فيها ثغرة شاغرة أو رمز لمجهول، ولا تتحول إلى قضية إلا بعد ملء هذه الثغرة فيها؛ أي بعد أن نستبدل بالرمز المجهول الدلالة رمزا معلوم الدلالة؛ وعندئذ يكون تحقيق هذه القضية الأخيرة بالرجوع إلى أصلها الحسي؛ وإذن فالاعتماد على الحس هو وسيلة التحقيق إما بطريق مباشر في حالة القضية الفردية، أو بطريق غير مباشر في حالة العبارة الكلية التي لا بد من تحويلها - بغية تحقيقها - إلى مجموعة من قضايا فردية.
وما دمنا نجعل الإدراك الحسي للواقعة الجزئية أساسنا الأخير، فلا بد لنا هنا من كلمة عن الإدراك الحسي نفسه، كيف يكون في ذاته مبررا كافيا للوثوق من أن الواقعة المدركة عن طريقه موجودة وجودا فعليا وقائمة في دنيا الأشياء؟ ها أنا ذا أدرك بالحس قلما بين أصابعي، فإذا قلت «إن بين أصابعي قلما» عددت هذا القول صوابا؛ لأنه يحكي عن واقعة حسية أدركها بالحواس، وسؤال الفلاسفة في هذه الحالة هو: وما الذي يبرر لك أن تجعل الإدراك الحسي وسيلة مأمونة في تبليغك عما هو قائم في العالم الخارجي؟ والحق أن الإنسان - فيما يبدو - يجيز لنفسه في حالات كثيرة من حياته العقلية أن يقفز إلى نتائج لا تبررها له المعلومات التي بين يديه؛ فليس الأمر مقصورا على استدلاله وجود شيء في الخارج ما دام قد وجد عنده «إحساسا» معينا، بل هنالك مجموعة أخرى من الحالات العقلية الشبيهة بحالة الإدراك الحسي في وثوبها الظاهر من معلوم إلى مجهول؛ فشبيه بانتقالي من المعطيات الحسية إلى الحكم بوجود الأشياء الخارجية، انتقالي من خبرة نفسية أمارسها الآن إلى حوادث أقول عنها إنها قد حدثت في الماضي؛ فها أنا ذا - مثلا - أستحضر أمام ذهني لقاء تم بيني وبين صديق وحوارا دار في ذلك اللقاء، هذا كل ما لدي الآن؛ خبرة نفسية من نوع معين، لكنني أجاوز ما لدي لأقول إن هذه الخبرة الراهنة «تذكر» لحادث مضى. وشبيه به أيضا أن أرى سلوكا معينا لشخص أشاهده فأقول إن هذا الشخص غاضب، فكأنما انتقلت مما أراه إلى ما لست أراه، من وضع خاص في ملامح وجهه إلى خبرة نفسية في جوفه، بل شبيه به كذلك انتقالنا - في البحث العلمي - من حالات جزئية نشاهدها في المعمل إلى قانون عام، مع أننا لا نشهد إلا تلك الحالات الجزئية، أما «القانون» فلا يقع لنا في خبراتنا الحسية ذاتها. كل هذه أمثلة مختلفة لمشكلة منطقية واحدة، وهي: ماذا يبرر لنا أن نجاوز الخبرة التي نمارسها فعلا إلى ما ليس منها؟ والظاهر أننا لو حللنا المشكلة في إحدى مظاهرها، كان ذلك بمثابة حلها أيضا في سائر المظاهر.
6
وفي محاولة حل هذه المشكلة في شتى جوانبها، يختلف الفلاسفة باختلاف مذاهبهم:
فهنالك - أولا - جماعة الشكاك، وخلاصة الرأي عندهم هي أن ثمة فجوة بين خبرتي النفسية الراهنة في اللحظة الحاضرة وبين ما هو خارجها، وهي فجوة لا محيص عن قيامها بين الطرفين؛ فإحساسي بهذا القلم الذي بين أصابعي الآن هو «إحساس» - أي إنه خبرة نفسية أمارسها الآن - وليس هو القلم الخارجي الذي يشغل مكانا وتطرأ عليه الحوادث في لحظات الزمن، كل ما لدي هو «إحساس»، وليس عندي أبدا ما يبرر لي أن أقفز من هذا «الإحساس» الداخلي إلى «قلم» أقول عنه إنه موجود وجودا فعليا. وقل هذا أيضا بالنسبة لما نزعمه عن حوادث الماضي؛ فليس «الماضي» باعتباره ماضيا هو الصورة الذهنية الحاضرة أمامي الآن عنه، فكل ما لدي هو هذه الصورة، وليس عندي ما يبرر لي أن أجاوزها لأقول إن لهذه الصورة أصلا مضى زمن حدوثه. وكذلك قل في زعمنا الذي نبني عليه قوانيننا العلمية كلها، وهو أن هذه القوانين التي تصور ما قد وقع فعلا ستنطبق كذلك في المستقبل الذي لم يقع بعد. إن هذا المستقبل لم يكن في خبرتي؛ ولذلك فلا يجوز لي أن أمد حكمي إليه، وكذلك حكمي على ما يدور في أنفس الآخرين بناء على ما أشاهده من سلوكهم، فهذا السلوك الظاهر كما يقع لي في حسي هو كل ما عندي، وليس ثمة ما يبرر لي أن أجاوز نطاقه لأقول إن هنالك جسدا خارجيا يسلك هذا السلوك، فضلا عن أن أحكم أن وراء ذلك الجسد المزعوم نفسا تمارس الغضب أو الخوف أو غيرهما من الحالات النفسية. ذلك هو موقف الشكاك ؛ فهم لا يرون مبررا يجيز للإنسان أن يعدو ما عنده إلى ما ليس عنده، وأن يجاوز خبرته التي مارسها فعلا إلى ما ليس جزءا من تلك الخبرة؛ فلا حق له في الحكم بوجود المحسوسات الخارجية بناء على حسه، ولا في الحكم بوقوع حوادث الماضي بناء على خبرة نفسية راهنة، ولا في الحكم بانطباق القانون العلمي على المستقبل على أساس انطباقه الآن، ولا في الحكم بوجود أجساد الآخرين فضلا عما يدور فيها من حالات نفسية على أساس ما يظن أنه يراه من سلوكهم، إننا - من وجهة نظر الشكاك - محال علينا أن نعرف شيئا فيما عدا ما نمارسه بأنفسنا الآن ممارسة ذاتية.
إننا لا نقر الشكاك على وجهة نظرهم هذه؛ فهم يرون أن بين الذات العارفة والشيء المعروف فجوة يستحيل عبورها، وفي الوقت نفسه لا سبيل - في رأيهم - إلى معرفة الشيء المطلوب معرفته إلا إذا استطاعت الذات أن تعبر تلك الفجوة الفاصلة بينها وبين ما تريد أن تعرفه؛ نقول إننا لا نقر الشكاك على رأيهم هذا؛ لأنهم - لكي ينتهوا إلى ما انتهوا إليه - تمسكوا بالاستدلال الاستنباطي وحده منهجا لهم، على حين أن المواقف التي طبقوا عليها هذا المنهج ليست مما يعالج به؛ ذلك أنهم أرادوا في كل حالة من الحالات العقلية أن يتخذوا من الحالة النفسية الراهنة في اللحظة الحاضرة مقدمة، ثم أرادوا ألا يسلموا بشيء إلا إذا ظهر أنه نتيجة لازمة عن تلك المقدمة؛ فلدي الآن - مثلا - «إحساس» بلون معين وصلابة معينة، وهذا الإحساس هو بضاعتي النفسية كلها في هذه اللحظة القائمة، فلأتخذ منها مقدمة ثم أحاول أن أستنبط منها نتائجها، فهل ينتج عن الإحساس باللون حتما أن يكون الشيء الملون كائنا في الخارج؟ هل ينتج من الإحساس بالصلابة حتما أن يكون الشيء الصلب قائما هناك ذا وجود مستقل عني وعن إحساسي؟ إن هذه نتائج لا تلزم حتما عن المقدمة المفروضة؛ وإذن فلا مناص من التشكك في أن يكون الشيء ذو اللون والصلابة موجودا وجودا فعليا؛ أقول إن الشكاك يريدون أن يستدلوا استنباطا، وإلا فالنتائج في رأيهم لا تكون جديرة بالتسليم؛ فلماذا لا يجعلون «الاستقراء» لا الاستنباط منهجهم ما دام الموقف يتطلب ذلك؟ نعم إن «الإحساس» باللون لا يدل حتما على أن «الشيء الملون» موجود في الخارج؛ بدليل أننا كثيرا ما نتوهم وجود أشياء ثم يثبت لنا أن ليس لها وجود، ولكن لماذا نصر على حتمية ويقين حيث لا حتمية ولا يقين؟ لماذا لا نقيم الاستدلال على أساس الاحتمال المرجح ما دام الاحتمال هو كل ما أستطيعه؟ إنني إذا «أحسست» كأنما ألمس شيئا صلبا، فالأرجح جدا - كما تدل خبرتي الماضية - ألا يكون ذلك الإحساس وهما، وأن يكون الشيء الصلب هناك فعلا، وحسبي هذا الترجيح لأتصرف على أساسه؛ فليس من المنطق في شيء أن يطلب اليقين حيث لا يقين، وأن يستخدم الاستنباط وحده حيث لا يجدي الاستنباط شيئا، لكن لموقف الشكاك هذا حسنة لا نجحدها عليهم، وهي أنهم بوضعهم للمشكلة على الصورة التي وضعوها قد أبرزوا معالمها وأوضحوا جوانبها، حتى لنهتدي بها في فهم وجهات النظر الأخرى.
فمن وجهات النظر الأخرى في مشكلة الإدراك الحسي وهل يبرر لصاحبه أن يقرر وجود الشيء المدرك أو لا يبرر، وجهة نظر الحدسيين الذين يسدون الفجوة التي أشار إليها الشكاك وقالوا عنها إنها قائمة بين المدرك والمدرك، وإنها في الوقت نفسه مستحيلة العبور؛ يسد الحدسيون هذه الفجوة، فلا فاصل عندهم بين الذات المدركة والشيء المدرك بالحس؛ لأن تلك الذات إنما تمس الشيء المدرك مسا مباشرا. وقل هذا في شتى الحالات الإدراكية كلها؛ فما الذي أدراني - مثلا - أن لصديقي هذا الذي يجلس بجسده إلى جواري ذاتا كذاتي؟ لماذا لا أقول عنه إنه قطعة من اللحم متحركة لا أكثر ولا أقل؟ وما الذي أدراني بوجود ذاته مع أن الجسم وحده لا يكفي مقدمة أستدل منها وجود شيء وراءه كالذات وما إليها ؟ يجيب الشكاك أنك لا تدري من ذلك شيئا، ويجيب الحدسيون جوابا آخر؛ إذ يقولون إنك تدرك ذات صاحبك إدراكا مباشرا، وليس الأمر بحاجة إلى مقدمات نستدل منها نتائج. ما الذي أدراني أن الصورة الذهنية الحاضرة أمام ذهني الآن تشير إلى حوادث مضت؟ ها أنا ذا «أذكر» سطرا قرأته في كتاب للعقاد، لكن هذا التذكر حالة نفسية راهنة، فكيف أستدل ماضيا من حاضر؟ يجيب الشكاك أن ليس ذلك في وسعك؛ لأن المقدمة هنا لا تحتوي على النتيجة، وأما الحدسيون فجوابهم هو أنك تدرك ذلك إدراكا مباشرا، ولا مقدمة هناك ولا نتيجة. ها أنا ذا أشاهد حالات جزئية لظاهرة ما، فكيف يتاح لي أن أستدل قانونا عاما من مشاهدات كلها جزئية، ثم كيف يتاح لي أن أصرف هذا القانون إلى المستقبل على حين أنه حصيلة مشاهدات ماضية وحاضرة؟ يجيب الشكاك بأن ذلك ليس في مستطاع الإنسان، وكل قانون عام مشكوك في صوابه، وأما الحدسيون فيرون العام في الجزئي رؤية مباشرة.
وكما أننا لم نأخذ برأي الشكاك، فكذلك لا نأخذ برأي الحدسيين؛ لأنهم يحلون المشكلة بإنكارها؛ فهم في الحقيقة بمثابة من يرفض الاشتراك في اللعب بدل أن يسهموا في اللعبة بنصيب. ها هو ذا كتاب مفتوح أمامي، أنظر إليه فأراه بما خط على صفحتيه المفتوحتين من ترقيمات سوداء، وليس ينكر هذه الرؤية إلا مكابر متعنت عقيم، وإني لأرى الكتاب أمامي رؤية «مباشرة»؛ بمعنى أني أراه هو نفسه لا صورته في المرآة ولا انعكاسه على سطح المكتب الزجاجي؛ فإن كان الحدسيون يريدون هذا المعنى الدارج للرؤية المباشرة، فليس منا من ينكره عليهم، ولكننا في البحث الفلسفي للإدراك الحسي لا نقصد إلى هذا المعنى الدارج بكلمة «المباشرة»، بل نفرق بين الشيء كما هو قائم في الخارج، وبين انطباعه على الحاسة، ونسأل بعد ذلك ما الذي يتيح لي أن أنفذ خلال انطباعي الحسي - وهو كل بضاعتي - بحيث أتناول بعلمي شيئا هو أصل لهذا الانطباع الذي عندي؟ ولو أراد الحدسيون أن يلغوا وجود الانطباع الحسي ليقولوا إننا نمس الشيء المدرك مسا مباشرا، كانوا بذلك لا يتنكرون للدقة الفلسفية وحدها، بل يتنكرون كذلك لما يقرره العلم بوظائف الأعضاء. الحق أن الشكاك متطرفون في ناحية والحدسيين متطرفون في الناحية الأخرى، أولئك يقفون عند معطاهم الحسي ويرفضون أن يجاوزوه إلى ما عداه، وهؤلاء ينكرون أن يكون لهذا المعطي الحسي وجود، ولا يجعلون بينهم وبين الشيء الخارجي مثل هذه الحلقة الوسطى؛ فإن كان الشكاك قد عابهم شيء من التقتير والتزمت، فالحدسيون يعيبهم شيء من التبذير والإسراف.
وهنالك للأمر وجهة نظر ثالثة، لا هي تزيل المعطى الحسي كما يزيله الحدسيون حتى لا يكون ثمة حاجز بين الذات المدركة والشيء الخارجي المدرك، ولا هي تعترف بوجوده، لكنها - كما يفعل الشكاك - تنكر إمكان التسلل خلاله لإدراك ما هو قائم خارج حدوده، بل هي تجعل «الغائب» مساويا ل «الحاضر»؛ ففي الإدراك الحسي يكون الشيء الخارجي المدرك هو نفسه مجموعة معطياته الحسية بعد تركيبها في الداخل تركيبة عقلية؛ فلدي من هذا القلم الذي أكتب به معطي حسي عن لونه ومعطى آخر عن صلابته، ومعطى ثالث عن شكله الأسطواني المستطيل، وهكذا، وليس كل معطى من هذه المعطيات على حدة هو «القلم»، بل القلم هو مجموعة المعطيات تأتيني فرادى عن طريق الإدراك الاتصالي المباشر، فأبني منها مركبا منطقيا عن طريقه أعرف «القلم» معرفة بالوصف (باصطلاح رسل). وهكذا قل في شتى الحالات الإدراكية التي تشكك الشكاك في إمكان قيامها، فكيف يتاح لي - مثلا - أن أستخلص عبارة كلية من معلومات جزئية، مع أن هذه المعلومات الجزئية محدودة معينة، على حين أن العبارة الكلية مطلقة المعنى؟ يجيب الشكاك - كما رأيت - أن ذلك محال عليك، ونصيبك محدود بالجزئية الواحدة التي تدركها إدراكا مباشرا. ويجيب الحدسيون - كما رأيت أيضا - أن ذلك يكون بالرؤية المباشرة لما هو عام خلال الجزئي الواحد. ويجيب أصحاب هذه النظرة الثالثة - وهم فريق الظاهريين - بأن العبارة الكلية هي نفسها محصلة معطياته الحسية. كيف يجوز لي أن أستدل مشاعر صاحبي من ملامح وجهه وسلوك بدنه؟ يجيب الشكاك باستحالة ذلك، ويجيب الحدسيون بأن ذلك الإدراك للمشاعر يأتي عن طريق مباشر، شأنه شأن إدراك الملامح نفسها وحركات السلوك ذاتها، وأما الظاهريون فيجعلون إدراك المشاعر هو نفسه محصلة إدراك تغيرات الملامح وحركات السلوك؛ أي إن ذلك الإدراك هو حاصل جمع هذه الظواهر وليس إدراكا لشيء آخر يتم «خلال» هذه الظواهر. كيف يتاح لي أن أعرف شيئا عن الماضي مع أن كل ما بين يدي إدراكات حاضرة؟ جواب الشكاك أن ذلك محال، وجواب الحدسيين أن إدراك الماضي إدراك مباشر وليس «نتيجة» تستدل من الحاضر، وأما الظاهريون فلا يجعلون فرقا بين الحالتين؛ فكل قضية تقول شيئا عن الماضي يمكن ترجمتها إلى قضية أخرى مضموناتها إدراكات حاضرة. وهكذا ترى أنه بينما يقرر الشكاك قيام فجوة بين الذات المدركة والشيء المدرك، مع تقريرهم أن عبور هذه الفجوة فوق المستطاع، فإن الحدسيين والظاهريين معا يتفقون على محو هذه الفجوة وإزالتها، ثم يختلفون فيما بينهم بعد ذلك على وسيلة ذلك، أما الحدسيون فيزيلونها بإنكار وجودها بين الذات المدركة والشيء المدرك، بحيث يدرك الإنسان الشيء الذي يدركه مباشرة، وأما الظاهريون فيزيلونها بأن يجعلوا الشيء المدرك هو نفسه مجموعة معطياته.
وهنالك وجهة نظر رابعة تجعل - كما يجعل الشكاك - فجوة بين الذات المدركة والشيء المدرك، لكنها - على خلاف الشكاك - تجعل عبور هذه الفجوة في حدود المستطاع؛ فليس الشيء الخارجي - كهذا القلم مثلا - هو هو نفسه معطياته الحسية في عيني وعلى أصابعي، بل هو «شيء» قائم وحده هناك، يبعث الرسائل إلى حواسي ويعطي الحواس ما يعطيها من «معطيات»؛ أي إنه لا بد من الاعتراف بوجود مصدر للمعطيات الحسية، وذلك المصدر هو علة انبعاثها، وعلى هذا الأساس نفسه تستطيع أن تفسر الحالات الإدراكية الأخرى؛ فكيف أعلم أن لصاحبي عقلا وراء سلوكه الظاهر؟ الجواب هو أنك تعلم ذلك بعملية استدلالية تقوم على أساس «التمثيل»؛ فكما أن لي سلوكا يشبه سلوك صاحبي، وكما أن سلوكي هذا منبعث عن عقل، فلا بد كذلك أن يكون سلوك صاحبي منبعثا عن عقل وراءه. وكيف أعلم أنه قد كان هنالك ماض مع أن كل ما لدي حاضر؟ الجواب هو أن ذلك يتم عن طريق الاستدلال الاحتمالي لا اليقيني؛ فالأثر الحاضر قد يدل على حدث وقع في الماضي ، لكن الدلالة هنا ليست «استنباطية»؛ أي إن النتيجة ليست محتواة في مقدمتها، بل هي استقرائية؛ ولذلك فهي احتمالية. كيف أستدل القانون العام من مشاهدات جزئية؟ الجواب هو أن ذلك أيضا استدلال استقرائي احتمالي، فمما قد شاهدت أرجح أن حوادث المستقبل ستجيء على نفس الصورة المطردة التي شاهدتها. وليس الاستدلال هنا أيضا يقينيا؛ لأن المستقبل ليس كائنا في جوف الحاضر والماضي، بل قوامه حوادث جديدة وحالات جديدة، لكني مع ذلك أستدل الصورة التي ستقع عليها هذه الحوادث والحالات على سبيل الترجيح، اعتمادا على فرض أرجحه أيضا، وهو أن ظواهر الطبيعة تسير على اطراد.
وموقفنا نحن الوضعيين المنطقيين إزاء هذه الإجابات الأربع هو موقف يوحد بين الإجابتين الثالثة والرابعة، ويرفض الإجابتين الأولى والثانية؛ فالسؤال المطروح هو: ما الذي يبرر لي أن أحكم بناء على إدراكي الحسي أن الشيء المدرك موجود وجودا فعليا في الخارج؟
وفي اختلاف الآراء إزاء هذا السؤال، نتخذ لنا موقفا نبنيه على اللغة ودلالاتها جريا على مبدئنا الأساسي، وهو أن عمل الفلسفة تحليل للقضايا والعبارات تحليلا منطقيا؛ فكأنما السؤال يتحور بين أيدينا إلى هذه الصورة: ماذا نعني بعبارة تقرر شيئا عن مدرك حسي، كهذه العبارة مثلا: «هذا القلم أسود»؟ لو أنك ألقيت هذا السؤال على متشكك لأجابك بأنه لا يدري لهذه العبارة معنى؛ لأنه لا يستطيع الخروج إلى معناها - وهو القلم الملون - بحيث يدركه إدراكا مباشرا كما هو قائم فعلا؛ فقد تكون هذه العبارة دالة على واقعة مسماة قائمة في الخارج، وقد لا تكون دالة على شيء من هذا. ولو ألقيته على حدسي لأجابك بأن هذه العبارة تعني شيئا أدركه إدراكا مباشرا. ونحن الوضعيين المنطقيين نرفض هاتين الإجابتين؛ نرفض إجابة المتشكك لأنها خاوية لا يترتب عليها علم ولا سلوك، ونرفض إجابة الحدسي لأن صوابها ذاتي معتمد على نفسه هو وحده، فلا سبيل هناك إلى فض النزاع إذا ما نشب نزاع بينه وبين من يدعي له أنه لا يدرك هذا الذي يدركه الحدسي بحدسه إدراكا مباشرا، ونحن حريصون على أن يكون هنالك جانب موضوعي من المعرفة يلتقي عنده مختلف الأفراد حتى يمكن قيام العلم المشترك.
وماذا لو ألقيت هذا السؤال على ظاهري مذهبه أن كل ما لديه من الشيء هو معطياته الحسية؟ إنه سيجيبك بأن معني عبارتك هذه «هذا القلم أسود» هو محصلة مضامين حسية؛ فثمة ضغطة على الأصابع وثمة انطباعة على العين، وهذه الانطباعة وتلك الضغطة يمكن وصفهما في شيء من التفصيل بحيث تكون مجموعة التفصيلات - وكلها مشير إلى المعطيات الحسية - هي المعنى المراد بالعبارة المذكورة. وإلى هذه الإجابة يضيف أنصار وجهة النظر الرابعة أن هنالك أمام المعطيات الحسية التي يقول بها الظاهريون «شيئا» أعطاها، فلا معطى بغير معط، والمعطي هو «الشيء» الخارجي الذي هو السبب، والمعطيات مسبب له؛ وإذن فمعنى العبارة «هذا القلم أسود» هو عند هؤلاء: «هنالك في العالم الخارجي شيء تنبعث عنه حادثات؛ فمنها ما يمس العين فيكون لونا أسميه أسود، ومنها ما يلمس الأصابع فيحدث إحساسا بصلابة تشعرني بوجود شيء أنسب إليه اللون الأسود الذي رأته عيني.»
وموقفنا نحن الوضعيين المنطقيين هو أن لا تنافر بين هاتين الإجابتين الأخيرتين؛ فالمجموعتان اللفظيتان وإن اختلفتا في التفصيلات إلا أنهما تعنيان واقعة واحدة معينة لا سبيل إلى الاختلاف عليها. ولتوضيح ذلك، افرض أن شخصين رأيا طائرا، فقال عنه أحدهما إنه حمامة، وقال الآخر بل هو يمامة، فها هنا قد يراجع أحدهما الآخر في نوع المعطيات الحسية التي أعطيها كل منهما، فيقول الواحد للآخر: هل ما تري هو بقعة لونية من النوع الفلاني؟ فيجيبه هذا بالإيجاب، فيسأل من جديد: وهل المنقار الذي تراه لونه كذا وشكله كيت؟! فيجيبه بالإيجاب أيضا، وهكذا حتى يتفقا على كل تفصيلات الواقعة المدركة، فيقول أحدهما: ولكن هذا هو ما أسميه حمامة. ويقول الآخر: ولكني أسميه يمامة. فهل يكون الاختلاف بينهما أكثر من اختلاف على التسمية دون الشيء المسمى؟ وهكذا يكون الأمر بين من يقول إن ما أدركه من هذا القلم معطياته الحسية، وهذه المعطيات هي كل ما هنالك، وبين من يقول إن ما أدركه من هذا القلم هو معطياته الحسية، لكن هنالك قلما هو الذي يعطي هذه المعطيات، لا اختلاف بين هذين الشخصين إلا في الكلمات التي يستخدمها كل منهما في الوصف دون أن يكون هذا الاختلاف اللفظي ذا أثر على اتفاقهما من حيث الحقيقة المدركة؛ فكل منهما يستطيع أن يبني سلوكه على إدراكه بحيث لا يجد أحدهما في إدراكه ما يقتضي سلوكا يختلف عما يجد الآخر في إدراكه.
وإذن فلو قيل لنا: ما معنى العبارة القائلة: «هذا القلم أسود»؟ كان جوابنا أن معناها هو حصيلة المضمونات الحسية التي تدل عليها ألفاظها، ولكن كل مضمون حسي - كاللون الأسود - تقابله مجموعة من الحوادث الخارجية، هي في هذه الحالة موجات ضوئية ذوات طول معين؛ وإذن فمعنى العبارة السالفة ذو جناحين؛ جناح هو المضمون الحسي كما يختص به كل فرد مدرك له، وجناح آخر هو الحوادث التي تقابل ذلك المضمون الحسي كالموجات الضوئية التي يمكن لأطوالها أن تقاس؛ فإذا قلنا عن هذه الحوادث الخارجية المصاحبة لإدراكنا الحسي إنها الإطار الذي مضمونه وفحواه هو ذلك الإدراك، كان للعبارة السالفة من حيث معناها جانبان؛ إطار ومضمون. ولما كان الإطار هيكلا من علاقات، ولما كانت العلاقات أبعادا - مكانية أو زمانية - يمكن قياسها قياسا كميا، كان هو المعنى العلمي للعبارة.
4
ومهما يكن من أمر، فكل عبارة نقولها لنقرر بها شيئا مما يقع في العالم - خارج الحاضرات الذهنية التي تكون راهنة في التيار الوجداني لذواتنا الشاعرة - فهي عبارة «نقفز» بها مما ندركه في ذواتنا إدراكا مباشرا إلى ما لسنا ندركه إلا بطريق غير مباشر؛ أعني أن مثل هذه العبارة لا يكون نتيجة استنباطية لازمة بالضرورة عن عبارة أخرى نعبر فيها عن خبراتنا الذاتية؛ فإذا رأيت لونا أسود، وقلت تعبيرا عن هذا الذي تنطبع به حاستي الذاتية «أرى لونا أسود»، فمن هذه العبارة وحدها لا أستطيع أن أستنبط استنباطا قياسيا ضروريا يقينيا بأن ثمة موجات ضوئية طول الواحدة منها كذا وهي التي سببت إدراكي للون الأسود، لا أستطيع ذلك؛ لأن الموجة الضوئية ذات الطول المعين شيء، وإدراكي للون الأسود شيء آخر ... ومعنى ذلك كله هو أن كل عبارة «أقفز» بها مما أدركه بذاتي إلى ما لست أدركه مباشرة، هي صواب على سبيل الاحتمال لا على سبيل اليقين، ويبقى بعد ذلك أن نعلم درجة احتمالها، حتى إذا ما كانت عالية الدرجة الاحتمالية، عددناها صوابا؛ مما يمكن أن نرتب عليه سلوكا نرجح له أن يبلغ بنا في الدنيا العملية ما نريد أن نبلغه.
ومما يتصل بهذا الموضوع نفسه تلك المشكلة التي ما ينفك الفلاسفة في العصر الحديث كله يثيرونها، وهي ما يسمونه بمشكلة الاستقراء، ويريدون بها البحث في المبررات التي تجيز للعالم الطبيعي أن يستدل قانونا عاما ينصرف إلى المستقبل، مع أن علمه كله منحصر في أمثلة جزئية شاهدها في الماضي، فكيف يجوز له أن يقفز من المحدود إلى المطلق؟ إذا كان الذي قد شاهده هو حالات جزئية هي «س
1
هي ص
1 »، و«س
2
هي ص
2 »، و«س
3
هي ص
3 » ... إلخ، فكيف أمكن أن يجاوز نطاق هذه الحالات المحدودة بظروفها المكانية والزمانية إلى قوله «كل س هي ص» مهما يكن مكانها وزمانها؟ إن في هذا الحكم الجديد إضافة أضيفت إلى المقدمات، والسؤال هو: ما الذي يبرر لنا أن نضيف هذه الإضافة التي لم نستند فيها إلى الخبرة؟ تلك هي المشكلة التي طرحها هيوم، وقرر فيها أن المقدمات الاستقرائية مهما راكمت منها ألوفا على ألوف، فهي لا تبرر أن تنتهي منها إلى نتيجة مطلقة بحيث نصف تلك النتيجة بالضرورة واليقين؛ لأن تلك المقدمات مهما بلغ عددها فهي مغترفة من خبرات الماضي، أما النتيجة فيراد بها أن تنصرف إلى المستقبل؛ وإذن فلا بد لافتراض الصدق في النتيجة من افتراض أن المستقبل سيأتي على غرار الماضي، ومن تناقض القول أن ندعي أن مثل هذا الزعم عن حوادث المستقبل منتزع من الخبرة ؛ إذ المستقبل لم يأت بعد حتي تمدنا الخبرة بشيء عنه؛ وإذن فلا مندوحة لنا عن الاعتراف بأن النتيجة المعتمدة على مقدمات استقرائية تجريبية إذا وصفت بالصدق، فذلك على سبيل الاحتمال لا اليقين، ولا يكون اليقين إلا لنتيجة لا تزيد على تحليل لما هو متضمن في مقدماتها. وبعبارة أخرى لا يكون اليقين إلا لنتيجة نصل إليها عن طريق استنباطي نعتصر فيه النتيجة من المقدمات، كما نفعل في العلوم الرياضية مثلا. وأما في العلوم الطبيعية حيث البحث قائم على تجارب ومشاهدات تؤدي بنا إلى نتيجة أعم منها وأشمل، فمحال أن يبلغ الأمر مبلغ اليقين الرياضي. وجدير بنا في هذا الموضع أن نذكر القارئ بأن مثل هذا التحليل الذي جعل قوانين العلوم الطبيعية صادقة على الاحتمال لا على اليقين، والذي حصر اليقين في العبارات التكرارية وحدها كما في الرياضة، وأبرز التناقض في أن نزعم لعبارة ما أنها تحمل في طيها خبرا عن الطبيعة، ثم تكون في الوقت نفسه يقينية الصدق ضروريته مستحيلة على البطلان، أقول إنه جدير بنا في هذا الموضع أن نذكر القارئ بأن هذا الموقف من هيوم هو الذي أيقظ «كانت» من سباته، وحفزه إلى البحث عن مصدر آخر غير التجربة نفسها يستقي منه الإنسان ما في قوانين العلوم الطبيعية من يقين وضرورة، وانتهى به البحث - كما هو معروف - إلى أن للعقل الإنساني مبادئ ومقولات مجبولة في فطرته هي التي تخلع الضرورة واليقين على ما نحصله عن طريق الخبرة من علم بالطبيعة.
لقد فرض «كانت» الضرورة واليقين في قوانين العلم الطبيعي فرضا لم يدع أمامه مجالا للشك، ثم مضى من هذه البداية المسلم بصدقها ليسأل: من أين جاءت الضرورة وجاء اليقين لقوانين العلوم الطبيعية؟ وكانت فلسفته على وجه العموم محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لكن السؤال يصبح غير ذي موضوع لو أنكرنا منذ البداية أن لأمثال هذه القوانين ضرورة أو يقينا، إنما هي احتمالية مهما علت درجة احتمالها. وموضع الخطأ الأساسي في هذا الصدد هو إغفال الفرق الجوهري بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة، كأنما هذه وتلك متشابهتان تشابها يحملنا على أن نستخدم في هذه نفس المنهج الذي نستخدمه في تلك، ونبلغ في هذه نفس اليقين الذي نبلغه في تلك (كما يريد العقليون)، أو أن ننزل بتلك إلى نفس المنزلة الاحتمالية التي لهذه (كما يريد جون ستيوارت مل)، فكلتا المحاولتين باطلة؛ محاولة الصعود بالقانون الطبيعي إلى يقين النظرية الرياضية، أو الهبوط بالنظرية الرياضية إلى منزلة القانون الطبيعي؛ كلتا المحاولتين باطلة لأن كلا منهما تفرض خطأ أن هذين النوعين من العلوم بينهما من التشابه ما يمكننا من وضعهما على مستوى واحد من حيث اليقين أو من حيث الاحتمال.
ولقد أخذت الفوارق تبرز في ضوء التحليلات الفلسفية الجديدة بين التفكير في العلوم الرياضية والتفكير في العلوم الطبيعية، فبينما هو في الأولى انتقال من مقدمة أعم إلى نتيجة أخص متضمنة فيها، انتقالا يؤدي حتما إلى يقين النتيجة على فرض الصدق في المقدمات، هو في الثانية انتقال من مقدمات جزئية إلى نتيجة أعم منها انتقالا يضيف إلى تلك المقدمات ما لم يرد فيها؛ إذ يضيف الإشارة إلى المستقبل مع أن المقدمات كانت - بالبداهة - منحصرة في جزئيات وقعت لنا في لحظات ماضية؛ وبالتالي فهو انتقال يؤدي إلى مجرد احتمال أن تكون تلك النتائج العامة المطلقة صادقة على المستقبل كما صدقت على الماضي، وصادقة على شتى أفراد النوع كما صدقت على مجموعة الأفراد التي وضعناها تحت البحث الفعلي ممثلة لبقية أفراد ذلك النوع.
ولقد شغلت فكرة «الاحتمال» جزءا كبيرا من اهتمام الفلاسفة المحدثين بغية تحديدها؛ فلا يكفي أن يقال عن جملة إنها محتملة الصدق، بل لا بد من تحليل هذا «الاحتمال» نفسه لنعلم على أي أساس نرجح احتمالا على آخر. وهل كل احتمال يمكن قياسه قياسا عدديا؟ إن من أولى النتائج العامة التي انتهينا إليها حتى الآن في مسألة «الاحتمال» أنه ضربان؛ فضرب يمكن تحديد درجته تحديدا عدديا قاطعا، وضرب آخر نترك فيه الاحتمال حكما بغير تحديد عددي مضبوط. على أنه لا يستحيل أن يكون هذا الضرب الثاني ممكن التحويل إلى الضرب الأول، بحيث إذا ما توافر لنا العلم الكافي في كل موقف من المواقف، استطعنا على وجه التحديد أن نقول عن الجملة المحتملة الصدق إلى أي درجة عددية يرتفع هذا الاحتمال.
قارن بين معنى الاحتمال في العبارتين الآتيتين: (1)
إذا ألقيت بزهرة اللعب فاحتمال أن تكون الأربعة إلى أعلى، هو 1 / 6. (2)
يحتمل أن يكون أخي قد سافر أمس.
فهذان حكمان كل منهما احتمالي لا يقيني؛ فليس بالضروري أن تلقي زهرة اللعب فتظهر الأربعة، وليس بالضروري أن يكون أخي قد سافر أمس، لكن الاحتمال في الحالة الأولى له درجة حسابية معلومة، وأما الاحتمال في الحالة الثانية فلا يمكن قياسه على هذا النحو، وإن لم يكن ذلك مستحيلا، بل إن الباحثين في منطق الاحتمال منذ نحو ثلاثين عاما فقط - وعلى رأسهم «كينز»
7
و«فون ميزس»
8 - لم يكونوا يفرقون بين النوعين، حتى جاء الفوج الأخير من الباحثين في هذا الموضوع نفسه، فأوشكوا الآن على إجماع بأن الاحتمال نوعان مختلفان؛ فمنه ما يخضع لتقدير كمي ومنه ما ليس يخضع لمثل هذا التقدير، وأخص بالذكر من هؤلاء «بوبر» و«كارناب» و«رسل» و«وليم نيل»،
9
حتى لقد أطلق معظمهم اسمين مختلفين على ذينك النوعين من الاحتمال؛ فبينما حاول «كينز» و«فون ميزس» أن يردا نوعي الاحتمال إلى ضرب واحد يمكن تقديره إذا ما توافر العلم الكافي بتفصيلات الأمر، لم يعد هؤلاء المعاصرون يحاولون ذلك، مقتنعين بأن كثيرا جدا من المواقف الاحتمالية التي يرجح فيها الإنسان صدق حكمه، كقولي «إن أخي يحتمل أن يكون قد سافر أمس»، يتعذر فيها أن نجد ما يمكن إخضاعه للعد والحساب.
أما الحالات التي يكون فيها الاحتمال محسوب الدرجة حسابا فيه دقة الرياضة وضبطها، فالتحليل يظهرها على حقيقتها؛ فإذا هي أدخل في باب الرياضة منها في باب المعارف التجريبية، فلا فرق جوهري بين أن أقول في هندسة إقليدس إن زوايا المثلث تساوي قائمتين استنادا في ذلك على بديهيات تلك الهندسة مضافا إليها تعريفات الألفاظ المستعملة كما تقدم بها إقليدس في صدر بحثه، بحيث تجيء هذه الحقيقة عن مجموع زوايا المثلث نتيجة ضرورية لازمة عن تلك المقدمات، أقول إنه لا فرق جوهري بين هذا القول عن زوايا المثلث ، وبين أن أقول عن زهرة اللعب إنها إذا رميت فاحتمال أن تكون الأربعة إلى أعلى مقداره 1 / 6؛ لأنني في هذه الحالة أيضا أستخلص نتيجة تلزم بالضرورة عن مقدمات هي بديهيات المنطق الاحتمالي وتعريفات الألفاظ المستخدمة في هذا السياق؛ فنحن في منطق الاحتمال نقدم بديهية هي أنه لو تساوت درجة الاحتمال في مجموع الحالات الممكنة، كان مقدار احتمال وقوع أي حالة منها هو كسر بسطه واحد ومقامه عدد الحالات الممكنة المتساوية الاحتمال؛ ففي مثال الزهرة السابق، مجموع الحالات الممكنة هو ستة، والمفروض أن تكون كلها متساوية في درجة احتمال وقوعها؛ وإذن فمقدار احتمال وقوع واحدة منها هو 1 / 6. إنها - كما تري - نتيجة لازمة عن مقدمات مفروضة.
لكنني لا أنتفع كثيرا بعلمي أن سقوط الزهرة بالأربعة إلى أعلى درجة احتماله 1 / 6؛ لأن مثل هذه النتيجة تظل قائمة حتى لو رميت الزهرة ست مرات متتالية فلم تظهر الأربعة إلى أعلى أبدا، أو ظهرت الأربعة في الحالات الست جميعا؛ فما العلاقة - إذن - بين أن تكون النتيجة النظرية الحسابية هي أن ظهور الأربعة إلى أعلى احتماله 1 / 6 وبين الواقع كما يحدث فعلا؟ هنا تأتي نظرية الأعداد الكبيرة التي مؤداها أنه كلما زاد عدد الرميات أخذ متوسط ظهور الأربعة إلى أعلى يقرب تدريجا من 1 / 6، حتى يكون الانحراف بين ذلك المتوسط وبين هذه النسبة النظرية من الضآلة بدرجة تجيز إهماله.
إن ما يهمنا الآن هو كيف يصلح حساب الاحتمال سندا لقضية تجريبية عامة؟ ونظرية الأعداد الكبيرة التي أسلفنا خلاصتها توضح ذلك؛ فمثلا قد تدلني الإحصاءات الماضية على أن نسبة المواليد الذكور تزيد قليلا عن نسبة المواليد الإناث، بحيث يمكن أن أقول بناء على ذلك إن الوليد المنتظر أقرب إلى أن يكون ذكرا منه إلى أن يكون أنثى، لكنني لا أستطيع بناء على ذلك أن أتنبأ بجنسه قبل ولادته أذكر هو أم أنثى؛ معنى ذلك أن تحقيق الحكم العام السابق لا يكون بالالتجاء إلى أية حالة جزئية على حدة، بل لا بد من الرجوع إلى حالات جزئية كبيرة العدد، حتى إذا ما رأيت متوسط المواليد يقرب تدريجا وبصفة ثابتة من رقم يجعل المواليد الذكور أكثر قليلا من المواليد الإناث، تحققت الدعوى؛ ومن ثم يظهر الفرق المنطقي بين قضية تعمم الحكم تعميما ضروريا، وأخرى تعممه تعميما احتماليا، بين قضية مثل «زوايا المثلث تساوي قائمتين»، وأخرى مثل «المصريون ساميون»؛ ففي الأولى تتحقق القضية في كل جزئية من جزئياتها، في كل مثلث تقع عليه، وفي الثانية لا تتحقق القضية إلا باللجوء إلى متوسط عدد كبير من الحالات بحيث يميل بنا هذا المتوسط نحو رقم ثابت نصل إليه هو نفسه مهما اختلفت العينات العشوائية التي نجمعها لحساب متوسطاتها. ولو أخذنا عينة نختارها بطريقة عشوائية فوجدناها منحرفة انحرافا ملحوظا عن المتوسط المفروض، كان ذلك مدعاة إلى رفض التعميم الإحصائي الذي قدمناه.
10
من ذلك نرى أن الحالات التي نقيس درجة احتمالها قياسا كميا نوعان؛ فهنالك الحالات التي يجيء فيها المقدار الكمي للاحتمال وكأنه نظرية رياضية استنبطت من مقدماتها، كما هي الحال في قولنا إن زهرة اللعب إذا قذف بها كان احتمال وقوع الأربعة إلى أعلى 1 / 6. وهنالك أيضا الحالات التي نبني فيها تقديرنا الكمي على نسبة تكرار وقوع الحادثة التي نحسب احتمال وقوعها، فها هنا يكون اعتمادنا - لا على مقدمات مفروضة ونتائجها اللازمة عنها - بل على ما تجيء به الخبرة التجريبية على مر الأيام؛ فإذا أردت أن تتتبع ظاهرة معينة لتحسب درجة احتمالها معتمدا على نسبة تكرار حدوثها - كأن تحسب مثلا درجة احتمال الإصابة بضعف النظر في مصر - فما عليك إلا أن تعد قائمتك على النحو الآتي:
الأفراد:
1
2
3
4
5 ...
حالات الإصابة: −ب
ب
ب −ب
ب ...
نسبة اقتران الجانبين: ...
وهكذا تمضي في قائمتك متمشيا مع تجاربك وملاحظاتك خطوة خطوة، وفي كل خطوة تخطوها تعرف إلى أي حد تستطيع أن تتوقع حدوث الظاهرة التي وضعتها موضع البحث. وواضح أن نسبة الاحتمال ستتغير مع اختلاف ما تجيء به التجارب، وتظل تتراوح زيادة ونقصا حتى تستقر على مقدار يوشك أن يكون ثابتا. ويشترط أن يكون اختيارك للأفراد اختيارا عشوائيا. ولكي تطمئن في نهاية الأمر إلى صواب النتيجة التي انتهيت إليها، فاختر مجموعات صغري من مجموعتك الكبرى التي سجلتها في قائمتك الأصلية، وليكن اختيارك لهذه المجموعات الصغرى عشوائيا أيضا، كأن تأخذ مثلا حالة وتترك حالتين، أو أن تأخذ حالتين متجاورتين وتترك خمس حالات وهكذا، حتى تتكون لك مجموعة صغري من داخل المجموعة الكبرى؛ فإذا وجدت أن نفس النسبة التي وصلت إليها في المجموعة الكبرى هي هي التي تصل إليها مهما تكن المجموعة الصغرى التي تقع عليها بعملية اختيار جزاف، كانت نتيجة البحث مرجحة الصواب.
تلك حالات يمكن فيها قياس الاحتمال على شيء من الدقة، فماذا نقول في الحالات التي نتحدث فيها بلغة الاحتمال ومع ذلك يختلف في أمرها الباحثون؟ ففريق يجعلها هي الأخرى ممكنة الحساب، على حين يجعلها فريق آخر مستعصية على التقدير الكمي؟ خذ مثلا قولي عن أخي إنه يحتمل أن يكون قد سافر أمس، وأمثال هذا القول الاحتمالي في الحياة العملية كثير، فهل تقاس درجة احتماله؟ وكيف تقاس؟
لقد أسلفنا لك القول إن «كينز» و«فون ميزس» كانا ممن يظنون أنه حتى هذه الحالات يمكن قياس احتمالها؛ وذلك لأن درجة الاحتمال - عندهم - منصبة على القضية لا على الحادثة نفسها؛ فقضية معينة أقولها تزيد درجة احتمالها أو تنقص بناء على نسبة القضية المزعومة إلى سائر تفصيلات معلوماتي الأخرى؛ فالقضية الواحدة قد تكون قليلة الاحتمال جدا، حتى إذا ما وقع في علمك شيء معين زاد احتمال تلك القضية زيادة كثيرة أو قليلة. خذ هذا المثل الموضح؛ ما درجة احتمال الصدق في قول قائل إنه رأى أسدا يسير في شارع بالجيزة؟ إنها درجة من القلة بحيث تكاد تبلغ درجة الصفر؛ لأننا ننسب هذا القول إلى بقية معلوماتنا عن الجيزة وما ينتظر أن يسير في شوارعها وما لا ينتظر، لكن افرض أن القائل أضاف إلى قوله السابق قولا آخر ، فنبه به السامع إلى أن حارس حديقة الحيوان قد ترك للأسد باب القفص مفتوحا، فها هنا على ضوء هذا العلم الجديد تزيد درجة احتمال القضية الأولى زيادة كبيرة؛ وهكذا يمكن قياس درجة الاحتمال في كل قضية مهما يكن نوعها بنسبتها إلى تفصيلات أخرى من معارف الإنسان، ثم هكذا - في رأي هذا الفريق من الباحثين - نزيل عن الاحتمال صبغته الذاتية لنجعله حسابا لشيء موضوعي صرف.
لكن أمثال هذه المحاولات كلها كانت تستهدف - أساسا - تدعيم المنطق الاستقرائي بإيجاد صلة الشبه بينه وبين المنطق الاستنباطي حتي يكون لذلك ما لهذا من يقين. أليست النتيجة في الاستدلال الاستنباطي - كالرياضة - يقينية؟ فإذا كانت قوانين العلوم الطبيعية لا تصطنع ما تصطنعه الرياضة من استنباط تستولد فيه النتائج من مقدماتها، بل تنهج منهجا تجريبيا يلاحظ حالات جزئية ويحاول أن يعمم منها قانونا مطلق الصدق، فلنبحث لهذا المنهج التجريبي الاستقرائي عن مصدر لليقين يدعم نتائجه؛ فإذا جاء «كينز» وغيره من رجال المنطق يدافعون عن أن كل فكرة تجريبية هي - كالفكرة الرياضية - ممكن قياس احتمالها قياسا دقيقا، كان موضع الخطأ عندهم هو نفسه موضع الخطأ عند الفلاسفة العقليين، وهو عدم إدراك الفرق الجوهري بين ما تقوله الرياضة وما تقوله العلوم الطبيعية، حتى ليتوهموا أن النوعين يمكن ردهما إلى مجال من القول واحد، وإلى منهج في البحث واحد.
وإمعانا منهم في تشبيه المنهج الاستقرائي بالمنهج الاستنباطي، كانوا يحاولون أن يلتمسوا للمنهج الاستقرائي «مقدمة كبرى» تكون بمثابة الفرض الأولي الذي يجيء كل شيء بعده بمثابة النتائج؛ وبهذا يصبون المنهج الاستقرائي كله في قالب الاستنباط، كأن نقول - مثلا - كما قال «مل» إن هنالك مقدمة كبرى يبدأ منها المفكر الاستقرائي، وهي «ظواهر الطبيعة مطردة». هذا زعم لم نستخلصه من التجربة، بل فرضناه فرضا لنفهم التجربة على ضوئه. وتحت هذه المقدمة الكبرى أضع مقدمة صغرى هي أن حوادث الماضي جاءت على النحو الفلاني، فتكون نتيجة «الاستنباط» في هذه الحالة هي: إذن فحوادث المستقبل ستجيء على النحو نفسه. أو أن نقول - كما قال كينز - إن هنالك مقدمة كبرى ومبدأ أوليا تنضوي تحته خطوات البحث العلمي؛ فإذا هي بالنسبة إليه كالمقدمة الصغرى بالنسبة إلى المقدمة الكبرى في القياس، بحيث يمكن بعد ذلك استدلال النتيجة استدلالا يقينيا، وأما هذه المقدمة الكبرى عنده فهي «مبدأ الصفات الأولية المحدودة»
11
الذي مؤداه أن في العالم عددا من الصفات محددا، كل منها مستقلة عن الأخرى، لا تستدل منها ولا تكون دليلا عليها، ومن هذه المجموعة الأولية المحددة تتكون التشكيلات المختلفة على نحو يجعلني أتوقع صفات «ب، ج، د» إذا وقعت على صفة «أ»؛ لأنني أعلم أن هذه المجموعة توجد معا؛ فالتوقع هنا أو احتمال ما سيحدث مبني على علم سابق بمبدأ عام سلمت به بادئ ذي بدء.
أعيد القول مرة أخرى، وهو أن كل محاولة في سبيل تبرير المنطق الاستقرائي على نفس الأسس التي تبرر يقين النتائج في المنطق الاستنباطي، هي محاولة في طريق خاطئ؛ لأن الأمر من أساسه قائم على افتراض أن النوعين من التفكير يمكن ردهما إلى مجال واحد ومنهج واحد، ولكننا نعلم الآن ما لم يكن يعلمه سابقونا علما واضحا، وهو أن الأمر في الحالتين جد مختلف. وليس من المقبول الآن أن تبرر صدق نتيجة تستخلصها من شواهد الحس بنفس الطريقة التي تبرر بها صدق نتيجة تكرر بها ما قد زعمته في مقدماتها فجاءت تحليلية لا تضيف إلى علمنا علما جديدا؛ فلئن كنت في هذه تتوقع اليقين بطبيعة الحال وتظفر به، ففي تلك لا يكون في وسعك إلا احتمال مرجح الصدق؛ فلو ألقينا على أنفسنا الآن السؤال الذي ألقاه «كانت» على نفسه، وهو: القضية من قضايا العلم الطبيعي قد جاءت من التجربة، ومع ذلك فهي ضرورية الصدق يقينية، فمن أين جاءتها تلك الضرورة وهذا اليقين؟ لو ألقينا هذا السؤال الآن، لما ذهبنا معه نبحث في مبادئ العقل ومقولاته عن مصدر الضرورة واليقين لأمثال تلك القضايا التجريبية، بل لأجبنا بأنه لا ضرورة في القضايا التجريبية ولا يقين.
الجزء
مشكلات الفلسفة التقليدية
ماذا كانت؟ وكيف صارت؟
الفصل الثامن
الحقيقة وظواهرها
1
زعم الفلاسفة - بالحق أو بالباطل - أن ما قد يظهر لنا من العالم ليس هو بحقيقة العالم؛ فهذا الذي يظهر لنا منه متغير، والحقيقة ينبغي أن تكون ثابتة؛ فها هي ذي الأشياء تظهر أمام أعيننا حينا ثم تختفي، أفيجوز أن تكون حقيقة العالم هي هذه العوابر التي لا تلبث أن تكون حتى تفنى، أم يكون الوجود الحقيقي غير هذه الظواهر العابرة؟ ذلك هو السؤال الرئيسي الذي ألقاه الفلاسفة على أنفسهم منذ كانت فلسفة.
والحقيقة أن التفرقة بين ما هو ظاهر وما هو حقيقي أمر مألوف لنا في حياتنا اليومية وفي حياتنا العلمية على السواء؛ فمن منا لم يقل لنفسه يوما عن شخص ما بأن حقيقته مختلفة عن ظاهره، فليس هو - مثلا - من الشجاعة بحيث يبدو، وليست الوطنية الصادقة جزءا من حقيقته كما يحاول أن يظهر للناس؟ إننا نعلم في الناس هذه الفوارق بين ظواهرهم وحقائقهم حتى لنستخدم كلمات خاصة - ككلمة النفاق مثلا أو كلمة الخداع - لنصف بها هذا الذي نعلمه عن الناس. وإننا لنرى بأعيننا الشمس تظهر في الشرق ثم تعبر السماء لتختفي في الغرب، لكننا بعد ذلك نتعلم أن هذا الذي نراه هو ظاهر الأمر لا حقيقته؛ إذ حقيقة الأمر هي أن الشمس ثابتة في مكانها ثباتا نسبيا، والعكس صحيح بالنسبة للأرض؛ فظاهرها ساكن لكنها في حقيقة أمرها تدور حول نفسها وتدور حول الشمس. وقد ننظر إلى كوب الماء فنراه صافيا لا شائبة فيه؛ فإذا نظرنا إليه خلال عدسة المجهر عرفناه على حقيقته، وهي أنه مليء بالأعلاق والشوائب والجراثيم أشكالا وألوانا. وقد ألمس هذه المنضدة التي أكتب عليها فأحس فيها الصلابة وتماسك الأجزاء، لكني أعلم بعد ذلك عن علماء الطبيعة أن صلابتها تلك وتماسك أجزائها إن هما إلا ظاهر الأمر لا حقيقته؛ فحقيقة أمرها هي أن قوامها ذرات كل منها مجموعة من كهارب سالبة وموجبة لا تنفك متحركة مغيرة من أوضاعها.
تلك إذن خبرة مألوفة؛ أن يكون ظاهر الشيء غير حقيقته. ولما كان من التناقض أن نحكم على الشيء الواحد بالحكمين معا في آن واحد، فنقول عنه إنه متحرك وثابت، أو إنه صاف ومشوب، فلا بد أن يكون أحد الحكمين المتناقضين باطلا ليظل الحكم الآخر صوابا ، وأي الشقين نحذف؟ إننا بالبداهة نحذف ما هو ظاهر في الشيء لنبقي على حقيقته.
غير أن ما قد وصفناه من جوانب الشيء بأنه مجرد ظواهره، إن هو إلا إدراك أدركناه كما أدركنا من الشيء جوانبه التي نقول عنها إنها حقيقته؛ فلا يكفي أن أقول عن الإدراك الأول إنه إدراك لظاهر ثم أحذفه، وعن الإدراك الثاني إنه إدراك لحقيقي ثم أبقيه، بل لا بد أن أسأل نفسي: ما الخصائص التي تميز الظاهر من الحقيقي ما دام كل منهما قد وقع لي في مجال إدراكي كزميله على حد سواء؟ ما الخصائص التي لا بد أن تتوافر فيما أدركه من الشيء لأقول عنه إنه إدراك لحقيقة الشيء؟ وبصفة عامة: ما الخصائص التي يتميز بها الحق من الباطل، أو الباطن من الظاهر؟ ذلك هو السؤال الرئيسي الذي كانت محاولات الإجابة عنه هي الشطر الأعظم من الإنتاج الفلسفي على اختلاف مذاهبه.
ولو وقعنا على هذه الخصائص المنشودة التي تميز الحق من الباطل فيما ندركه عن شيء ما، فلا بد أن تكون تلك الخصائص هي هي بعينها التي تميز الحق من الباطل في كل شيء آخر؛ أي إن علامة الحق لا يجوز لها أن تتغير بتغير المناسبات والظروف، بل لا بد أن تكون مطلقة لا فرق عند تطبيقها بين مكان ومكان ولا بين لحظة من الزمن ولحظة.
وأولى الخصائص التي تميز الحق كائنا ما كان موضوعه - هكذا جرى العرف بين الفلاسفة أن يقولوا - هي الخلو من التناقض بين أجزاء الفكر أو أجزاء الخبرة؛ فما يتصف بأنه حق لا بد أن يتصف في الوقت نفسه بأنه متسق الأجزاء بعضها مع بعض اتساقا لا يجعل أي جزء منها مناقضا لأي جزء آخر؛ فإذا وجدت نفسك إزاء فكرة أو إزاء خبرة تحللها فترى تناقضا بين أجزائها، فاعلم على الفور أنك إزاء باطل من الأمر.
وسأسوق لك مثلا من فيلسوف مثالي حديث هو «برادلي»،
1
الذي استخدم مبدأ عدم التناقض هذا في كتابه المعروف «الظاهر والحقيقة»
2
ليبين على ضوئه أن معارفنا الجزئية باطلة؛ لأن الكون في رأيه واحد واحدية يستحيل تجزئتها دون أن نحطم حقيقته، فانظر إليه ماذا يقول في الفصل الثاني من كتابه ذاك - وهو مثل من تفكيره في الكتاب كله - وهو فصل يعقده للتحدث عن «الجوهر وصفاته»:
قوام العالم أشياء وصفاتها؛ فهذه القطعة من السكر شيء وله صفات تنعته؛ فهي بيضاء وذات صلابة وحلاوة، ولكن ما نوع العلاقة التي تربط قطعة السكر بصفاتها تلك؟ إنه من البديهي ألا تكون قطعة السكر هي هي إحدى صفاتها مأخوذة بمعزل عن بقية الصفات؛ لأنها لا تكون هي البياض وحده، ولا الصلابة وحدها، ولا الحلاوة وحدها؛ أتكون إذن هي مجموع هذه الصفات مجتمعة ولا شيء أكثر من ذلك؟ كلا؛ لأن مجموعة الصفات فيها تعدد مع أن قطعة السكر شيء واحد، فمن أين جاءتها هذه الوحدة؟ أتكون هذه الوحدة في قطعة السكر نابعة من الصفات ذاتها أم آتية إليها من خارج؟ إنها بالبداهة لا هذه ولا تلك؛ فلسنا ندري كيف ترتبط صفات اللون والطعم والصلابة في وحدة واحدة مع أنها مختلفة أبعد اختلاف، وعلى كل حال فالعلاقة التي تربطها معا ليست هي «بياضا» ولا هي «صلابة» ولا هي «حلاوة»؛ أي إنها ليست هي من طبيعة تلك الصفات ذاتها؛ إذن فمن أين جاءت الرابطة الموحدة بينها في قطعة من السكر «واحدة»؟ أم نقول أن لا وحدة هناك وإن الأمر قائمة من صفات لا أكثر ولا أقل؟ لكن هذا القول لا ينجينا من الحكم بأن كلا من تلك الصفات مرتبط بالصفات الأخرى على نحو ما، بحيث يمكن أن نقول إن صفة البياض مرتبطة بصفة الصلابة، ويعود الإشكال من جديد؛ كيف يرتبطان؟ ما نوع العلاقة الكائنة هنا بين الطرفين المرتبطين؟ أتكون هذه العلاقة نابعة من الصفات ذاتها أم مضافة إليها من خارج؟ وهلم جرا؛ وإذن فصميم المشكلة هنا هو أنك إذا وصفت قطعة السكر بأنها بيضاء وصلبة وحلوة، فإما أن تكون هذه الصفات آتية إلى قطعة السكر من خارج طبيعتها؛ وبذلك تكون بمثابة من يحكم على الشيء بما ليس من طبيعته، وإما أن تكون تلك الصفات هي نفسها طبيعة السكر، وفي هذه الحالة تكون قد كررت القول ولم تضف حكما جديدا.
والنتيجة التي يستهدفها برادلي من كلامه هذا هي أنك لو نظرت إلى أي شيء على أنه حقيقة قائمة بذاتها، وأخذت تصفه بكذا وكيت من الصفات، وجدت أن أقوالك عنه منطوية على تناقض؛ وإذن فيستحيل أن تكون هي الحق؛ لأن الحق شرطه اتساق الأجزاء وخلوها من التناقض.
والفلاسفة حين يقولون كلاما كهذا إنما يريدون أن ينتهوا بنا إلى نتيجة يريدونها، وهي أن الكون وحدة لا تتجزأ، وهو وحدة متسقة لا تناقض بين أجزائها؛ بمعنى أن كل جزء من أجزاء الكون يستحيل فهمه إلا في علاقاته مع سائر الأشياء، وعلاقاته تلك هي في الحقيقة علاقة منطقية تجعله نتيجة محتومة لبقية الأجزاء، كما أن بقية الأجزاء معتمدة عليه ولا تكون بغيره، كأنما الكون في ذلك شبيه بعلم الهندسة مثلا، كل نظرية فيه يستحيل فهمها إلا منسوبة إلى بقية النظريات؛ لأنها متحدة معها في بناء نظري واحد، فترى النظرية الواحدة من نظرياته هي نتيجة لما يسبقها في البناء وهي مقدمة لما يتلوها.
إن مشكلة اندماج الكثرة الظاهرة في كون واحد، بحيث تكون الروابط بينها ضرورية محتومة، هي مشكلة قديمة قدم الفلسفة؛ فالنظرة العاجلة إلى ما حولنا من أشياء قد توهمنا بأن تلك الأشياء متفرق بعضها عن بعض، وأن لا ضرورة هناك تحتم أن تكون كلها أجزاء من كائن واحد؛ فلئن اتصل الشيء الواحد - كهذا القلم الذي في يدي - بمجموعة قليلة من الأشياء الأخرى، كأن تكون ثمة صلة بينه وبيني، وبينه وبين المنضدة التي أضعه عليها، والدواة التي تمده بمداده وهكذا، فماذا تكون العلاقة بينه وبين سماك يطرح الشبكة عند شاطئ البحر في الصين أو بينه وبين طائر يحلق في سماء البرازيل؟ لكن النظرة الفاحصة قد تبين حقيقة غير هذا الظاهر؛ فارتباط القلم بشخصي يربطه بعالم الفكر، وعالم فكري يضم صورة السماك في الصين وصورة الطائر في البرازيل؛ فالحق أنك إذا ما تعقبت أي شيء في علاقاته بما يجاوره، وما يجاوره بما يجاوره، وهكذا، استحال عليك أن تعلم أين عساك أن تقف حتى يتم لك بناء الكون كله. وهكذا تستطيع أن تبدأ بأي كائن تشاء، وستجد أن علمك به يتوقف على علمك بسواه، وعلمك بهذا يتوقف على علمك بغيره، وهكذا حتى يتم لك العلم بالكون كله إذا أردت لنفسك علما كاملا، وإلا فقصاراك أن تعلم عن ذلك الكائن لا الحق كله، بل أن تعلم عنه بمقدار ما تستطيع أن تري روابطه بغيره من سائر الأشياء.
فلم يسع الفلاسفة إزاء هذه الكثرة الظاهرة من ناحية، وارتباطها بعضها مع بعض من ناحية أخرى، إلا أن يجعلوا من الأمر مسألة تستحق البحث والنظر، بل يجعلونه المسألة الكبرى التي تواجه العقل وتتحداه؛ فهل نعد كل شيء مفرد حقيقة قائمة بذاتها؛ وبذلك نبتره عن سائر الأشياء، أم إن كل شيء مفرد لا يمكن معرفته وهو على حدة؛ وبالتالي فلا مناص من وصله بغيره، ووصل غيره بغيره حتى تنقلب الكثرة الظاهرة وحدة في الحقيقة؟ ولو كان الأمر كذلك لكان علمنا بأي شيء على حدة علما ناقصا، ولكان الحق الكامل مستحيلا إلا لمن استطاع أن يضم كل شيء في الوجود في نسق واحد. بعبارة أخرى فالسؤال هو: هل الموجود الحقيقي واحد رغم كثرته البادية، أم تكون هذه الكثرة البادية هي نفسها الحق؟
وفي محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لم يكن الفلاسفة كلهم على مذهب سواء، بل انقسموا مذاهب: (1) ففريق منهم يجعل الموجود الحقيقي واحدا؛ فإن بدا لحواسنا تعدد فيه كان هذا وهما لا حقيقة. (2) وفريق آخر يري حقيقة الكون في كثرته البادية، حتى إذا ما جاء الإنسان وحاول أن يلتمس بينها رباطا بفكره يجعل منها كونا واحدا كان هذا الرباط الموحد من وهمه هو، ووليد فكره هو، ولا شأن للحقيقة الخارجية به. (3) ولا بأس هنا من ذكر فريق ثالث يحاول - كما حاول ليبنتز مثلا - أن يوفق بين المذهبين السالفين في مذهب واحد، وهو أن يجعل قوام الكون كائنات مستقلة بعضها عن بعض استقلالا يجعل كل كائن منها مكتفيا بذاته، يستمد العلم من جوفه، حتى لو لم يكن في العالم إلا إياه لظل قائما كما هو قائم، لكن هذه الكائنات المستقلة تنصب معا في بناء نسقي واحد؛ لا لأن طبيعتها الداخلية تقتضي أن يكون بينها هذا الائتلاف في بناء واحد، بل لأن الوحدة قد خلعت عليها من خارجها، خلعها عليها الله فوصلها بعضها ببعض من حيث لا تحتم طبائعها هذا الاتصال؛ وبهذا يكون الوجود الحقيقي هو كثرة من كائنات مستقلة، لكنه في الوقت نفسه مساق في وحدة تربطه في نسق واحد.
ولكل من المذهبين الرئيسيين الأولين، مذهب الوحدة ومذهب التعدد، أقسام فرعية قد تختلف فيما بينها اختلافا بعيدا على الرغم من انضوائها تحت مذهب رئيسي واحد.
فالمذهب الواحدي الذي يجعل الحقيقة الكونية كائنا واحدا مرتبط الأجزاء ارتباطا يجعل منها حقيقة واحدة، قد يذهب به أصحابه إلى واحدية مادية - كما فعل بارمنيدس من فلاسفة اليونان الأقدمين - بمعنى أن يكون العالم في حقيقته كتلة مادية متجانسة، أو قد يذهب به أصحابه إلى واحدية مثالية تترجم الكون كله إلى بناء عقلي فكري بين أجزائه ما بين المقدمات ونتائجها من روابط.
وكذلك مذهب الكثرة قد يذهب به أصحابه إلى تعدد في ذرات مادية يجعلونها وحداته الأولية - كما فعل ديمقريطس مثلا من فلاسفة اليونان - أو هم قد يذهبون به إلى تعدد في ذرات روحانية أو نفسية تكون هي وحداته المستقل بعضها عن بعض، كما هي الحال مع ليبنتز. وهكذا ترى أنصار الكثرة كأنصار الوحدة ينقسمون فريقين؛ أحدهما يجعل الوجود الحقيقي مادة، والآخر يجعله عقلا أو روحا. وبين هذين الفريقين ينشأ فريق ثالث يعترف بالجانبين معا؛ العقل والمادة، وهؤلاء هم الذين يشطرون الحقيقة الكونية شطرين مختلفين؛ فلو كانت تلك الحقيقة الكونية كائنا واحدا، كان هذا الكائن الواحد عقلا من جهة وطبيعة من جهة أخرى؛ ولو كانت تلك الحقيقة الكونية كثرة من كائنات، كانت هذه الكثرة كذلك عقلا من جهة ومادة من جهة أخرى.
فعندما سأل الفلاسفة أنفسهم عن الحقيقة الكونية كم تكون، أجاب فريق منهم بأنها واحدة، ثم انقسم هؤلاء شعبتين؛ فشعبة تجعل تلك الحقيقة الواحدة مادية، وأخرى تجعلها عقلية، وأجاب فريق ثان بأنها كثرة، ثم انقسم هؤلاء أيضا شعبتين؛ فشعبة تجعل تلك الكثرة ذرات مادية، وأخرى تجعلها ذرات روحانية أو نفوسا. ويمكننا النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فنقول إنه لو سئل الفلاسفة عن الحقيقة الكونية ماذا تكون، أجاب فريق منهم بأنها مادة، وما يسمى فيها بالعقل يمكن ترجمته إلى ظواهر مادية، ثم انقسم هؤلاء جماعتين؛ فجماعة منهما تقول إن تلك الحقيقة المادية ذات كيان واحد، وجماعة أخرى تقول بل هي كيانات كثيرة. وأجاب فريق ثان بأنها عقل، وما يسمى فيها بمادة يمكن ترجمته إلى مدركات عقلية، ثم انقسم هؤلاء أيضا جماعتين؛ فجماعة منهما تقول إن تلك الحقيقة العقلية ذات كيان واحد، وجماعة أخرى تقول بل هي عدة من عقول. وثمة - إلى جانب هذين الفريقين - فريق ثالث يجعل الحقيقة الكونية مادة وعقلا معا، ثم يعود هذا الفريق أيضا فينقسم جماعتين؛ إحداهما تجعل كلا من العقل والمادة مستقلا عن الآخر استقلالا لا سبيل معه إلى التقاء أحد الجانبين بالآخر، والأخرى تجعل العقل والمادة جانبين يؤثر أحدهما في الآخر كما نلاحظ في الإنسان عقلا وجسما كيف يكون لكل من هذين الجانبين أثره على الآخر.
2
هكذا يتحدث الفلاسفة عن الكون كله باعتباره موضوعا يصلح للحديث، كما يصلح الفرد الجزئي الواحد موضوعا للحديث سواء بسواء؛ فعندهم أن لا فرق من حيث التكوين المنطقي بين أن أقول «الكون كائن واحد» وبين أن أقول «هذا القلم أسود»، وأول نقلة نحدثها - نحن الوضعيين المنطقيين - في مجال الحديث، هي أن نجعل المذاهب التي أسلفنا ذكرها عن الحقيقة الكونية منصبة على «القضايا» التي يقولها الإنسان عن الكون لا عن الكون نفسه؛ وبهذا يصبح الاختلاف بين المذاهب السالفة اختلافا على القضايا؛ فإذا سئل الفيلسوف المثالي الذي يوحد الكون في حقيقة عقلية واحدة: كم قضية نستطيع بها أن نعبر عن حقيقة الكون؟ أجاب: قضية واحدة ، أتخذ منها مبدأ أولا، ومن هذا المبدأ الأول أستولد النتائج واحدة بعد أخرى، حتى يتكون لي نسق واحد من قضايا، كل قضية فيه متصلة بكل قضية أخرى اتصال المقدمة بنتيجتها أو النتيجة بمقدمتها. ومعنى هذا أن الإنسان يستطيع أن يرتب في عقله هرما من أفكاره، بحيث تزداد الفكرة اتساعا كلما صعدنا من قاعدة الهرم إلى قمته؛ فقمة الهرم في هذه الحالة هي بمثابة المبدأ الأول الذي يراه الفيلسوف المثالي رؤية الحدس المباشر، ثم تأتي الطبقات بعد ذلك متسلسلة حتى ينتهي البناء الفكري كله، فتكون هذه الخبرة العقلية الموحدة هي نفسها الحقيقة الكونية في واقعها الوجودي. ولو كان الأمر كذلك لاستطاع صاحب هذه الخبرة العقلية الموحدة أن يبدأ معرفته للحقيقة الكونية من أي فكرة شاء، يأخذها أينما شاء من البناء، ثم ينزل منها إلى نتائجها ويصعد منها إلى مقدماتها، فإذا هذه الفكرة الواحدة كفيلة أن تطلعه على الحقيقة كلها؛ فالخبرة العقلية المنسقة التي نكونها عن الحقيقة الشاملة، يبلغ بها الاتساق حدا يجعل كل جزء من أجزائها ضروريا للبناء كله، وتغيير أي جزء أو حذفه من شأنه بالضرورة أن يغير من البناء كله أو يهدمه. والأمر في ذلك شبيه بالبناء في علم الهندسة، لا بد فيه أن تتخذ النظريات أوضاعها بالنسبة بعضها إلى بعض، فلا تغيير ولا حذف.
ولو أخذت قضية واحدة تتحدث عن جزئي واحد أو عن نوع معين من الأفراد - هكذا يجري منطق المذهب المثالي الموحد للكون في حقيقة عقلية واحدة - لو أخذت تلك القضية التي تتحدث عن جزء من الكون على حدة، لتحتم ألا تكون معبرة عن حقيقة كاملة؛ لأنها انتزعت في الفراغ بعد أن كانت جزءا من بناء، وبعد أن كانت حقيقتها متوقفة على وضعها من ذلك البناء لا على كيانها المستقل بذاته. ومن هنا عد المثاليون حديثنا عن جزء من الكون حديث أوهام؛ لأنه حديث عن حقائق ناقصة؛ وهل يكون الخيط الواحد تستله من الثوب ثوبا، وهل يكون الحجر الواحد تستخرجه من الجدار جدارا؟ ولو عددت القضية التي تتحدث عن جزء واحد من الكون تعبيرا كاملا عن حقيقة مستقلة كاملة، وقعت - من وجهة نظر المثاليين - في تناقض كالذي أسلفنا لك مثلا منه من الأمثلة الكثيرة التي ساقها برادلي في كتابه «المظهر والحقيقة» (راجع الفقرة الأولى من هذا الفصل)؛ فلو قلت - مثلا - إن الإسكندرية واقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وظننت أنك تقول حقيقة كاملة، كنت عند المثاليين واهما؛ لأنك تنتزع خلية من جسمها الكبير وتحسبها كائنا مستقلا قائما بذاته؛ فأين هو البحر الأبيض المتوسط من الكرة الأرضية، وأين الكرة الأرضية من المجموعة الشمسية، وأين المجموعة الشمسية من سائر الأفلاك؟ ولعلك تدرك الآن كيف يعد المثاليون حديث العلوم الطبيعية حديثا ناقصا، فليس هنالك القانون العلمي الواحد الذي تستطيع أن تقول عنه وهو على حدة إنه حق حقيقة كاملة. وكيف يكون كذلك وهو يختص بجزء واحد من الطبيعة؟ وما لم ندرك علاقته مع سائر القوانين كان إدراكنا ناقصا.
ولئن كان محالا على إنسان أن يلم بمجموعة الخبرات العقلية كلها التي يكمل بها البناء النسقي الذي يصور الحقيقة الكونية كلها، وأن يدرك ذلك البناء النسقي في وحدته بنظرة حدسية واحدة؛ فإن الإنسان ليقترب من هذا الكمال كلما زاد من علمه؛ إذ كلما ازداد الإنسان علما ازداد بالتالي قدرة على إدراك العلاقات التي تربط الأفكار بعضها ببعض في النسق الفكري الكامل؛ فمن القليل الذي أعرفه أستطيع أن ألم بالحقيقة بدرجة تتناسب مع ذلك القليل المعروف.
ولكن ما كل فكرة واحدة أو مجموعة قليلة من أفكار تكشف لنا عن الحقيقة الكاملة ككل فكرة أخرى؛ فالأفكار في ذلك ليست على درجة سواء، بل إن منها ما هو أقدر من سواه على الكشف عن حقيقة الكون الكبرى. خذ مثلا فكراتك عن هذه المجموعات الآتية: كومة من أحجار، آلة، كائن عضوي، مجموعة النظريات في علم الهندسة. هذه كلها مجموعات، لكنها تتفاوت في تصويرها لما تكون عليه مجموعة الكون؛ فكومة الأحجار أقل من الآلة اتساقا؛ لأن الحجر من أحجارها قد زال دون أن تتأثر الكومة في فكرتنا عنها، على حين أن الآلة إذا نقصت جزءا من أجزائها أصابها الخلل. والآلة بدورها أقل اتساقا من الكائن العضوي لجسم حيوان مثلا؛ لأن أجزاء الآلة لا تنمو معا في اتحاد كما تنمو أجزاء الكائن العضوي. والكائن العضوي بدوره أقل اتساقا من أجزاء التفكير الهندسي المنظم؛ لأن تغيير عضو من الكائن العضوي لا يستلزم تناقضا؛ فقد أتصوره ذا عين واحدة أو ذا عينين، أما تغيير النظرية داخل النسق الهندسي الواحد فأمر يستلزم تناقضا؛ لأن النظرية نتيجة محتومة لمقدماتها المفروضة.
وإذن فهنالك من الحقائق العقلية ما هو «أصدق» من سواه على تصوير الحق. وما أشبه الأمر في ذلك بسلوك الفرد من الإنسان في مناسبات حياته المختلفة! ففي كل موقف سلوكي على حدة تظهر طبيعة شخصيته، لكن المواقف السلوكية مع ذلك تختلف في درجة تصويرها لتلك الشخصية، فهنالك السلوك الذي يكشف عن سرها أكثر جدا مما يكشف عنه سلوك آخر. وهكذا تتفاوت الكائنات تعبيرا عن الحقيقة؛ فمنها ما يكون أوفى وأشمل وأصدق تعبيرا عنها من غيره؛ فالعقل الإنساني من غير شك أوفى وأصدق تعبيرا من قطعة الحجر عن حقيقة الكون الكبرى؛ أي إنه أعلى من قطعة الحجر في درجة نصيبه من الحقيقة.
ومعيارنا الذي نقيس به أنصبة الأشياء الفردية من درجات الحقيقة هو مقدار ما فيها من فردية واكتفاء ذاتي؛ فكلما ازداد الشيء فردية واكتفاء بذاته كان أقرب في تصويره للحقيقة الكونية؛ وبالتالي فنصيبه من الوجود الحقيقي يزداد غزارة وعمقا، وإنما تقاس فردية الفرد في درجاتها المتفاوتة، أولا بمقدار ما في الفرد الواحد من تفصيلات، وثانيا ما يكون بين تلك التفصيلات من اتساق يجعل منها كائنا واحدا؛ فالفرد الكثير التفصيلات في مضمونه أعلى في درجات الحق من الفرد الفقير في تفصيلاته، ثم يكون الفرد المتسق الأجزاء أعلى وجودا وحقيقة من مجموعة العناصر التي لا تأتلف ولا تكون فردا. وبعبارة أخرى، كلما ازداد الشيء اعتمادا على غيره في فهمنا إياه كان أدنى درجة في سلم الوجود، وكلما قل اعتماده على غيره كان أعلى درجة في ذلك السلم. وهكذا تصعد في سلم الكائنات حتى تبلغ القمة إذا بلغت معرفة كاملة بالكون كله؛ فعندئذ تراه فردا واحدا كثير التفصيلات، لكنها تفصيلات اتسقت في خبراتنا بها اتساقا يجعل من الكل كائنا واحدا، يفسر نفسه بنفسه، وكل شيء فيه إنما يستمد تفسيره من وضعه في ذلك الفرد الواحد الكبير.
وكلما اتسع علمنا بكائنات الوجود، ازددنا إدراكا لما بين تلك الكائنات من اتساق وتكامل؛ ففي أول عهدنا بدراسة العلوم المختلفة - مثلا - قد يخيل إلينا أن لا علاقة بين علم منها وآخر، وأن لكل منها قوانينه التي لا شأن لها بقوانين سواه، ثم نرقى في معارفنا العلمية، فيتسع أفقنا الإدراكي بحيث نرى هذه المجموعات المتفرقة من القوانين آخذة في الانضواء بعضها تحت بعض؛ فقانون أقل شمولا يندرج تحت آخر أوسع نطاقا، وهكذا، بل إن الإنسان في مراحله العلمية الأولى قد يتوهم أن في بعض قوانين العلوم - منسوبا بعضها إلى بعض - شيئا من التناقض. خذ - مثلا - الأعداد اللامقيسة في الرياضة، فالنسبة بين ضلع المربع ووتره لا يمكن ضبطها في عدد معلوم الحدود؛ ولذلك سميت تلك النسبة وأشباهها أعدادا لا مقيسة؛ أي إن قياسها مستحيل. وكان الظن في أولى مراحل التطور في علم الهندسة أن هذه الأعداد اللامقيسة نشاز في بناء العلم لا يتسق مع بقية أجزائه، حتى تقدم العلم الرياضي وتغيرت نظرية العدد من أساسها، فأمكن تفسير الأعداد اللامقيسة تفسيرا يزيل ما كان بينها وبين سائر أجزاء العلم من تنافر.
وخلاصة القول إن هنالك حقيقة واحدة كبرى تشمل الكون كله، داخلها حقائق فرعية جزئية، يكون تفسيرها وفهمها معتمدا على موضعها من البناء المتسق المتكامل. أو قل إن هنالك قضية أولى منها تنبع كل قضية أخرى، بحيث يكون صدق هذه متوقفا على صدق تلك.
قارن هذا بوجهة النظر الأخرى التي تعدد أجزاء الكون ولا توحدها؛ فالمعرفة الإنسانية في هذه الحالة تكون مجموعة من قضايا لا يتوقف صدق الواحدة منها على صدق الأخرى، بل يتوقف صدقها على مطابقتها للواقعة الجزئية التي جاءت القضية لتصورها؛ فبهذا يكون الكون هو حاصل جمع ظواهره ووقائعه، وليس هو بالكائن الواحد الذي يجعل من تلك الظواهر والوقائع أعضاء من كل متكامل؛ وبالتالي تكون المعرفة الإنسانية قائمة من قضايا لا يشترط لها أن تتساند كلها في نسق واحد يجعلها جميعا نتائج لمقدمة أولى واحدة.
وقائع العالم الخارجي مستقل بعضها عن بعض ولا يستدل بعضها من بعض، وإنما الاستدلال يكون لقضية من قضية أخرى أعم منها وتشملها، كأن أقول - مثلا - إنه إذا لمع البرق قرقع الرعد، وقد لمع البرق، فهنا أستدل أن قرقعة الرعد وشيكة الوقوع. ويلاحظ هنا أنه لو كانت القضايا التي بين أيدينا جزئية بمعنى أن كلا منها يصور واقعة جزئية واحدة، لما أمكن أن نستدل إحداها من الأخرى، ف «هذا القلم أسود» و«تلك البرتقالة مستديرة» قضيتان جزئيتان فرديتان تتحدث كل منهما عن واقعة بسيطة واحدة؛ وبالتالي فلا يمكن استدلال إحداهما من الأخرى.
فإذا نظرنا إذن إلى الاختلاف بين مذهب الواحدية ومذهب الكثرة من زاوية المعرفة الإنسانية، أي من حيث مجموعة القضايا التي يمكن للإنسان أن يقضي بها في أمور العالم، كان الاختلاف بينهما هو أن مذهب الواحدية يضم قائمة القضايا كلها في نسق استنباطي واحد، على حين أن مذهب الكثرة يفرط حباتها ليتم تحقيق كل منها على حدة مستقلة عن الأخرى.
3
ها نحن أولاء قد عرضنا أمامك رأيا في الكون شاع بين الفلاسفة وإن يكن قد اتخذ لديهم صورا مختلفة هنا أو هناك، ولكنها تجتمع على قاعدة مشتركة، وهي محاولة الفيلسوف أن يقول قضية يقضي فيها عن الكون كله بحكم من الأحكام، بحيث تأتي سائر القضايا الفرعية بعد ذلك كالنتائج المحتومة التي تلزم عن مقدماتها؛ فماذا صار من أمر هذا التقليد الفلسفي على ضوء التحليلات الحديثة؟ لقد أظهرت هذه التحليلات أن كل قضية نحكم بها على مجموعة بأسرها من أعضاء، هي بغير معنى، بل هي ليست بالقضية إطلاقا، إنما هي ما يقولون عنه الآن «دالة قضية»؛ أي إنها عبارة غير مكتملة الأجزاء، فيها ثغرات شاغرة ، إذا لم تملأ بأسماء جزئية لبثت القضية جوفاء فارغة، ودع عنك قضية كبرى يقولها الفيلسوف لا ليحكم بها على هذه المجموعة الفرعية أو تلك من مجموعات الكائنات، بل يقولها ليحكم بها على الكون كله بما فيه ومن فيه.
ليس موقفنا إزاء فيلسوف يقضي في شأن الكون كله بحكم واحد هو أن نصحح له هذا الحكم بحكم سواه؛ فمثلا يقول عنه إنه عقل، فنقول له بل هو مادة، بل موقفنا هو أن كل حكم من هذا القبيل الشامل هو قول بغير مضمون، أو عبارة بغير معنى؛ ذلك لأن تحقيقها كما هي قائمة في شمولها وعموها ضرب من المحال، لا لأنها فوق مستطاع البشر، وأنه لو رزق البشر إدراكا أوسع وأعلى وأشد نفاذا، لاستطاعوا عندئذ أن يتحققوا من صدق مثل هذه العبارة الشاملة بحكمها لأجزاء الكون كله، بل إن مصدر الاستحالة هنا منطقي صرف، فما دام هذا الحكم العام ينصب - كما يزعم صاحبه - على الحقيقة الخارجية كما هي قائمة في الوجود الفعلي، فلا بد من الرجوع إلى تلك الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة كما تقع في خبراتنا مجموعة كبيرة من أجزاء؛ وإذن فهذا الرجوع إليها محال إلا إذا اكتفينا في كل خطوة بالرجوع إلى جزء واحد فقط من المجموعة الكبرى؛ ومعنى ذلك أنه لكي يكون الحكم ممكن التحقيق يجب أن ينصرف الحديث فيه إلى جزئية واحدة من جزئيات الكون؛ فإذا فرضنا بعد ذلك أننا قد أتممنا قائمة طويلة بكافة الأحكام الجزئية التي تقال صدقا عن الوقائع الجزئية، كانت هذه القائمة شاملة لعلمنا بالكون، ولو لخصناها في قضية واحدة عامة، كانت هذه القضية الواحدة في ذاتها بغير معنى؛ لأن معناها لا يكون إلا إذا عدنا ففضضناها حبة حبة وجزءا جزءا.
إنك تستطيع أن تضم مجموعة كبيرة من الكتب بعضها إلى بعض، ثم تحكم عليها حكما واحدا فتقول : هذه الكتب كلها مسرحيات عربية. ولكن حكمك هذا في حقيقة أمره إن هو إلا تلخيص لقائمة من الأحكام الجزئية التي ينصب كل حكم منها على كتاب واحد ، فنقول: هذا الكتاب مسرحية عربية، وهذا، وذلك إلى آخر المجموعة. فالقضية الحقيقية هنا، القضية التي يمكن التحقق من صدقها بالرجوع إلى واقعتها الخارجية، هي القضية الجزئية التي من هذا القبيل، أما تلخيص عدد من القضايا الجزئية في عبارة واحدة، فإن أفاد في اختصار الحديث وسرعة التفاهم إلا أنه لا يشير بذاته إلى شيء معين من أشياء العالم، وإذن فهو - كما هو في تعميمه - بغير معنى، ولا يكتسب معنى إلا إذا حولناه مرة أخرى إلى مفرداته.
لكننا نخطئ إذا نحن جمعنا المفردات في حزمة واحدة، ثم حكمنا على هذه الحزمة الواحدة بما لا يصلح الحكم به إلا على كل عضو على حدة من أعضاء المجموعة، كأن أجمع زيدا إلى عمرو إلى خالد، ثم أطلق على مجموعة الأعضاء اسما واحدا هو «إنسان»، ثم أقول عن هذا «الإنسان» إنه «مفكر» أو إنه «فان» مع أن التفكير أو الفناء صفة يوصف بها زيد وحده أو عمرو وحده أو خالد وحده. وليس «الإنسان» فردا واحدا بحيث يقال عنه إنه يفكر أو إنه يفنى. إن كلمة «الإنسان» رمز ناقص كما بينا لك فيما مضى من حديث (انظر الفقرة الثالثة من الفصل الرابع)؛ أي إنه رمز لا يرمز وحده إلى أحد؛ وبالتالي لا يجوز أن ينسب له ما ينسب للآحاد. كلمة «إنسان» دالة على فئة بأسرها من الأفراد، ولا يجوز معاملتها كما لو كانت اسما دالا على عضو من أعضاء نفسها، فما بالك بكلمة «الكون» التي نشير بها إلى أكبر مجموعة ممكنة من الأشياء المفردة، فلو جعلناها موضوعا نصفه بما نصف به أي فرد من أفراد هذه المجموعة، كأن نقول عنه إنه مادي مثلا، كنا بمثابة من يجعله عضوا من أعضاء نفسه، وفي ذلك من التناقض، بل في ذلك من فراغ القول من أي معنى، ما يجعل هذا القول عند المنطق قولا غير مشروع.
وذلك ما وضحه برتراند رسل وبينه بتحليله الذي أطلق عليه اسم «نظرية الأنماط المنطقية»؛
3
وقد بدأ تفكيره في هذا الموضوع حين أخذ يفكر في طائفة من المتناقضات التي كان يؤدي إليها المنطق الصوري، والتي لاحظ اليونان بعضها ولكنهم لم يأخذوها مأخذ الجد، ثم تبين أخيرا أنها تشمل الرياضة نفسها، ومن هنا استثارت اهتمام فلاسفة التحليل الحديث.
فكلنا يذكر هذه المفارقة التي هبطت إلينا من اليونان الأقدمين على سبيل المزاح المنطقي - إن صح لنا هذا التعبير - وهي مفارقة إبمنديز الإقريطي الذي قال عن قومه أهل إقريطش إنهم جميعا كذابون، فقيل إنه إذا كان هذا الرجل صادقا في حكمه الشامل على قومه جميعا - وهو أحدهم - كان هذا الحكم منصبا عليه كذلك؛ أي إنه كان هو الآخر كاذبا في كل ما يقول، ومن بينه هذه العبارة التي يقول فيها عن قومه إنهم كذابون؛ وإذن فالعبارة نفسها كاذبة؛ وبهذا يكون نقيضها صوابا، ونقيضها هو: هنالك على الأقل شخص واحد من أهل إقريطش ليس كاذبا.
كانت هذه المفارقة تقال على سبيل المزاح أكثر مما تقال على سبيل الجد الذي يحفز التفكير ليكشف عما فيها من مصادر الخطأ، ولم يتحفز لها المفكرون إلا حديثا، حين رأوا المفارقة نفسها قائمة في مجال التفكير الرياضي نفسه.
وابدأ بهذه المشكلة من مشكلات الرياضة؛ هل هناك عدد ممكن أن يقال عنه إنه أكبر عدد ممكن بين الأعداد الأصلية؟ إن مجموعات الأشياء في هذا العالم يتفاوت عددها؛ فالمصريون عددهم ثلاثة وعشرون مليونا، وسكان الصين أربعمائة مليون، وسكان العالم كله هو كذا مليونا. ولو عددت أفراد الحيوان كلها وجدتها كذا، ولو عددت أعواد النبات ألفيتها كيت ... هذه كلها أعداد تعد مجموعات، فهل إذا تصورنا أننا قد عددنا أشياء العالم كلها من كائنات جوامد إلى أفراد الأحياء نباتا كان أو حيوانا وإنسانا، أقول هل إذا تصورنا أنفسنا وقد عددنا هذه الأشياء جميعا، فهل نبلغ بذلك أكبر عدد ممكن من الأعداد التي نعد بها المجموعات المختلفة؟ إن الجواب السريع الذي يطوف بالبال هو بالإيجاب؛ إذ لا نتصور للوهلة الأولى أن هنالك مجموعة من أشياء هي أكبر عددا من مجموعة الأشياء كلها التي في الكون كله، ولكنك إذا أخذت تكون من هذه الأشياء نفسها صنوفا من التباديل، تبين لك أنك ستنتهي إلى مجموعات عددها أكبر من العدد الذي نعد به الأشياء كلها. ولبيان ذلك افرض أن في العالم كله ثلاثة أشياء فقط، وارمز لها بالرموز أ، ب، ج؛ فها هنا يكون العدد ثلاثة هو عدد أشياء العالم كلها، لكنك من هذه الأشياء الثلاثة تستطيع أن تكون فئات؛ فئة ليس فيها أفراد، وفئة قوامها أ وحدها، وأخرى قوامها ب وحدها، ورابعة قوامها ج وحدها، وخامسة قوامها أ ب، وسادسة قوامها أ ج، وسابعة قوامها ب ج، وثامنة قوامها أ ب ج معا؛ أي إن مجموع الفئات التي كونتها ثمانية، مع أن عدد الأشياء كلها ثلاثة، وتلك الثمانية تساوي 2
3 ، وستجد أنه مهما يكن عدد الأشياء كلها، ولنرمز له بالرمز ن، فسيكون عدد الفئات التي يمكنك تكوينها منها هو 2
ن ، ومن الممكن رياضيا أن نبرهن على أن 2
ن
هي دائما أكبر من ن، سواء كانت هذه عددا متناهيا أو غير متناه؛ ومن هنا تعلم أن عدد الأشياء كلها في الكون هو دائما أصغر من عدد الفئات أو المجموعات التي يمكن تأليفها من تلك الأشياء.
وفي قولنا إن عدد الأشياء كلها التي في الكون ليس هو بأكبر عدد نعد به الأشياء في الكون، مفارقة ظاهرة كالمفارقة التي رأيناها في قول إبمنديز الإقريطي حين قال عن قومه من أهل إقريطش إنهم جميعا كذابون، فانتهى بنا القول نفسه إلى أن بعضهم - على الأقل - صادق؛ فكذلك قولك عن الأشياء كلها في الكون إن عددها ن ينتهي بك إلى أنها إذن تكون أكثر من ن؛ إذ تكون 2
ن
كما بينا. وهي مفارقة لا تزول إلا إذا فرقنا بين الأشياء الجزئية من جهة والفئات التي تتألف الجزئية من جهة أخرى، بحيث لا نجعل هذه على قدم المساواة مع تلك، بل نجعلهما من تلك الأشياء من نمطين مختلفين.
يبدأ الخلط إذا ما عددت الأفراد الجزئية، ثم أضفت إليها في حزمة واحدة وعلى الأساس نفسه عدد الفئات التي تكونها من تلك الأفراد؛ فلو كان أمامك فردان يكونان مجموعة ما، يكونان - مثلا - زوجا من الدجاج أو زوجا من الأحذية، فإما أن تنظر إليها من زاوية الأفراد فيكون العدد اثنين، وإما أن تنظر إليها من زاوية المجموعة فيكون العدد واحدا، دون أن تجمع بين وجهتي النظر معا في عدد واحد فتقول إن هناك ثلاثة أشياء؛ هذا الفرد وهذا الفرد والزوج الذي يتكون منهما، وإلا كنت كفيلسوف صيني قديم قال عن بقرة وحصان إنهما ثلاثة أشياء؛ البقرة على حدة، والحصان على حدة، ومجموعة البقرة والحصان معا؛ أو كنت كأفلاطون حين يقول في محاورة بارمنيدس ما ملخصه أنه إذا كان هنالك العدد 1، إذن فالعدد 1 له وجود، ولكن العدد 1 وصفة الوجود ليسا متطابقين تطابقا ذاتيا يجعلهما شيئا واحدا بذاته، وإذن فهما اثنان؛ وإذن فهناك العدد 2، وإذا ضممنا العدد 2 إلى العدد 1 وإلى صفة الوجود كان لنا بذلك مجموعة عددها 3، وهكذا؛ كلا، إنه لا يجوز أن نحكم بالوجود على الأفراد الجزئية بنفس المعنى الذي نصرفه إلى الفئات، فإذا وصفنا الأفراد الجزئية بالوجود، كانت الفئات غير ذات وجود بنفس المعنى؛ فالمعنى الذي نقصد إليه إذا ما قلنا عن الفئات إنها «موجودة» غير المعنى الذي نقصد إليه إذا ما قلنا عن المفردات إنها «موجودة»، ولو كان المعنيان متطابقين في معنى واحد، لكان العالم الذي فيه ثلاثة أشياء، نكون منها ثماني فئات، عالما يحتوي على أحد عشر كائنا.
وننتقل بحديثنا الآن عن نقيضة الفئات التي ليست أعضاء في نفسها؛ فكما أسلفنا لك القول، لا تكون مجموعة الأفراد فردا من هؤلاء الأفراد، فمجموعة المقاعد ليست مقعدا، ومجموعة أفراد الناس ليست فردا من الناس، وهكذا، وباختصار ليست المجموعات أو الفئات التي نصنف بها الأشياء، هي نفسها أشياء، وهذا بالطبع يصدق أيضا على مجموعة الأشياء كلها التي في الكون، لا تكون شيئا من أشياء الكون نتحدث عنه كما نتحدث عن أي واحد منها، لكن ماذا تقول في مجموعة كبرى نضم فيها - لا أفراد فئة واحدة - بل نضم فيها سائر المجموعات التي في العالم من أشجار وأنهار وجبال وكتب وناس ... إلخ؛ فها هنا نري أنفسنا إزاء فئة من فئات؛ أي إزاء مجموعة تضم مجموعات، فالأعضاء نفسها مجموعات كالمجموعة نفسها التي تضمها، فهل نقول عندئذ إن الفئة الكبرى التي أعضاؤها فئات صغري، تكون - كأعضائها - فئة كأي فئة أخرى وإن اختلفت عنها حجما؟ لو كان هذا هكذا، كنا إزاء حالة أمكن فيها لفئة ما أن تكون عضوا من أعضاء نفسها كما قد يبدو للنظرة الأولى.
نعيد هذا الذي قلناه في عبارة أخرى زيادة في توضيحه؛ فقد قلنا إن فئات الأشياء المفردة كما نألفها في حياتنا اليومية لا تكون - بالبداهة - أعضاء بين أعضاء نفسها؛ أي إننا - مثلا - لو حزمنا الأقلام كلها في مجموعة واحدة، لما كانت هذه المجموعة قلما من الأقلام؛ وبهذا لا يجوز لنا أن نصفها بما نصف به كل قلم على حدة. ولما كانت الكلمات الكلية مثل «إنسان» و«شجرة» و«قلم» إن هي إلا أسماء تدل على مجموعات من أفراد، بحيث لا تكون أية مجموعة منها فردا من أفرادها، كان من غير الجائز أن نتحدث عن اسم المجموعة على نفس الأساس الذي نتحدث به عن كل فرد من الأفراد على حدة. وسؤالنا الآن هو هذا: أيستحيل إطلاقا على أية مجموعة كائنة ما كانت أن تكون عضوا في نفسها؟ ومصدر سؤالنا هذا هو ما قد يطوف بعقولنا من ظن بأننا نكون إزاء حالة كهذه لو أننا جمعنا لا أفرادا بل فئات في فئة كبرى تضمها بحيث تكون تلك الفئات الصغرى أعضاء في الفئة الكبرى؛ فهنا قد نظن أن الفئة الكبرى فئة كما أن كل فئة من أعضائها هي فئة كذلك؛ وإذن فالفئة الكبرى يكون شأنها شأن فئاتها الصغرى في كونها مجموعة كأي فئة من أعضائها؛ أي إن الفئة الكبرى في هذه الحالة تكون عضوا من أعضاء نفسها ، يجوز أن نتحدث عنها بمثل ما نتحدث به عن أي عضو من أعضائها. ولو صح ذلك لكان للأمر نتيجته الهامة في الفلسفة، وهي أن يستطيع الفيلسوف التحدث عن الكون كله دفعة واحدة باعتباره مجموعة كبري، ما دام في مستطاعه أن يتحدث عن أية فئة أخرى من فئات الأشياء. ونكرر السؤال بالصورة التي يستخدمها برتراند رسل حين يتحدث عن هذا الموضوع، فنقول: إذا جمعنا الفئات التي لا تصلح الواحدة منها أن تكون عضوا في نفسها، إذا جمعناها في فئة واحدة، بحيث أصبحت هذه فئة للفئات التي ليست أعضاء في نفسها، فهل تكون هذه الفئة عضوا في نفسها أو لا تكون؟
هنا نضع إصبعنا على النقيضة المشهورة التي لاحظها رسل لأول مرة، وأرسل إلى فريجه يخبره بها، وكان فريجه قد فرغ من طبع كتابه في أصول الحساب، فألفى نفسه إزاء نقيضة عسير حلها، فأضاف حاشية لكتابه يقول فيها: «وا أسفاه! إن علم الحساب يترنح على أساس منهار.» وذلك لأنك إزاء السؤال السالف الذكر، لو قلت إن فئة الفئات التي لا تصلح كل واحدة منها أن تكون عضوا في نفسها، لو قلت إن فئة الفئات هذه هي نفسها تكون عضوا في نفسها، لترتب على ذلك أنها لا تكون، ولو قلت إنها لا تكون عضوا في نفسها، لترتب على ذلك أنها تكون.
ولشرح ذلك نقول: تصور أننا حزمنا الأقلام كلها في مجموعة واحدة، فهذه تكون فئة ليست عضوا في نفسها؛ أي إنها ليست قلما أضيف إلى سائر الأقلام؛ وتصور كذلك أننا حزمنا الملاعق كلها في مجموعة واحدة، فهذه أيضا لا تكون عضوا في نفسها؛ أي إنها لا تكون ملعقة تضاف إلى بقية الملاعق، وهكذا؛ ثم اجمع هذه المجموعات التي لا تكون كل منها عضوا في نفسها، اجمعها في مجموعة كبري واحدة؛ فلو قلت عن هذه المجموعة إنها شبيهة بأعضائها في أنها ليست عضوا في نفسها، كنت في الوقت نفسه بمثابة من يقول إنها إذن - ما دامت شبيهة بأعضائها - لا تكون عضوا في نفسها (كتلك الأعضاء الداخلة فيها)، ولو قلت عن هذه المجموعة الكبرى إنها ليست شبيهة بأعضائها، أي إنها - على خلاف تلك الأعضاء - تكون عضوا في نفسها، لزم أن تكون كأي عضو من أعضائها، والعضو من أعضائها - كما رأيت - فئة لا تكون عضوا في نفسها. وهكذا تري نفسك إزاء التناقض الذي أشرنا إليه، والذي نلخصه في قولنا: إن الفئة الكبرى التي تضم فئات، إذا كانت عضوا في نفسها لم تكن عضوا في نفسها، وإذا لم تكن عضوا في نفسها كانت عضوا في نفسها.
فما مصدر هذا التناقض؟ مصدره نظرتنا - خطأ - إلى الفئات على نفس الأساس الذي ننظر عليه إلى الأفراد الجزئية، وفي هذا كل الخطأ؛ لأنه بينما الاسم المشير إلى فرد جزئي إنما يشير إلى شيء له وجود فعلي، يكون الاسم الدال على فئة غير مشير إلى شيء ذي وجود فعلي. بعبارة أخرى، بينما الاسم الجزئي رمز كامل يكون الاسم الكلي رمزا ناقصا؛ أي إن كل عبارة ورد فيها اسم كلي يمكن ترجمتها إلى عبارة أخرى تساويها معنى، وتتخلص من ذلك الاسم الكلي برمز آخر يشير إلى مجموعة أفراده. ولما كان لفظ «الكون» لفظا يراد به مجموعة من نمط أعلى، بحيث تأتي تحتها مجموعات من نمط أدنى، ثم تأتي تحت هذه المجموعات أفراد جزئية، كان من غير الجائز أن نتحدث عن المجموعة الكبرى بما نتحدث به عن مجموعاتها الصغرى، كما أنه لا يجوز أن نتحدث عن أية مجموعة صغرى بما نتحدث به عن أفرادها.
القاعدة العامة - إذن - هي أنه إذا كانت هنالك فئة مهما يكن نوع مفرداتها، ثم أطلقت على هذه الفئة اسما، فلا يجوز أن تتحدث عن هذا الاسم بما تتحدث به عن مفرداتها؛ وعلى هذا الأساس تزول مفارقة إبمنديز الإقريطي الذي قال عن قومه جميعا إنهم كذابون، فهل نطبق عليه هو نفسه هذا الحكم فيكون كاذبا كسائر أفراد قومه؛ وبذلك يكون قوله ذاك كاذبا؛ وبالتالي يكون بعض أهل إقريطش صادقين؟ أقول إن هذه المفارقة إنما نشأت لأننا نظرنا إلى عنوان القائمة نظرتنا إلى مفرداتها؛ فلو كنا قد جمعنا أقوال أهل إقريطش كلها في قائمة واحدة، ثم قلنا عنها جميعا إنها أقوال كاذبة، لما كان هذا القول الأخير واحدا من تلك الأقوال الكاذبة؛ لأنه من نمط أعلى من نمطها، وما نتحدث به عن نمط أدنى لا يجوز أن نتحدث به هو نفسه عن نمط أعلى؛ فقول إبمنديز الإقريطي قول عام لا يكون عضوا من أعضاء نفسه؛ أي إنه لا يكون هو نفسه أحد الأقوال التي ينطبق عليها حكمه ذاك.
وقل هذا عن مجموعات القضايا؛ فافرض جدلا أنك ستعد قائمة طويلة قوامها قضايا جزئية كل منها تتحدث عن واقعة من وقائع العالم، ثم افرض أنك حكمت على هذه القائمة من القضايا الجزئية حكما ما، كأن تقول مثلا: «إنها جميعا إما أن تكون صادقة في تصويرها للواقع أو كاذبة.» فلا يجوز أن تعود فتقول عن هذه العبارة العامة نفسها إنها كذلك - كالقضايا المشمولة بحكمها - إما صادقة في تصوير الواقع أو كاذبة، ولو فعلت وقعت في نفس الخطأ الذي أشرنا إليه، وهو حكمك على الفئة في مجموعها بما تحكم به على أفرادها، مع أن الفئة لا تكون عضوا في نفسها.
إن وقائع العالم تتركب على درجات تتفاوت تعقدا كلما ارتفعنا معها صعودا؛ فهنالك في الدرجة السفلى جزئيات هي البسائط التي يتركب منها العالم - كائنة ما كانت - وافرض أنها أ، ب، ج؛ ومن هذه البسائط تتركب وقائع بأن يشترك عنصران أو أكثر بعلاقة ما، وتكون هذه الوقائع بسيطة لأنها تنحل إلى بسائط، كأن تكون «أ على يمين ب»، ثم من هذه الوقائع البسيطة تتركب وقائع مركبة، والواقعة المركبة قوامها واقعتان بسيطتان أو أكثر، كأن تكون مثلا «أ» على يمين «ب»، و«ب» على يمين «ج»، وكلها في خط مستقيم واحد، فتكون «أ» على يمين «ج». هكذا تزداد الوقائع في درجة تركيبها، ويقابل ذلك في لغتنا التي نصور بها العالم درجات متفاوتة كذلك؛ فهنالك في الدرجة الدنيا أسماء نسمي بها البسائط الجزئية في عالم الواقع، ثم هنالك قضايا بسيطة نصور بها الوقائع البسيطة، وقضايا مركبة نصور بها الوقائع المركبة وهكذا. ونريد الآن أن نقول إن القول الذي يصلح لدرجة من هذه الدرجات لا يصلح لدرجة أعلى منها، فما تقوله عن أفراد جزئية لا يصح أن تقوله عن قضايا بسيطة، وما تقوله عن قضايا بسيطة لا يصح أن تقوله عن قضايا مركبة، والعكس صحيح أيضا.
فإن جاز لنا أن نصف القضية البسيطة بأنها صادقة أو كاذبة حسب تصويرها أو عدم تصويرها للواقعة التي جاءت تصورها، فلا يصح أن نقول هذا القول نفسه على الأسماء الداخلة في تكوين القضايا، فلا يجوز أن نقول عن اسم ك «العقاد» مثلا إنه صادق أو كاذب؛ فذلك يكون عندئذ كلاما بغير معنى.
وكذلك الحال في أي مجموعة نكونها من درجات تتفاوت علوا؛ فما يصلح من القول في درجة دنيا لا يصلح هو نفسه للدرجة التي هي أعلى منها في سلم التفاوت؛ فتستطيع أن تتصور تجميعنا لفئات الأشياء التي في العالم يتم على نحو يجعل فئة أعم من فئة، فاجمع أفراد الناس في فئة «إنسان»، وأفراد الجياد في فئة «حصان»، ثم اجمع هذه الفئات نفسها في فئة أعلى هي فئة «حيوان»، وهكذا دواليك صعدا؛ تصبح هذه الدرجات المتفاوتة في درجة التعميم «أنماطا»، وما يصلح من القول لنمط أدنى لا يصلح لنمط أعلى؛ أعني أن ما يصلح في مجال القول للأفراد الجزئية لا يصلح هو نفسه لنمط الفئات التي تتكون من تلك الأفراد مباشرة، ثم ما يصلح في مجال القول لهذه الفئات التي من النمط الأول لا يصلح لفئات أعلى منها وأعم، والتي نقول عنها إنها فئات من النمط الثاني، وهكذا.
افرض أن في العالم ثلاثة أشياء، هي أ، ب، ج؛ فمن هذه الأشياء الثلاثة يمكن تكوين ثماني فئات من أفراد؛ أي 2
3
كما أسلفنا، ومن هذه الفئات الثمانية يمكن تكوين 2
8
فئات من فئات الأفراد (256)، ومن هذه المجموعة من فئات الفئات يمكن تكون 2
256
من فئات لفئات فئات الأفراد، وهكذا إلى غير نهاية؛ فإذا سألنا أنفسنا السؤال الذي سبق لنا إلقاؤه وهو: هل هنالك عدد هو أقصى عدد يمكن أن نعد به ما في الكون؟ كان الجواب هو أن ذلك ممكن لو حصرنا أنفسنا في كل درجة من تلك الدرجات على حدة، فيمكن - منطقيا - أن أتصور عددا أقصى لما هنالك من أفراد جزئية، وعددا أقصى لما هنالك من فئات تتألف من تلك الأفراد، وعددا أقصى لما هنالك من فئات تتألف من فئات الأفراد، وهكذا، لكنه مستحيل إذا أردنا عددا أقصى يعد كل ضروب الأفراد والفئات على اختلاف درجاتها؛ لأن هذه الدرجات تعلو إلى غير نهاية. ولما كان «الكون» في مجموعه الكلي المطلق هو هذه الدرجات اللانهائية كلها، كان حصر القضايا التي تحكم على عناصره كلها محالا؛ وبالتالي كان محالا أن نلخص الحكم عليه في قضية عامة واحدة، أو في مبدأ أول واحد.
4
ها نحن أولاء قد رأينا أن كل حديث عن الكون هو حديث فارغ لا يعني شيئا، وسننتقل الآن بحديثنا خطوة أخرى لنقول إن كل قول يقوله قائل عن شيء ما، لا يعني به ظواهر ذلك الشيء، هو أيضا قول فارغ لا يعني شيئا.
فمنذ القدم القديم وإلى يومنا هذا والناس تخدعهم لغاتهم التي خلقوها لأنفسهم بأنفسهم، بحيث إذا رأوا في التركيب اللغوي مبتدأ وخبرا ظنوا أن المبتدأ شيء غير الخبر المقول عنه، كأنما الانفصال المحتوم في أجزاء الجملة يقابله بالضرورة انفصال محتوم أيضا في أشياء العالم كما تقع؛ فإذا قلت هذه البرتقالة صفراء أو هذه البرتقالة مستديرة، سبق إلى وهمي أن البرتقالة شيء غير لونها الأصفر وغير استدارتها. أو بعبارة عامة، فإنني أتوهم أن وراء هذه الصفات كلها «برتقالة» هي التي توصف بتلك الصفات، أو هي التي تحمل تلك الصفات، حتى لقد أطلقوا في الاصطلاح المنطقي اسم «المحمول» على أمثال هذه الصفات التي نفرض فيها أنها محمولة على شيء ما، ثم يمضي بي الوهم إلى افتراض وجود هذا «الجوهر» الخفي الذي يحمل على ظهره مجموعة الصفات، حتى ليخيل إلي أنني إذا ما جردت هذه الصفات عن حاملها واحدة بعد واحدة، بقي الحامل خالصا من صفاته أو جوهرا صافيا. قل هذا في كل شيء؛ قله في الفرد من الإنسان إذ تراه يحمل مجموعة صفاته الظاهرة، لكنك تضيف من عندك حاملا خفيا هو الذي يحمل تلك الصفات، وقد تفنى الصفات وتزول ويبقى الحامل أو الجوهر، وهو ما نسميه في هذه الحالة «روحا» أو «نفسا». وقد ترى هذا الفرد من الإنسان «يفكر» في مسائل عدة؛ يفكر تارة في علم، وتارة في قضاء شئونه العملية؛ فتقول لنفسك - جريا على سنتك - ما الذي يفكر هذه الأفكار كلها؟ هل يبقى شيء هناك إذا ما جردنا هذا الإنسان عن مواقفه الجزئية التي يفكر فيها هذه الفكرة أو تلك؟ إن جوابك سيكون: إن عقلا خالصا سيبقى، وسيكون هو «الجوهر» الذي ما كانت تلك الأفكار الجزئية إلا حالاته الظاهرة.
ويقول القائلون بهذا «الجوهر» يفترضونه في كل شيء كامنا وراء الظواهر، والكثرة الغالبة من الفلاسفة هم من القائلين به، يقول هؤلاء إنه بغير افتراض هذا «الجوهر» الذي تجيء شتى الصفات فتصفه، وتجيء شتى العلاقات فتصله بغيره، إنه بغير افتراض هذا «الجوهر» مجردا عن صفاته وعلاقاته، فلا يمكن تصور طريقة أخرى يتوحد بها الشيء الواحد؛ فما الذي جعل هذه البرتقالة «واحدة» رغم كثرة صفاتها وكثرة علاقاتها بغيرها من الأشياء؟ وما الذي جعل هذا الفرد من الإنسان «واحدا» رغم كثرة حالاته المتآنية والمتعاقبة؟ والسؤال نفسه تسأله عن «الكون» كله، ما الذي يجعله كونا «واحدا» رغم كثرة ما فيه من أشياء وما لها من صفات وما بينها من علاقات؟ هل يمكن أن يتوحد كل واحد من هذه الآحاد إلا إذا فرضنا فيه مشجبا خفيا تتعلق به هذه الصفات الكثيرة فتصير على كثرتها شيئا واحدا؟ ولكن ماذا عسى أن يكون هذا «الجوهر» الذي نفترضه في الشيء لنفسر وحدته؟
لعل أقرب إجابة إلى القبول هي تلك التي أجاب بها رواد الفلسفة الحديثة ديكارت ولك وغيرهما، وهي الإجابة التي تجعل «جوهر» الشيء طائفة من صفاته، هي التي أطلقوا عليها اسم «الصفات الأولية »؛ فعلى هذه الصفات الأولية تنبني صفات الشيء الأخرى، التي أسموها ب «الصفات الثانوية»؛ فاستدارة الشيء المستدير صفة أولية فيه، وكل جانب من جوانب الشيء يمكن قياسه قياسا كميا رياضيا هو كذلك من صفاته الأولية، لكن هذه الصفات الأولية إذا ما تأثرت بها الحواس، تولدت عنها صفات أخرى كاللون والطعم، هي صفات الشيء الثانوية؛ فلئن كان للشيء جانب موضوعي يمكن أن يكون هو مدار التفكير العلمي الثابت الذي لا يختلف عند شخص عنه عند شخص آخر فذلك هو صفاته الأولية كشكله وحجمه، وهو هو نفسه ما يجوز لنا أن نسميه «جوهر» الشيء. وأما الصفات التي يتم تكوينها داخل الذات المدركة بناء على تلك الصفات الأولية، فهي من الشيء جانبه الذي لا يصلح أن يكون موضوعا لتفكير علمي، وهو هو الذي نسميه «أعراضا» تطرأ على «الجوهر».
كان نيوتن وجاليليو من علماء النهضة الأوروبية يأخذان بهذا التمييز بين الجانب الرياضي والجانب الذاتي من كل شيء على حدة، ومن العالم بصفة عامة، ليحصرا البحث العلمي في الجانب الرياضي وحده من الأشياء؛ أي في جانب صفاتها الأولية دون صفاتها الثانوية، لكن هذه التفرقة بين طائفة وأخرى من صفات الشيء الواحد، لنجعل إحداها «جوهرا» والأخرى «عرضا»، لا تزيل المشكلة كما توهمنا بها اللغة وتراكيبها النحوية؛ لأننا نتحدث عن شيء ما بصفاته الأولية وبصفاته الثانوية على السواء، كأنما الشيء الذي نتحدث عنه هو جانب مستقل عن كلتا الطائفتين من الصفات؛ فلا فرق بين قولي «هذه البرتقالة مستديرة» وقولي «هذه البرتقالة صفراء»، فكلا القولين يفرض موصوفا في ناحية وصفة في ناحية أخرى، سواء كانت تلك الصفة أولية كالاستدارة، أو ثانوية كاللون الأصفر؛ وإذن فلا يزال السؤال قائما: ما هو هذا الشيء الذي نصفه بهذه الصفة أو بتلك؟
هذا إلى أن تفرقتنا بين الصفات الأولية من ناحية والصفات الثانوية من ناحية أخرى، لنجعل من الأولى جوهرا تطرأ عليه الثانية أعراضا، أقول إن تفرقتنا هذه لو أقمناها على أساس أن الصفات الثانوية معتمدة على إدراكنا الحسي، فلا لون بغير عين ولا صوت بغير أذن ولا طعم بغير لسان، فكذلك نجد الصفات الأولية محالا عزلها عن الحواس؛ لأنني لا أعرف عن الشيء استدارته إلا بالنظر واللمس. أضف إلى ذلك أنه إذا كانت الصفات الثانوية لا تنشأ أبدا إلا مرتكزة على صفات أولية، فكذلك الصفات الأولية لا تكون أبدا من غير صفات ثانوية، فنحن لا نرى في خبراتنا استدارة مجردة، بل نرى الاستدارة في أشياء مستديرة؛ أي نراها في شيء يشغل حيزا من مكان؛ وبالتالي يكون ذا لون يمكننا من رؤيته.
فلا عجب إزاء هذا كله أن نرى بين الفلاسفة أنفسهم الذين قالوا بقسمة الصفات طائفتين، أولية وثانوية، فيلسوفا مثل «لك» يلجأ إلى تفسير «الجوهر» الذي يمسك بظواهر الشيء وصفاته بحيث يجعله شيئا واحدا، يلجأ إلى تفسير هذا الجوهر بنواة مجهولة يفترض وجودها، لتكون «مصطبة»
4
ترتكز عليها الصفات. وهذه النواة المجهولة هي التي تجعل معنى لعباراتنا التي نقولها عن شيء ما؛ لأننا عندئذ إذا قلنا هذه البرتقالة مستديرة أو هذه البرتقالة صفراء، كانت الاستدارة وكان اللون الأصفر على حد سواء صفتين طرأتا على «جوهر» هو نواة خافية لا بد من افتراضها عقلا لنفهم معنى الكلام الذي نقوله.
ولكننا بهذا الرأي ننساق إلى موقف من يقولون إننا نجهل حقائق الأشياء؛ فنحن - عند هؤلاء - لا نعرف عن الشيء - جمادا كان أو حيا وعاقلا - لا نعرف عنه إلا صفاته، أما جوهره الذي تتعلق به صفاته فلا سبيل أمامنا إلى العلم به.
ولسنا في الحقيقة ندري ماذا يصنع الإنسان بهذا «الجوهر» الذي يزعمه له الفلاسفة؟ هل يزيدنا علما بهذه الزهرة أو بهذا القلم أن نعلم أن له وراء ظواهره البادية جوهرا؟ أليس قولنا إن صفات القلم التي هي أ، ب، ج، د، ترتبط معا في شيء واحد بفضل «جوهر» يوحد بينها، مساويا لقولنا إن هذه الصفات موحدة على نحو لا ندري من أمره شيئا؟ إن جهلنا واحد في كلتا الحالتين، ولا يزيل منه شيئا أن نعلم أن توحيد الصفات في الشيء الواحد يتم بفضل «جوهر» خفي مجهول. ولو كان الجوهر أصلا وصفاته فروعا طرأت عليه وكان يمكن لها ألا تطرأ لأنها ليست جزءا من طبيعته، لأمكن لنا أن نتصور كيف يكون «الجوهر» بغير صفاته؛ فحاول إن استطعت أن تزيل عن البرتقالة شكلها ولونها وطعمها وسائر صفاتها البادية للحواس، وقل لي بعد ذلك ماذا يبقى منها بين يديك؟ لا شيء، وهذا العدم هو الجوهر المزعوم.
إذن فبماذا نجيب السائل إذا سأل: ماذا يوحد ظواهر الشيء المختلفة بحيث يجعل منها شيئا واحدا؟ نجيبه بقولنا إنه لا وحدة هناك حتي نكد في السعي بحثا عنها، إنه لا وحدة هناك في شيء، وإن هو إلا وهمنا الذي يخيل إلينا أن ظواهر الشيء الواحد مرتبطة بعضها ببعض، ومصدر هذا الوهم - كما يقول هيوم - هو اعتيادنا الربط بين شكل ولون وطعم ... إلخ في لحظة إدراكية واحدة، بحيث يسهل على خيالنا بعد ذلك أن ينزلق من صفة إلى أخرى انزلاقا يجعلها تبدو جميعا وكأنما هي وحدة متماسكة.
يقول هيوم في ذلك إن الذاتية التي نخلعها على الشيء هي من خلق خيالنا وليست هي بذات وجود واقعي في الشيء نفسه؛ فحيث يسهل انتقال العقل من إحدى حالات الشيء إلى حالة أخرى، نزعم أن بين الحالتين ذاتية توحد بينهما، وأما حيث يتعذر على العقل مثل هذا الانتقال السهل فها هنا ترانا نتشكك في أن تكون بين الحالات المختلفة ذاتية توحد بينها؛ فانظر مثلا إلى كتلة من الصخر، ثم افرض أن زيادة طفيفة أضيفت إليها بحيث يتعذر عليك إدراك الفرق بين الحالتين، قبل الزيادة وبعدها، فعندئذ يسهل على العقل أن ينتقل من حالة الصخر الأولى إلى حالته الثانية؛ ولذلك نحكم بأن الصخرة التي نحن بصددها «واحدة» وذات وجود متصل، أما إذا أضيفت إلى الصخرة إضافة كبيرة ملحوظة، أو قطعت منها قطعة كبيرة ملحوظة، بحيث لا يسهل الانتقال بين الحالتين انتقالا فيه انزلاق لا تعثر فيه، لما بين الحالتين من اختلاف ظاهر؛ فعندئذ نقول عن الصخرة إنها لم تعد هي هي، وإنها فقدت ذاتيتها واستمرار وجودها.
والأمر في الجزء المضاف أو الجزء المحذوف، هل هو كبير ملحوظ، أم هو صغير غير ملحوظ، أمر نسبة؛ فقد تضيف جبلا بأسره إلى كوكب، ومع ذلك تقول إن الكوكب لم تتغير ذاتيته ولم ينقطع وجوده المستمر على حالة واحدة، بينما قد تضيف جزءا صغيرا أو تحذف جزءا صغيرا من جرم صغير فيظهر التغير ظهورا واضحا يحملنا على القول بأن ذلك الجرم لم يعد هو هو، بل أصبح شيئا آخر؛ فالأمر كله موكول إلى سهولة انتقال الفكر بين الحالة قبل حدوث التغير والحالة بعده؛ فإن كان انتقالا سهلا حكمنا بأن الشيء ما زال محتفظا بذاتيته، وإن كان متعذرا متعثرا حكمنا بزوال ذاتيته.
يؤيد هذا أن التغير الطارئ حتى إن كان تغيرا جسيما في النهاية، لكنه حدث تدريجا وفي بطء، فلم نتمكن معه أن نلحظ التغير إلا بعد أن تبعد الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، فإننا خلال تغير كهذا نظل نحكم بأن الشيء محتفظ بذاتيته وذو وجود متصل؛ ذلك لأن انتقال الفكر من حالة إلى الحالة التي تليها سهل بحيث لا نتنبه عند كل مرحلة أنها مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها؛ هكذا نظل خلال التغيرات المتدرجة، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، استيقظنا إلى ما قد حدث من اختلاف، وأخذنا في الارتياب والتشكك بأننا في الحقيقة قد أصبحنا إزاء شيء آخر مختلف عن الشيء الأول، وأنه لم تعد بين الشيئين ذاتية تمسكهما معا في كائن واحد.
وكذلك مما يميل بخيالنا إلى توهم الذاتية في أجزاء الشيء الكثيرة، أن يكون لهذه الكثرة من الأجزاء هدف واحد؛ فافرض مثلا أننا قد غيرنا بعض الأجزاء في سفينة، فإننا سنظل نقول عن السفينة إنها هي هي لم تتغير؛ لأن أجزاءها - قديمها وجديدها - ما زالت مجتمعة على هدف واحد؛ ومن ثم يسهل على الفكر أن ينتقل من حالة السفينة قبل إصلاحها إلى حالة السفينة بعد إصلاحها، فيحكم عليها بالتالي أن لها ذاتية واحدة لم تتغير.
ولئن كان الشيء الجامد - كالسفينة في المثل السابق - ترتبط أجزاؤه في ذاتية واحدة بسبب اشتراك تلك الأجزاء في هدف واحد، فإن الكائن الحي - نباتا كان أو حيوانا - ليضيف إلى هذا الاشتراك في الهدف عنصرا آخر ، وهو أن الأجزاء معتمد بعضها على بعض؛ وبهذا يزداد خيالنا إمعانا في توهمه بأن أجزاء النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد مصبوبة كلها في ذاتية توحد بينها في كائن واحد، حتى إن النبتة الواحدة أو الحيوان الواحد قد يصيبه من التغير على مر الزمن ما يجعله جد مختلف عما كان عليه في كثير من الوجوه، ومع ذلك يظل الإنسان يحكم عليه بأنه ما زال هو هو لم يتقطع مجرى وجوده، ولم تزل عنه فرديته وذاتيته؛ فشجرة البلوط التي تنمو من نبتة صغيرة حتى تصبح شجرة سامقة، نقول عنها إنها ما زالت - رغم هذا الاختلاف البعيد بين الطرفين - هي هي شجرة البلوط الواحدة، مع أنه لم يعد من وجودها الأول ذرة واحدة على حالها، ولا احتفظت بشيء من هيئتها الأولى. وقل ذلك بعينه في الرضيع يصبح رجلا، وفي الرجل تزيد بدانته أو يصيبه الهزال، فسنظل نقول عنه إنه هو هو بعينه ذلك الذي كان؛ إذ نزعم له ذاتية واحدة دائمة متصلة.
5
مبدؤنا - إذن - هو أن الذاتية التي نخلعها على أي شيء لنجعل منه كائنا واحدا، على الرغم من أنه في حقيقته مجموعة كبيرة من حالات مختلفة، إنما تنشأ حينما يكون انزلاق الخيال خلال هذه الحالات سهلا يسيرا، فتوهمنا سهولة الانتقال من حالة إلى الحالة التي بعدها فالتي بعدها وهكذا، بأن هذه الحالات في حقيقتها كائن واحد ذو ذاتية واحدة، ولا نستيقظ إلى حقيقته المتكثرة إلا حين يعسر هذا الانتقال.
ولا يشذ الإنسان نفسه عن هذا المبدأ؛ فالفرد الواحد من الناس - أنا وأنت - لا وحدانية فيه إلا ما يخلقه الوهم، وأما حقيقته فهي سلسلة من حالات متعاقبة منذ يولد حتى يموت؛ فهو في الحقيقة سيرة من حوادث، لا ذاتية واحدة متصلة الوجود على مر أيام عمره - دع عنك أن يتصل وجودها بعد أيام عمره - ولما كان انتقال الرائي من حالة إلى الحالة التي تليها فيمن يتعقب حالاته من أفراد البشر انتقالا سهلا، لأن الاختلاف بين الحالتين يكون جد ضئيل في معظم الأحيان، هان على ذلك الرائي أن يفرض في صاحب تلك الحالات وحدانية الذات، بحيث يجعله اليوم هو نفسه ما كان بالأمس. وهكذا أيضا يقول الإنسان عن نفسه إنه فرد واحد متصل الوجود على الرغم مما يطرأ عليه من تغير؛ ولذلك ترانا نختلق من عندنا كائنا خفيا نتوهم وجوده داخل الإنسان، ونسميه نفسا، لننسب إليها في وحدتها ودوام وجودها وحدة صاحبها ودوام وجوده.
ولكن هل تدرك «نفسا» في باطنك إذا ما راقبت حالاتك الشعورية وهي تتعاقب واحدة بعد أخرى، أم إن كل ما تدركه هي تلك الحالات ولا شيء سواها؟ يقول هيوم في هذا الصدد قوله المشهور: «أما عن نفسي، فإنني إذا ما توغلت في هذا الذي أسميه «نفسي» توغلا أحاول به أن أكون على صلة مباشرة بها، فلا أراني دائما إلا عاثرا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، كأن أقع على إدراك لحرارة أو لبرودة، أو نور أو ظل، أو حب أو كراهية، أو ألم أو لذة، ولم أستطع قط أن أمسك ب «نفسي» في أية لحظة من اللحظات دون أن يكون هنالك حالة إدراكية معينة، ثم لم أستطع أبدا أن ألحظ من نفسي إلا تلك الحالة الإدراكية وحدها، فإذا ما زالت إدراكاتي لفترة معينة، كما يحدث مثلا في حالة النوم العميق، فإني لا أكون عندئذ على وعي ب «نفسي» حتى ليمكن حقا أن يقال عني إني لست موجودا.»
6
ذلك ما قاله هيوم - وما نقوله نحن أنصار التجريبية العلمية اليوم - فليس في الشيء مهما يكن إلا مجموعة ظواهره، وليس بنا حاجة أن نبحث في الغيب عن مبدأ يوحد تلك الظواهر في «شيء»؛ لأنه ليس في شيء كائنا ما كان وحدة إلا ما يوهمنا بها خيالنا؛ فلما قرأ ذلك «كانت» أيقظه من سباته وراح يفكر في الأمر؛ إذ لم يتصور كيف يمكن لصفات ندركها فرادي متفرقات ، فلون هنا وطعم هناك، أن ترتبط على نحو آلي في أذهاننا بحيث تتكون وحدة للشيء المتصف بتلك الصفات؟ كلا - هكذا كان موقف «كانت» - إن وحدة الشيء الواحد حقيقة غير منكورة، وبقي علينا بيان مصدرها؛ ومصدرها عنده هو فاعلية العقل في انتباهه إلى الشيء ذي الصفات الكثيرة؛ فعندئذ تبدو هذه الصفات الكثيرة للعقل محمولة على موضوع واحد لأننا «نحن» الذين نوجه انتباهنا إليها معا في فعل إدراكي واحد، أو إن شئت فقل في عملية انتباهية واحدة؛ وإذن فوحدة الشيء الذي نراه واحدا - وهي وحدة لا يتردد فيها إدراكنا الفطري - مصدرها العقل المدرك نفسه، وليست هي في الشيء الموحد ذاته؛ فهذا الشيء يعطينا كثرة من صفات متفرقة، ثم ننتبه نحن إلى مجموعة منها انتباها واحدا، فنوحدها بفاعلية انتباهنا ذاك توحيدا يضمها بعضها إلى بعض وكأنما هي متجمعة كلها حول محور واحد يكون موضوعا لها وتكون محمولات له؛ وبذلك الضم الذي يجمع الأشتات حول محاور تثبتها وتوحد بينها، نخلق بأنفسنا - في رأي «كانت» - عالما منظما من إحساسات تأتينا من الخارج خليطا وفوضى.
ومما يهمنا أن نلاحظه هنا أن «كانت» يتفق مع «هيوم» في نقطة رئيسية، وهي أن ما يأتي من الخارج حالات متفرقات، وسواء بعد ذلك ارتبطت هذه المتفرقات في داخلنا بفعل انتباهي واحد كما يقول «كانت»، أو ارتبطت على أساس الترابط الآلي في مختلف صوره التي ذكرها «هيوم»، فربطها في شيء «واحد» هو أمر يتم داخل الإنسان ولا يكون قائما في العالم الخارجي على كل حال؛
7
فليس يهمنا نحن في هذا السياق أن نسأل «كيف» يقوم الإنسان بتوحيد ما هو في حقيقته أشتات مفرقة، إنما الذي يهمنا أن نعلم أن الشيء الخارجي - والعالم بصفة عامة - هو هو ظواهره في تعددها وتكثرها وتحولها وتغيرها، والبحث عما يكون وراء ذلك من وحدانية وثبات ودوام هو بحث في غير موضوع.
إننا نذكر القارئ بمذهبنا في مهمة الفلسفة، وهو مذهب يجعل الفلسفة تحليلا منطقيا لقضايا العلوم، ولا يلقي على الفيلسوف تبعة الحديث عن العالم وأشيائه؛ فإن كنا نزعم هنا أن الشيء أو أن العالم إن هو إلا مجموعة ظواهره ولا شيء وراء ذاك، فلسنا نريد بهذا أكثر من القول بأننا في أية عبارة لغوية ذات معنى، نستطيع أن نستبدل بالأسماء الواردة فيها رموزا أخرى تشير إلى خبرات حسية؛ فإن صادفتنا عبارة تنطوي على كلمة أو كلمات مستحيل ترجمتها إلى مثل هذه الرموز الدالة على معطيات الحس، كانت عبارة بغير معني.
الفصل التاسع
مشكلة الحق
1
ألا إنه لمثل صارخ بمغزاه أن نرى الفيلسوف التأملي باحثا عن «الحق» في رأسه؛ فإن سألناه: ما هو «الاعتقاد» المعين الذي تبحث في أمره لترى إن كان حقا أو باطلا؟ أجاب بأنه لا يبحث عن الحق بالنسبة لهذا الاعتقاد المعين أو ذاك، بل هو يبحث في «الحق» مطلقا غير متقيد بأمثلته الجزئية، وبغض النظر عما يوصف به من آراء أو من عبارات تصف تلك الآراء، إنه يبحث في رأسه عن شيء اسمه «الحق» كأنما هو يبحث خلال منظار عن نجم في السماء دلت عمليات الحساب أنه لا بد واقع في موضع معين بين النجوم، ويريد الآن أن يحقق بالرؤية ما قد كشف عن وجوده بالفكر النظري.
ولو كان لفظ «الحق» اسما جاء في اللغة العربية ليسمي شيئا، كما جاء لفظ «قط» ولفظ «إنسان»، لجاز لفيلسوفنا أن يحاول تحديد هذا المسمي الذي أردنا الإشارة إليه بهذا الاسم، لكن تحليلا سريعا للكلمة واستعمالها يدل على أنها كلمة زائدة لا تضيف إلى الجملة التي ترد فيها معنى إلى معناها، حتى لتظل الجملة غير منقوصة المعنى إذا ما أضفت إليها هذه الكلمة إن لم تكن فيها أو حذفتها منها إن كانت؛ فإثباتك لواقعة ما في جملة معينة يكفي وحده لأداء المطلوب؛ فلو قلت مثلا إن «كليوباتره ماتت مسمومة» كان قولك هذا مساويا من الوجهة المنطقية لقولك إن «كليوباتره ماتت مسمومة وهذا حق». نعم إن هذه الإضافة قد تؤكد الإثبات، ولكن تأكيد الإثبات لا يجعل من الإثبات شيئا آخر غير الإثبات، والجملة التقريرية بحكم طبيعتها تثبت إن كان الحكم فيها موجبا؛ فلو رمزنا إلى أية قضية مثبتة بالرمز ق، فإن مجرد ذكرنا ل «ق» مساو لقولنا «ق حق».
إنك إذ تسأل عن طبيعة أي شيء مما يرد ذكره في الحديث، فأنت في الحقيقة تسأل عن تعريف الرمز الوارد خلال الحديث، الذي إنما ورد ليشير إلى ذلك الشيء المراد معرفة طبيعته؛ فسؤالك «ما طبيعة س؟» مساو دائما لمطالبتك بإبدال «س» بما يساويها من الرموز الأخرى التي تشير إلى أشياء معروفة لك في خبرتك، أو بعبارة أخرى فإن سؤالك عن طبيعة «س» معناه دائما مطالبتك بترجمة الجملة التي وردت فيها «س» إلى جملة أو طائفة من الجمل الأخرى تساويها معنى ولكنها تستغني عن استخدامها للرمز «س». وتطبيقا لهذا في حالة «الحق» نرى أن سؤالك عن طبيعة «الحق» معناه مطالبتك بترجمة أي جملة ترد فيها هذه الكلمة إلى جملة أخرى تساويها معنى ولكنها تستغني عن كلمة «الحق». ونحن نزعم لك الآن أن جملة «ق حق» يمكن تحويلها إلى «ق» مسقطين كلمة «حق»، ومع ذلك يظل الأصل والتحويل متساويين في المعنى؛ مما يدل عن أن الكلمة كانت في الأصل زائدة؛ ومن ثم فالبحث عن طبيعتها هو بحث في الهواء كما يقولون.
وكما أن القضية التي تقول عنها إنها «حق» هي هي نفسها القضية التي تسوقها في إثباتها غير موصوفة بهذه الكلمة، فكذلك كلمة «باطل» لا تعني شيئا؛ لأن كل قضية أضيفت إليها هذه الكلمة مساوية في معناها إلى القضية نفسها في صورة النفي؛ فمثلا قولي «مات أبو بكر مقتولا قول باطل» مساو لقولي «لم يمت أبو بكر مقتولا»؛ وبهذا نتخلص من كلمة لا مدلول لها في ذاتها، ولو تركناها لأغرت الفلاسفة أن يجردوها وحدها ليسألوا: ما طبيعة الباطل؟
أعيد ما قلته في عبارة أخرى فأقول: إن كلمة «حق» (وكذلك كلمة «باطل») لا تدل على شيء في عالم الواقع؛ ولذلك فهي رمز بغير مرموز إليه، ليس هنالك كائن معين اسمه «حق» بحيث أراه أو ألمسه أو أحمله على كتفي، ولا فرق أبدا بين أن أقول جملة ما، كأن أقول مثلا «المعري شاعر ضرير» وأقف عند ذلك، أو أن أقولها وأهز رأسي هزة أؤكد بها لمن أحدثه إثبات هذا المعنى ، أو أن أقولها مصحوبة بكلمة «حق»؛ كل هذه حالات من القول متساويات؛ فلا هزة رأسي ولا إضافتي لكلمة «حق» إلى الجملة التي قلتها بمغيرة شيئا من المعنى لا زيادة ولا نقصا. ولو جاز لفيلسوف أن يتأمل في طبيعة «هزة الرأس» ماذا عساها أن تكون، لجاز له كذلك أن يتأمل في طبيعة «الحق». «إن الأمر ليوشك أن يكون أوضح من أن يستحق ذكرا، ومع ذلك فاهتمام الفلاسفة بما يسمونه «مشكلة الحق» يدل على أن هذه الحقيقة الواضحة قد غابت عن أبصارهم.»
1
فقد رأوا كلمة «الحق» ترد في كلام الناس على نحو يوهم بأنها تدل على كائن فعلي في الوجود الواقع خارج نطاق اللغة وعباراتها، فراحوا يبحثون عن طبيعة ذلك الكائن ليحددوها، ولكن نظرة - لا أقول فاحصة عميقة - بل النظرة السريعة كافية لنعلم أن كلمة «حق» أينما وردت، يمكن رد الجملة التي وردت فيها إلى صورة كهذه: «الجملة الفلانية صادقة.» وما دام الأمر كذلك فالمشكلة كلها تزول من أساسها، فلا تعود أمامنا مشكلة عن «الحق» ما هو، بل يصبح سؤالنا هو: كيف يمكن الوثوق من صدق هذه الجملة التي نقول عنها إنها صادقة؟ والفرق بين الموقفين واسع شاسع؛ فلم يعد هدفي أن أبحث عن «حق مطلق» لا يتعلق بجملة معينة أو بفرض معين، بل يصبح ذلك الهدف محصورا في دعوى محددة معينة وطرائق إثباتها.
هات ما شئت من أمثلة ترد فيها كلمة «الحق» ورودا يوهم بأنها كلمة ذات معني خاص بها، وحلل تلك الأمثلة تجدها كلمة ترتد إلى إثبات قضية معينة. قل مثلا: «الحق فوق القوة.» تجدها مساوية في التحليل لقولنا: إذا كانت هنالك قضيتان متناقضتان، إحداهما تقرر «ق»، والأخرى تقرر «ليس ق»، ثم إذا بين قائل الأولى صواب قضيته بالرجوع بها إلى الشواهد التي تثبت صدقها، على حين اكتفى الثاني بإرغام الناس على قبول دعواه، أخذ الناس بقول القائل الأول، ورفضوا - بالتالي - قول القائل الثاني؛ فهل بقي لمشكلة «الحق» وجود في هذا التحليل، أم إن كل ما هنالك هو الشواهد التي سيثبت بها قائل القضية الأولى صدق قضيته؟ وخذ مثلا آخر، قولنا «الحق أحق أن يتبع»، تجد تحليله هو: إذا كانت هنالك دعويان متناقضتان، إحداهما يمكن إثباتها بالشواهد، على حين يتعذر ذلك بالنسبة للثانية، كان قبولنا للدعوى الأولى أضمن لبلوغ غاياتنا المنشودة من قبول الدعوى الثانية؛ فهل ترى هنا أيضا أن قد بقي بين أيدينا شيء من «الحق» باعتباره كائنا مطلقا قائما بذاته، أم إن الأمر كله يرتد إلى قضية معينة وطريقة إثباتها؟
فإذا كانت المذاهب الفلسفية التي تبحث في «الحق» إنما تتوقع من بحثها هذا أن تجد في العالم صفة معينة قائمة هناك، أو علاقة معينة كائنة بين الأشياء نفسها، اسمها «الحق»، كانت تلك المذاهب كلها في بحثها ذاك تطلب محالا؛ لأنها تطلب ما ليس له وجود، وما ليس يمكن أن يكون له وجود، لكن ما يجوز البحث فيه - وهو ما تبحث فيه فعلا مذاهب فلسفية كثيرة - هو الشروط الواجب توافرها في قضية معينة لنحكم عليها بالصدق، أو بعبارة أخرى ما هي طرائق تحقيق القضايا؟ ولسنا نزعم بطبيعة الحال أن كل قضية تتحقق على نفس الصورة التي تتحقق بها سواها، بل الأمر على خلاف ذلك، فما يكفي لبيان وجه الحق في قضية تحليلية منتزعة من مقدمات كانت تحتويها، لا يكفي لبيان وجه الحق في قضية تركيبية نغترف مضمونها من التجربة بواقع العالم؛ فالأولى صدقها صوري بحت، يكفي فيه سلامة استدلالها من مقدماتها، ويكون بطلانها متوقفا على ما قد يكون فيها من تناقض بين أجزائها أو بينها وبين تلك المقدمات، وأما الثانية - التجريبية - فقد تخلو من التناقض، ومع ذلك تكون باطلة لأنها لا تساير الواقع التجريبي.
مصدر الخلط في المشكلة التي يسمونها مشكلة «الحق» هو الخطأ في تعيين الموصوف الذي يوصف بهذه الصفة؛ فما الذي نصفه بأنه «حق»؟ الظاهر أن الفلاسفة الذين يورطون أنفسهم في هذه المشكلة الوهمية، يصرفون صفة «الحق» هذه إلى الأشياء الخارجية وإلى العالم بصفة عامة؛ فكأنما هم يمسكون بأيديهم صخرة أو شجرة قائلين: هذه هي «الحق». أو كأنما هم يحيطون الكون بنظرة منهم قائلين إنه «الحق». هكذا تراهم يجعلون «الحق» صفة تصف واقعا، ولكن ذلك خروج بالصفة عما يجوز لها أن تصف، فكأنهم يريدون أن يصفوا الفضيلة - مثلا - بأنها خضراء، أو يصفوا الإنسان بأنه مثلث الأضلاع؛ فصفة «الحق» لا يجوز أن تصف «الشيء» الواقع نفسه، ولو فعلت لأصبحت هراء وخلطا. إن ما هو واقع واقع، ولا معنى لوصفه بأنه حق أو باطل، وإنما الذي يوصف بالحق أو بالبطلان هو «الاعتقاد» أو الرأي الذي يحمله الواحد منا عن أمور الواقع؛ فإن كان اعتقادا أو رأيا مطابقا لما هنالك، قيل إنه اعتقاد حق، وإن لم يكن قيل إنه باطل. وهذا الاعتقاد الذي يجوز أن يوصف بالحق أو بالبطلان لا يصبح موضع اهتمامنا العلمي إلا إذا وجدناه في عبارة لفظية؛ أي وجدناه في جملة تعبر عنه؛ فعندئذ يتاح لنا أن نوازن بين الجملة من ناحية وبين الواقعة التي جاءت الجملة لتصورها من ناحية أخرى، موازنة تجيز لنا الحكم على الدعوى بالصواب أو بالخطأ.
2
ليس الاعتقاد في ذاته أمرا مقصورا على الإنسان؛ فللحيوان حالات يسلك فيها على نحو قد يدل على أنه أقدم على بيئته ب «اعتقاد» خاطئ، كالطائر الحبيس في غرفة أغلقت نوافذها الزجاجية الشفافة، فيحاول الطيران من فتحات النوافذ غير حاسب لحواجز الزجاج حسابا حتى يصطدم بها؛ ف «الاعتقاد» - كما يقول برتراند رسل
2 - كلمة نشير بها إلى حالة عقلية أو إلى حالة بدنية أو إلى حالة عقلية بدنية معا، يسلك فيها الحيوان سلوكا متعلقا بأمر غائب عن الحواس؛ فإذا ما ذهب مسافر إلى محطة السكة الحديدية متوقعا أن يجد قطارا معدا للسفر إلى الجهة المقصودة في ساعة معينة، فهو إنما يذهب بناء على «اعتقاد» معين عنده خاص بالقطارات ومواعيدها، وهو في هذه الحالة يعبر عن اعتقاده ذاك في سلوك، وإن لم يعبر عنه في عبارات لفظية. ولا فرق في هذه الحالة بين مثل هذا السلوك الإنساني المنبني على اعتقاد معين، وبين سلوك حيوان كالكلب مثلا يشم رائحة لا يرى مصدرها لكنه يسلك وكأنما هو قد رأي ثعلبا. ولما كان الكلام نفسه ضربا من السلوك يؤديه الإنسان بناء على اعتقاد يريد إخراجه فيما ينطق به من عبارات في المواقف المختلفة، فإنه لا يشذ عن تعريفنا العام للاعتقاد عند الإنسان والحيوان على السواء، من أنه حالة يسلك فيها صاحب الاعتقاد سلوكا ينم عنه.
من ذلك ترى أن «الاعتقاد» وثيق الصلة ب «المعنى»؛ فالكلمات التي أقولها لأضع فيها اعتقادا لدي عن أمور الواقع، ستجد من هذه الأمور الواقعة ما يثبت صوابها أو بطلانها؛ فقد أكون على اعتقاد بأن توفيق الحكيم قد أخرج مسرحية منظومة، وأقول لصديقي ما يقرر له هذا الاعتقاد، حتى إذا ما رحت أبحث في الواقع عن هذه المسرحية لأطلع صديقي عليها لم أجد ما يدل على صواب اعتقادي ذاك. وقد أزعم لهذا الصديق أن للعقاد ثمانية دواوين من الشعر، فيمضي الصديق إلى المكتبات باحثا عنها حتى يجدها جميعا، ولا يجد له سواها، فيدله الأمر الواقع على صواب ما زعمته له؛ وبالتالي يكون هذا الواقع دليلا على صدق اعتقادي أو إن شئت فقل صدق فكرتي.
في حالة الاعتقاد التي تهمنا في هذا السياق، يكون هنالك تصور ذهني للأمور كيف تقع، ويكون هنالك أيضا جملة نضع في ألفاظها ما يعبر عن ذلك التصور الذهني؛ فإن كانت هنالك في العالم الخارجي واقعة تقابل بأجزائها أجزاء تلك الجملة، كان التصور الذهني - أي الاعتقاد - تصورا صحيحا لأمور الواقع، وإن لم يكن هنالك في العالم الخارجي واقعة كهذه، كان التصور الذهني لأمور الواقع خاطئا.
على أن الجملة المصورة للواقعة من جهة، والواقعة المصورة بالجملة من ناحية أخرى، قد لا يكون بينهما التشابه المألوف بين الشيء المصور وصورته؛ لأن ألفاظ اللغة لا تشبه الأشياء التي تشير إليها تلك الألفاظ؛ فكلمة «كتاب» لا تشبه الكتاب، ولفظ «أخضر» لا تشبه اللون الأخضر؛ وبالتالي فعبارة «هذا الكتاب أخضر» لا تشبه الواقعة التي جاءت العبارة تصويرا لها، إنما يكون التشابه بين الجملة والواقعة تشابها في «التكوين»، وهذا وحده كفيل لنا بمراجعة الحلة على واقعتها لنتبين صدقها أو بطلانها؛ فإن قلت - مثلا - «سقط الحجر من أعلى البناء على الأرض»، كان الشبه التكويني بين العبارة والواقعة قائما في التقابل الذي يكون بين الأطراف والعلاقات في كل منهما؛ ففي كل منهما أطراف ثلاثة هي: أعلى البناء، والأرض، والحجر. وفي كل منهما علاقة ربطت هذه الأطراف الثلاثة، وهي علاقة السقوط.
إذن فحين يكون المفروض في قضية ما أن صاحبها قد ساقها ليزعم بها زعما عن واقعة من وقائع العالم الخارجي، فلا توصف هذه القضية بأنها «حق» إلا إذا أدركنا ما بينها وبين واقعتها من علاقة تجعل الأولى صورة للثانية، أو تجعل الأولى أداة صالحة للسلوك الناجح إزاء الثانية؛ وبهذا يكون ما نطلق عليه كلمة «حق» هو علاقة كائنة بين طرفين؛ اعتقاد يعبر عنه صاحبه بجملة ما من جهة، وواقعة تقوم في عالم الأشياء مصدقة أو مكذبة لذلك الاعتقاد؛ فليس «الحق» شيئا نلتمسه قائما وحده كما ظن فلاسفة كثيرون، بل هو علاقة بين صورة ومصور، أو بين أداة وموضوع تفعل فيه تلك الأداة.
وقد تسأل: ماذا تعني بكلمة «واقعة» ما دمت تريد للوقائع أن تكون الفيصل القاطع في حكمنا على اعتقاد معين (أي قضية معينة) بالصواب أو بالخطأ؟ وجوابنا هو أن «الواقعة» هي ما يمكن أن نشير إليه، أو ما كان يمكن أن نشير إليه مما قد وقع أو يقع من أحداث؛ فهذه الشمس الطالعة «واقعة»، وهذا الجبل، ونابليون قادما إلى مصر في حملته، وقيصر مقتولا بطعنة من بروتس، وهذا الطعام آكله، وهذا القلم أمسكه بين أصابعي كاتبا؛ كل هذه وقائع حدثت أو تحدث، أو قل هي مجموعات من حوادث وقعت أو تقع؛ وأي جملة أنطق بها معبرا بها عن اعتقاد عندي خاص بأمر من أمور الواقع هي نفسها واقعة من وقائع العالم؛ ومثل هذه الواقعة اللفظية (أي الجملة) التي نزعم لها أنها تشير إلى واقعة أخرى سواها، إنما يعتمد صوابها أو خطؤها على وجود هذه الواقعة الأخرى؛ فإن استحدثت حادثة «لفظية» لتكون رمزا يشير إلى مرموز إليه من جوانب الدنيا، ولم نجد في الدنيا هذا المشار إليه، لبث الحكم على الرمز معلقا، فلا هو صواب ولا خطأ؛ فوقائع العالم هي التي تقضي على جملة نقولها عن العالم بأنها حق أو باطل.
إننا نعيش في عالم واقع، والواقع فيه «صلابة» و«عناد» - كما يقول رسل
3 - فإذا ما قال عنه الإنسان قولا، لم يكن ذلك القول حقا إلا إذا قابله في دنيا الواقع ما يؤيده؛ فأقوالنا عن العالم هي كجدول مواعيد القطارات، فإن نص الجدول على أن قطارا يغادر القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الثامنة صباحا، كان هذا النص صوابا إذا قام القطار المذكور فعلا في الساعة المذكورة، فالواقعة هي التي تحقق صواب ما قد قيل، وليس ما يقال هو الذي يقضي بأن الواقعة قد وقعت فعلا، وكذلك نحن والعالم، فهنالك عالم خارجي من جهة، وهنا من جهة أخرى إنسان يتكلم عن ذلك العالم واصفا إياه زاعما عنه المزاعم؛ فوقائع العالم الخارجي التي تحدث فعلا هي التي على أساسها نقضي بما في أقوالنا من حق أو باطل، والعكس غير صحيح، وهو أن أقوالنا وأحكامنا واعتقاداتنا ليست هي التي تجعل الواقع واقعا والحق حقا والباطل باطلا.
علمنا بالعالم الواقع - إن استحق أن يطلق عليه اسم «العلم» - هو في حقيقة أمره مرحلة راقية من مراحل الملاءمة بين الكائن الحي وبيئته، فلا فرق بين الحيوان في تشكيل سلوكه على النحو الذي يوائم بينه وبين الواقع لكي يحيا، وبين العالم في قمة علمه وهو يحاول أن يزداد بالعالم علما، لنشكل سلوكنا تبعا لذلك تشكيلا يزيد من نجاحه في السيطرة على ظواهر الطبيعة، لا فرق بين هذا وذاك إلا في الدرجة وحدها، وأما «الكيف» فواحد هنا وهناك؛ لأنه في كلتا الحالتين محاولة واحدة نحو التكيف لواقع العالم على أساس العلم به علما صوابا.
ولما كان الحيوان والإنسان معا يتفقان من الوجهة الحيوية على أنهما يريدان أن يدركا من العالم الخارجي ما يمكنهما من العيش على خير وجه مستطاع، كان الحيوان والإنسان معا شريكين في الاستعداد والتهيؤ للسلوك في البيئة سلوكا موفقا، وهذا التهيؤ الذي يقتصر عند الحيوان على غريزة فطرية قد يرتفع عند الإنسان إلى أن يصل به إلى «المعرفة» في أرقى درجاتها وأدقها، لكن صميم الأمر واحد؛ مما يبرر لنا زعمنا بأن الحيوان كالإنسان تكون لديه «اعتقادات» معينة عن بيئته، يسلك على أساسها، فيجيء سلوكه موفقا إذا كان «اعتقاده» صحيحا، أو مخفقا إذا كان «اعتقاده» وهما باطلا. نعم إن «الاعتقاد» في أدق مراحله عند الإنسان يتحول إلى عبارات كلامية ينقل بها صاحب الاعتقاد اعتقاده إلى سواه، حتى لقد تعودنا أن نقرن الاعتقاد بالصيغة الكلامية التي تعبر عنه اقترانا يكاد يجعلنا نقصر «الاعتقاد» على الإنسان المتكلم وحده دون الحيوان الأعجم، لكن نظرة تحليلية إلى الوظيفة الحيوية للاعتقاد تكشف عن اشتراك الحيوان مع الإنسان في ذلك، وإن اختلفا في مدى الدقة ودرجة التحديد.
وإنما نقول هذا كله لنغرس في ذهن القارئ غرسا عميقا يربط به بين «الاعتقاد» و«الأمر الواقع» على نحو يجعل صواب الأول أو خطأه معتمدا كل الاعتماد على الثاني؛ فلا صواب في اعتقاد لا تكون له بالواقع صلة. إن قدرتنا على الكلام لتخدعنا وتصرفنا في كثير من الأحيان عن طرفي الموقف الرئيسيين، وهما «الاعتقاد» المكون في الداخل من جهة، والحادثة الواقعة في عالم الأشياء من جهة أخرى، حتى لترانا ننصرف إلى عباراتنا الكلامية نفسها، ندور فيها وندور، كأنما هي العالم الذي لا عالم سواه، على حين أن هذه العبارات - إن أريد بها أن تكون ذوات معنى - ليست إلا مشيرات نشير بها إلى الواقع كما «نعتقد» أنه يقع، هي كمقياس الحرارة نضعه في الماء الساخن ليكون أداة دقيقة تضبط لنا درجة الحرارة التي نحسها إذا ما وضعنا أصابعنا في الماء؛ فالجملة اللغوية ما دامت تشير إلى ما هو خارج الإنسان فهي الصيغة الرمزية التي نشير بها إلى ما نعتقد أنه موجود في العالم.
الاعتقاد - إذن - حالة حيوية تقتضيها الحياة نفسها وضرورة بقائها؛ ولذلك فهي حالة تضرب بجذورها إلى الحيوان الأدنى ، غير أننا إذا ما علونا بالاعتقاد إلى مرحلة الإنسان، حيث يجد وسيلة التعبير عنه بكلمات تفصل أجزاءه وتحددها، وجب لهذه الوسيلة التعبيرية ألا يكون لها معنى يجعلها غاية في ذاتها، بل يكون معناها في إشارتها إلى ما هو خارج عن حدودها؛ إشارتها إلى ما كان الاعتقاد قد تكون عنه من جوانب العالم؛ فعندئذ تقاس دقة التعبير بدقة إشارته إلى ما في العالم من تفصيلات وحوادث.
ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: إن «الحق» صفة لا نصف بها شيئا من الواقع نفسه، بل نصف بها «اعتقادا» لدى فرد من الناس عن ذلك الواقع؛ وبالتالي نصف بها «عبارة» يقولها صاحب الاعتقاد ليعبر بها عن اعتقاده؛ فليس «الحق» في ذاته كائنا موضوعيا خارجيا حتى يجوز للفلاسفة أن يبحثوا فيه على هذا الاعتبار، بل هو «علاقة» بين الاعتقاد من جهة وبين الأمر الواقعي المعتقد فيه من جهة أخرى، وتكون علاقة الحق قائمة بين طرفيها حين يكون بين الطرفين تطابق بأي معني من معانيه؛ فالاعتقاد الحق هو ما له طرف خارجي يشير إليه، والاعتقاد الباطل هو ما ليس له طرف خارجي يشير إليه، أو هو ما يشير إلى طرف خارجي إشارة لا تكشف عن طبيعته على نحو ما هي قائمة.
3
ليس «الحق» - إذن - كائنا قائما بذاته وحده قياما مستقلا يجيز لنا أن نبحث عنه كما يبحث الرحالة عن منابع النيل، ولكنه علاقة تقوم بين طرفين؛ فهنا - من ناحية - الصورة التي نتصورها عن هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم الخارجي، وهنالك - من ناحية أخرى - العالم الخارجي نفسه بما فيه من أجزاء، وما نصفه بالحق هو التصور التي نتصوره حين يكون صورة مطابقة لما هنالك من واقع.
فليس السؤال المشروع هو: ما «الحق»؟ بل السؤال المشروع هو: ما الظروف التي إذا توافرت لقضية إخبارية قلنا عن هذه القضية إنها حق؟
وليس الفلاسفة جميعا على كلمة واحدة في الإجابة عن هذا السؤال؛ فمنهم - بين جماعة الوضعيين المنطقيين أنفسهم مثل «همبل» و«نوراث» - من يجعل «الاتساق» شرطا للحق ؛ فالقضية المعينة تكون صادقة لو كانت تربطها صلة لغوية بغيرها، تجيز لها أن تكون جزءا من معرفتنا ما دام الأصل الذي هي متصلة به جزءا من المعرفة معترفا بصوابه؛ فمثلا: هل من الحق أن يقال إن بروتس قتل قيصر؟ الجواب هو: نعم إن هذا القول حق لأنه مشتق من العبارة الفلانية، والعبارة الفلانية مما تراه مدونا في الوثيقة الفلانية؛ وإذن فهذا القول «مشتق» مع أقوال أخرى وردت في موضع معين بدأنا بافتراض أنه موثوق بصدقه؛ ومعنى ذلك أن علاقة الحق في قضية ما هي عدم تناقضها مع قضية أخرى، وليست علامة الحق - في نظر هؤلاء - هي أن تكون القضية مرتبطة ب «الواقع» على نحو ما؛ لأن الباحث - في رأي هذه الجماعة - لا يسعه عند تحقيق الصدق لقضية معينة سوى أن يدور في عالم من قضايا، فيظل ينتقل من كتاب إلى كتاب ومن وثيقة إلى وثيقة، مقارنا هذه الجملة هنا بتلك الجملة هناك، وأما أن يحطم هذا الحصار اللغوي لينفذ منه إلى ما هو واقع خارج أسواره في الدنيا الخارجية، دنيا الحوادث نفسها، فليس له قبل به.
على أن لنظرية «الاتساق» في الحق صورا أخرى لعلها أرسخ أساسا وأعمق جذورا في ميدان البحث الفلسفي من صورتها التي أوجزناها عن بعض رجال الوضعية المنطقية، والتي تجعل صدق الجملة متوقفا على بقية الجمل التي تكون معها نسقا معينا يبدأ بفرض معين، مع جواز أن تكون الجملة الواحدة حقا بالنسبة إلى نسق ما، وباطلة بالنسبة إلى نسق آخر؛ أقول إن هنالك إلى جانب هذه الصورة في تفسير «الحق» على أساس اتساق الأجزاء، صورا أخرى بالغة الخطر في عالم التفكير الفلسفي، يختلف بعضها عن بعض وإن تكن كلها تتفق في أنها تجعل من «الحق» كلا متسق الأجزاء، وتجعل من أية معرفة عقلية منظمة - كالمعرفة العلمية مثلا - مجموعة من القضايا مستندا بعضها إلى بعض في وحدة متصلة القضايا اتصال المقدمات بنتائجها.
فمن الصور الهامة التي ظهر عليها مذهب الاتساق في الحق، الصورة الديكارتية التي ترتكز على المبدأ القائل بأنه لا يجوز للباحث عن الحقيقة أن يثبت شيئا على أنه الحق إلا ما يستطيع إدراكه إدراكا واضحا متميزا. ومثل هذا الإدراك لما هو حق معصوم من الخطأ مبرأ من الشك، إنما يتم بطريق العيان المباشر؛ أي إنه يتحقق لصاحبه بالحدس؛ فما ندرك بالحدس أنه حق واضح بذاته يكون كذلك بغير شك، لكننا لا ندرك مثل هذا الإدراك الحدسي إلا إن كان المعروض أمام العقل «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة»، على أن هذه البساطة لا تعني أن تكون الفكرة خلوا من الكثرة الداخلة في تكوينها، بل إننا لنعدها فكرة بسيطة إذا ما كان قوامها أكثر من عنصر واحد، لكنها عناصر يتصل بعضها ببعض صلة ضرورية. وبعبارة أخرى، فإن ما يطلق عليه ديكارت اسم «فكرة بسيطة» أو «قضية بسيطة» هو حكم شرطي صيغ على نحو يجعل التالي فيه لازما بالضرورة عن المقدم، وإن يكن هذا التالي لا يستلزم بالضرورة صدق المقدم.
4
ولنضرب لذلك الأمثلة التي ضربها ديكارت نفسه؛ فالفكرة التي قوامها «إذا كان ثمة وعي ذاتي، كان ثمة وجود» فكرة بسيطة عند ديكارت، ولو أن بساطتها لا تتنافى مع أن يكون هنالك تركيب شرطي يتوقف فيه التالي على المقدم، بحيث يستحيل أن يصدق المقدم ولا يصدق التالي معه، على حين أن العكس يجوز ألا يكون صحيحا؛ أي إن التالي قد يصدق دون أن يصدق معه المقدم؛ فيكون هنالك «وجود» دون أن يستلزم ذلك «وعيا ذاتيا»، وكذلك القضية 2 × 2 = 4 هي بمثابة تركيب شرطي صورته إذا أضيفت 2 إلى 2 كان الناتج 4، فها هنا أيضا يستحيل أن يصدق المقدم دون أن يستلزم ذلك صدق التالي معه، لكن العكس غير صحيح، فلا نقول إنه إذا كانت هنالك أربعة فلا بد أن تكون اثنتان قد أضيفتا إلى اثنتين؛ لأن الأربعة قد تنتج عن إضافة أخرى، كإضافة ثلاثة إلى واحد .
نعود إلى ما كنا بصدد الحديث فيه، وهو أن الحق شرطه عند ديكارت هو الإدراك الواضح المتميز، وهذا الإدراك يكون عيانا مباشرا للحقيقة المعروضة، ومثل هذه الحقيقة لا بد أن تكون فكرة بسيطة أو قضية بسيطة، لكن هذه البساطة لا تتنافى مع أن يكون هنالك عنصران داخل القضية، لكنهما متماسكان على نحو يجعل عنصرا منهما مستحيلا بغير الآخر، كما هي الحال في صدق التالي إذا صدق المقدم في القضية الشرطية. ومع ذلك فإدراك المقدم والتالي لا يكون انتقالا من جزء إلى جزء، إنما هو إدراك لكل واحد متصل يتم بفعل حدسي واحد يكشف عما فيه من حق واضح بذاته ممتنع على الشك، ومثل هذا الحق هو الذي يصلح بعد ذلك أساسا ينبني عليه ما أردنا بناءه من علم أو فلسفة؛ لأن مثل هذا الحق هو بمثابة المبدأ الذي نشتق منه معرفتنا كلها في تناسق أجزائها، فما نستدله من المبادئ الواضحة بذاتها استدلالا صحيحا يكون بدوره حقا لا شبهة فيه، فكأنما ترتبط كل خطوة بالخطوة السابقة عليها كما ترتبط الحلقة التالية بالحلقة السابقة في السلسلة، تؤدي الواحدة منها إلى الأخرى مما يجعل الخالفة في يقين السالفة.
وهكذا يكون المثل الأعلى للمعرفة عند ديكارت هو البناء المتسق من القضايا الصادقة، التي يكون صدق كل منها متوقفا على موضعها من البناء؛ فأساس البناء هو الحقائق التي نراها رؤية مباشرة، وطوابقه هي الحقائق التي نستمدها من ذلك الأساس اليقيني، فتكون بدورها يقينية. على أن هذا الصدق الذي ننسبه إلى كل قضية مما يرد في البناء النسقي، صدق مطلق؛ بمعنى أنها تكون صادقة دائما، فليس هنالك نسق آخر ممكن، بحيث يتغير فيه الأساس فتتغير بالتالي مجموعة القضايا الصادقة المترتبة عليه.
ولئن كانت السلسلة في ارتباط حلقاتها بعضها ببعض صورة توضح كيف تتحد أجزاء المعرفة عند ديكارت وكيف تتسق تلك الأجزاء بحيث يؤدي السابق إلى التالي، فمثل هذه الوحدة ليس هو ما يقره هيجل وتلاميذه، وهم أيضا ممن يأخذون بمذهب الاتساق في الحق، لكنهم يتصورونه على وجه آخر.
فليس الأمر أمر «حقائق عدة» ارتبطت واتسقت في بناء يخلو من تناقض الأجزاء وتنافرها، كما قد تصوره ديكارت، بل هو «حق واحد»؛ ف «الاتساق» - كما يراه هيجل وأتباع مدرسته - ليس صفة تضاف إلى القضايا من خارجها؛ بمعنى أن تكون القضية الواحدة حقا وهي مفردة معزولة قائمة وحدها ثم تظل على حقيتها أيضا بعد أن تضاف إلى غيرها في بناء، وغاية الأمر أنها في هذه الحالة الثانية يظهر اتساقها مع غيرها من أجزاء البناء، فمثل هذا الاتساق الديكارتي لا يكون هو الشرط الضروري للصدق، ما دام الصدق ليس متوقفا عليه كما رأينا في احتفاظ القضية الصادقة بصدقها حتى وهي مفردة. كلا، إنما الحق عند هيجل لا يتوافر إلا للبناء كله، ولا تكون القضية الواحدة حقا إلا وهي جزء من البناء، ولو عزلتها لكنت بمثابة من يجذ جزءا صغيرا من جسم حي لا يكمل وجوده إلا وهو متكامل الأجزاء.
تلك صور ثلاث قدمناها بين يديك لمذهب يري صدق القضية الصادقة مستمدا من اتساقها مع غيرها من القضايا لا في مقابلتها للأمر الواقع. وفي رأينا أن مثل هذا «الحق» الذي يعتمد كل الاعتماد على علاقة الصيغ اللفظية بعضها ببعض هو حق صوري يصلح في مجال المنطق الخالص والرياضة البحت وما يجري على غرارهما من ضروب التفكير الاستنباطي، لكنه لا يصلح وحده أبدا في مجال الإخبار عن الطبيعة؛ ففي هذه الحالة الثانية لا محيص لنا عن مقابلة الصيغة الكلامية التي نسوق فيها اعتقادا ما، مع الطرف الخارجي الذي جاءت تلك الصيغة رمزا يرمز إليه. ومثل هذه النظرية في طبيعة «الحق» تسمى بنظرية المطابقة؛ لأنها تريد أن يكون ثمة تطابق بين الرمز من ناحية والواقعة المرموز إليها من ناحية أخرى.
إنه لا خلاف بيننا وبين أنصار «الاتساق» في أن القضية إذا كانت مشتقة من سواها، كانت وسيلة تحقيقها هي أن ننظر في استدلالها من أصلها لنرى هل كان سليما في استخراجه النتيجة من مقدماتها، أو بعبارة أخرى فالقضية المراد تحقيقها إن كانت منتزعة من قضية سواها، كانت علامة صدقها هي اتساقها مع الأصل الذي انتزعت منه، ولكن موضع الخلاف الرئيسي هو القضايا الأولية التي منها نبدأ بناءنا العلمي حين يكون هذا البناء مشيرا إلى الطبيعة؛ فكيف نتبين وجه الحق في تلك القضايا الأولية؟ أما أنصار «الاتساق» فيكلون الأمر إلى الحدس؛ فبالحدس ندرك صدق البدايات البسيطة، وأما أنصار نظرية التطابق فيجعلون صدق القضايا الأولية مرهونا بإدراك شيء خارج عن حدود القضايا نفسها، وهو شيء جاءت تلك القضايا لترمز إليه، وعلى هذه القضايا الأولية أن تطابق ما قد جاءت لتصوره أو لتشير إليه إشارة دالة على طبيعته؛ فإن شاهدت بقعة صفراء مستديرة ذات خصائص فريدة مميزة، كانت هذه المشاهدة معطى أوليا لا يمكن تحليله وإسناده إلى مصدر سابق عليه، وكانت الجملة التي أعبر بها عن تلك المشاهدة جملة أولية لا يمكن ردها إلى مقدمة أسبق منها، لكنني بعد ذلك أستطيع من هذه البداية الأولية أن أمضي في طريق الاستدلال العقلي، فأحكم أحكاما يتوقف صدقها على صدق تلك البداية الحسية الأولية، كأن أقول مثلا: إنه ما دامت هذه بقعة صفراء فهي ليست بيضاء، أو إنها ما دامت مستديرة فيستحيل أن تكون مربعة الأضلاع ولا مربعة الزوايا، وهكذا. فالصدق في هذه الجمل المشتقة يقوم على الاتساق بينها وبين الجملة الأصلية، وأما صدق الجملة الأصلية فلا بد أن يستند إلى علاقة بينها وبين شيء لا تكون طبيعته من طبيعة الرموز اللغوية، بحيث يصح أن نقول إن الرمز اللغوي إنما جاء ليرمز إليه.
فماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الشيء المشار إليه بالرمز اللغوي، حين تكون القضية الرامزة أولية غير مسبوقة بمقدمة أعم منها؟ هنا ينشعب مذهب التطابق شعبتين؛ أولاهما توجب أن تشير القضية الأولية إلى جزء من خبرة الإنسان، والأخرى تجيز للقضية أن تكون مشيرة إلى واقعة خارجية دون أن تحتم دخول تلك الواقعة في مجال خبرات الإنسان.
إنه محال - عند أنصار الشعبة الأولى - أن نحكم على قضية بأنها صادقة إلا إذا كانت مفهومة المعنى أولا، وفهم المعنى لا يكون إلا إذا كان لنا في خبراتنا ما يوضح لنا إلى أي شيء تشير الكلمات الواردة في القضية التي نقول عنها إنها مفهومة لنا وإنها فوق ذلك صادقة. ولو خلت خبراتنا خلوا تاما من كل ما يوضح لنا إلى أي المدلولات تشير الألفاظ المستخدمة في جملة ما، لاستحال علينا فهم المعنى المقصود فضلا عن الحكم على العلاقة القائمة بين الرمز ومعناه بأنها علاقة التطابق. وإن جملة تقولها لي لا أعرف كيف أترجم مضمونها في حدود خبرتي، لهي جملة خارجة عن النطاق الذي أستطيع الحكم في حدوده بصدق أو ببطلان، فأقف إزاء جملتك لا موقف المصدق ولا موقف المكذب، بل موقف الذي لا يحكم على قولك بشيء حتى يفهم أولا.
لكن هذا الرأي الذي يجعل الحديث الخارج بموضوعه عن حدود خبرة السامع، لا هو بالصادق ولا هو بالكاذب، هو رأي سرعان ما يسلمنا إلى مشكلة منطقية، وهي التنكر لمبدأ الثالث المرفوع الذي يبدو كأنما يفرض نفسه على العقل فرضا؛ فأنت تعلم أن أحد قوانين الفكر الثلاثة التي أخذ بها أرسطو، والتي رأي أن لا تفكير بغير افتراض قيامها، هو هذا القانون الذي يجعل الشيء المعين الواحد إما «س» أو «لا - س»، ولا ثالث لهذين الاحتمالين؛ فالشيء الملون إما أن يكون أبيض أو غير أبيض، والخط إما أن يكون مستقيما أو غير مستقيم، وهكذا؛ فكذلك القضية المعينة إما أن تكون صادقة أو غير صادقة ولا ثالث لهذين الفرضين. أما أن تقول عن قضية إنها لا هي بالصادقة ولا هي بغير الصادقة لأن مضمونها خارج عن حدود خبرتك فلا تستطيع فهمها وبالتالي لا تستطيع الحكم عليها، فذلك قول يجافي قانونا أساسيا من قوانين الفكر كما رأينا.
لهذا نشأت شعبة ثانية من مذهب التطابق، لا تجعل صدق القول متوقفا على مطابقته لجزء من خبرة المتكلم أو السامع كما هي الحال مع أنصار الشعبة الأولى، بل تجعله متوقفا على مطابقته لواقعة من وقائع العالم الخارجي، سواء دخلت تلك الواقعة في مجال خبرتنا أو لم تدخل، وبهذا نحافظ على مبدأ الثالث المرفوع؛ لأن القول عندئذ سيكون إما صادقا أو غير صادق ولا ثالث لهذين الاحتمالين، فهو صادق إن كانت هنالك الواقعة التي تقابله، وهو ليس بصادق إذا لم تكن هنالك تلك الواقعة، دون أن نشترط لتلك الواقعة أن تكون بين ما خبرناه.
ولعلك تلاحظ في هاتين الشعبتين من مذهب التطابق في القول الصادق أنهما تتفقان في جزء كبير من مجال القول؛ ذلك لأن كل ما هو صادق بناء على خبرتنا التي خبرناها بالواقع، هو صادق أيضا في رأي الشعبة الثانية التي تجعل الصدق علاقة بين القول من جهة والواقعة المقول عنها القول من جهة أخرى، لكن العكس غير صحيح؛ أي إن ما يصدق بهذا المعنى الثاني قد لا يصدق بالمعنى الأول. وشرح ذلك هو أن خبرتنا إنما تتناول جانبا من العالم الواقع دون جانب، وإذن فكل خبرة لنا هي خبرة بواقع، لكن ما كل واقع قد وقع لنا في الخبرة؛ ولهذا كان القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الخبرة، هو قول نحكم عليه نفس الحكم مستندين إلى الواقع. أما في حالة القول الذي نحكم عليه بالحق مستندين إلى الواقع مباشرة، فقد يكون هذا الواقع جزءا من مجالنا الخبري وقد لا يكون.
فلو جعل أنصار الحكم على أساس الخبرة طائفة من القضايا الدالة على خبرات مباشرة سندا لهم يرتدون إليه في أحكامهم على سائر القضايا الفرعية، ثم لو جعل أنصار الحكم على أساس الواقع الخارجي مباشرة طائفة من القضايا الدالة على وقائع أولية سندا لهم يرتدون إليه في أحكامهم على سائر القضايا، كانت القضايا الأساسية عند الفريق الأول جزءا من القضايا الأساسية عند الفريق الثاني، بحيث يتحتم على كل واحدة من تلك أن تكون واحدة من هذه، لكن العكس غير صحيح.
ولئن كانت الشعبتان مختلفتين في أي القضايا الأولية يتخذ سندا لأحكامنا؛ أهي القضايا الدالة على الخبرة المباشرة وحدها، أم هي القضايا الدالة على وقائع أولية سواء وقعت لنا في الخبرة أو لم تقع، أقول إن الشعبتين إن اختلفتا في هذا، فهما بعد ذلك متفقتان على العلاقات اللغوية التي تجيز لجملة أن تشتق من أخرى؛ فلكل فريق منهما نقطة ابتدائه، لكنهما يسيران بعد ذلك معا في طريق استدلالي واحد؛ إذ يتبعان طائفة واحدة من قواعد الاستنباط، التي هي نفسها قواعد التركيب اللغوي نفسه وقواعد التحويل من جملة في اللغة إلى جملة أخرى.
وهاتان الشعبتان معا تنتميان إلى مذهب في الحق واحد، هو مذهب التطابق بين القضية من ناحية وما جاءت القضية لتشير إليه من ناحية أخرى، غير أن هذا التطابق لا يكون إلا في حالة القضايا الأولية الأساسية عند كل من الشعبتين، وأما القضايا المشتقة المستنبطة من هذه فلا يكون صدقها صدق تطابق مباشر، بل يكون صدقها أول الأمر متوقفا على صدق استدلالها من قضايا أخرى، وهذه من أخرى، حتى نصل في نهاية الشوط إلى قضايا أولية أساسية لا تكون مشتقة إلا من المصدر الرئيسي نفسه، وهذا المصدر هو خبراتنا عند إحدى الشعبتين، وهو الوقائع الخارجية عند الشعبة الأخرى.
ونحن في تقرير الحق لقضية إخبارية ننتمي إلى هذا المذهب - مذهب التطابق - في شعبته التي تشترط أن يكون سندنا الأخير هو خبرتنا؛ فما ليس جزءا من خبراتنا يستحيل عندنا أن يكون له معنى؛ وبالتالي فهو مستحيل على الحكم بصدق أو ببطلان؛ فإن قيل لنا إن هذا الموقف ينتهي بنا إلى التنكر لقانون الثالث المرفوع؛ إذ نحن قمينون بهذا الرأي أن نقف إزاء جملة لم يقع مضمونها في خبرة لنا، أن نقف إزاءها قائلين إنها لا هي صادقة ولا هي غير صادقة؛ كان جوابنا على هذا الاعتراض أن الحكم بالصدق أو بغيره لا يكون إلا لما يمكن اعتباره قضية من وجهة النظر المنطقية، ولا يعد قضية بحكم منطق اللغة نفسه إلا كلام يصلح أن يقال عنه إنه صادق أو إنه كاذب. أما إن كان الكلام غير مفهوم المعنى لم يكن قضية؛ لأنه عندئذ لا يحمل للسامع دعوي يمكنه الحكم فيها. إن الصفة الواحدة قد لا يقصد بها أن تصف كل شيء؛ فاللون مثلا يصف أشياء ولا يصف أشياء أخرى، ولا تناقض في ذلك؛ فهذه الشجرة خضراء، وتلك الحمامة بيضاء، لكن العدد لا لون له والفضيلة لا لون لها وهكذا. والتربيع أو عدم التربيع إنما نصف به أشكالا هندسية؛ فهذه الورقة مربعة، وتلك الكرة ليست مربعة، أما الأكل والشرب والمشي والجري، وأما الشجاعة والجبن والكرم والبخل، فلا يقال عنها إنها مربعة أو ليست مربعة، دون أن نتعرض بذلك لمبدأ الثالث المرفوع، وكذلك الوصف بالحق أو بالباطل، بالصدق أو بالكذب، لا يوصف به كل شيء، بل لا يوصف به كل كلام، إنما يوصف به فقط ذلك الجانب من كلامنا الذي نسوقه ليحمل للسامع دعوانا أو اعتقادنا عن شيء معين، فعندئذ فقط يمكن وصف هذه الدعوى بالحق أو بالبطلان، أما سائر أنواع الكلام التي لا تحمل في طيها دعاوي، كالمستفهم مثلا أو المتعجب - ودع عنك بقية الأشياء التي ليست من قبيل الكلام ولا من قبيل الاعتقادات، فلا يجوز وصفها بحق أو باطل؛ لأن مثل هذا الوصف عندئذ سيخلو من المعنى.
4
ما دمنا نجعل «الخبرة» عمادنا في تمييز ما له معنى مما ليس له، فما أحرانا أن نحدد معنى «الخبرة» تحديدا يزيل ما يحيط باللفظ من غموض. إننا نزعم أن الكلام ذا المعنى المفهوم هو ما أمكن ترجمة مضمونه إلى خبرات وقعت لنا، وأما إن حاولنا مثل هذه الترجمة لجملة من الجمل فلم نستطع، كانت تلك الجملة غير مفهومة لنا، وبالتالي كانت غير ذات معنى؛ فماذا نريد ب «الخبرة» في هذا السياق؟ فالظاهر أن لهذه الكلمة معاني كثيرة ترد في السياقات المختلفة، وإن يكن هنالك العنصر المشترك الذي يسري في تلك المعاني الكثيرة فيجعلها جميعا أعضاء أسرة واحدة، هي التي نحاول الآن أن نجد السمة الشائعة بين أفرادها.
فمن الوجهة اللغوية يكون للكلمة معنى يقع في حدود «الخبرة» إذا ما كان لتلك الكلمة تعريف تحدده الإشارة إلى مسمى معين؛ فإذا ما كانت الكلمة رمزا يشير إلى كائن معين محدد بين الكائنات ، قلنا إن لها معنى في عالم «الخبرة»؛ فاسم العلم الذي يسمي فردا من أفراد الكائنات كلمة من هذا القبيل، مع ملاحظة ما قد أسلفنا الحديث فيه بالتفصيل (راجع الفقرة 3 من الفصل الرابع)، وهو أن أسماء ك «العقاد» أو «المقطم» أو «النيل» وإن يكن قد جرى العرف على اعتبارها أسماء أعلام، إلا أن كل اسم منها - من وجهة نظرنا - يدل في الحقيقة على مجموعة كبيرة من الحالات المتعاقبة؛ وإذن فاسم العلم الحقيقي هو الاسم الدال على حالة واحدة من هذه الحالات الكثيرة، وأفضل ما يؤدي مهمة اسم العلم من الألفاظ هو لفظ كل مهمته أن يشير، مثل كلمة «هذا» نقولها مشيرين إلى حالة بعينها في كائن بعينه. وبديهي أن المشير لا يشير إلا إذا كان هنالك شيء يشار إليه؛ ومن ثم كان اسم العلم - بهذا التحديد لمعناه - كلمة ذات معنى يقع في عالم «الخبرة».
ماذا يدل عليه اسم ك «ابن خلدون» من عالم الخبرة؟ إن ابن خلدون الرجل لم يقع لأحد منا في خبرته؛ بمعنى أن أحدا منا لم يره في أية حالة من حالاته الواقعة، ولكننا قرأنا كلمتي «ابن خلدون» في مواضع عدة من كتب عدة، فهاتان الكلمتان مكتوبتين في تلك المواضع هما كل «خبرتنا» التي تجعل للاسم معنى، وكذلك اسم «سندباد» الذي ورد في القصص الخيالية يكون له معنى في «خبرتنا» بمقدار ما قد رأيناه واردا في السياقات التي ورد فيها. والفرق بين معني «ابن خلدون» ومعنى «سندباد» هو أننا نستطيع أن نتابع الحالات التي ورد فيها اسم «ابن خلدون» حتى نبلغ مرحلة نقتنع عندها بأن لهذا الاسم مسمي حقيقيا كان بين أفراد البشر، وأما بالنسبة لاسم «سندباد» فمهما تابعناه في مواضعه التي ورد فيها فلن نبلغ خطوة في طريق السير نقتنع عندها أن للاسم مسمى خارج الصفحات التي ورد مكتوبا عليها. وعلى كل حال ف «الخبرة» التي تجعل لكل من الاسمين السالفين معنى، هي رؤية الاسم مكتوبا أو سمعه منطوقا، وليست هي الشخص المسمى مرئيا أو محسوسا بأية حاسة أخرى.
وبكلمة موجزة نقول: إن الكلمة يكون لها معنى خبريا إذا لم نوضح معناها بكلمة أخرى، بل بالإشارة المباشرة إلى حالة من حالات الواقع المحسوس؛ فإذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو اللون الواقع في آخر ألوان الطيف الشمسي، كنت بمثابة من يوضح لك الكلمة بكلمات أخريات، أما إذا قلت لك عن اللون الأحمر إنه هو «هذا» مشيرا إلى بقعة لونية أمامنا، كنت بذلك أحدد معنى كلمة «أحمر» بالرجوع إلى الخبرة رجوعا مباشرا. على أن الكلمة التي نوضحها بكلمة أو كلمات أخرى (كما يفعل القاموس في شرح الألفاظ) إذا ما استطعنا أن ننتهي بهذا التعريف اللفظي إلى مرحلة يمكن عندها الإشارة إلى المسمى الفعلي في عالم الواقع المحسوس، نقول عنها إنها ذات معنى خبري، إن لم نصل إليه بخطوة واحدة فنحن مستطيعون الوصول إليه بعد خطوتين أو ثلاث.
حلل هذا الذي قلناه عن معنى «الخبرة» حين نقول عن كلمة ما إن لها معنى في «الخبرة»، تجد الأمر يرتد إلى «عادة» يكونها الشخص الذي يتعلم كلمة ومعناها على هذا النحو، وما دام الأمر كذلك ف «الخبرة» - إذن - هي «عادة» نربط بها بين رمز لغوي وشيء مرموز إليه بذلك الرمز. إنني إذ أشير لطفل يتعلم اللغة في أعوامه الأولى قائلا له كلمة «أحمر» ومشيرا له إلى بقعة لونية حمراء، فإنني بذلك أعمل على أن يربط الطفل صوتا معينا بانطباع بصري معين؛ فإذا ما بلغ هذا الربط عنده من القوة حدا يمكنه إذا ما رأى أحد الطرفين أن يستحضر الطرف الآخر في ذهنه، فلو قلت له لفظة «أحمر» دون أن يكون اللون الأحمر في مجاله البصري استحضر اللون، وإذا رأى اللون حاضرا استحضر اللفظ، أقول إن الربط بين الطرفين إذا ما بلغ عنده هذا الحد، كان بمثابة من كون لنفسه عادة؛ وإذن فلو قلنا عن الطفل عندئذ إن له «خبرة» باللون الأحمر، كان معني قولنا هذا هو أن الطفل قد كون العادة التي تربط بين كلمة معينة وما تشير إليه الكلمة في عالم الأشياء.
إن الذي يفرق بين الأحياء والجوامد هو الوعي، على أن الأحياء تعود فتتفاوت في درجة وعيها بما حولها. وليس يقتصر الوعي على مجرد تأثر الكائن الواعي بما حوله، فلسنا نقول - مثلا - عن الترمومتر إنه على «وعي» بما حوله ما دام عمود الزئبق فيه يتأثر بالحرارة المحيطة به؛ فالجانب المهم من صفة «الوعي» التي تميز الحي من الجامد أولا، ثم تميز الإنسان من سائر درجات الأحياء ثانيا، هو احتفاظ الكائن بما قد وعاه في لحظة ماضية، وربطه بغيره من حالات الوعي الأخرى، بحيث يكون من الطرفين «عادة» تجعل أحد الطرفين وحده كفيلا أن يستحضر الطرف الآخر في مجرى الشعور، ومن مجموعة هذه العادات تتألف «الخبرة».
فماذا نعني - في ضوء هذا الذي قلناه - حين ندعو إلى وجوب اعتماد معنى جملة ما على «الخبرة» وحدها، ما دام الفرض في تلك الجملة هو أنها تنبئ عن جزء من العالم الخارجي بنبأ ما؟ إن ما نعنيه على وجه الدقة هو أن يكون السامع لتلك الجملة قد كون لنفسه عادات بالنسبة إلى كل لفظة واردة في الجملة، بحيث يكون أحد الطرفين المرتبطين في كل حالة من الحالات انطباعا حسيا، ويكون الطرف الآخر لفظا نسمي به ذلك الانطباع، وبالطبع لا يكون الاعتماد على الخبرة كاملا إلا إذا كان الانطباع الحسي الذي هو المرجع في فهم معنى الكلمة التي تسميه انطباعا باشرته بنفسي؛ أي إن الاعتماد على الخبرة لا يكون كاملا وافيا إلا إذا كانت الخبرة خبرتي أنا؛ فلو قلت إني أرى بقعة حمراء، أو قلت إني أحس ألما في ضرسي، كان معنى الجملة عندي معتمدا على خبرة مباشرة أمارسها، لكن مثل هذه الخبرة المباشرة ذاتي كما ترى، خاص بصاحبه، ولو قصرنا أنفسنا عليه وحده لما كان هنالك سبيل للتفاهم؛ أعني أن طريق الاستفادة بخبرات الآخرين ينسد فلا يكون به منفذ نتسلل منه إلى تلك الخبرات الأخرى فنوسع بها مدى علمنا بالعالم الذي نعيش فيه.
وسبيل الاتصال بيني وبين الآخرين، بحيث يوصل كل منا خبراته إلى سواه، هي أن يقدم المتكلم للسامع قالبا فارغا قوامه العلاقات القائمة بين أطراف خبرته مجردة عن مضمون أطرافها المتعلقة بها، فيملأ السامع هذا القالب الفارغ من مخزون ذاكرته بما يجعل جملة المتكلم مفهومة له، فإذا لم يجد في ذلك المخزون ما يسعفه في ملء ما يريد أن يملأه، ظلت جملة المتكلم مستغلقة على فهمه؛ يقول المتكلم لمن يتحدث إليه - مثلا - «لمع البرق ليلة أمس»، فلا ينقل إليه بهذا الحديث «لمعة» كلمعة البرق، بل ينقل إليه «لفظا» أملا في أن يكون السامع قد كون في حياته الماضية «عادات» شبيهة بعادات المتكلم؛ أي أن يكون السامع قد رأى في حياته الماضية لمعة البرق، ووجد إلى جواره من يقول له «برق» في تلك اللحظة نفسها، بحيث ارتبط اللفظ المسموع باللمعة المرئية وتكونت «العادة» أو «الخبرة» التي تجعل كلمة «البرق» بعد ذلك مفهومة، لكن هذا السامع إذا ما فهم عن المتكلم معني عبارته «لمع البرق»، فإنما يفهمها لا بلمعة البرق التي رآها المتكلم، بل بلمعة البرق التي كان السامع قد رآها في خبرته الماضية واستذكرها الآن بمناسبة ذكر اللفظ المرتبط بها.
بهذا نفهم مذهب الوضعيين المنطقيين الذي يربط ربطا وثيقا بين معنى الجملة من جهة وطريقة تحقيقها من جهة أخرى؛ فما ليس لدينا طريقة لتحقيق صدقه يكون كلاما بغير معنى، وما يكون كلاما ذا معنى هو ما نملك وسيلة التحقق من صدقه، والتحقق من الصدق لا يكون - بالبداهة - إلا إذا فهم للكلام معنى، وفهم المعنى لا يكون إلا إذا كانت لدينا خبرات ماضية تستثيرها في الذاكرة ألفاظ الجملة المراد فهمها وتحقيقها. هكذا يتصل «معنى» الجملة ب «تحقيق صدقها» اتصالا يجعل قيام أحدهما مستحيلا بغير الآخر، فيستحيل أن يكون لكلام «معنى» بغير أن يكون الكلام ممكن التحقيق على أساس خبراتنا، ويستحيل أن يكون تحقيق الكلام ممكنا بغير أن يكون له معنى مفهوم استنادا إلى خبراتنا.
إن لنظرية المعرفة عندنا جانبين هامين يتوقف الواحد منهما على الآخر؛ فهنالك - أولا - السؤال الذي يسأل: في أي الظروف يكون للجملة من كلامنا معنى (ونريد المعنى الذي به يكون للكلام إشارة إلى شيء من الواقع)؟ ثم هناك - ثانيا - السؤال الذي يسأل: كيف يتاح لنا أن نعلم إذا كانت الجملة (ذات المعنى) صادقة في إخبارها عن العالم أو كاذبة؟ وهذا السؤال الثاني - كما تري - متوقف على السؤال الأول؛ لأن ما يتقرر عنه في الخطوة الأولى أنه غير ذي معنى، لا يسأل عن صدقه أو كذبه. على أن الإجابة عن السؤال الثاني هي التي تحدد ما يكون للجملة من معنى؛ لأنني حين أرجع إلى الخبرات التي تثبت صدق الجملة، أكون بهذا نفسه قد حددت الخبرات التي تجعل للجملة ما لها من معنى.
وأكرر هذا في عبارة أخرى زيادة في توضيحه، إننا إزاء الجملة المعينة نسير مرحلتين؛ ففي المرحلة الأولى نسأل: أي الخبرات «يمكن» أن يجعل للجملة معني؟ وفي المرحلة الثانية نسأل: هل هناك من الخبرات القائمة «فعلا» ما يجعل تلك الجملة صادقة؟ فإذا كنا إزاء السؤال لا ندري نوع الخبرات التي «يمكن» أن يجعل للجملة معنى، حذفناها من زمرة الكلام المفهوم، واستغنينا عن المرحلة الثانية التي هي مرحلة تحقيق صدقها؛ فإذا قيل لي مثلا إن «المطلق أزلي أبدي» كان السؤال الأول إزاء هذا القول هو: هل عندي من الخبرات التي أختزنها في ذاكرتي ما «يمكن» أن يجعل لهذه الكلمات الثلاث معنى؟ فإن لم أجد مثل هذه الخبرات، كان من العبث أن أنتقل إلى السؤال الثاني الذي يسأل إن كان هذا القول صادقا أو غير صادق؛ لأنه لكي أسأل هذا السؤال الثاني، يجب - بداهة - أن أفهم ماذا عسى أن يكون معنى الجملة المعروضة إذا ما ثبت أنها صادقة. وأما إذا اجتزنا المرحلة الأولى موفقين بأن عرفنا نوع الخبرات التي تجعل للجملة معنى، انتقلنا بعدئذ إلى المرحلة الثانية التي هي البحث عن الخبرات «الفعلية» التي حددنا نوعها في المرحلة الأولى، والتي إن وجدناها قلنا عن الجملة إنها ليست فقط ذات معنى مفهوم، بل إنها كذلك صادقة تنبئ عن العالم نبأ صحيحا.
معنى العبارة هو نفسه طريقة تحقيقها؛ فإذا لم نجد لتحقيقها طريقة كانت عبارة بغير معنى؛ هذا هو مبدؤنا الذي نحذف على أساسه العبارات الميتافيزيقية كلها؛ لأننا نلتمس طريقة لتحقيق هذه العبارات فلا نجد. يقول لنا الميتافيزيقي - مثلا - إن العالم أصله عقل، وإن هذه الأشياء المادية التي نحسها إن هي إلا ظواهر ذلك العقل، فلا نقول لذلك الميتافيزيقي إنه أخطأ القول، بل نطلب منه قبل ذلك أن يبين لنا كيف نتحقق - على أساس خبراتنا - من صدق عبارته؛ لأنه إذا لم يكن هنالك وسيلة لذلك التحقق من صدقها كانت عبارة خالية من المعنى، وكنا بالتالي على ضلال إذا وصفناها بحق أو بباطل؛ لأن ما يوصف بهذا الوصف أو ذلك هو الكلام ذو المعنى، والمعنى تحدده طريقة التحقيق.
وإنه ليكفينا أن نجد طريقة للتحقيق «إمكانا» إذا لم يكن التحقيق «الفعلي» في حدود المستطاع، إذا قال قائل عن وجه القمر الذي لا يواجه الأرض أبدا (فالقمر يواجه الأرض دائما بوجه واحد ويخفي الوجه الآخر) إن به جبالا ووديانا، فلا نرفض مثل هذا القول على أساس خلوه من المعنى، بل نقرر له معناه على الرغم من استحالة التحقق الفعلي من صدقه لاستحالة أن يري راء وجه القمر الذي يدور عنه الحديث. نعم إننا نقرر لهذا القول معنى لأن ألفاظه كلها مما قد تعودنا في مجرى الخبرة أن نربط بها ألوانا من الحس معلومة، فنحن على علم بنوع الانطباعات الحسية التي يتلقاها الرائي إذا رأي جبلا أو رأي واديا.
لكن مقياسنا هذا الذي نستخدمه لنميز به ما نقبله وما نرفضه من القضايا، يجد من المعارضة والمقاومة سيلا لا ينقطع في المؤلفات والدوريات الفلسفية، فحسبه خطرا أنه ينتهي بصاحبه إلى حذف الميتافيزيقا حذفا. والميتافيزيقا - كما تعلم - هي حصن الفلسفة الحصين، الذي تستقل به الفلسفة دون سائر ضروب المعرفة؛ ولذلك فهي حريصة على أن يظل مصونا من الأذى، فإذا رأينا معيارا نقيس به مشروعية العبارة المعينة من عبارات اللغة، بحيث يؤدي بنا إلى التنكر للعبارات الميتافيزيقية كلها، فالويل للمعيار والسلامة للحصن الذي يراد له البقاء. ولو كان معيارنا هذا أمرا تحكميا نفرضه جزافا لجاز للمهاجمين أن ينكروه، لكنه معيار منتزع من منطق اللغة نفسها، تلك اللغة التي لا يجد الميتافيزيقيون بدا من استخدامها للتعبير بها عن مذاهبهم، وأي شيء هو أدنى إلى البداهة من قولنا إن الجملة إذا أريد لها أن تخبر بخبر عن العالم وجب أن تكون كلماتها دالة على جوانب من خبرات السامع؟ فإذا لم تكن تلك الكلمات - باعتراف قائليها أنفسهم - مما يدل على شيء يقع في حدود الخبرة، أفلا نحكم عليها ونحن مطمئنون لصواب حكمنا بأنها إذن تكون كلمات فارغة لا تؤدي إلى السامع خبرا؟
ومن بين الناقدين للوضعية المنطقية في معيارها المذكور برتراند رسل،
5
فيتقدم باعتراضات منها أننا لو جعلنا معنى الجملة متوقفا على وسائل تحقيقها لما كان لجملة معنى لأنه ليس هنالك جملة كاملة في وسائل تحقيقها؛ ذلك لأن وسائل تحقيق الجملة تتناول النتائج التي تترتب على صدقها، وهذه النتائج تمتد ما امتد الزمن؛ وإذن فلا سبيل إلى معرفتها، وبالتالي فلا سبيل إلى تحقيقها. وقد كنا لنقبل هذا الاعتراض لو كنا نزعم أن التحقيق الذي نريده للجملة لكي يجعل لها معنى، هو التحقيق الذي ينتهي بنا إلى اليقين الكامل، ولكننا نعترف بأن مدى علمنا إزاء أي جملة خبرية هو درجة من الاحتمال قد تعلو إلى أي حد شئت، لكنها لن تكون يقينا كاليقين المألوف لنا في الرياضة؛ إذ يكفي أن تكون ناقلا في جملتك خبرا ليكون نقلك هذا - من الوجهة المنطقية - معرضا للخطأ، وبذلك يكون صدقه - في حالة الصدق - احتماليا لاحتمال أن يكون كاذبا؛ فإذا قلت لك - مثلا - إن النيل يفيض في شهر أغسطس من كل عام، لم يكن من حقك أن تعترض - كما اعترض رسل - قائلا بأنه لو كان معنى هذه الجملة هو نفسه وسيلة تحقيقها، كانت بغير معنى لأن تحقيقها الكامل محال، وهو محال لأنني إذا علمت أن النيل قد فاض في أغسطس من كل عام مضى، فلا يمنع مانع منطقي من غياب هذه الظاهرة في الأعوام المقبلة؛ وإذن فلأنتظر طوال هذه الأعوام المقبلة قبل أن أقضي بالصواب على هذه الجملة، وقبل أن أقضي بأن لها معنى؛ لأن تحقيق صوابها وكونها ذات معنى هما وجهان لشيء واحد؛ أقول إنك لو اعترضت بمثل هذا، أجبناك بأن الصدق المزعوم للجملة الإخبارية قصاراه أن يكون احتماليا بدرجة عالية، فإن كانت خبرة الماضي عن فيضان النيل تبرر لي أن أرجح ماذا سيكون عليه في المستقبل، كان هذا الترجيح وحده كافيا للحكم بصواب الجملة وللقول بأنها جملة تحمل معني ما دامت جملة ممكنة التحقيق.
ومن الاعتراضات التي يعترض بها «رسل» أيضا على معيارنا في قبول الجملة أو رفضها على أساس إمكان تحقيقها أو عدم إمكان ذلك، قوله إن ذلك المعيار نفسه هو بمثابة جملة لا يمكن تحقيقها وبالتالي فهي جملة ليست بذات معني ولا يجوز قبولها؛ فلو جاز لي أن أقبل جملة مثل «البرتقال أصفر» لأن الرجوع بمضمونها إلى الخبرة أمر ممكن، فأين الخبرة التي أرجع إليها لأتحقق من معنى جملة تقول: «العبارة التي لا يمكن تحقيقها هي عبارة بغير معنى»؟ ولسنا ندري بماذا نجيب إلا بشيء من منطق رسل نفسه، وهو نظريته في الأنماط المنطقية التي تجعل نوع الحكم الجائز في نمط معين غير جائز في نمط آخر، فما تحكم به على الأفراد لا يصلح للحكم على الفئات، وما يصلح للحكم على الفئات لا يصلح هو نفسه للحكم على فئات الفئات وهكذا؛ فإن جمعت قائمة من قضايا وأمكنك أن تصف كلا منها بوصف ما، فلا يجوز أن تقول هذا الوصف نفسه بالنسبة لمجموعة القضايا كلها، وعلى ذلك فلا يجوز أن أطالب بتطبيق المبدأ الذي أطبقه على أعضاء القائمة وهي فرادي، على الجملة العامة التي تقال عن سائر هذه الأعضاء دفعة واحدة؛ إن مصداق كل جملة مفردة هو الواقعة الخارجية التي جاءت تلك الجملة لتصفها، أما الجملة العامة التي تقال عن مجموعة الجمل المفردة مصداقها هو الجمل المفردة نفسها لا عالم الواقع وعالم الخبرة المباشرة، ومن هنا لم يكن يجوز للناقد أن يسأل عن الخبرة التي نؤيد بها قضية عامة تقال عن سائر القضايا. ولأضرب مثلا موضحا قبل أن أترك الحديث في هذه النقطة لأنها نقطة كثيرا ما ترد على أقلام الناقدين، فافرض أن في مكتبتي مائة كتاب، وأنني وصفت كل كتاب بجملة، فأقول مثلا هذا الكتاب الفلاني يبحث في حياة سقراط وفلسفته، وهذا الكتاب الثاني يشتمل على مذكرات كتبها فيلسوف معاصر وهكذا، ثم افرض أني قلت عن هذه الجمل المائة بعد الفراغ منها هذه العبارة الآتية: «هذه الجمل كلها أوصاف للكتب التي في مكتبتي.» فها هنا ترى أن الجمل المفردة يتحقق صدقها بالرجوع إلى الوقائع الخارجية؛ أي إلى الخبرة المباشرة بما هنالك، وأما الجملة العامة التي تشير إلى الجمل المفردة فلا يكون تحقيقها بالرجوع إلى خبرة حسية كما هي الحال في الجمل المفردة، بل يكون تحقيقها بالرجوع إلى الجمل المفردة نفسها. ونعود بعد هذا الشرح كله إلى قول الناقد للوضعية المنطقية بأن معيارها القائل بأن ما ليس يمكن تحقيقه بالخبرة لا يكون ذا معنى، هو نفسه قول لا يمكن تحقيقه بالخبرة؛ وإذن فهو قول بغير معنى، نعود إلى قول الناقد هذا لنرده بما أسلفناه من شرح يوضح اختلاف النمط في كل من الحالتين، ومع اختلاف النمط بين قضيتين - واحدة تشير إلى واقع، وأخرى تشير إلى القضية الأولى لا إلى الواقع - أقول إنه مع اختلاف النمط بين قضيتين لا يجوز الحكم عليهما بصفة واحدة.
الفصل العاشر
من السببية إلى القانون العلمي
1
لو كانت الأشياء ساكنة ثابتة على حالة واحدة لا تتغير، لما نشأت عند الإنسان فكرة السببية؛ لأن هذه الفكرة وليدة ما يطرأ على الأشياء من تغير؛ فما ينفك الشيء الواحد - فيما ندركه منه بحواسنا - يتغير ويتبدل حالا بعد حال، فلا يسعنا إلا أن نتساءل إزاء كل حالة من حالات التغير قائلين: ما علة التغير هنا؟ أيكون ثمة علاقة بين التغير الطارئ على هذا الشيء المعين والتغير الطارئ على ذلك الشيء الآخر؟ أيكون ثمة علاقة - مثلا - بين الذبول الذي أصاب هذه الزهرة وبين ارتفاع الحرارة في الهواء المحيط بها؟ وإن كان هنالك مثل هذه العلاقة بين الظاهرتين فماذا عساها أن تكون؟
وقد لفتت ظاهرة التغير هذه أنظار الفلاسفة منذ فجر التفكير الفلسفي المنظم؛ إذ سأل الفلاسفة الأولون سؤالا أساسيا جعلوا له أسبقية على سؤالنا عن العلاقة بين حالة التغير هنا وحالة التغير هناك، سأل هؤلاء الأولون قائلين: ما الذي يتغير؟ إنه لا شك فيما تنبئنا به حواسنا من حالات التغير في هذا الشيء أو ذلك؛ فالشمس تشرق ثم تغرب، والقمر يظهر ثم يختفي، والنهر يفيض بمائه ثم يغيض، والزهر يتفتح ثم يذبل، وكل حي صائر إلى موت؛ هذه كلها ضروب من التغير لا شك في حدوثها، فقبل أن نسأل عنها، وجب أن نسأل عما وراءها: فما العنصر أو العناصر التي يطرأ عليها هذا التغير أو ذاك؟ أيكون هناك تغير دون أن يكون هناك ما يتغير؟ وهكذا راح فلاسفة اليونان يسألون عما وراء هذا التغير الظاهر من ثبات، وعما خلف هذه الأعراض العابرة من دوام.
وسرعان ما تبلورت المشكلة في هذه الصورة: كيف يكون الكون متغيرا وثابتا في آن واحد؟ كيف يجتمع هذان النقيضان في شيء واحد بحيث يجوز لنا أن نقول عنه إنه ذو جوهر ثابت ومع ذلك فهو يتغير حالا بعد حال؟ فإن كان لهذه الزهرة حقيقة ثابتة فكيف نقول عنها في الوقت نفسه إنها تذبل بعد نضارة وتزول بعد نماء؟ وقل سؤالا كهذا عن الكون كله؛ فإن كان ذا حقيقة ثابتة دائمة فكيف نقول عنه في الوقت نفسه إنه متغير متحول، على النحو الذي تدركه الحواس؟
أما الإيليون فقد أزالوا التناقض ببتر أحد شطريه، فجعلوا للحقيقة القائمة ثباتا، وأنكروا أن يكون التغير البادي أكثر من خداع ووهم؛ فإن كان ثبات الحقيقة يدركه العقل، وتغير الظواهر تدركه الحواس، فالعلم الجدير بهذا الاسم هو ما يدركه العقل لا ما تدركه الحواس. وأما هرقليطس فقد أزال التناقض أيضا ببتر أحد شطريه، لكنه بتر ما أبقاه الإيليون، وأبقى ما بتروه ، فلا ثبات هناك - عند هرقليطس - ولا دوام، وكل ما في الأمر تغير بلا متغير، وحركة بلا متحرك، كل ما هنالك حالات يعقب بعضها بعضا، وما نظنه في الأشياء من دوام هو الوهم وهو الخداع. إن هذا الذي تسميه نهرا هو في الحقيقة حالات عابرات، لا تكاد حالة منها أن تحل حتى تزول، فليس النهر الذي تغمس فيه قدمك الآن هو هو النهر نفسه الذي تعود فتغمسها فيه مرة أخرى، مهما يكن من قصر الفترة التي تفصل الغمستين، فأنت - على حد تعبير هرقليطس - لا تخطو في النهر الواحد مرتين. وجاء أفلاطون بحل ثالث يعالج به التناقض في قولنا عن الشيء إنه ثابت ومتغير معا؛ إذ شطر العالم عالمين، فعالم منهما يكون للثبات، والآخر يكون للتغير؛ فأما عالم الثبات فقوامه أفكار مجردة لا أشياء مفردة، ومن طبيعة الفكرة المجردة أن تكون ثابتة دائما على تعريف واحد، مهما أصاب تطبيقاتها من تغيرات تجعلها تبعد أو تدنو من الفكرة النموذجية لهذه التطبيقات، فقل ما شئت عن المثلثات المرسومة على الورق من قربها أو بعدها عن المثال الكامل، لكن تعريف هذا المثلث الكامل سيظل هو هو دائما، وهذا التعريف «فكرة» قائمة، وستظل قائمة حتى إن محوت كل ما فوق الأرض من مثلثات مرسومة؛ وإذن فهنالك الجانبان معا؛ الثبات في ناحية والتغير في ناحية أخرى، ولكل منهما عالم قائم بذاته.
ومهما يكن أمر التغير الظاهر أحقيقة هو أم وهم وباطل، فإن ما يهمنا منه في سياقنا هذا هو حالات التغير التي يقال عنها إنها مجال للعلاقة السببية بين الحالة التي بدأ منها التغير والحالة التي انتهى إليها؛ فماذا تكون العلاقة التي تربط بين ما نسميه «سببا» أو «علة» وبين ما نسميه «مسببا» أو «معلولا»؟
لقد تناول أرسطو موضوع السببية أو العلية بالبحث؛ لأن مهمة علم الطبيعة - في رأيه - هي معرفة أسباب ما يحدث فيها من تغير، وعنده أن هذه الأسباب أربعة أنواع، هي العلة المادية والعلة المحركة والعلة الصورية والعلة الغائية، وليست هذه العلل تتعاقب بعضها بعد بعض، كلا وليس بعضها يقوم في حالة على حين يقوم بعضها الآخر في حالة أخرى، بل إنها جميعا تعمل معا في كل حالة من حالات الوجود ؛ فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكون منها الشيء كالبرنوز للتمثال، والعلة المحركة هي القوة التي عملت على تغيير المادة لتتخذ شكلا جديدا، كالمثال الذي يصنع من البرنوز تمثالا، والعلة الصورية هي الصفات التي تجعل من الشيء ما هو، كالشكل الذي يصب فيه البرونز ليكون تمثالا من طراز معين، والعلة الغائية هي المقصد الذي تتجه الحركة لبلوغه، فالعلة الغائية التي في سبيلها تناول المثال قطعة البرونز ونحتها صورة معينة بإزميله، هي التمثال نفسه الذي نتج.
وإنا لنلاحظ أن المعاني التي قصد إليها أرسطو بكلمة «علة» أو «سبب» تختلف عما يفهم من هذه الكلمة في استعمالنا اليومي وفي استعمالنا العلمي اليوم على السواء؛ فإذا سألت في سياق الحياة اليومية الجارية، مشيرا إلى تمثال برونزي، قائلا: ما علة صنع هذا التمثال؟ لما كان الجواب أنه وجود قطعة البرونز؛ ولا كان الجواب أنها الماهية التي صيغ البرونز عليها فجعلته تمثالا؛ أي إن الجواب لا يكون بذكر العلة المادية ولا بذكر العلة الصورية، وإنما يكون دائما بذكر العلة المحركة أو العلة الغائية، أو بذكرهما معا، فنقول إنه المثال هو علة صنع التمثال، أو نقول إن إنتاج هذا التمثال المعين كان هو علة صنعه. وكذلك في استعمالنا العلمي لهذه الكلمة اليوم لم نعد نقصد هذه المعاني الأربعة كلها، فليست الغاية المقصودة جزءا من العلة في لغة العلم، كلا ولا الماهية التي تجعل من الشيء ما هو جزءا من العلة، فلا يجوز - مثلا - إذا أردت أن أعلل كسوف الشمس أو فيضان النهر أن أسأل ما الغاية المقصودة من هذه الظاهرة أو تلك، ولا أن أسأل على أي صورة تكون ماهية الظاهرة، بل السؤال ينصرف إلى ما قد حدث قبل حدوث الظاهرة بحيث يكون حدوثه مطردا دائما مع حدوثها؛ فلو استبدلنا بكلمة «محركة» في لغة أرسطو كلمة «سابقة» كانت العلة في لغة العلم الحديث - كما سنشرح بالتفصيل فيما بعد - هي الحادثة السابقة للظاهرة أسبقية لا تتخلف ولا تمتنع.
وكان «ديفد هيوم» (1711-1776م) هو أول من نقل فكرة العلية أو السببية هذه النقلة الواسعة التي كان لها أبعد النتائج في تفكيرنا العلمي المعاصر، بحيث أصبح معناها هو الاطراد الملحوظ بين حادثتين أو مجموعتين من الحوادث، اطرادا يجيز لي أن أتوقع حدوث المجموعة التالية إذا حدثت المجموعة الأولى، دون أن يكون في المجموعة الأولى التي هي «سبب» ما يحتم بالضرورة أن تصدر عنها المجموعة الثانية، وسنتناول هذا الرأي بالشرح والتحليل.
سل من شئت: ماذا تعني بقولك إن تيار الهواء في الغرفة هو «سبب» إصابتك بالبرد، أو إن جرعة السم التي شربها سقراط هي التي كانت «سبب» موته؟ تجده يجيبك أول الأمر بوضع كلمة مكان أخرى ظنا منه أنه بذلك قد أوفى الجواب، كأن يقول مثلا: إن الشيء يكون «سببا» في شيء آخر إذا «أحدثه»؛ فتيار الهواء هو الذي «أحدث» الإصابة بالمرض؛ ولذلك فهو «سبب» المرض، وجرعة السم هي التي «أحدثت» الموت؛ ولذلك فهي «سببه». ولكن صاحبك - كما ترى - لا يفسر شيئا؛ لأنك لا تزال في موقفك الأول إزاء المشكلة، وبعد أن سألته ماذا تعني حين تقول إن شيئا ما «سبب» في شيء آخر، فأنت الآن مضطر إلى سؤاله من جديد: ماذا تعني حين تقول إن شيئا ما «أحدث» شيئا آخر؟ ف «السبب» و«الإحداث» لفظان مترادفان، وليس المطلوب هنا هو أن نضع مرادفا مكان مرادف، بل أن نحلل ما نعنيه بالمترادفين كليهما، فنحن ها هنا لا نطلب تعريف لفظ بلفظ كما تعرف كلمة «الليث» بأنها «الأسد»، بل نريد تعريف لفظ بالإشارة إلى مسماه، كما تعرف كلمة الأسد بالإشارة إلى فرد من الحيوان المسمى بهذا الاسم؛ فإلى أي شيء في الطبيعة تشير إذا أردت أن تحدد معنى كلمة «سبب»؟
قد يخطو صاحبك هنا خطوة نحو الإجابة الصحيحة حين يستعرض بضعة أمثلة من حالات نقول فيها إن شيئا ما «سبب» في شيء آخر، فيجد عنصرا مشتركا بينها جميعا، وهو أن ما نسميه «سببا» سابق دائما على مسببه، بحيث يجوز لنا أن نقول إن معنى السببية بين الطرفين هو هذه «الأسبقية» في الحدوث ، ولكنك سرعان ما تلفت نظره إلى أنه ما كل أسبقية في الحدوث نقول عنها إنها علاقة سببية، فربما حدث صدام بين قطارين منذ لحظة في موضع من الوجه القبلي بمصر، لكن هذا الصدام ليس «سببا» في أني قد أمسكت بقلمي الآن لأكتب وأنا في القاهرة، رغم أن الحادثة الأولى كانت أسبق في الزمن من الحادثة الثانية؛ فأسبقية الحدوث - إذن - ليست كل عناصر العلاقة التي نطلق عليها اسم «السببية» وإن تكن عنصرا ضروريا.
وقد يقول قائل هنا: ألا يجوز أن يكون المستقبل «سببا» للحاضر؟ إنني إذا أردت السفر بعد أسبوع، فربما بدأت منذ الآن أعد حقائبي وسائر ما يلزمني في رحلتي المرتقبة، أفلا يكون السفر في هذه الحالة (وهو حادث مقبل) سببا في سلوكي الراهن؟ لكن مثل هذا القول قائم على تحليل ناقص، فليس السفر نفسه في هذه الحالة هو «سبب» سلوكي؛ لأن عائقا ربما حدث فحال دون حدوثه، فأين يكون «السبب» المزعوم عندئذ؟ كلا، إنما السبب في هذه الحالة هو «فكرتي» الراهنة عما أريده لنفسي بعد أسبوع، وفكرتي هذه سابقة بالضرورة على سلوكي الذي جاء تنفيذا لها.
أسبقية الوقوع إذن شرط ضروري في «السبب»، لكنها ليست كافية وحدها لتجعل أي سابق سببا لأي مسبوق؛ فمحال أن تكون الرصاصة التي انطلقت هنا الآن هي السبب في قتل من مات هناك بالأمس، ولا أن يكون المطر النازل هذا الصيف هو السبب في ازدهار النبات في الربيع الماضي؛ فالسبب لا يلحق نتيجته أبدا، بل لا بد أن يسبقها في الوقوع، ولكن إلى جانب هذه الأسبقية لا بد من توافر شروط أخرى، فماذا عساها أن تكون؟
في محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنلتقي وجها لوجه بالمشكلة الكبرى التي شطرت الفلاسفة إزاءها شطرين؛ فعقليون من جهة وتجريبيون من جهة أخرى، وهي نفسها المشكلة التي وقف هيوم حيالها موقفه المعروف في تاريخ الفلسفة، وهو الموقف الذي أيقظ «كانت» من سباته كما قال عن نفسه؛ ذلك لأن النظرة التقليدية إلى الأمر كانت تؤدي بالفلاسفة العقليين إلى أن يقولوا إن بين الشيء الذي نقول عنه إنه «سبب» والشيء الآخر الذي نقول عنه إنه «مسبب» علاقة ضرورية بحيث لا يكفي أن يكون الأول قد سبق الثاني في الوقوع، بل إلى جانب هذه الأسبقية هنالك ضرورة توجب أن يكون هذا السابق متبوعا بلاحقه هذا المعين؛ فإذا قلت عن شيئين «س» و«ص» إن بينهما علاقة سببية، فقد قلت - في رأي الفلاسفة العقليين - إن بينهما علاقة ضرورية الحدوث ليس عن قيامها بينهما منصرف ولا محيص؛ إذ يستحيل عندئذ أن يحدث أحدهما ولا يحدث الآخر في ترتيبه الذي جاء به، كأنما الشيئان قد شد أحدهما إلى الآخر شد حلقة إلى أخرى من حلقات السلسلة الواحدة.
كان هذا هو الرأي الذي جاء هيوم فصب عليه من تحليله ونقده ما انتهى به إلى رأي جديد.
2
المبدأ الأساسي عند هيوم هو أن أفكارنا كلها ليست إلا صورا مما كانت حواسنا قد انطبعت به انطباعا مباشرا، فيستحيل علينا أن «نفكر» في شيء لم يكن قد سبق لنا أن «أحسسناه» بإحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة؛ فإذا كانت لدينا فكرة مركبة، واستطعنا تعريفها بسلسلة من ألفاظ وعبارات، كان ذلك نفسه معناه أننا نحاول أن نحصي ما فيها من أفكار بسيطة، بحيث يكون لكل فكرة بسيطة منها الانطباع الحسي الذي يقابلها باعتباره مصدرا لها. إن الفكرة المركبة لتتضح وضوحا تاما كاملا محددا إذا حللناها إلى الأفكار البسيطة التي منها ركبت، ثم إذا التمسنا لكل واحدة من هذه الأفكار البسيطة مصدرها الحسي؛ ذلك لأن الانطباع الحسي محدد وواضح ولا تعدد لمعناه. وهكذا يكون رد الفكرة المركبة إلى مقدماتها البسيطة، بحيث نعود فنرد كل واحد من هذه المقومات إلى الانطباع الحسي الذي هو أصله ومصدره، بمثابة المجهر الذي نتعقب به دقائق أفكارنا لنميز زائفها من صحيحها.
وفي هذا الضوء خذ فكرة «الرابطة الضرورية » التي يقول الفلاسفة العقليون إنها تصل ما بين السبب والمسبب، وسل نفسك: ما الانطباع الحسي الذي كان مصدرها؟ ماذا انطبعت به هذه الحاسة أو تلك، بحيث بقي الانطباع في أنفسنا فكرة هي التي نقول عنها إنها فكرة «الضرورة»؟
إننا إذا ما تلفتنا حولنا متجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية، باحثين فيما نسميه «أسبابا» لنرى ما فعلها، فلن نجد في أية حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن «رابطة ضرورية» بين السبب ومسببه، إننا لن نجد أبدا صفة تنطبع بها حواسنا وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلته ربطا يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومة لعلته، يتبعها دائما ولا يتخلف عنها بحكم ضرورة في طبائع الأشياء تقتضي ذلك؛ فكل ما نراه هو أن النتيجة تتبع سببها فعلا، فنري - مثلا - أن كرة البليارد المتحركة إذا ما صدمت كرة أخرى ساكنة، فإن هذه الثانية تتحرك كذلك. إن الذي ينطبع على حواسنا «الظاهرة» هو صورة كرة أولى تتحرك وصورة كرة ثانية تعقبها في الحركة، وليس هنالك من الحواس «الباطنة» ما يطبع العقل بانطباع آخر له علاقة بتعاقب هاتين الصورتين؛ وإذن فلا الحواس الظاهرة ولا الحواس الباطنة تأتينا بانطباع يوحي بفكرة العلاقة الضرورية المزعومة بين السبب والمسبب.
إن الصورة التي يظهر فيها الشيء لنا لأول مرة، لا تنبئنا بالحالة التالية التي سيكون عليها ذلك الشيء؛ إذ إن مظهر الشيء في حواسنا لا يكفي وحده أن يعيننا على معرفة ما سيعقبه بحيث يجوز لنا أن نقول إن هناك رابطة ضرورية تحتم أن يعقب الشيء الفلاني الشيء الفلاني، على اعتبار أن ما يحدث منهما أولا فيه من الطاقة الطبيعية ما ينتج الشيء الذي يحدث منهما ثانيا. ولو كان في مستطاع العقل أن يكشف في «السبب» عن قوة أو طاقة، لاستطاع بالتالي أن يتنبأ ب «النتيجة» قبل وقوعها دون أن يعتمد في ذلك على خبرة حسية ماضية. نعم كان يكفي العقل عندئذ أن يتأمل «فكرة السبب» ليستنتج منها استنتاجا منطقيا صرفا «فكرة المسبب».
إنه ليس في مادة الكون كلها جزء يكشف بما يبديه من خصائص محسوسة عن قوة يخفيها، كلا ولا هو يمدنا بالأساس الذي يبرر لخيالنا أن يتصور أنه لا بد أن ينتج كذا وكذا من النتائج بحكم طبيعة ذلك الشيء نفسها؛ فللأشياء - مثلا - صفات الصلابة والامتداد والحركة، وكل صفة من هذه الصفات قائمة بذاتها لا تعتمد في إدراكنا لها على صفة أخرى، لكنها في الوقت نفسه لا تدلنا أبدا على أية نتيجة مما يتحتم أنه يترتب عليها. نعم إن مشاهد الكون دائبة التغير، يتبع شيء منها شيئا في تعاقب لا ينقطع، غير أننا لا نعلم من هذه الأشياء المتتابعة إلا هذا التتابع الظاهر بينها، ولا نملك بحال من الأحوال أن نجاوز حدود المشاهدة المستطاعة بحيث نستطلع ما وراءها لنقول إن وراء هذا التتابع الظاهر قوة خفية هي التي تربط ربطا ضروريا بين السابق واللاحق.
قد يقال إن الرابطة الضرورية التي تصل بين الحوادث لاحقها بسابقها، وإن تكن غير بادية للحواس فيما يقع للحواس من انطباعات جزئية، يمكن لنا إدراكها إذا ما تأملنا عقولنا وهي في فاعليتها ونشاطها، نعم قد يقال ذلك استنادا إلى أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته الواعية مدرك لهذه القوة الباطنية وهي تفعل فعلها في ربط السبب بالمسبب، فانظر إلى نفسك وأنت تهم بتحريك ذراع أو قدم، أليست إرادتك تأمر، وأعضاء البدن تطيع؟ وإذن فها هنا قد أدركنا القوة التي تربط معلولا بعلته؛ ومن ثم استطعنا أن نعمم القول بأن بين كل سبب ومسببه مثل هذه الرابطة الخفية التي وعيناها في دخيلة أنفسنا حين وعينا الإرادة وهي تحرك جارحة في أبداننا أو تستثير فكرة في ذاكرتنا؛ فليس بنا حاجة إلى التماس فكرة «الرابطة الضرورية» في انطباعاتنا الحسية، ما دمنا قد وجدناها عند التأمل في عقولنا وهي تعمل، وفي إرادتنا وهي تحدث الأحداث.
قد يقال هذا؛ وإذن فلا بد من وقفة نحلل فيها هذه القوى الباطنية المزعومة، كقوة الإرادة مثلا، أعني قدرتها على تحريك أعضاء البدن، وأول ما نقرره في هذا الصدد هو أن تأثير الإرادة في هذا لا سبيل إلى إدراكه إلا إذا مارسناه بأنفسنا وأصبح بهذه الممارسة خبرة من خبراتنا، شأنه في ذلك شأن الحوادث الطبيعية كلها، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا إذا باتت جزءا من خبراتنا. أريد أن أقول إن الإرادة هنا باعتبارها سببا يسبب تحريك هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، شأنها شأن أي حادثة أخرى من حوادث الطبيعة مما نعده سببا لحادث يتلوه، لا بد لنا من تجربة تدلنا على هذا التتابع بين الحادثين لنقول عنهما إنهما سبب ومسبب، وليس في طبيعة الحادثة الأولى نفسها ما يدل على أن الحادثة الثانية ستتلوها، وكذلك قل في الفعل الإرادي، حين يكون هنالك إرادة من ناحية وجزء من الجسم يتحرك تبعا لها من ناحية أخرى، فليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنه من الحتم أن تتبعها ما يتبعها من حركة بدنية.
نعم إننا في كل لحظة من لحظات حياتنا الواعية ندرك أن حركة البدن تتبع أوامر الإرادة، لكن هل نعي شيئا في أنفسنا غير هذا التتابع بين الأمر الإرادي وتنفيذه الجسدي؟ هل نعي رابطة بينهما بحيث نقول إنها الرابطة الضرورية التي تحتم أن يكون الطرف الأول متبوعا بالطرف الثاني؟ كلا، إذ لو وعينا العلاقة بين الجانب الإرادي من جهة والجانب الجسدي من جهة أخرى، إذن لانحل لنا لغز من أعقد وأغمض ما يصادفنا في الطبيعة كلها من ألغاز، ألا وهو العلاقة بين النفس والجسم، التي يقال فيها إن عنصرا روحانيا فينا له القدرة على التأثير في عنصر مادي، أو بعبارة أخرى، إن الفكر الخالص من ناحية له القدرة على تحريك المادة من ناحية أخرى؛ فليس تحريك إرادتك لذراعك بأقل غرابة من أن تجلس مفكرا في الجبل مريدا له أن يتزحزح من مكانه، فيتزحزح الجبل تنفيذا لفاعلية فكرك؛ أقول إنه لو كان في مستطاعنا أن ندرك في أنفسنا «قوة» هي التي تصل الإرادة بفعلها، لاستطعنا بالتالي أن نعرف علاقة النفس بالجسد، أو علاقة الفكر بالمادة وكيف يؤثر الأول في الثانية.
1
لا، ليس في مستطاع الإنسان أن يدرك في نفسه «قوة» كهذه، وكل ما يدركه إذ هو يقوم بفعل إرادي هو عزمه الإرادي من ناحية، ثم الحركة الجسدية المترتبة على ذلك العزم من ناحية أخرى؛ وأعيد القول بأنه ليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنها لا بد أن تتبعها حركة الجسم تنفيذا لعزمها، بدليل أننا لا نستطيع أن نحرك بالإرادة إلا بعض أجزاء الجسم دون بعضها الآخر، ولو سئلنا قبل الخبرة: أي أجزاء الجسم في مستطاع الإرادة تحريكه، وأيها تعجز الإرادة عن تحريكه؟ لما كان في وسعنا أن نجيب؛ إذ لا بد أن ننتظر الخبرة لتدلنا ماذا نستطيع تحريكه من أجزاء الجسم بالإرادة وماذا لا نستطيع. لماذا يكون للإرادة قدرة على تحريك اللسان والأصابع ولا يكون لها قدرة على تحريك القلب والكبد؟ كنا نجيب عن هذا السؤال لو كان لنا علم بقوة معينة موجودة في الحالة الأولى وغائبة في الحالة الثانية، لكن ليس لدينا مثل هذا العلم. نعم، لو كان لنا علم بقوة باطنية معينة هي التي تجعل الرابطة ضرورية بين السابق واللاحق - كما يزعم الزاعمون - لعلمنا بالتالي، وقبل الخبرة، ماذا تستطيع تلك القوة أداءه وماذا لا تستطيعه.
إن من يصيبه الشلل بغتة في ساق له أو ذراع، ليحاول بإرادته أن يحرك العضو المصاب كما ألف أن يحركه من قبل، إنه يحاول ذلك وهو على أتم وعي بعزمه الإرادي، تماما كما كان على وعي بعزمه الإرادي حين كان يريد تحريك ساقه أو ذراعه قبل أن يصيبهما الشلل. ولو كانت تلك القوة المزعومة (التي تربط بين الإرادة وفعلها) مما يستطيع الإنسان إدراكه، لعرف هذا المشلول قبل محاولته الإرادية تحريك العضو المصاب أنه لن يستطيع ذلك لأن القوة قد غابت عنه، لكنه لا يدرك هذا العجز إلا بعد أن يحاول دون جدوى؛ ومعنى ذلك أن الخبرة وحدها هي التي تدلنا إن كان العزم الإرادي سيصحبه الفعل المعين أو لا يصحبه، وليس في العزم الإرادي نفسه ما يدل على ذلك قبل الخبرة ؛ فالخبرة وحدها هي الدالة على أن حدثا معينا يتبع حدثا، دون أن تدلنا على موضع الرابطة الخفية التي تربط بين الحدثين، بحيث تجعل الحدث الثاني أمرا محتوما في تبعيته للحدث الأول.
وما قلناه عن الإرادة في تحريكها لجزء من أجزاء البدن، من حيث إننا ندرك الطرفين ولا ندرك ما بينهما من رابطة، نقوله أيضا عن الإرادة واستحداثها لفكرة معينة؛ ذلك أنك قد تستطيع بعزيمة إرادية أن تحضر إلى الذهن فكرة لم تكن حاضرة فيه، وها هنا كذلك يمكنك أن تدرك عزمك الإرادي من ناحية، والفكرة التي استحضرتها إلى ذهنك من ناحية أخرى، ولكنه محال عليك أن تدرك الرابطة التي بينهما؛ وإذن فكل ما يجوز لك أن تتحدث عنه هو طرف السبب وطرف المسبب، أما أن العلاقة بينهما هي كذا أو كيت، فمما يجاوز حدود المستطاع.
وكما أن الإرادة في استحداثها لحركات الجسد محدودة بحدود، بحيث يمكنها تحريك بعض الأعضاء دون بعضها الآخر لعلة لا ندريها، سوى أن الخبرة هكذا تدلنا على الإرادة وحدود فعلها، فكذلك الإرادة في استحضارها للأفكار في الذهن محدودة أيضا بحدود، فيمكنها أن تستحضر هذه الفكرة ولا يمكنها أن تستحضر تلك لعلة لا ندريها سوى أن هذه هي خبرتنا وما تدل عليه، إننا لنلاحظ عن أنفسنا أننا أقدر على استحضار الأفكار في أذهاننا في بعض الحالات دون بعضها، فنحن أقدر في حالة الصحة منا في حالة المرض، وأقدر في حالة هضم الطعام منا في حالة التخمة، فهل يستطيع أحد أن يدلنا على علة لهذا كله غير معتمد على خبرته؟ هل يستطيع أحد أن يسبق الخبرة بحيث يقرر بادئ ذي بدء أنه أقدر على استحضار أفكاره في حالة الجوع منه في حالة الشبع، أم لا بد له أن ينتظر خبرته لنفسه وهو جائع ثم خبرته لنفسه وهو مليء ليقول بعدئذ عما قد عرفه في نفسه بالخبرة؟ وإذن فالخبرة وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بأن كذا من الظواهر يتبع كيت، دون أن نعلم شيئا قط عن علاقة ضرورية تربط بينهما ربطا محتوما يجعل الطرف الأول وحده كافيا للدلالة على أن الطرف الثاني سيتبعه، سواء وقع لنا ذلك في الخبرة السابقة أو لم يقع.
هكذا ذهب هيوم، وهكذا نذهب معه نحن أنصار التجريبية العلمية، بأن علمنا بالرابطة السببية في جميع حالاتها لا ينشأ عن التفكير العقلي الخالص، الذي يستغني عن الخبرة الحسية في تقريره لما يقرره، أو بعبارة أخرى، ليس علمنا بالرابطة السببية في أية حالة من حالاتها علما «قبليا» مستقلا عن مصادر الخبرة الحسية في إثبات صدقه، بل هو علم مستمد دائما وفي جميع الحالات من الخبرة الحسية التي تقدم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهما رابطة السبب بالمسبب، تقدمهما لنا متصلا أحدهما بالآخر في كل حالة يقعان فيها لنا في خبراتنا. وإذا لم يحدث لشيء معين أن يقع لنا في خبراتنا الحسية أبدا، بحيث لا ندري شيئا عن سوابقه أو لواحقه أو مصاحباته، ثم سئلنا: ماذا يكون سببه أو ماذا يكون مسببه؟ لاستحال علينا استحالة قاطعة أن نجيب عن ذلك بشيء، مهما تكن لدينا القدرات العقلية على أتم ما تكون قوة وكمالا؛ فآدم - على افتراض كمال قدراته العقلية - ما كان ليستدل من سيولة الماء وشفافيته أنه يختنق به لو غرق فيه، أو يستدل من الضوء والدفء اللذين ينبعثان من النار أنه يحترق لو وثب فيها؛ ذلك أنه محال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيء ما بعضها الآخر، دون أن تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقترانا يبرر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك. وبعبارة أخرى نقول إن التفكير العقلي وحده، أعني التفكير العقلي الخالص الذي لا يستند إلى خبرة حسية، محال عليه أن يستدل شيئا قط عن طبيعة العالم الخارجي الواقع.
2
الخبرة الحسية وحدها - إذن - لا التفكير العقلي الخالص، هي المصدر الذي نستقي منه علمنا بعالم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقع ما عساه أن يحدث من حوادث ذلك العالم، وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحت أن يحكم على قطعتين ملساوين من الرخام التصقت إحداهما بالأخرى أنهما لو جذبتا في اتجاه عمودي لتنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوة يسيرة لانفصالهما إذا ما دفعت الواحدة منهما دفعا أفقيا لتنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يعلم شيئا عن دوي البارود إذا ما تفجر، أو جذب المادة الممغطسة للمعادن؟ كيف يمكن بغير الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاء صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟
ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيل إلينا أننا مدركوه بغير خبرة حسية، وأن العقل الصرف قادر وحده أن يدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا، مثال ذلك ما نتوهمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرك حتى تصدم كرة أخرى فتحركها؟ فها هنا ترانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمر كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يحدث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه، لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهم أنه أمر ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كاف للكشف عنه.
لكن العقل المحض يستحيل عليه أن يجاوز حدود الأمر الواقع بحيث يقول إنه سبب لكذا أو مسبب لكذا، فمهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا، أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحق بها؛ فالسبب شيء والمسبب شيء آخر؛ السبب والمسبب حادثان مختلفان، وتحليل أحدهما تحليلا عقليا لا يدل وحده على الآخر؛ فحركة الكرة الثانية من كرتي البلياردو حادث قائم وحده بالنسبة إلى حركة الكرة الأولى، وليس في أي من الحركتين أقل علامة تشير إلى ضرورة وجود الأخرى. اقذف بحجر في الهواء، واتركه غير مستند إلى شيء، يسقط على الأرض من فوره، لكن لا بد من الخبرة الحسية السابقة لأعلم منها هذا التلاحق بين الحادثتين، وإلا فالعقل البحت وحده مهما أمعن في تحليل الموقف، فلن يجد أن السقوط إلى الأرض متضمن بالضرورة في وجود الحجر في الهواء؛ إذ ليس عند العقل الصرف ما ينفي أن يستمر الحجر في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما ينفي أن يتحرك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار،
3
وما دام العقل لا ينفي أن يتحرك الحجر في أي اتجاه، إذن فالخبرة هي مصدرنا في العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر - بين الممكنات الكثيرة - هو الاتجاه إلى أسفل.
إنني إذا شهدت كرة من كرات البلياردو متحركة في اتجاه كرة أخرى ساكنة، فهل يقضي العقل المجرد بضرورة أن تتحرك الكرة الأخرى إذا ما مستها الأولى؟ ألا يمكن عقلا تصور أن تسكن الكرتان معا؟ ألا يمكن عقلا أن تصدم الكرة المتحركة الكرة الساكنة وبدل أن تحركها تعود هي مرتدة، أو تقفز فوقها ثم تسير في أي اتجاه؟ هذه كلها أوضاع ممكنة عند العقل الصرف، ولا مبرر - من حيث التفكير العقلي الخالص - يجيز لنا أن نفضل حالة على أخرى من هذه الحالات التي يتساوي إمكانها عند حكم العقل؛ وإذن فيستحيل علينا الحكم «قبل» الخبرة ماذا تكون عليه الحال في مثل هذه الظروف، وإنما الذي يقضي لنا في الأمر، بحيث نختار أحد الممكنات دون سائرها، هو الخبرة الحسية التي تدلنا على ما قد يقع فعلا، فنتوقع حدوثه - لا لأنه ضرورة عقلية محتومة - بل لأنه هو الذي شهدت به التجربة كما وقعت في الحس واحتفظت به الذاكرة.
3
ليس هنالك في حدود ما نلاحظه إلا أحداث تتتابع، فإن لاحظنا بين هذه الأحداث المتتابعة حادثا بعينه يلحق دائما بحادث آخر معين، فكلما وقعت «س» لحقت بها «ص»، جاز لنا أن نقول إن «س» سبب وإن «ص» مسبب لها، دون أن نزعم بين الطرفين أي نوع من الارتباط الضروري فيما عدا هذا التتابع الملحوظ.
لكن قولا كهذا هو الذي أيقظ «كانت» ليأخذ في تحليل المستفيض لعمليات الإدراك، بحيث انتهى إلى أن الرابطة الضرورية التي تصل السبب بمسببه إن تكن خافية على الحس فذلك لا يعني أنها غير قائمة، وإلا كنا بمثابة من يفرض بادئ ذي بدء أن ما ليس يدرك بالحس فلا وجود له، وحقيقة الأمر - عند «كانت» - أن في العقل مقولات تنصب الخبرات في قوالبها فتصاغ على نحو ما نعهدها في إدراكنا. نعم إن السبب والمسبب يأتيان إلينا في مجري الخبرة وكأنما هما حادثتان مستقلتان لا يربطهما إلا مجرد التتابع الذي لا ضرورة فيه ولا تحتيم، لكن العقل مزود بمقولة السببية - بين سائر المقولات - فيصوغ في قالبها المادة الخامة التي جاءته عن طريق الحواس، والمادة الخامة في هذه الحالة هي انطباعان حسيان لشيئين وقعا في مجال الخبرة متعاقبين، فإذا هذان الانطباعان المفردان يصبحان في قالب السببية حقيقة واحدة مرتبطا تاليها بمقدمها ارتباطا ضروريا يحتمه العقل وإن لم تحتمه خبرة الحواس.
الرابطة السببية عند الفلاسفة العقليين قائمة في حكم العقل، وإن لم تكن مما تدركه الحواس، وليست هي مجرد اقتران في الحدود بين العلة والمعلول، بل إن هذا الاقتران نفسه هو العلاقة الدالة على أن وراءه رباطا عقليا، وهذا الرباط العقلي الذي يجعل المسبب أمرا لا مندوحة عن وقوعه إذا ما وقع سببه، هو جوهر السببية وصميمها؛ ومعنى ذلك أن وراء كل موقف سببي مما يعرض لنا في الخبرة الحسية، جذورا عقلية مما لا يعرض لنا في تلك الخبرة، ولو احتججت على العقليين قائلا: ما دليلي على أن وراء الموقف الظاهر جذورا خفية، إذا لم يكن هنالك من وسيلة أمامي أهتدي بها إلى طرفي الموقف وما بينهما من علاقة إلا خبرتي؟ قال الفيلسوف العقلي مجيبا: إن مطالبتك أن ترى ما لا يري بحكم طبيعته كمطالبتك أن ترى زجاجا شفافا من طبيعته ألا تدركه الأبصار؛ فالضرورة العقلية التي تربط السبب بمسببه إنما تدرك ب «العقل» وحده، ومن قبيل المصادرة على المطلوب أن تطلب رؤيتها مع سائر ما تراه من أحداث الواقع المحسوس، لكن إن قال الفيلسوف العقلي ذلك أجبناه بأنه لا مبرر يدعونا إلى افتراض ما ليست تدعو إليه حاجة، بل لا معنى لحديثنا إذا ما أدرنا هذا الحديث عما يستحيل أن نعثر عليه في خبراتنا، وعما لا ضرورة لافتراضه حتى من الوجهة النظرية الخالصة، ما دام التفسير الكامل للموقف يمكن أن يتم بغير لجوء إلى مبدأ وراء الخبرة بما فيها من أحداث وتتابعها في الوقوع. وإن شئت فانظر كيف تحقق عبارة يقول بها القائل إن «س» تسبب «ص»؟ ألست ترجع إلى الخبرة لترى إن كانت هذه الخبرة تقدم لك فيما تقدمه «س» و«ص» متتابعتين تتابعا مطردا أو لم تكن؟ ثم كيف تحقق عبارة تقول إن «س» مرتبطة ارتباطا ضروريا ب «ص»؟ ألست تلجأ إلى الوسيلة نفسها، وهي أن ترجع إلى الخبرة لترى إن كانتا مطردتين في التتابع أو لم تكونا؟ فإذا كانت وسيلة التحقيق في الحالتين واحدة، أفلا يكون معنى العبارتين واحدا، وتكون كلمة «الضرورة» الواردة في العبارة الثانية زائدة لا تفيد شيئا؟
يقول مورتس شليك:
4
إن الفرق بين مجرد التتابع الزمني بين حادثتين، والتتابع الذي يكون تتابعا سببيا، هو أن هذا التتابع السببي يكون مطرد الوقوع، فإذا ما اطرد تتابع «س» و«ص» بحيث تقع الثانية كلما وقعت الأولى، كانت «س» سببا و«ص» مسببا، أما إذا لم يطرد هذا التتابع بينهما، بحيث يجوز أحيانا أن تقع «س» ولا تلحق بها «ص»، كان الأمر في ارتباطهما مرهونا بالصدفة ولا سببية هناك. ولما كانت ملاحظتنا للاطراد في الوقوع بين الحادثتين هو كل ما هنالك، لزم أن يكون هو المبرر الوحيد الذي يدعونا إلى جعل الحادثتين سببا ومسببا، وهو مبرر كاف وحده أن يفسر لنا كل ما نحتاج إلى تفسيره من الموقف؛ فكلمة «سبب» - كما نستخدمها في حياتنا اليومية - لا تستلزم شيئا قط أكثر من اطراد التتابع؛ لأنه ليس ثمة شيء قط غير هذا الاطراد يمكن أن نلجأ إليه في تحقيق القضية التي ترد فيها هذه الكلمة.
ومما يعترض به العقليون على هذه النظرة التجريبية إلى السببية أن هذا الفصل بين السبب في ناحية والمسبب في ناحية لا يصور الواقع؛ فالحوادث في الواقع إنما يتصل بعضها ببعض اتصالا لا يدع فجوة بينها، ولو كان بين السبب ومسببه فجوة مهما بلغت من القصر، فماذا يبرر لنا أن نقول عن الطرفين إنهما متصلان اتصال العلة بمعلولها؟ إن هيوم في تحليله لمعارفنا إلى انطباعات متفرقة تصبح - بعد زوال مؤثراتها - أفكارا متفرقة كذلك، إنما يقطع أوصال التيار الشعوري المتصل، فليس قوام المعرفة حدودا منفصلا بعضها عن بعض، ثم نربطها نحن بروابط مصطنعة من عندنا، نعم ليس هذا هو قوام المعرفة، وإلا فلو كانت «س» من معارفنا ترد أولا كاملة، ثم تتبعها «ص» غير موصولة بها، للزم أن يكون بينهما فاصل زمني يفصل بين آخر نقطة من «س» وأول نقطة من «ص»؛ ومن ثم ينشأ سؤال عند العقليين: ماذا يملأ هذه الفجوة الزمنية التي تفصل «س» عن «ص» اللذين نقول عنهما إنهما علة ومعلولها؟
كلا، إن معارفنا ليست على هذه الصورة المفككة التي يرسمها هيوم - هكذا يعترض الفلاسفة العقليون - بل إنها موصولة التيار؛ فمجموعة الحدود التي جعلناها سببا إنما تمتد حتى يتصل آخر أطرافها بأول أطراف مجموعة الحدود التي تليها والتي تجعلها مسببا. خذ أي مثال شئت لواقعة سببية، كطعنة الخنجر التي طعن بها بروتس قيصرا فقتله، فأين السبب هنا وأين المسبب؟ أتقول إن طعنة الخنجر سبب والقتل مسبب؟ لكن أين تنتهي الطعنة وأين يبدأ الموت؟ حلل الموقف إلى عناصره التفصيلية تجده سلسلة متلاحقة من أحداث يستحيل التفرقة فيها بين ما هو «طعنة» وما هو «موت»؛ ومن ثم يندمج ما هو سبب فيما هو مسبب فيكونان خطا واحدا من الحوادث، إن قلت عن شطره الأول إنه سبب ومن شطره الثاني إنه مسبب فقد فصلت جزافا ما لم يكن منفصلا بطبيعته. وخذ مثلا آخر: عزيمتك أن ترفع ذراعك ثم رفعك للذراع، فها هنا نقول عن «العزيمة» إنها سبب وعن «رفع الذراع» إنه مسبب، ولكن أين تنتهي عزمة الإرادة وأين يبدأ رفع الذراع؟ ألا إن الأمر تيار متصل من أحداث صغري إذا ما بدأ راحت أحداثه تتسلسل واحدة بعد واحدة حتى تنتهي العملية كلها، والفصل بين ما هو «سبب» وما هو «مسبب» في هذه العملية الواحدة فصل مصطنع لا يصور من الواقع شيئا.
كثيرا ما يلجأ الفلاسفة المثاليون إلى مثل هذا الاعتراض ليؤيدوا به وجهة نظرهم في أن العلاقة القائمة بين العلة ومعلولها ضرورية وليست هي مجرد اقتران طرفين كما يرى هيوم ومدرسته.
5
ونحن وإن كنا نرى أن هيوم ربما أخطأ في تصوره للأفكار بأنها كيانات مستقل بعضها عن بعض بحيث يكون للواحدة حدودها وفواصلها التي تباعد بينها وبين الأخرى، وأن الأمر على حقيقته ربما كان تيارا متصلا من أحداث صغرى، إلا أننا لا نرى كيف يمكن أن يكون هذا أساسا لرفض التحليل الذي حلل به هيوم السببية وجعلها مجرد اقتران بين سابق ولاحق؟ ما الفرق في هذا الصدد بين أن أقول إن «س» و«ص» مقترنتان دائما ولذلك فهما سبب ومسبب، وبين أن أقول إن «س» هي في الحقيقة مجموعة من حوادث صغرى هي «أ، ب، ج»، وإن «ص» هي في الحقيقة مجموعة أخرى من حوادث صغري هي «د، ه، و»، وإن تتابع «س» و«ص» هو على ذلك تتابع صورته «أ، ب، ج، د، ه، و»؟ إنه لا فرق بين الصورة الأولى المجملة والصورة الثانية المفصلة من حيث إن كلا منهما تتابع واقتران لاحق بسابق؛ فلو كانت الصورة الثانية هي التي تصور الواقع في اتصال حوادثه، فما يزال التحليل الذي قدمه هيوم للسببية قائما بالنسبة إليها، كما كان قائما بالنسبة إلى «س» و«ص» في إجمالهما، ولم يغير من الموقف أن حشونا الفجوة القائمة بينهما بحوادث صغرى تصل آخر السابقة بأول اللاحقة.
لكن الفلاسفة العقليين لا يرضيهم أن ينحل الأمر إلى صف من حوادث، نأخذ منها ما اطرد تتابعها لنقول عنها إنها هنا مرتبطة برباط السببية، ويريدون أن يكون هنالك نوع من الملاط الغيبي اللامحسوس ينسبون إليه ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وهو الملاط الذي يبيح لهم أن يقولوا إن الرابطة بين السابق واللاحق من الحوادث أمر محتوم، فمن أين جاءوا بفكرتهم هذه؟ إنهم يجعلون «السببية» مبدأ عقليا ليس هو بعينه اقتران الحوادث في التجربة، هم لا ينكرون هذا الاقتران، بل يقررونه كما يقرره التجريبيون سواء بسواء، لكن التجريبيين يقفون بالأمر عند هذا الحد، أما العقليون فيمدونه إلى جذور ضاربة وراءه في عالم الغيب، وتلك الجذور هي ما يطلقون عليه «السببية» بمعناها الميتافيزيقي، وما اقتران الحوادث في دنيا التجربة إلا علامة دالة على ما هو قائم هنالك في عالم المعقولات؛ العقليون والتجريبيون على السواء يلاحظون ما هو واقع، فكلاهما يرى العلاقة بين اتجاه الريح وسقوط المطر، لكنهما يعودان فيختلفان في أن التجريبيين يكفيهم أن يقولوا إن هذا هو ما يقع، وأما العقليون فيصرون على إضافة؛ إذ يقولون إن هذا هو ما «يجب» أن يقع. والسؤال الرئيسي هنا هو هذا: من أين جاء العقليون بهذا «الوجوب»؟ إن كل حصيلتنا من الخبرة في وقائع وقعت على نحو معين، وليس في تلك الحصيلة عنصر «الوجوب»؛ فلئن شهدت الرياح الشمالية الغربية متبوعة بالمطر في الشتاء، فلم أشهد معهما كائنا ثالثا هو «الوجوب» الذي «يضطر» الرياح والمطر أن يرتبطا على نحو ما ارتبطا. إننا لا نقول إن أمر الطبيعة فوضى، وإنها هي النزوات تجعل الرياح المعينة تستتبع المطر آنا ولا تستتبعه آنا آخر مع تشابه الظروف كلها في الآنين، بل نقول إن اطراد التتابع بين الظاهرتين قد جاءنا العلم به من الملاحظة وحدها؛ أي من الخبرة، ولا يسعنا إلا أن نقف بالأمر عند حد الملاحظة لا نعدوها، وليس في هذه الملاحظة التي أدركنا بها رياحا ومطرا ما يدل على «وجوب»، بل كل ما فيها اطراد في الحدوث وقع فعلا.
وأحب للقارئ أن يلاحظ الفرق بين جملة تصف وجملة توجب؛ فالفرق واضح بين أن أقول إن النافذة مفتوحة وأن أقول إن النافذة ينبغي أن تكون مفتوحة. أما العبارة الأولى فتصف الأمر الواقع، سواء جاء وصفها مطابقا للواقع فيكون صوابا أو غير مطابق له فيكون خطأ، وأما العبارة الثانية فلا تصف شيئا بل تأمر سامعها أن افعل كذا وكذا إن لم تجده مفعولا. وإذا كان هذا هكذا، فالكلمة الدالة على أمر، مثل «يجب» و«ينبغي» وما إليهما، ليست بذات معنى في عالم الأشياء؛ فهنالك في عالم الأشياء نافذة، وهي على إحدى صورتين؛ فإما هي مفتوحة أو مغلقة، لكنه ليس هنالك في عالم الأشياء شيء قائم بذاته اسمه «يجب» أو «ينبغي»، وعلى ذلك فكل جملة محتوية على مثل هذه الكلمة هي جملة بغير معني واقعي، مهما يكن لها بعد ذلك من صدى نفسي عند قائلها أو عند سامعها؛ وإذن فعندنا أن قول الفلاسفة العقليين عن تتابع الأحداث إنه «يجب» أن يتم على نحو ما يتم عليه هو قول بغير معنى. نعم إننا كثيرا ما نجري حديثنا هذا المجرى، حتى الحديث العلمي، فنقول إن الأحجار الملقاة في الهواء «لا بد» أن تسقط بفعل الجاذبية، وإن الماء المنساب على سفح الجبل «لا مناص» من انحداره إلى جوف الوادي، وإن كل حي «يجب» أن يموت يوما، نقول عبارات كهذه لنصف بها ما قد علمتنا الطبيعة إياه من طرائق سيرها، لكننا إذ نقول كلمات «لا بد» و«لا مناص» و«يجب» وما إليها، فإنما نريد معاني مستقاة من الخبرة، وهي المعاني التي ترتد بالتحليل إلى اطراد في الوقوع، أما إذا أراد بها قائلها أوامر صادرة من آمر وراء الحوادث وخبرتنا بها، كمبدأ السببية كما يفرضه العقليون مثلا، فعندئذ يكون الكلام خلوا من المعنى.
ونعود فنسأل: ما مصدر هذا الخلط عند الفلاسفة العقليين بين أمرين؛ الاطراد الملحوظ في اقتران الحوادث الواقعة، والوجوب العقلي الذي يظنونه قائما وراء الحوادث يملي عليها خطة سيرها؟
مصدر الخلط عندهم هو اختلاط الأمر بين ما نقوله استنباطا من مقدمات وما نقوله تسجيلا لمشاهدات؛ فكلا القولين عندهم من طبيعة واحدة. ولما كان القول من النوع الأول يقينيا دائما، أرادوا للقول من النوع الثاني أن يكون هو الآخر يقينيا كذلك، لكن كيف والمشاهدة معرضة لخطأ المشاهد في تسجيل ما يشاهده؟ هنا تراهم يضعون مبدأ عقليا تجيء المشاهدات نتائج حتمية له؛ فهنالك المبدأ العقلي الذي يوجب أن تنزل الرياح الفلانية مطرا، فإن رأيتها في دنيا الخبرة قد أنزلت مطرا كان ذلك نتيجة ضرورية للمبدأ العقلي، لا مجرد مشاهدة لحظناها فسجلناها، ولحظنا فيها اطراد الحدوث فجعلناها هاديا نهتدي به فيما عسي أن يقع في المستقبل إذا ما توافرت الظروف نفسها.
لو قصر الفلاسفة العقليون كلمة «ضرورة» أو «وجوب» على الحالات التي نستدل فيها فكرة من فكرة لما أخطئوا، فإذا كان المثلث هو بحكم التعريف شكلا مستويا محوطا بثلاثة خطوط مستقيمة، فمن «الضرورة» أن يكون ذا زوايا ثلاث؛ لأن هذه النتيجة مترتبة «حتما» على تلك المقدمة، ومصدر «الحتم» و«الضرورة» هنا هو أن النتيجة تكرار للمقدمة، وهي تكرار لها لأنها محتواة فيها، لكن ما هكذا يكون الأمر بالنسبة للحوادث التجريبية الواقعة؛ لأن كل حادثة مستقلة عن سواها، ولا يتوقف قيام الواحدة على قيام الأخرى ب «الضرورة»، بل كل ما في الأمر هو أننا نلاحظ اقتران حادثتين اقترانا مطردا، فنتوقع للاطراد أن يدوم.
مصدر الخطأ عند الفلاسفة العقليين حين يصفون العلاقة السببية بالضرورة أو بالوجوب أو بالحتم، هو نفسه مصدر خطئهم حين ينشدون اليقين في علمنا بالطبيعة؛ وذلك أنهم ينسبون ما يجدونه في العلوم الصورية من ضرورة ويقين إلى ما يحصلونه بحواسهم من خبرات. ولو تنبه القارئ إلى أوجه الاختلاف بين الحالتين، لزال من طريقه كثير جدا من مشكلات الفلسفة التقليدية، التي لم تكن في حقيقة أمرها مشكلات بقدر ما كانت نقصا في تحليل العبارات ومضموناتها. وعلى الرغم من أني قد فصلت القول في هذا الاختلاف الذي يميز العلوم الصورية ويقينها من العلوم الطبيعية واحتمالاتها (راجع الفقرة الرابعة من الفصل السادس)، إلا أنني أعود هنا إلى الموضوع نفسه عودة سريعة فأطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين: (1) أحمد أطول قامة من محمود. (2) إذا كان أحمد أطول قامة من محمود إذن فمحمود أقصر قامة من أحمد. أطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين ليدرك الفرق بين جملة تخبر فتكون معرضة للخطأ، وجملة لا تخبر بشيء وإنما تكرر الصدر في العجز فتكون ضرورية اليقين ويستحيل عليها الخطأ؛ فالجملة الأولى تخبر سامعها بأن أحمد أطول قامة من محمود، وهو خبر مستمد من مشاهدة الشخصين والمقارنة بينهما، وقد يكون الناقل لهذه المشاهدة مصيبا فيما نقل أو مخطئا. وأما الجملة الثانية فلا تقول شيئا عن الواقع، وإنما هي تستنتج نتيجة من فرض، فإذا فرضنا أن أحمد أطول قامة من محمود إذن فيمكنك أن تقول هذه الحقيقة نفسها بصياغة لغوية أخرى تكون مرادفة للصياغة الأولى بحكم تعريفنا للألفاظ ومدلولاتها، أو بعبارة أخرى فإن الشطر الثاني من العبارة تحصيل حاصل؛ لأنه يحصل من المعنى نفس ما قد حصله السامع من الشطر الأول، لا زيادة ولا نقصان. إنك لا تستطيع أن تقول العبارة الأولى «أحمد أطول قامة من محمود» إلا إذا خبرت العالم بحواسك، لكنك تستطيع أن تقول العبارة الثانية «إذا كان أحمد أطول قامة من محمود، كان محمود أقصر قامة من أحمد»، تستطيع أن تقول هذه العبارة دون أن تخبر شيئا إطلاقا من العالم الخارجي، بل دون أن يكون في العالم كله إنسان من البشر سواك؛ لأنك بهذه العبارة لا تقرر شيئا بذاته عن حقيقة معينة، بل تذكر علاقة منطقية قائمة بين «أطول» و«أقصر»، فهما ضدان، وإذا صدق أحد الضدين تحتم أن يكذب الآخر، والعلاقة التي تعبر عنها كلمة «أطول» علاقة لا تماثلية؛ بمعنى أنك إذا قرأت العبارة الواردة فيها هذه الكلمة من اليمين إلى اليسار، استحال عليك أن تقرأها هي نفسها من اليسار إلى اليمين وتظل محتفظا بمعناها الأول نفسه؛ فعبارة «أ أطول من ب» لا تساوي «ب أطول من أ»، ولكي أستخرج من العبارة الأولى ما يساويها، حين أقرأ بادئا من اليسار، وجب أن أضع مكان العلاقة ضدها.
كذلك قل في كل جملة تنبئ بنبأ عن الطبيعة حين تقارنها بجملة أخرى تذكر علاقة منطقية بين طرفين ولا تنبئ بشيء؛ فعندئذ لا يكون في الجملة الأولى ضرورة صدق، على حين تكون الجملة الثانية ضرورية الصدق لأنها لا تنبئ بشيء كما تنبئ الجملة الأولى؛ فقارن بين قولنا «الغاز يقل حجمه إذا زاد الضغط عليه»، وبين قولنا «إنه إذا صدق القول بأن الغاز يقل حجمه إذا زاد الضغط عليه، فلا بد أن يكون الغاز في هذه الأنبوبة قد قل حجمه حين ازداد الضغط عليه»؛ ففي الجملة الأولى يقرر المتكلم اطرادا معينا في ظواهر الطبيعة، يقرر اطرادا بين زيادة الضغط على الغاز وقلة حجمه، مستمدا ذلك من مشاهداته، لكن هنالك إمكان منطقي أن يكون قد أخطأ المشاهدة وتسجيلها؛ وإذن فلا ضرورة تحتم صدق هذا النبأ، ومن حق أي سامع أن يطالب المتكلم بإجراء تجربة تثبت صدق زعمه. أما في الجملة الثانية فالمتكلم لا يورط نفسه في إقرار حقيقة بعينها عن الطبيعة، بل يبني نتيجة على فرض، دون أن يدعي للفرض صدقا، فإذا صدق الفرض صدقت معه النتيجة؛ لأن النتيجة ليست سوى تكرار ما جاء في الفرض نفسه؛ وإذن فهي تحصيل حاصل؛ ومن ثم فهي ضرورية الصدق ما دامت مقدمتها قد فرض فيها الصدق.
وهذا بعينه هو الفرق بين أي قانون من قوانين الطبيعة التي تثبت فيها اطرادات الظواهر، وبين تطبيق ذلك القانون نفسه بعد ذلك على مواقف بعينها؛ ففي حالة القانون نفسه يكون العالم القائل بمثابة من ينبئ عن الطبيعة نبأ يروي به أن الظاهرة الفلانية مطردة الوقوع مع الظاهرة الفلانية بالنسبة الفلانية، ولكل سامع الحق في أن يطالب المتكلم بإجراء التجارب التي تثبت صدق النبأ؛ مما يدل على أن النبأ نفسه قابل لأن يكون باطلا؛ أما في حالة التطبيق فنحن بمثابة من يقول عندئذ إنه «إذا» كان القانون الفلاني صادقا، فسيحدث كذا وكذا في الموقف الفلاني، فها هنا تكون النتيجة ضرورية الصدق لأننا نرتبها على مقدمة فرضنا فيها الصدق.
هكذا يخطئ الفلاسفة العقليون حين ينقلون «الضرورة» و«الوجوب» من نتيجة القانون إلى القانون نفسه، مع أن الفرق المنطقي واضح بين القانون ونتيجته؛ فالأول تؤيده المشاهدة، وأما النتيجة فاستنباط منطقي صرف يصدق حتما ما دام القانون مسلما به؛ أرأيت - إذن - متى يجوز لنا ومتى لا يجوز أن نستعمل كلمة «لا بد» أو كلمة «لا مناص» أو كلمة «يجب» أو ما في معناها في السياق العلمي؟ إنه لا يجوز استعمالها ما دمنا في المرحلة الأولى التي هي مرحلة التعميم عن مشاهداتنا للطبيعة في قانون ما، بحيث نقول إن كل «أ» هي «ب» فلا وجوب هنا ولا ضرورة، بل هكذا شاهدنا «أ» و«ب» مقترنتين بغير تخلف، فعممنا هذا الاقتران في قانون، لكن الضرورة والوجوب وما إليهما يكون حين نستنبط من القانون - على فرض التسليم به - نتيجة ما، فإذا كانت كل أ هي ب، وهذه الحالة المعينة التي أنا بصددها هي أ؛ إذن فهذه الحالة التي أنا بصددها لا بد أن تكون ب؛ إذا كانت الحرارة تمدد الأجسام دائما، وهذه الحالة التي أنا بصددها الآن هي حالة جسم معرض لحرارة، فلا بد أن يكون هذا الجسم قد تمدد بفعل تلك الحرارة.
ضرورة الصدق في العلوم الطبيعية - إذن - لا تكون إلا في النتائج التطبيقية لا في المقدمات التي نستولدها هذه النتائج، ولكن ما أسرع ما نخطئ هنا فنظن أننا ما دمنا نقول عن النتيجة المعينة في الموقف المعين إنها «لا بد» أن تكون على النحو الفلاني، فكذلك نستطيع أن نقول «لا بد» هذه عن القانون نفسه الذي اتخذناه مقدمة سلمنا بصوابها ورحنا نستنبط منها النتائج التطبيقية. ألا ما أكثر ما نسمع من علماء الطبيعة أنفسهم ما يدل على نفورهم إذا ما أنبأناهم بأن قوانين الطبيعة «احتمالية» لا يقينية؛ وذلك لأنهم ينقلون «وجوب الصدق» من النتيجة إلى المقدمة، ينقلونه من التطبيق إلى القانون الذي نطبقه، وقد فات هؤلاء جميعا أن النتيجة المنطقية المستنبطة من أية مقدمات - صادقة أو غير صادقة - هي دائما ضرورية الصدق ما دام استنباطنا لها سليما؛ أي ما دمنا نكرر في النتيجة نفس الذي نقرره في المقدمات، لكن ما هكذا تكون المقدمات التي نستمدها من المشاهدات والتجارب، فلا استنباط هنا يكرر مقدمة في نتيجة، بل هنا وصف يصف وقد يصيب التصوير وقد يخطئ؛ فات هؤلاء جميعا أنني أستطيع من مقدمات كاذبة في ذاتها أن أستنتج نتيجة «لازمة» الصدق «إذا» سلمنا بالمقدمات جاهلين أو متجاهلين ما فيها من كذب، فلنا أن نقول مثلا: إذا كانت الجياد كلها من ذوات الجناح، وإذا كانت قطتي هذه جوادا؛ فهي إذن من ذوات الجناح. هذه نتيجة «ضرورية الصدق» بغير شك لأنها مترتبة منطقيا على مقدماتها، ولكن ما الحكم في المقدمات نفسها؟ قل هذا تماما في أي قانون طبيعي وتطبيقه، فإذا كانت أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، وإذا كان هذا النافذ من غرفتي شعاعا من الضوء، فهو إذن يسير في خط مستقيم. هذه نتيجة «ضرورية الصدق» لأنها مستنبطة من مقدماتها، ولكن ما هكذا المقدمات نفسها؛ فكون أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة أو في خطوط منحنية أمر يحتاج إلى تجارب علمية تثبته أو تنفيه؛ أي إنه قول يحتمل فيه الصواب كما يحتمل فيه الخطأ.
4
إذا كان الاطراد الملحوظ بين ظواهر الطبيعة أمرا مرهونا بالخبرة وحدها، دون أن يكون هنالك ضرورة عملية توجب وقوعه هكذا وتحتم حدوثه على نحو ما يحدث، فما الذي يغري الفيلسوف العقلي أن يضيف إلى الأمر ما ليس فيه، فيضيف «ضرورة عقلية» حيث لا ضرورة، ويضيف «وجوبا» حيث لا وجوب؟ ما الذي يغريه أن يقول عن ظواهر الطبيعة إنها «لا بد» أن تقع على نحو ما هي واقعة وإنها «يجب» أن ترتبط على الصورة التي نراها مرتبطة عليها؟ إنه إذا رأي «أ» مطردة الوقوع دائما مع «ب» - كارتفاع الحرارة وتمدد الأجسام مثلا - فلماذا لا يقف عند حدود خبرته فيقول إن «أ» و«ب» مطردتان دائما في الوقوع، فلا يضيف من عنده «وجوبا» لم يقع له في خبرته تلك، بحيث يقول إن «أ» لا بد أن تتبعها «ب»؟
لعل ما يغري الفيلسوف العقلي بهذه الإضافة هو أن يلقي بزمام الكون إلى «عقل» يسيره كيف شاء؛ لأنه إذا كانت الظاهرتان المطردتان في تلازم الوقوع أمرا واجب الحدوث وضروري الصدق، كان لا بد لهذا الوجوب من موجب، ولهذه الضرورة من عقل سن لها السنن التي لا مندوحة عن السير بمقتضاها. وإذا شئت فعد في تاريخ الفكر إلى «نيوتن» من جهة و«كانت» من جهة أخرى؛ تر الأول قد جعل الأمر في قوانين الطبيعة حتما محتوما وضرورة عقلية لا مندوحة عن قيامها، فجاء الثاني يفلسف هذا الاتجاه العلمي نفسه فيسأل سؤاله المشهور: كيف أمكن لما يمليه العقل من ضرورات أن يكون هو نفسه ما يقع في عالم الطبيعة من حوادث؟ أو بعبارة يعرفها دارسو الفلسفة: كيف أمكن للقضية العلمية أن تكون قبلية وتركيبية في آن معا؟ إنه لا جناح على «كانت» أن يسأل سؤاله هذا وأن يحاول عنه الجواب؛ لأنه صدي يردد العلم الطبيعي السائد في عصره، وهو العلم كما خلفه نيوتن؛ فلم يكن معقولا أن يقول العلم شيئا عن الطبيعة وأن تقول الفلسفة في العصر نفسه شيئا آخر.
فإذا كانت الفلسفة صدى للعلم في العصر الواحد، كان علينا أن نضع نصب أعيننا علم الطبيعة في القرن العشرين إذا أردنا أن نفهم ما يقوله الفلاسفة المعاصرون في منطق القانون العلمي.
إنه من سوء الحظ أن تجتمع لكلمة «قانون» عدة معان مختلفة فيما بينها أشد اختلاف، فأدى ذلك إلى خلط في التفكير لا حد لمداه؛ فهنالك القانون الذي يسنه الحاكم لرعيته فيكون بمثابة أمر يصدره لهؤلاء حتى يرسم لهم ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ فإذا شرع الحاكم - مثلا - ألا يزيد سعر الأقة من البرتقال عن خمسة قروش «وجب» على البائع ألا يجاوز هذا الحد الأقصى، ومعنى «الوجوب» هنا هو أن الحاكم قد أمر وعلى المحكوم أن يطيع. ولما كنا نستخدم كلمة «قانون» في الطبيعة وظواهرها، كما نستخدمها في الحاكم وأوامره لرعيته، نقلنا معنى «الوجوب» من هذا المجال الاجتماعي إلى ذلك المجال الطبيعي، فوقعنا في الخطأ؛ فنقول - مثلا - إن الماء على سفح الجبل لا بد أن ينحدر إلى أسفل، ثم نظن أن هنالك آمرا قد أمر وعلى الماء أن يطيع، كما يأمر الحاكم وعلى الرعية أن تصدع بالأمر؛ وبهذا نخلط بين معنيين لكلمة واحدة - كلمة «قانون» - كان يجب أن يكونا واضحين في اختلافهما البعيد؛ فالقانون في حالة الحاكم ورعيته «أمر»، والقانون في حالة الطبيعة وظواهرها «وصف»، فإن استخدمنا كلمة «الوجوب» في الحالتين كان ذلك أيضا بمعنيين مختلفين؛ فالقانون التشريعي «يجب» أن يطاع وإلا تعرض العاصي للعقاب، وأما حين نقول عن القانون الطبيعي إنه «يجب» أن يسري، وإن الظواهر «يجب» أن تسير على مقتضاه، كان معنى الكلمة هنا هو «هكذا تسير الأمور» كما لاحظناها، فلا آمر هناك ولا مأمور.
حين يصوغ عالم الطبيعة قانونا من قوانينه، يصف به اطراد الحدوث بنسبة معينة بين ظاهرتين أو أكثر، يكون بمثابة من يقول: «إذا حدث كذا فإن كذا يحدث دائما.» فقوله مثلا عن التيار الكهربائي إنه يسبب انحرافا في الإبرة المغناطيسية معناه أن المشاهدة قد دلت على أنه إذا كان هناك تيار كهربائي انحرفت الإبرة المغناطيسية بغير تخلف.
فلا فرق بين ما يقع مصادفة وما يقع وفق قانون إلا أن الاطراد في الحالة الثانية لا يتخلف على حين أنه في الحالة الأولى قد يظهر وقد يختفي؛ فلو حدث مرة أن ظهرت على شاشة السينما صورة انفجار شديد ثم حدث في الوقت نفسه أن اهتزت الأرض فعلا بزلزال (كما قد تصادف حدوث ذلك فعلا ذات مرة)، عددنا الأمر اتفاقا بالمصادفة؛ لأنه لا يحدث هذا الاقتران بين الحادثتين دائما، ولو اطرد حدوثه دائما وبغير تخلف لجعلناه قانونا كأي قانون آخر من قوانين الطبيعة.
إنه لا إلزام في الطبيعة ولا وجوب إذا كان معنى الوجوب تنفيذ مأمور لأمر آمر، وكل ما في الأمر اقتران بين الحوادث يطرد أو لا يطرد، فإن اطرد كان قانونا وإلا فهو من قبيل المصادفة التي لا يركن إليها في الحكم على الحالات المستقبلة، وإنما نحن البشر قد رأينا لأنفسنا إرادة تفعل هذا وذاك، فشبهنا فعل الطبيعة بفعلنا، وجعلنا لها مريدا يريد لها أن تفعل كذا وألا تفعل كيت.
لو كان القانون العلمي صادقا بحكم الضرورة المنطقية، لا بحكم اطراد الوقوع، لكان نقيضه مستحيلا استحالة منطقية كذلك، فهل القانون الطبيعي نقيضه مستحيل من الوجهة المنطقية؟ كلا، فنقيض أي قانون طبيعي ممكن عقلا، وغاية ما في الأمر أن هذا النقيض لم يحدث، وفرق بعيد بين الحالتين. ولنضرب للمعنى الذي نريده مثلا من العلم الطبيعي الحديث، لنضرب له مثل القانون الذي يسمى بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية،
6
والذي مؤداه أن الحرارة تنتقل دائما من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وأن العكس لا يحدث أبدا؛ فلا يحدث أبدا أن تضع قطعة من الثلج في كوب من الماء فتنتقل البرودة من الماء إلى قطعة الثلج لتزيدها برودة وليزيد الماء بذلك حرارة، إنه لا يحدث أبدا أن تضع قطعة من الحديد المحمى على قطعة من الحديد البارد فينتقل شيء من الحرارة القليلة الموجودة في القطعة الباردة إلى القطعة المحماة فتزيدها حرارة بينما تزيد الأولى برودة، بل الذي يحدث دائما هو أن تنتقل حرارة الماء إلى الثلج البارد حتى يتعادلا، وأن تنتقل حرارة الحديدة المحماة إلى الحديدة الباردة حتى تتعادلا أيضا. وهكذا قل في كل حالة يتصل فيها جسم أكثر حرارة بجسم أقل حرارة؛ فإن الحرارة دائما تسير من الأحر إلى الأبرد، فلماذا؟ لماذا لا يحدث العكس؟ جوابنا هو: هكذا لاحظنا الظواهر كيف تحدث، فجعلنا ما قد اطرد حدوثه في ملاحظتنا قانونا، على الرغم من أن العقل الصرف لا ينفي حدوث العكس.
ولشرح ذلك نقول: إن مقدار الحرارة في جسم ما متوقف على حركة ذراته، ولما كانت هذه الذرات مختلفة السرعة في حركتها، كانت حرارة الجسم متوقفة على «متوسط» تلك السرعات المختلفة؛ فكلما زاد هذا المتوسط ازدادت حرارة الجسم، وكلما قل قلت. والذي يحدث عندما يمس جسم حار جسما أقل منه حرارة، هو التقاء مجموعتين من الذرات؛ فمجموعة متوسط السرعة في أفرادها أكثر من متوسط السرعة في أفراد المجموعة الثانية؛ فماذا تكون نتيجة هذا الصدام بين المجموعتين؟ إن الذرة البطيئة إذا ما اصطدمت بذرة أسرع منها، فهنالك احتمالان؛ فإما أن تزيد سرعة البطيئة وتقل سرعة السريعة حتى يتعادلا، أو أن تفقد البطيئة بعض سرعتها فتزداد بطئا، وتكسب السريعة سرعة تضاف إلى سرعتها فتزداد سرعة، لكنه على الرغم من أن كلا من الاحتمالين جائز الحدوث، إلا أن «الإحصاء» قد دل على أن تعادل السرعة بين البطيئة والسريعة أقرب جدا إلى الوقوع من أن تزداد البطيئة بطئا وتزداد السريعة سرعة؛ ومعني ذلك بلغة الحرارة هو أن التقاء جسم حار بجسم أقل حرارة يميل بالحرارتين المتفاوتتين نحو التعادل؛ فهكذا قد دلت المشاهدات، على الرغم من جواز حدوث العكس، وهو أن تزداد حرارة الحار وتزداد برودة البارد.
ونزيدك توضيحا فنقول: إن مجموعتي الذرات، المجموعة السريعة في متوسطها التي تكون الجسم الحار، والمجموعة البطيئة في متوسطها التي تكون الجسم البارد، حين يمتزجان بالتقاء إحداهما بالأخرى، تكونان أشبه شيء بمجموعتي أوراق اللعب، المجموعة الحمراء والمجموعة السوداء؛ فهاتان المجموعتان بادئ ذي بدء تكونان متجانستين؛ فالحمراء على حدة والسوداء على حدة، لكن ابدأ في «تفنيط» الأوراق ومزجها بعضها في بعض، وامض في هذه العملية ما شئت أن تمضي، فهل يجوز أم هل يستحيل أن تعود المجموعتان كما كانتا أول مرة، فالحمراء على حدة والسوداء على حدة؟ ذلك بالطبع ممكن؛ لأن هذه الحالة إن هي إلا حالة من حالات أخرى تعد بالملايين، غير أن إمكان حدوثها قليل الاحتمال إلى درجة تبرر لنا أن نقول إن مزج أوراق اللعب بعضها في بعض سيظل يبعثر الأحمر في غضون الأسود، ولن يعود النظام إلى حالته التي كان عليها أول الأمر أبدا؛ إن مثل هذا الرجوع غير مستحيل «عقلا»، ولكنه مستحيل تجربة وإحصاء. وهكذا قل في القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يقرر أن الحرارة تنتقل دائما من الأحر إلى الأبرد، وأن بقاء مجموعتي الذرات المختلفتي السرعة على حالهما، بحيث تظل الذرات السريعة مجتمعة معا والبطيئة مجتمعة معا، أمر إن لم يكن مستحيلا «عقلا» فهو مستحيل تجربة وإحصاء.
هكذا الحال في قوانين الطبيعة كلها ، فهي نتائج نستخرجها من المشاهدات على سبيل الإحصاء لا على سبيل القطع واليقين، ونقيضها إن لم يكن مستحيلا من الوجهة المنطقية الخالصة، فهو مستحيل على أساس التجربة وما دلت عليه. خذ وعاء نصفه مليء بالماء ونصفه الآخر خلاء مفرغ، وبين النصفين حاجز، فماذا يحدث لو ثقب الحاجز؟ الجواب الذي يتفق مع قوانين الغازات في علم الطبيعة هو: سينتشر الهواء في النصف المفرغ، بحيث يتعادل انتشاره في نصفي الوعاء على السواء، لكن هل يجوز أم هل يستحيل أن نثقب الحاجز ومع ذلك يظل الهواء في مكانه لا يتسلل إلى النصف المفرغ؟ إن ذلك ممكن «عقلا» ولكنه غير ممكن تجربة وإحصاء؛ فبقاء الهواء متجمعا في نصف المكان وتاركا نصفه الآخر خلاء مفرغا إن هو إلا حالة من حالات أخرى كثيرة جدا كلها جائز في طريقة توزيع كمية الغاز في المكان، لكن احتمال وقوع هذه الحالة الواحدة دون بقية الحالات هو كاحتمال أن تعود أوراق اللعب أثناء عملية «التفنيط» إلى نظامها الأول؛ فهو احتمال ممكن الوقوع من الناحية المنطقية لكنه مستبعد من الناحية الإحصائية. هل يستحيل أن نصبح غدا فإذا دور القاهرة كلها قد احترقت، كل دار منها احترقت لسبب غير السبب الذي احترقت له الأخرى؟ هل يستحيل أن نصبح غدا فإذا كل سكان القاهرة موتى، كل منهم قد مات لسبب يختلف عن السبب الذي أدى إلى موت الآخرين؟ كل ذلك محتمل من الوجهة المنطقية، لكنه مستحيل من الوجهة الإحصائية التجريبية. وهكذا كل قانون طبيعي، فهو إجمال إحصائي لما يقع، نقيضه محتمل منطقيا، لكنه مستبعد تجربة وإحصاء.
وقد يقول قائل: وماذا علينا أن يقال عن القانون العلمي إنه ضروري الصدق ضرورة منطقية جريا مع الفلاسفة العقليين، أو أن يقال إنه محتمل الصدق على أساس تجريبي إحصائي جريا مع جماعة التجريبيين العلميين، ماذا علينا من مثل هذا الاختلاف إذا لم يكن من نتيجته عدم انطباق القانون عند تطبيقه؟ إذا كان القانون العلمي صادقا دائما من حيث التطبيق العملي، فقل بعد ذلك ما شئت في تفسير ذلك الصدق، أهو من إملاء المنطق أم هو من ترجيح الخبرة والإحصاء؛ قد يقال ذلك ويكون للقائل مبرراته العملية، لكن الفرق بعيد جدا من الوجهة النظرية بين رجل يأخذ بضرورة الصدق في القوانين الطبيعية وآخر يأخذ باحتمال ذلك الصدق؛ الفرق بعيد جدا في النظرة التي يكونها كل من الرجلين، فبينما الأول يقبل على العالم وكأنه قد أقبل على حقيقة سكونية قد فرغ صانعها من صناعتها وأعد لها قوانينها فلم يعد أمل في تغيير ما قد كان ولا في ارتقاب جديد بعد قديم، ترى الثاني في النهاية يكون لنفسه رأيا عن العالم بأنه تطوري حركي لا حد لممكناته، ولا نهاية لسيره وأوجه نشاطه.
الفصل الحادي عشر
من الكيف إلى الكم
1
الجانب الكيفي من الشيء هو ذلك الذي تنطبع به حواسنا انطباعا مباشرا؛ فبياض هذه الورقة التي أمامي «كيف» لأنه صفة أدركها بحاستي إدراكا مباشرا، والألم الذي أحسه في معدتي «كيف»، وكذلك طعم الطعام وأريج الزهرة؛ كل هذه «كيفيات» لأنها من الأشياء جوانبها المدركة بالحس إدراكا مباشرا. وحين يتحدث المتحدث عن شيء من ناحيته الكيفية، فإنما يتحدث عنه من حيث وقعه على حواسه، لكن ما هكذا يكون الحديث عن الشيء من ناحية كميته ومقداره، فها هنا لا يكون الوقع الحسي هو مدار الحديث، فما أبعد الفرق بين أن أنظر بعيني إلى الطيف الشمسي وأرى ألوانه من الأحمر في طرف إلى البنفسجي في طرف آخر، وبين أن أنظر إلى قائمة متدرجة من أرقام هي الأرقام الدالة على أطوال الموجات الضوئية في الألوان المختلفة؛ فألوان الطيف كما ينطبع بها بصري «كيف»، وأما أطوال موجات الضوء التي تحدث تلك الألوان في حاسة البصر فهي «كم»، وكلا الكيف والكم هنا طرفان لظاهرة واحدة؛ طرف ذاتي خاص بصاحب الإحساس، وطرف موضوعي خارج عن حاسة الرائي الفرد، ومعروض أمام كل راء آخر على حد سواء، فلو نظر شخصان إلى بقعة حمراء مثلا، فقد يختلف إدراكهما لها حسب اختلافهما في حاسة البصر عند كل منهما، وهكذا قد يختلفان في «الكيف»، لكنهما لا يختلفان - إلا في حدود ضئيلة - إذا عمدا معا إلى قياس المسافة بين نقطتين؛ أي قياس طول الموجة الضوئية التي منها ينشأ إحساس الرائي باللون الأحمر؛ إنهما لا يختلفان هنا لأن المدار عندئذ لا يكون الحاسة الخاصة وما تنطبع به، بل يكون العلاقة بين المسافة المقيسة والوحدة القياسية التي يقيسان بها، وإدراك «العلاقة» بين شيئين لا يكون موضع اختلاف بالقدر الذي يكون إدراكنا للشيئين نفسيهما موضع اختلاف بين المدركين.
إنه إذا وضع شخصان أصابعهما في ماء ساخن، وأحسا الحرارة بحاسة اللمس عند كل منهما، كان ذلك عندهما هو إدراك الجانب الكيفي من الحرارة، واتفاقهما عندئذ على مقدار حرارة الماء إنما يكون على وجه التقريب لا على وجه الدقة، بل إنهما قد يختلفان بحيث يجد أحدهما حرارة الماء محتملة على أصابعه، بينما يجدها الآخر أحر من أن تحتملها الأصابع، لكن هذا الاختلاف يزول، ويقرب بينهما الاتفاق من درجة التطابق الكامل؛ إذ هما عمدا في إدراك الحرارة إلى جانبها الكمي لا الكيفي، فقاما بقياسها بمقياس يرتفع منه عمود من الزئبق حتى يحاذي بقمته خطا مرسوما ذا رقم معلوم، اصطلح على أن يكون دالا على مقدار الحرارة في الجسم المقيسة حرارته، وكذلك إذا حمل شخصان حملا معينا على التعاقب، فإنهما يحسان ثقله إحساسا عضليا مباشرا؛ ومن ثم يكون إدراكهما لذلك الثقل إدراكا كيفيا، ولا يكون بينهما اتفاق عليه إلا على سبيل التقريب، بل هما قد يختلفان بحيث يستخفه واحد ويستثقله الآخر. أما إذا عمدا إلى إدراك الثقل إدراكا كميا لا كيفيا، بأن يضعا الجسم المقيس على ميزان يبين بإبرته المشيرة إلى خط مرسوم على لوحته كم يكون ذلك الثقل المراد قياسه على وجه الدقة، فعندئذ ينحسم الخلاف بين الشخصين حول وزن الجسم، حتى وإن ظل كل منهما على إدراكه الكيفي الأول.
هكذا يكون الفرق بعيدا بين إدراك الناس للأشياء من جوانبها الكيفية وإدراكهم لها من جوانبها الكمية؛ فالظاهرة التي ندركها إدراكا كميا هي هي بعينها الظاهرة التي ندركها بالحواس إدراكا كيفيا، لكن الإدراكين يكونان من وجهتين مختلفتين للنظر؛ فالضوء الذي أراه بعيني ساطعا على الأجسام هو نفسه الضوء الذي يقيس عالم الطبيعة سرعته وزوايا سقوطه وزوايا انعكاسه، لكنني في إدراكي المباشر للضوء لا أرى سرعة ولا زوايا، بل إني لا أرى «شعاعا» من الضوء كالشعاع الذي يقول علماء الطبيعة إنهم يقيسون سرعة انتقاله وزاوية سقوطه وانكساره؛ لأن ما أراه إذ أفتح عيني على الأشياء المحيطة بي حين يكون هنالك ضوء هو مساحات مضيئة، لا خيوط كالخيوط الرفيعة التي يستحدثها العلماء في معاملهم ليجروا عليها عمليات القياس. أعود فأقول إن الظاهرة التي ندركها إدراكا كيفيا من وجهة نظر، هي هي نفسها التي ندركها إدراكا كميا من وجهة نظر أخرى؛ فليس هنالك عالمان أو طبيعتان، إحداهما للحواس تدرك كيفياتها، والأخرى للعلماء يقيسونها ليضبطوا كمياتها، بل إن العالم واحد والطبيعة واحدة، نراها من هنا فإذا هي «كيف» ونراها من هناك فإذا هي «كم».
وواضح أن الإنسان يبدأ علمه بالأشياء بإدراك كيفياتها، ثم لا يأتي إدراكه لكمياتها إلا في مرحلة متأخرة؛ فالطفل يدرك حرارة الجسم الحار قبل أن يعرف أن هذه الحرارة تقاس بالدرجات، ويدرك ثقل الأجسام الثقيلة قبل أن يعرف أن هذا الثقل يقاس مقداره بميزان، ويدرك اللون الأخضر في الشجرة والأصفر في البرتقالة قبل أن يعرف أن الألوان كلها إنما هي موجات من الضوء تختلف أطوالها فيختلف نوعها تبعا لذلك، وهكذا. وحتى حين يبدأ الإنسان في إدراك الكميات، فإن ذلك الإدراك عندئذ يكون في مرحلة تقريبية غامضة، فقد يعلم أن هذا الحجر «أثقل» من ذلك، وأن الأشجار هنا «أكثر» من الأشجار هناك، وأن طعامه بالأمس كان «أقل» من طعامه اليوم، وأن الحرارة خارج كهفه «أكبر» منها داخله؛ هذه كلها إدراكات كمية، ولكن ينقصها الضبط والدقة.
وواضح كذلك أن الإنسان كلما ازداد بالأشياء علما، ازداد معرفة بالطرائق التي يمكن أن يستخدمها ليضبط المقادير الكمية ضبطا دقيقا بدرجات يصطنعها لذلك، فلا يعود يقنعه أن يقول إن هذا الجسم «أثقل» من ذلك، بل يريد أن يعلم الفرق بين الثقلين بمقياس دقيق، ولا يقنعه أن يقول عن الحرارة خارج الكهف إنها «أكبر» منها داخله، بل يريد أن يعلم كم هي على وجه الدقة هنا وكم هي هناك.
وقد ألفنا قياس بعض الظواهر إلفا أنسانا العبقرية العلمية التي جعلت ذلك القياس ممكنا، لكن حلل حالة واحدة من حالات القياس الكمي تحليلا سريعا لتدرك طبيعة الموقف، وخذ قياس الحرارة مثلا؛ إنك تضع الترمومتر ملاصقا للجسم المراد قياس حرارته، فيرتفع فيه عمود الزئبق، فتقرأ الرقم الذي يبلغه العمود في ارتفاعه، وتقول عنه إنه درجة الحرارة المراد قياسها، ظانا أن الأمر طبيعي فلا غرابة فيه ولا إشكال، وفاتك - أولا - أننا نحن الذين وضعنا هذه الأرقام على الأنبوبة الزجاجية، وأننا نحن الذين اخترنا أن يكون الصفر في ناحية والمائة في ناحية أخرى، وأن نقسم ما بينهما إلى درجات متساوية، وأن الذي أغرانا بذلك ظاهرتان طبيعيتان اخترناهما جزافا لتكون إحداهما مقابلة للصفر على مقياسنا، وتكون الأخرى مقابلة للمائة على مقياسنا، وهاتان الظاهرتان هما تجمد الماء من جهة وغليانه على مستوى سطح البحر من جهة أخرى، فكأنما قلنا لأنفسنا: تعالوا نتخذ من هاتين الظاهرتين معيارا نقيس به الحرارة في سائر الأجسام، تماما كما يقول الناس لأنفسهم في دنيا الاقتصاد، تعالوا نتخذ ما عندنا من الذهب معيارا نقيس به قيم سائر الأشياء المعروضة للبيع والشراء، لكن كما أن اختيار الذهب معيارا قد كان جزافا، وكان يمكن - وقد أمكن فعلا - أن نتخذ أساسا غيره في تقييم الأشياء في دنيا البيع والشراء، فكذلك كان اختيارنا لظاهرتين طبيعيتين من بين ألوف الألوف من الظواهر، لتكونا طرفين على مقياس نصطنعه لنقابل به بين سائر الأشياء من حيث مقدار حرارتها، أمرا جزافا، اخترناه لسهولته لا لأنه أمر لا محيص عنه؛ ثم فاتك - ثانيا - أننا حتى بعد اختيارنا للظاهرتين اللتين نجعلهما طرفين للقياس، فلا زلنا بحاجة إلى اختيار جزاف آخر؛ فأي مادة من بين مواد الطبيعة الكثيرة أختار لأجعل تأثرها بالحرارة معيارا لتأثر سواها؟ أي مادة أختار لألامس بينها وبين الماء المتجمد، ثم ألامس بينها وبين الماء الذي يغلي عند مستوى البحر، بحيث أرى إلى أي حد تنكمش في الحالة الأولى وإلى أي حد تتمدد في الحالة الثانية ، فأجعل الحالة الأولى صفرا والحالة الثانية مائة؟! أأضع قطعة من النحاس مثلا؟ إنها عندئذ تنكمش وتتمدد بمقادير يتعذر على العين رؤيتها في يسر؛ إذن فلأبحث عن مادة يسهل انكماشها وتمددها بدرجة ملحوظة للعين، وسرعان ما وقعت على الزئبق؛ فلو وضعت من الزئبق قطرة في أنبوبة ضيقة من زجاج، ثم لامست بين هذه الأنبوبة وبين أي شيء آخر، وكان هنالك فرق بين حرارة الزئبق وحرارة ذلك الشيء، فسرعان ما تؤثر حرارة هذا الجسم في الزئبق تمددا أو انكماشا تأثيرا تسهل رؤيته؛ فليس ثمة - إذن - ما يحتم علينا أن يكون الصفر والمائة مقابلين للماء في تجمده وغليانه، ولا ما يحتم علينا أن يكون الزئبق هو المادة التي نجعل مقدار تمددها بالحرارة هو المقياس الذي نقيس به درجة الحرارة في سائر الأجسام، إنما الأمر كله اختيار جزاف وجدناه مفيدا فاصطنعناه.
أرجو من القارئ أن يلاحظ بأنه إذ يضع مقياس الحرارة في الماء الساخن فيتمدد عمود الزئبق في المقياس، فإنما هو إزاء جسمين، زئبق وماء، كلاهما على حرارة معينة، وما اختيارنا أن نجعل امتداد إحدى المادتين وسيلة نقرأ بها كمية الحرارة في المادة الأخرى إلا قرار منا لا أكثر ولا أقل، وكان يمكننا أن نتخذ قرارا آخر، كأن نقرر مثلا أن نضع قطعة من الحجر الهش في الماء الساخن لننظر متى يتفتت، ثم نجعل طول المدة اللازمة لتفتته دالة على مقدار حرارة الماء؛ كان يمكن أن نقرر أية وسيلة شئنا، فإذا كنا قد قررنا أن نجعل تمدد عمود الزئبق مقياسنا، فما ذاك إلا لسهولة استخدام هذا المقياس؛ وقدر لنفسك بعد ذلك مدى العبقرية العلمية التي كان لا بد من وجودها عند من اصطنع هذه الطريقة المعينة في قياس درجات الحرارة، فجاء الناس من بعده وأخذوا عنه طريقته، وراحوا يهذبونها ويزيدون من دقتها؛ ولولا الوقوع على مقياس كهذا لظل الناس حتى اليوم يقيسون حرارة الأجسام بلمسها، فيختلفون أو يتفقون ما شاء الله لهم من اختلاف أو اتفاق.
فهل يمكن للإنسان أن يصطنع لكل إدراك كيفي وسيلة يقيس بها الجانب الكمي قياسا يبين مدى التفاوت في الدرجة بيانا مضبوطا دقيقا؟ هل يمكن له أن يصطنع مقياسا يقيس به درجات «الشجاعة» ودرجات «الذكاء» ودرجات «الصدق» وغير ذلك كما يقيس درجات «الحرارة» ودرجات «الثقل»؟ وليلاحظ القارئ هنا أن قد جاء يوم، لا أقول يوما فيما قبل التاريخ، ولا يوما في العصور البدائية الأولى، بل هو يوم من عصور الفكر الزاهية الزاهرة، قد جاء يوم لم يكن فيه كبير فرق عند الفلاسفة اليونان بين الحرارة والبرودة وما بينهما من تضاد، وبين الشجاعة والجبن، والفضيلة والرذيلة، والذكاء والغباء؛ فكل هذه عندهم أضداد من أمثالها تتكون معارف الإنسان، فلم تكن «الحرارة» بأيسر قياسا كميا من «الشجاعة»؛ فلو رأينا العلم الطبيعي في تقدمه قد تناول بعض هذه المدركات دون بعضها الآخر، تناولها بالضبط الكمي الدقيق، بعد أن كانت مدركات كيفية تدرك بأضدادها، أفيكون محالا علينا أن نمد مجهودنا بحيث يشمل هذا الضبط الكمي سائر مدركاتنا الكيفية جميعا؟ أم كتب على بعضها أن تقف عند مرحلتها الكيفية لا تجاوزها، فتظل بين أيدينا موضع اختلاف لا ينحسم ونظل نقول عنها إنها مجال للبحث الفلسفي؟
إنه ليقال إن الفلسفة أول أمرها كانت تضم إلى حضنها كل ضروب المعرفة، ثم أخذت فروع من هذه المعرفة تستقل عن أمها الأولى فتكون علوما خاصة قائمة بذاتها، بحيث لم يبق للأم من أبنائها الأولين إلا عدد قليل؛ إذ بقيت لها الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق، وذهبت عنها علوم الطبيعة من فلك وكيمياء ونبات وحيوان وغيرها، وهنالك اليوم صراع قائم يحاول به علمان جديدان أن ينسلخا من حضن الأم الرءوم، وهما علما النفس والاجتماع، فما يزال هذان جزءا من الفلسفة عند بعض، وجزءا من العلم عند بعض آخر، وشيئا بين بين عند بعض ثالث؛ وتفسير ذلك كله هو في انتقال الإنسان من مرحلة العلم الكيفي إلى مرحلة العلم الكمي؛ فلما كانت العلوم كلها كيفية ولا وسيلة هناك لضبط الكميات، كانت العلوم كلها أجزاء من بدن واحد هو الفلسفة، ثم حدث بعد ذلك لبعض جوانب المعرفة أن ينضبط انضباطا كميا، فكان معنى ذلك أنه استقل عن الفلسفة وقام وحده علما، ولبثت أنواع من المعرفة حتى يومنا لا ندري كيف نلتمس السبيل إلى تقديرها الكمي، كالفضيلة والجمال والحق والنفس والخلود وما إلى ذلك، فلبثت إلى يومنا فلسفة، وأما علما النفس والاجتماع فلأنهما قد وفقا بعض التوفيق إلى حساب ظواهرهما حسابا كميا، فهما علمان مستقلان عن الفلسفة بمقدار ما وفقا، وهما بعد جزءان من الفلسفة بمقدار ما أخفقا.
إنني إذ أنظر إلى الفكر الإنساني في تطوره وتقدمه، أراه في سير دائب ينتقل به من مرحلة الإدراك الكيفي إلى مرحلة الإدراك الكمي لظواهر العالم؛ فقد كانت ظواهر العالم عند أرسطو - مثلا - تقسم أنواعا أنواعا، بحيث لا يجوز لظاهرة تندرج تحت نوع ما أن تندرج في الوقت نفسه تحت نوع آخر؛ ومن ثم نشأت عند فلاسفة اليونان مشكلات غريبة، فهل يكون الشيء الواحد - مثلا - حارا وباردا في وقت واحد؟ ذلك مستحيل في حكم المنطق؛ لأن الضدين لا يصدقان معا، لكن الماء الفاتر حار بالنسبة للماء المثلوج، وبارد بالنسبة للماء الذي يغلي، فكيف أمكن لهذا الماء المعين أن يحكم عليه هو نفسه بالحرارة وبالبرودة معا؟ كان هذا هو الموقف عندما كان إدراك الحرارة والبرودة أمرا كيفيا، لكن انظر ماذا حدث لهذه المشكلة نفسها بعد أن تحول إدراكنا للحرارة من الناحية العلمية إلى إدراك كمي؛ فأولا - لم تعد الحرارة والبرودة نوعين من الكائنات، بل هما ظاهرة واحدة وإن تفاوتت درجاتها؛ فالماء المثلوج ذو حرارة كالماء الذي يغلي، وكل ما في الأمر اختلاف في درجة هذه الحرارة؛ فهي صفر في الحالة الأولى ومائة في الحالة الثانية. ولو قلنا عن ماء معين إن درجة حرارته 50 مئوية، لما أصبح لكلامنا معنى إذا قلنا: كيف أمكن لهذه الخمسين أن تكون أكبر من الصفر وأصغر من المائة؟
وإذا رأيت أناسا ما يزالون يقسمون لك الكائنات الحية قسمين، فكائنات عاقلة هي بنو الإنسان، وكائنات غير عاقلة هي أفراد الحيوان الأعجم والنباتات، فاعلم أنهم ما يزالون من العلم في مرحلة أرسطية؛ إذ هم يقسمون الظواهر على أساس كيفي، ولو أرادوا النظر من وجهة التفاوت الكمي للظاهرة الواحدة، لرأوا «العقل» في الإنسان درجة عليا من درجات تتفاوت في سلم الكائنات الحية جميعا؛ فليس الأمر «أنواعا» بل الأمر ظاهرة واحدة هي ظاهرة الحياة، وعلينا بعد ذلك أن نجد لها مقياسا يقيس درجاتها المتفاوتة في الكائنات الحية، كما وجدنا للحرارة مقياسا.
إن المثل الأعلى الذي نبتغيه للعلم الإنساني، مهما يكن موضوع ذلك العلم، هو أن نجد لكل مدرك من مدركاتنا وسيلة قياسية نقيس بها درجات ذلك المدرك في تفاوتها؛ فليس علما أن أقول عن الناس إن منهم الأذكياء ومنهم الأغبياء؛ لأن هذا وصف كيفي لا دقة فيه، وليس الذكاء والغباء نوعين من الظواهر، بل هما درجتان أو قل هما سلم مديد لظاهرة واحدة في درجاتها المتفاوتة؛ فعند من نصفه بالذكاء درجة أعلى من ظاهرة هي نفسها عند من نصفه بالغباء ولكنها عنده بدرجة أقل، ومجهودنا هو أن نعثر على أداة للقياس. والعجيب هنا هو أن تجد عند كثير جدا من الناس - حتى من أولئك الذين يسلكون أنفسهم في زمرة العلماء - نفورا شديدا إذا ما زعمت لهم أن العلم ينشد الضبط الكمي لشتى الظواهر، بما فيها الإنسان نفسه، إنهم ينفرون نفورا شديدا إذا ما علموا أنك تريد أن تقيس الفضيلة كما تقيس الحرارة، وأن تزن الحب كما تزن الأجسام، وعندهم أن التقدير الكمي إن جاز وأمكن في الطبيعة الجامدة، ثم إن جاز وأمكن إلى حد ما في النبات وفي الحيوان، فهو مستحيل بالنسبة إلى الإنسان؛ فللإنسان عندهم روح لا يقاس بالمكاييل والموازين. نعم إنه لا بأس عندهم من أن يقام يوم الحساب ميزان للحسنات والسيئات؛ لأنه لا بأس عندهم من الوقوع مع أنفسهم في تناقض، فيتصورون للشيء الواحد إمكانا واستحالة في آن معا.
إننا إذ نقول إن المثل الأعلى الذي ينشده العلم في تطوره هو أن يتحدث عن الظواهر كلها بلغة الكم لا بلغة الكيف، لا ننسى أن السير تجاه هذا الهدف قد بدأت خطاه الأولى في أقدم العصور الفكرية؛ فمن الفلاسفة اليونان الأقدمين من جعل اختلاف الكيف في الأشياء راجعا إلى اختلاف في الكم؛ فليس الذهب - مثلا - بمختلف عن النحاس في جوهر المادة المصنوع منها كل منهما، بل الجوهر واحد - عند هؤلاء - وإنما الاختلاف كله في طريقة الترتيب والتركيب، أو هو في اختلاف درجة الكثافة أو في اختلاف الكمية إلى آخر هذه الآراء التي تجدها عند ديمقريطس مثلا أو فيثاغورس، لكنه على الرغم من هذه المحاولات الأولى، كان السير نحو الهدف بطيئا أول الأمر، ثم أسرع في العلوم الطبيعية وحدها ولبث على بطئه في العلوم الإنسانية. وإني لمن القائلين إنه لا مبرر أبدا لتثبيط الهمة في العلوم الإنسانية؛ لأنه بمقدار ما يدخل الإنسان في عداد الظواهر الطبيعية لا بد من إخضاعه لما تخضع له سائر الظواهر من منهج علمي في البحث، وأما إن كان للإنسان جانب يتفرد به دون الظواهر الأخرى، كان معنى ذلك اعترافا منا بأن هذا الجانب الإنساني الفريد لا يجوز فيه التحدث إلا كما يتحدث الفنان حديثا ينفعل به، لكنه لا يقول عن دنيا الواقع العلمي شيئا.
2
يقدم «كولنجوود» اقتراحا جديرا بالنظر، يصف به طبيعة التفكير الفلسفي،
1
فيقول إن الاختلاف الكمي بين المدركات هو في حد ذاته ليس بذي شأن في التفكير الفلسفي؛ فليس مما يعني الفيلسوف أبدا أن يعلم كم درجة حرارية هنا وكم درجة هناك، وكم يكون ارتفاع هذا الجبل، أو كم تكون المسافة بين القاهرة ودمشق، بل إن من الفلاسفة من يرى أن المدركات الرئيسية التي تشغلهم قبل غيرها ليست بطبيعتها مما يخضع للقياس الكمي - كالخير والحق والجمال والوجود والعدم والمطلق والروح والجوهر - فهذه كلها مدركات عقلية لا تكال بالقدح ولا توزن بالرطل ولا تقاس بالمتر، إنها مدركات لا تجوز عليها القسمة إلى درجات إطلاقا ، فضلا عن أن تقاس تلك الدرجات قياسا فيه ضبط ودقة.
كلا ولا الاختلاف الكيفي نفسه هو في حد ذاته مما يشغل الفلاسفة؛ فلا يهتم الفيلسوف أبدا بالفرق - مثلا - بين الزواحف والطيور، وبين صخور المرمر وصخور الجرانيت، إنه قد يسأل نفسه: ما الحياة؟ لكنه لا يسأل نفسه قط عن الفوارق الكيفية بين نوع ونوع آخر من الأحياء، وقد يسأل نفسه: ما الإدراك الحسي؟ لكنه لا يسأل قط: ما الفرق الكيفي بين البصر والسمع؟
فلا اختلاف الكيف وحده ولا اختلاف الكم وحده يعنيه، فكلاهما من شأن العلماء؛ الأول منهما يختص به علماء الطبيعة، ويختص بالثاني علماء الرياضة والفيزياء الرياضية، أما إذا امتزج اختلاف الكيف واختلاف الكم معا في حالة واحدة، فها هنا يكون مجال التفكير الفلسفي بمعناه الدقيق.
فلو كان الأمر في وصف الفضائل المختلفة - مثلا - مقصورا على وصف تفصيلي لكل فعل مما يندرج تحت هذه الفضيلة أو تلك، لما كان ذلك مما يعني الفيلسوف؛ فإذا قلت كما قال أفلاطون إن الأفعال الفاضلة كلها تقع في أربعة أنواع، هي العفة والشجاعة والحكمة والعدل، فالعفة هي الاسم العام الذي نطلقه على مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالبدن وشهواته، والشجاعة هي الاسم العام الذي نسمي به مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالقلب ووجداناته، والحكمة هي الاسم العام الذي ندرج تحته مجموعة الأفعال الفاضلة الخاصة بالعقل وأحكامه، والعدل هو في أن نجعل كلا من الفضائل الثلاثة المذكورة في حدوده الصحيحة بحيث لا يجور منها جانب على جانب؛ إذا قلت هذا الذي قاله أفلاطون في الفضائل الرئيسية وأنواعها، ثم سكت عند هذا الحد، لما كان في الأمر فلسفة؛ لأنه عندئذ يكون تصنيفا علميا لمجموعات الأفعال المختلفة كيفا، كما نصنف أنواع الصخور وأنواع الطيور وأنواع الفاكهة.
أما إذا لم تكتف بالتصنيف الكيفي وحده - كما لم يكتف به أفلاطون - فمضيت تبحث عن اختلاف في الدرجة أيضا، تستطيع على أساسه أن ترتب تلك الفضائل علوا وسفلا، فتجعل العفة التي هي فضيلة البدن أدنى مقاما وأقل درجة من الشجاعة التي هي فضيلة القلب، وهذه بدورها أدنى مقاما وأقل درجة من الحكمة التي هي فضيلة العقل، وهذه بدورها أدنى مقاما وأقل درجة من العدل الذي هو فضيلة تلك الفضائل كلها؛ أقول لو أنك رأيت في اختلاف الكيف اختلافا في الدرجة أيضا، فعندئذ أنت الفيلسوف.
إن الحالة التي يكون فيها امتزاج بين النوع والدرجة - وإن شئت فقل بين الكيف والكم - وهي الحالة التي يهتم بها الفيلسوف في رأي «كولنجوود»، تتضمن أن الجنس الذي نقسمه إلى أنواعه إنما يتبدى في تلك الأنواع على درجات متفاوتة؛ فالحياة - مثلا - تعبر عن نفسها في أنواع من الكائنات الحية، ولو جعلت تصف تلك الأنواع نوعا نوعا لما كنت بهذا الوصف فيلسوفا، لكنك إذا أدركت الأساس الذي يجعل تلك الأنواع سلما تتفاوت درجاته في كمال التعبير عن الحياة، بحيث يكون نوع منها أغزر وأعلى تعبيرا عن الحياة من نوع آخر، كنت بهذا الترتيب للأنواع فيلسوفا؛ لأنك رأيت كيف يؤدي اختلاف الكيف في نوعين إلى اختلاف الدرجة بينهما؛ فلا بد - في الحالة التي يهتم بها الفيلسوف - أن يكون النوع والدرجة على صلة أحدهما بالآخر، بحيث يظل النوع الواحد يزداد في صفة معينة حتى يصل بها إلى حد معلوم، وعندئذ يتمخض عن نوع جديد، يظل بدوره يزداد في صفة معينة حتى يصل بها إلى حد معلوم، وعندئذ يتمخض عن نوع جديد، وهلم جرا.
راجع على هذا الضوء كثيرا جدا مما قاله الفلاسفة في شتى الموضوعات تجده ممثلا لهذه الفكرة؛ فكرة السلم المتدرج الذي يرتب به الفيلسوف أنواع الجنس الذي يبحثه ترتيبا يجعل الأدنى أقل درجة من الأعلى، ويجعل اختلاف النوعين كيفا، ملازما لاختلافهما درجة.
فهذا هو أفلاطون يقسم المعرفة أنواعا ودرجات في آن واحد؛ فإن تكن أنواعها عنده أربعة تبدأ في أسفل بالتخمين وتصعد تدريجا إلى الرأي ثم إلى المعرفة الاستنباطية وأخيرا إلى المعرفة الحدسية، فهذا الاختلاف الكيفي بين تلك الأنواع هو نفسه اختلاف في درجات تلك الأنواع من حيث بعدها أو قربها من اليقين. وكذلك يقسم أفلاطون الوجود درجات ثلاثا، تختلف نوعا لأنها تتفاوت علوا، وهي العدم فشبه الوجود فالوجود الكامل، وهو الوجود الحقيقي. ويقسم اللذائذ قسمين يختلفان نوعا لأنهما يتفاوتان درجة، وهما لذائذ الجسد ولذائذ الروح. وهكذا وهكذا كلما قرأت له بحثا في موضوع ألفيته يقسمه أنواعا تتفاوت في درجاتها.
وهذا بعينه تراه عند أرسطو في كثير من مواضع بحثه؛ فلئن كانت «النفس» عنده ثلاثة أنواع؛ نفس نامية في النبات، ونفس حاسة في الحيوان، ونفس ناطقة في الإنسان؛ فليس هذا الاختلاف الكيفي مجرد تعدد في الأنواع مع بقائها على درجة واحدة، بل إنها بسبب اختلافها ذاك تتفاوت أيضا في نصيبها من الكمال، وتكون النفس الأعلى أكمل تعبيرا عن الحياة من النفس الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة؛ ففي النفس الحاسة عند الحيوان ما عند النبات من نمو ثم يزيد الحس، وفي النفس الناطقة عند الإنسان ما عند النبات والحيوان من نمو وحس ثم يزيد التفكير. لو كان أرسطو قد اكتفى بذكر أنواع الكائنات الحية وأوصافها لما كان فيلسوفا، لكنه فيلسوف بالمبدأ الذي رآه يربط اختلاف النوع بتفاوت الدرجة في سلم الأحياء.
ولو جعلنا نسوق الأمثلة من الفلاسفة في كل عصر، لنتبين إلى أي حد كان هذا الترتيب الدرجي للأنواع التي تندرج تحت جنس ما، هو شغل الفيلسوف الشاغل، لما كانت هنالك نهاية نقف عندها. وحسبنا أن نذكر للقارئ ذكرا سريعا لطائفة من الفلاسفة، كان هذا النوع من التفكير واضحا في فلسفتهم؛ فانظر إلى أفلوطين وهو يسلسل الموجودات درجات، أعلاها هو الله الخالق، وأدناها هو المادة، وبينهما سلم من عقول وأنفس؛ وإلى الفلاسفة المسلمين كيف اهتموا دائما بترتيب الكائنات في سلم متفاوت الدرجات؛ فهذا هو الكندي يجعل بين الله الخالق والعالم المخلوق حلقات وسطى يؤدي أعلاها إلى أدناها، بحيث يؤثر الأعلى في الأدنى ولا يؤثر الأدنى في الأعلى؛ لأن هذا الأعلى هو أرقى منه في مراتب الوجود؛ فهناك - إذن - ثلاث درجات: العقل الإلهي، فالنفس التي هي بدورها درجات، ثم العالم المادي. فليس الاختلاف هنا اختلافا نوعيا في الكيف فقط ، بل إنه كذلك وفي نفس الوقت اختلاف في المنزلة. وهذا هو الفارابي كذلك يدمج اختلاف النوع في تفاوت الدرجة، فمن الله يفيض مثاله الذي هو عقل أول تأتي بعده درجات ثمان من العقول، على أن هذه العقول التسعة كلها منوطة بالعالم العلوي - عالم الأفلاك - ولذلك فهي بمثابة المرتبة الثانية بعد الله، وفي المرتبة الثالثة يجيء العقل الفعال، وهو الذي من شأنه أن يصل العالم العلوي بالعالم السفلي، ثم تجيء النفس في المرتبة الرابعة، وفي الخامسة تجيء الصورة، وفي السادسة تجيء المادة، وبهاتين الأخيرتين تنتهي سلسلة الموجودات التي ليست ذواتها أجساما.
2
وتدرج الكائنات هذا مبدأ أساسي في فلسفة ليبنتز؛ فالأمر في تلك الكائنات كمجموعة من مرايا كلها تعكس شيئا بذاته، ولكن كلا منها تزيد درجة عن سابقتها في وضوح الصورة المنعكسة عليها. وانظر إلى هيجل في وصفه لتفاوت الكائنات من حيث تعبيرها عن الروح المطلق، ثم انظر إليه كذلك في ترتيبه للفنون حسب غلبة الصورة على المادة أو المادة على الصورة، بحيث يكون أعلاها هو الفن الذي يكاد يكون صورة خالصة بغير مادة، وأدناها هو الفن الذي يكاد يكون مادة خالصة بغير صورة؛ وعلى هذا فالموسيقى أعلى من التصوير، والتصوير أعلى من النحت، والنحت أعلى من العمارة.
بعد أن يشرح لنا «كولنجوود» فكرته التي لخصناها لك وضربنا لها أمثلة توضحها، وهي أن طبيعة التفكير الفلسفي تتميز باندماج الاختلافين معا في سلم واحد، اختلاف النوع واختلاف الدرجة، يحدد الفرق بين «الدرجة» واختلافها في موضوعات الفلسفة، وبين «الكمية» وقيامها في المدركات العلمية، فيقول إن الفرق بين هذه المفاضلة «هذا الرجل أفضل من ذلك»، وبين هذه المقارنة «هذا الجسم أكثر حرارة من ذلك»، هو أن القياس الكمي ممكن في الحالة الثانية وغير ممكن في الحالة الأولى؛ وهكذا تتميز المدركات الفلسفية بأنها وإن تكن قابلة للتفاوت الدرجي، إلا أنها مستحيلة على القياس الكمي، فيجوز أن نقول عن التصوير إنه أعلى في سلم الجمال من النحت، لكننا بعد ذلك لا نستطيع أن نقيس مقدار هذا التفاوت بينهما كما نقيس مقدار التفاوت بين حرارتين أو بين مسافتين أو فترتين من الزمن. كذلك يجوز أن أقول عن المعرفة الحدسية إنها أعلى في سلم الحق من المعرفة الاستنباطية، لكنني عاجز بعد ذلك أن أقيس مقدار التفاوت بينهما كما أقيس الفرق بين ارتفاع الهرم الأكبر وارتفاع المقطم. وكذلك يجوز أن أقول إن لذة الفكر أعلى في سلم الخير من لذة الجسد، لكن القياس الكمي للفرق بينهما محال كما هو محال في حالتي الجمال والحق.
وتعذر القياس الكمي للفوارق التي تتفاوت بها المدركات الفلسفية راجع إلى أن هذا التفاوت لا يكون في الدرجة وحدها فيمكن قياسه، بل إن اختلاف الكيف ليمتزج به امتزاجا يجعل التفاوت الدرجي اختلافا كيفيا في الوقت نفسه؛ فأنت تستطيع أن تزيد من حرارة الماء درجة بعد درجة دون أن يكون هنالك من التغيرات في الماء غير ارتفاع حرارته، لكنك لا تستطيع أن تدني بدنك من النار ليرتفع شعورك بحرارتها درجة بعد درجة دون أن يصاحب هذا الشعور بالحرارة المتزايدة اختلاف في كيفية الشعور ذاتها؛ فقد يكون الشعور بالحرارة في درجة معينة شعورا بدفء ممتع، ثم ينقلب مع ارتفاع الحرارة شعورا بلذع مؤلم، وليس الاختلاف بين المتعة والألم مجرد اختلاف في درجة كمية، بل هو اختلاف في الكيفية أيضا، والاختلافان مندمجان أحدهما في الآخر اندماجا يستحيل الفصل بين عنصريه.
ويخلص «كولنجوود» من عرض فكرته هذه إلى نتيجة يقول فيها إن إدراكنا لطبيعة التفكير الفلسفي على هذا النحو، يجنبنا الخطأ في موضعين؛ فلا نخطئ - أولا - بمحاولة إخضاع المدركات الفلسفية كالخير والجمال لحساب كمي دقيق كأنما هي شبيهة بالمدركات العلمية الخالصة كالحرارة والضوء، ثم لا نخطئ - ثانيا - فنظن أن المدرك الفلسفي الواحد، كفكرة الخير مثلا، يكون دائما على درجة واحدة في كل أوضاعه؛ ذلك لأن المدركات الفلسفية كلها - كما قلنا - لا هي تتمثل في الدرجة وحدها، ولا هي تتمثل في الكيفية وحدها، بل هي دائما تتدرج في سلم تمتزج فيه الدرجة والنوع في آن معا.
ولو صح هذا الذي يقوله «كولنجوود» في طبيعة التفكير الفلسفي لكان للفلسفة خصائصها التي تميزها من العلم ومن الفن جميعا؛ فلا هي من العلم لأن العلم يتميز بتكميم مدركاته وتخليصها من جوانبها الكيفية كلها، ولا هي من الفن لأن الفن يتميز بجانبه الكيفي ولا شأن له بالمقادير الكمية، وحتى إن استخدم هذه المقادير كما نفعل في الموسيقى وفي أوزان الشعر وفي الاحتفاظ بنسب خاصة في النحت والعمارة، فذلك لما يتبع تلك المقادير الكمية من كيفيات هي التي يقصد إليها الفنان.
لكننا نزعم أن ليس للفلسفة قضايا خاصة بها، بحيث لا تصلح تلك القضايا أن تكون من العلم ولا أن تكون من الفن. إننا نزعم أن أي جملة يقولها قائل إما أن تكون علما؛ وبذلك تخضع لمقاييس العلم من طبيعة أو رياضة، وإما أن تكون معبرة عن حالات ذاتية؛ وبذلك تكون فنا وتخضع لمقاييس النقد الفني؛ فإن زعم زاعم لجملة يقولها إنها ذات خصائص تميزها عن العلم وعن الفن، وإنها بهذه الخصائص تكون فلسفة ويكون من العبث محاولة تحويلها إلى علم، تناولنا جملته هذه وحللناها وسننتهي حتما إلى أنها كلام فارغ من كل معنى.
إن دعوي «كولنجوود» بأن عمل الفلسفة الأصيل هو ترتيب الأنواع التي تجسد جنسا معينا ترتيبا تتفاوت درجاته بحيث يكون الأعلى في الترتيب أقرب إلى تمثيل الجنس المقسم من الأدنى في الترتيب، هذه الدعوى تتضمن تقييما خاصا للأنواع يعبر به الفيلسوف عن مزاجه الشخصي؛ ومن ثم فهو تعبير عن ذاته كأنما هو شاعر يعبر عن وجدانه وعن ميوله الخاصة. هذا أرسطو - مثلا - يقسم الدولة إلى أنواعها فيقول إن هذه الأنواع ستة، يرتبها حسب قربها أو بعدها من الكمال فيقول إن أعلاها هي حكومة الفرد الصالح، يتلوها حكومة الأقلية المستنيرة، ثم يتلوها حكومة الكثرة المستنيرة، وبعدئذ تجيء الثلاثة الأنواع الفاسدة، وهي على التوالي أيضا: حكومة الفرد المستبد، فحكومة الأقلية الطاغية، وأخيرا حكومة الطغام من سواد الشعب. وهذا تقسيم وترتيب ظاهره موضوعي، وأما حقيقته فهي أنه تعبير عن ميل أرسطو الخاص به؛ فهو يحب هذا ويكره ذاك، ويفضل هذا على هذا على أساس تمتزج فيه عناصر ذاتية خالصة. وحسبنا أن نلاحظ أن هذا التقسيم من ساسه قائم على افتراض قيام الدولة، وهو افتراض مستمد - فيما أعتقد - من الأوضاع القائمة فعلا في المجتمع الذي نشأ فيه الفيلسوف، ولو قد نشأ في غير مجتمع منظم لجاز ألا يأخذ بقيام الدولة إطلاقا، فضلا عن أن يصنف أنواعها ويرتب تلك الأنواع من حيث صلاحيتها أو فسادها.
لو اكتفى أرسطو بذكر أنواع الدولة الستة على أنها الأنواع التي قامت فعلا في أزمنة مختلفة وأمكنة مختلفة، لكان بذلك شبيها بالمؤرخ، وكان يمكن لقوله هذا أن يخضع لوسائل تحقيق المؤرخين فيظهر صوابه أو خطؤه. ولو ذكر أرسطو هذه الأنواع الستة على أنها التقسيم المنطقي الممكن عقلا وإن لم تقم بعض الأقسام فعلا؛ إذ لا تخرج الدولة نظريا عن أن تكون في قبضة فرد واحد أو فئة قليلة من الأفراد أو في أيدي الشعب كله، ثم لا تخرج كل حالة من هذه الحالات عن أن تكون إما صالحة أو فاسدة، أقول لو ذكر أرسطو تقسيمه هذا على أنه تقسيم منطقي صرف يجمع كل الممكنات، سواء تحقق بعضها بالفعل أو لم يتحقق، لكان قوله من قبيل العبارات المنطقية التي لا تتعرض للكذب أبدا لسبب بسيط، وهو أنها لا تقول شيئا، ومثال ذلك أن تقول عن عدد الطلبة في فرقتك إنه إما زوجي أو فردي، أو أن تقول عن صديق لك إنه إما غائب أو حاضر؛ فهذه وأمثالها صيغ منطقية صدقها مضمون لأنها لا تخبر بشيء عن الحالة القائمة. وهكذا أيضا يكون تقسيم أرسطو لأنواع الدولة مضمون الصدق لو أراد به تقسيما منطقيا صرفا دون التعرض لذكر ما هو قائم منها فعلا، في كلتا الحالتين السالفتين، وهما: (1)
أن يكون القول مستمدا من التجربة لما قد وقع فعلا من أنواع الدولة؛ وبذلك يكون تحقيقه كتحقيق أي قضية تاريخية. (2)
أن يكون القول منطقيا خالصا يعد كل الحالات الممكنة حتى ولو لم يقع بعضها فعلا؛ وبهذا يكون تحقيق العبارة - كتحقيق أي صيغة منطقية - تحقيقا صوريا بحتا؛ أقول إنه في كلتا الحالتين يكون القول مقبولا ومشروعا لأنه ممكن التحقيق، وأما الذي يخرج به عن إمكان التحقيق، وبذلك يخرج به عن عداد الأقوال المشروعة، فهو المفاضلة التي يجريها الفيلسوف بين أنواع الدولة، بأن يجعل نوعا منها «أفضل» من نوع آخر، فها هنا ندخل في مجال القيم. وليس للقيمة التي ينسبها شخص لشيء وسيلة موضوعية لتحقيقها؛ فهي ذاتية، ولمن شاء أن يقول ما شاء من قيم عن هذا الشيء أو ذاك.
وخلاصة القول هي أنه لو صح ما قد ذهب إليه «كولنجوود» من أن الفلسفة بحكم طبيعتها تمزج اختلاف الدرجة باختلاف الكيف، كان معنى ذلك أن أقوالها - إذن - غير ممكنة التحقيق لا على أساس تجريبي، ولا على أساس منطقي خالص؛ وبالتالي فهي أقوال إما أن تدخل في التعبيرات الذاتية الفنية وإما ألا تكون شيئا على الإطلاق.
3
لم يكن التفكير النظري في أولى مراحله يهتم بالكم اهتماما يدعوه إلى ضبط ذلك الكم ضبطا دقيقا. ولعل الحاجة إلى هذا الضبط الدقيق في العلوم الطبيعية على الأقل لم تظهر بشكل واضح إلا في ظهور هذه العلوم منذ أيام النهضة الأوروبية على نطاق واسع؛ ذلك أن التفكير اليوناني كان قد انصرف بمعظم جهوده إلى العلوم الاستنباطية كالرياضة والفلسفة، والتفكير الوسيط قد انصرف بجهوده كلها تقريبا إلى اللاهوت، ولم تظهر العلوم الطبيعية بشكل واضح يشغل جانبا بارزا ملحوظا من جهود الإنسان الفكرية إلا منذ فاتحة العصور الحديثة؛ أي منذ القرن السادس عشر؛ فعندئذ ظهرت زمرة العلماء: جاليليو، وكبلر، وكوبرنيق، ونيوتن، متجاورة متزاحمة على نحو ما ظهرت زمرة الفلاسفة أيام اليونان متجاورة متزاحمة: سقراط وأفلاطون وأرسطو وما يتبعهم من مدارس.
ومع ظهور العلوم الطبيعية على هذا النطاق الواسع، ظهرت الحاجة إلى وسائل الضبط الكمي؛ فلا غرابة أن أخذ النقص في المنطق الأرسطي يبدو للعيان؛ لأن هذا المنطق وإن يكن قد عني بالكمية في قضاياه، فإنه لم يعن بها إلا على سبيل التعميم الغامض، لا على سبيل التفصيل الدقيق، ولك أن تراجع القياس الأرسطي الذي هو عند اليونان مثال التفكير العلمي، لترى كيف يقصر اهتمامه من حيث الكم في لفظتي «كل» و«بعض». نعم إنه قياس يفصل لك القواعد الاستدلالية تفصيلا دقيقا، على شرط ألا تجاوز في الدقة الكمية عند ذكر القضايا التي تستخدمها في الاستدلال هذه الحدود العامة؛ فإما أن تكون القضية المستخدمة في المقدمات كلية أو جزئية، والكلية هي ما كان سورها كلمة «كل» أو ما في معناها، والجزئية هي ما كان سورها كلمة «بعض» أو ما في معناها، كأن تقول مثلا: «كل المصريين يتكلمون العربية»، و«كل سكان النوبة مصريون»؛ إذن «فكل سكان النوبة يتكلمون العربية». أو أن تقول: «كل آبار البترول المصرية قريبة من البحر الأحمر»، و«بعض آبار البترول المصرية غزير الإنتاج»؛ إذن «فبعض آبار البترول الغزيرة الإنتاج موجودة بالقرب من البحر الأحمر.» هذا هو نمط الاستدلال القياسي عند أرسطو، ولكن هل «كل» و«بعض» هما كل حدود التقدير الكمي في التفكير العلمي؟ واضح أنهما لا يكونان إلا شطرا ضئيلا مما يتعرض له الإنسان بفكره العلمي، إذا ما أراد أن يمس مشكلاته العلمية على نحو جاد، فماذا يجدي من الناحية العلمية أن أقول «بعض المصريين فقراء»؟ إنه يتحتم على الباحث أن يعلم «كم» من المصريين هم الفقراء، ثم «كم» هو الدخل السنوي الذي نحدد به معنى كلمة «الفقر» في هذا السياق؟ إن القول بأن «بعض المصريين فقراء» هو قول يوشك ألا يفيد العلم شيئا على الإطلاق؛ لأن ما فيه من كم قد جاء على صورة غامضة، وما فيه من كيف (وأعني به نسبة صفة الفقر إلى فريق من المصريين) لا يعني في البحث العلمي شيئا إلا إذا تحول فيه الكيف إلى كم بأن ترجمت صفة الفقر إلى نسبة معينة من الدخل في وحدة زمنية معينة.
إن القارئ الملم بالمنطق الأرسطي وقواعده ليعلم جيدا أن ذلك المنطق بكل قواعده الاستدلالية لا يسعف أحدا إذا أراد أن يعلم إن كان الاستدلال القياسي الآتي صوابا أو لم يكن، وهو: (1)
إن 4 / 7 على الأكثر من طلبة الجامعة يتحقق فيهم عدم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة 2 / 3. (2)
إن 3 / 5 على الأقل من أبناء الضباط تتحقق فيهم اللياقة الطبية العسكرية بنسبة 7 / 8. (3)
إذن فعلى الأكثر 1 / 2 أبناء الضباط هم من طلبة الجامعة.
نعم لم يكن القياس الأرسطي يعنى بالدقة الكمية في مقدماته ونتائجه، مع أن العلوم بأسرها، طبيعية وإنسانية على السواء، لا مناص لها من مثل هذه الدقة؛ إذ هي في قياسها لكمياتها أو في إجرائها لإحصاءاتها لا تقنع بمجرد القول - مثلا - إن كل الخشب يطفو فوق الماء، أو إن بعض الناس هم دون المستوى في درجة ذكائهم، بل لا بد في الحالة الأولى من ذكر الوزن النوعي للخشب في رقم دقيق حتى يمكن الاستفادة من القاعدة استفادة علمية عملية، ولا بد في الحالة الثانية من تقدير للذكاء بلغة الكم، ثم تقدير لما يعد «المستوى»، ثم لا بد بعد ذلك من ذكر نسبة الناس الذين هم دون هذا المستوى؛ حتى يمكن الاستعانة بأمثال هذه التقديرات الدقيقة في عملية التربية مثلا.
فلا عجب - إذن - أن رأينا بعض رجال المنطق الحديث، منذ قرن تقريبا، يتصدون لمعالجة هذا الجانب الذي أهمله أرسطو في منطقه، وهو إدخال التقدير الكمي في مقدمات الاستدلال ونتائجه ما أمكن ذلك، غير مكتفين بالكلمات التقليدية الدالة على الكم، مثل «كل» و«بعض». ومن بين هؤلاء المناطقة المحدثين «جورج بول»
3
و«دي مورجان»
4
و«جفنز»
5
وغيرهم. ومع ذلك فما يزال مجال البحث في هذا الميدان مفتوحا؛ لأنه رغم الجهود الموفقة التي قام بها رجال المنطق ورجال الرياضة في عصرنا الحديث، إلا أنهم جميعا لم يهتدوا بعد إلى طرائق للاستدلال الدقيق حين تكون أحجام الفئات التي تدخل في ذلك الاستدلال معلومة محدودة؛ إذ ما نزال نقتصر في تحديدنا للكم على «كل» وعلى «بعض»، ولو أننا ازددنا تحليلا وتوضيحا للكمية التي تدل عليها كل من هاتين الكلمتين؛
6
فقد كان مما لاحظه «بول»
7 - وهو العلامة البارز في مجال الإحصاء في أوائل هذا القرن - أن المنطق كما نعرفه لا يسعف الباحثين في استدلالاتهم، حين تكون القضايا التي بين أيديهم دالة على نسب مئوية مضبوطة كقولنا: «كذا في المائة من الفئة الفلانية تتصف بنسبة كذا من الصفة الفلانية .»
كنا فيما مضى إذا قلنا عن قضية ما إنها «حق» كان في هذا القول ما يكفينا ويقنعنا، ولكننا اليوم لم نعد نكتفي بهذا الوصف «الكيفي» ونريد له دقة كمية لنعلم ما نسبة الحق في تلك القضية المعينة؛ أهي قضية يقينية فتكون نسبة الحق فيها 100٪ أي واحدا صحيحا، أم هي مستحيلة الصدق فتكون نسبة الحق فيها صفرا، أم إنها في نصيبها من الحق بين بين، فلا هي يقينية ولا هي مستحيلة، بل هي محتملة؛ وعندئذ يكون علينا أن نعين نسبة احتمالها.
وفي ميدان هذه المحاولة نحو تكميم المنطق ونحو التحدث عن «الحق» بلغة الكمية المقيسة المحددة المضبوطة، في هذا الميدان كان «جورج بول» إماما؛
8
إذ بين لنا كيف يتشابه الاستدلال الاستنباطي تشابها جد قريب مع العمليات الرياضية في الحساب أو في الجبر؛ فما الجبر أو الحساب إلا تحويلات لصيغ رمزية وفق طائفة من قواعد، فمن هذه الصيغة الرمزية أستخرج تلك؛ فهل يمكن النظر إلى عباراتنا الكلامية التي نسوق فيها أفكارنا هذه النظرة الرياضية نفسها، وهي أن نعدها صيغا رمزية، نستطيع أن نضع لأنفسنا من القواعد ما يعيننا على أن نستخرج صيغة من أخرى؟ جواب هذا السؤال عند «بول» هو بالإيجاب؛ فقد نشر بحثا في مجلة رياضية عن «حساب المنطق» ختمه بعبارة تلخص موقفه من الموضوع؛ إذ قال: «إن نتيجة أبحاثي هي أن القوانين التي تتركب بمقتضاها العبارات اللغوية رياضية بمعنى هذه الكلمة الدقيق؛ فهي كالقوانين التي تتمثل في المدركات الكمية الخالصة التي نتصورها عن المكان والزمان والعدد والمقاييس.»
9
ولسنا ندري إن كان «بول» قد ابتكر الفكرة ابتكارا دون أن يعلم أن أحدا قبله قد خطرت له الفكرة نفسها، أم إنه قد استوحى فيها ما قرأه عن «ليبنتز»، ومهما يكن من أمر فأكثر ما يمكن أن يكون «بول» قد استفاده من سابقيه، هو مجرد الفكرة بأن المنطق يمكنه أن يستخدم أساليب الرياضة، وليس ذلك بالشيء الكثير، وإنه ليروى عن «بول» في تاريخ حياته أنه قال لزوجته فيما بعد إن الفكرة طرأت له أول مرة وهو يمشي بين الحقول ذات يوم في صباه، وإن كان ذلك كذلك فما أشبه الوحي هنا بوحي ديكارت وهو جالس إلى جانب المدفأة في «أولم».
10
ففي الجبر الرياضي عمليتان أساسيتان هما عمليتا الجمع والضرب،
11
وهاتان العمليتان يمكن تعريفهما بما يكون بين الصيغ الرياضية من تساو؛ فمثلا:
س + ص = ص + س
فهاتان صيغتان رمزيتان متساويتان، وهي عملية تتضمن تعريفا للجمع بأنه عملية تبادل في الحدود؛
12
أي إن حاصل الجمع لا يتوقف على ترتيب الحدود المجموعة.
وكذلك من هذا التساوي الآتي:
س + (ص + ط) = (س + ص) + ط
نرى أن عملية الجمع حين تتناول أكثر من حدين، فإنها عندئذ لا تعتمد على الترتيب الذي يضم حدين معا في كمية واحدة، وهو ما يسمونه بمبدأ ترتيب الحدود.
13
فمن هذين المبدأين السابقين تتبين طبيعة الجمع في الرياضة، ومن نفس المبدأين أيضا تتبين طبيعة الضرب؛ فنحن نعلم أن:
س × ص = ص × س [وهو مبدأ تبادل الحدود]. كما نعلم أن:
س × ص × (ط) = س × (ص × ط) [وهو مبدأ ترتيب الحدود].
ومن القواعد الهامة في الرياضة قاعدة تجمع بين عمليتي الجمع والضرب معا، فنقول:
س (ص + ط) = س ص + س ط
تلك هي بعض القواعد الأساسية في عمليتي الرياضة الرئيسيتين، وهما عمليتا الجمع والضرب، وكان ما كشف عنه «بول» هو أن للمنطق جبرا شديد الشبه بجبر الرياضة، فله جمع وله ضرب، وللجمع والضرب فيه نفس المبادئ التي رأيناها مبينة لطبيعة هاتين العمليتين في الرياضة، مع اختلافات يسيرة جدا.
فالجبر المنطقي عند «بول» يستخدم من الأعداد عددين لا غير، وهما الواحد والصفر، ثم يستخدم رموزا لمجهولات يختارها من أحرف الهجاء على نحو ما يفعل جبر الرياضة، ولو أنه آثر أن يختار أحرفا غير التي جرى عليها العرف في الجبر الرياضي؛ فهذا الجبر الرياضي قد جرى على أن تكون س ، ص، ط أحرفه، فلتكن أحرف الجبر المنطقي هي ق، ك، ل. لكن رموز المجهولات في الجبر الرياضي قد تعني أي عدد من الأعداد بغير تحديد، وأما رموز المجهولات في الجبر المنطقي فلا تعني إلا أحد عددين؛ فإما واحد وإما صفر.
فإذا اصطلحنا على أن يكون الرمز ق دالا على مجهول في حالة الإيجاب، واصطلحنا على أن يكون الرمز وفوقه شرطة ق
دالا على مجهول في حالة السلب، ثم اصطلحنا كذلك على أن يكون هذا الرمز « » دالا على الجمع، والرمز « » دالا على الضرب [هذه هي الرموز التي استخدمها بول] كانت قواعد الجبر المنطقي هي كما يلي: (1)
النفي يغير قيمة الرمز؛ فإذا كانت «ق = 1» نتج أن «ق = 0»، وكذلك إذا كانت «ق = 0» نتج أن «ق = 1».
14 (2)
جمع فئة إلى فئة، أو ضرب فئة في فئة، يتبعان مبدأي تبادل الحدود وترتيب الحدود اللذين رأيناهما في العمليات الرياضية. (3)
جمع فئة ما إلى نفسها، وضرب فئة ما في نفسها، لا ينتج عنهما تغير في الفئة، بل تظل على حالها؛ أي إن:
ق
ق = ق
ق
ق = ق (4)
جمع فئة ونقيضها يساوي واحدا؛ أي إن:
ق
ق = 1 (5)
ضرب فئة في نقيضها يساوي صفرا؛ أي إن:
ق
ق = 0 (6)
الضرب والجمع في الجبر المنطقي (كما في الجبر الرياضي) يسيران على المبدأ الآتي:
ق (ك
ل) = (ق
ك) (ق
ل)
ق (ك
ل) = (ق
ك) (ق
ل)
ولنلق ضوءا على هذه الرموز:
إننا إذ نتحدث بألفاظ اللغة الجارية، فنحن إنما نحدد العلاقات بين فئات الأشياء، فندخل بعضها في بعضها الآخر، أو نفصل بعضها عن بعضها الآخر؛ فأنا أدخل فئة الأشجار في فئة الأشياء الخضراء حين أقول: الشجر أخضر. وأفصل فئة الأسماك عن فئة الكائنات الحية التي تعيش على اليابس حين أقول: لا تعيش الأسماك على اليابس.
افرض أنك جمعت فئتين إحداهما مع الأخرى في صعيد واحد، كأن تجمع - مثلا - عمال السيارات العامة مع عمال مركبات الترام، ثم ارمز إلى الفئة الأولى بالرمز «أ» وإلى الفئة الثانية بالرمز «ب»، وافرض أن هناك عاملا معينا اسمه إسماعيل، أنت تعلم أنه واحد من العمال في هذه الفئة أو تلك، ولكنك لا تعلم في أيهما يكون، فلو سألك عنه سائل: أين هو؟ كان جوابك: هو إما عضو في فئة «أ» أو عضو في فئة «ب». وإذا كان الرمز « » هو ما نرمز به إلى «إما ... أو ...» فإن جوابك السابق موضوعا في صيغة رمزية يكون: أ
ب. ومعنى ذلك أن ما نعبر عنه في اللغة الجارية بلفظي «إما ... أو ...» هو في الحقيقة عملية جمع منطقي؛ لأنني أضع بها فردا معينا في فئة هي حاصل جمع فئتين.
وأما عملية الضرب المنطقي فهي عبارة عن وصف شيء ما بصفتين، كأن أصف العقاد بأنه طويل القامة وبأنه أديب؛ ذلك لأنني إذا فرزت في عالم الأشياء فئة طوال القامة كان العقاد واحدا منهم، ثم إذا عدت إلى الفرز من جديد وفرزت من طوال القامة فئة الأدباء كان العقاد واحدا منهم كذلك؛ فإذا اصطلحنا على أن نرمز لهذه العملية التي نكرر فيها فرز الأشياء بالرمز « » (وهي المقابلة لعلامة الضرب × في الرياضة)، ثم إذا رمزنا إلى الصفتين اللتين تجتمعان معا في فرد معين بالرمزين «أ» و«ب»، كان قولنا عن العقاد إنه أديب طويل القامة، هو ما نرمز له بهذه الصيغة: أ
ب.
وعلى ضوء هذه الأمثلة راجع ما قلناه عن قواعد الجبر المنطقي؛ فمعنى قولنا في هذا الجبر إن:
أ + ب = ب + أ
هو أنه سيان في عالم الأفراد أن تجمع أفراد فئة أ إلى الفئة ب، أو أن تجمع أفراد الفئة ب إلى الفئة أ؛ فكلا الطريقين يوصل إلى مجموعة واحدة.
ومعنى قولنا إن:
أ × ب = ب × أ
هو أنه سيان في عالم الأشياء أن تفرز الفئة «أ» أولا ثم تستخرج من بينها ما هو «ب»، أو أن تفرز الفئة «ب» أولا ثم تستخرج منها ما هو «أ»؛ فكلا الطريقين يوصل إلى نتيجة واحدة؛ فلا فرق بين أن أفرز طوال القامة أولا ثم أنتقي منهم الأدباء، أو أن أفرز طائفة الأدباء أولا ثم أنتقي منهم طوال القامة، ففي النهاية ستصل إلى نفس المجموعة من الأفراد.
15
4
كان الفلاسفة وما يزالون يستخدمون ألفاظا محورية هامة، دون أن يعنوا بأن تكون لمعاني هذه الألفاظ جوانبها الكمية التي يجوز أن تكون ملتقى الحديث والبحث؛ فما أيسر على الفلاسفة أن يلقوا في كتاباتهم بكلمة «الحياة» - مثلا - أو بكلمة «النظام» الذي يقولون إنهم يرونه في الكون ويتخذون من وجوده دليلا على هذا أو دليلا على ذاك، أو بكلمة «النفس» أو بغيرها من الكلمات التي يستخدمها الناس في أحاديثهم الجارية فيكون لها عندهم معني غامض.
أقول إن الفلاسفة كانوا وما يزالون يستخدمون أمثال هذه الألفاظ، كما كانوا يستخدمون ألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة»، لكن هذه المجموعة الأخيرة قد تناولها العلم فضبطها ضبطا كميا ولم تعد متروكة للحس الكيفي يختلف في أمرها بين إنسان وإنسان؛ أفتكون ألفاظ المجموعة الأولى التي ما تزال شائعة في الدراسات الفلسفية مستعصية على التكميم في تحديد معانيها، بحيث لا يكون لنا مناص من تركها هكذا نهبا لمن شاء أن يفهمها كما شاء حسب خبراته الخاصة، أم يجوز تكميمها إذا ما أتيح لها العلماء الذين يستطيعون أن يؤدوا لها ما قد أداه علماء الطبيعة فيما مضى لألفاظ «الحرارة» و«القوة» و«المادة» وما إليها؟ إنه لو تم ذلك لأصبحت كلمة «النفس» مدارا لعلم كمي مضبوط كما قد أصبحت كلمة «الحرارة» مدارا لمثل هذا العلم، ولأصبحت «الحياة» اسما لموضوع يخضع للدقة الكمية كاسم «القوة» في علم الطبيعة، وهكذا.
ولسنا نريد القول بأن «النفس» و«الحياة» وما إليهما، إذا ما عرف العلماء كيف يلتمسون لها المقاييس الكمية، أصبحت الفلسفة بذلك «علما» كما نريد لها أن تكون، كلا، بل ستكون «النفس» عندئذ أمرا لا شأن للفلسفة به، بل تكون علما قائما بذاته كسائر علوم الطبيعة، وكذلك ستصبح «الحياة» موضوعا لا دخل للفلاسفة بالخوض فيه، بل تدخل كلها في اختصاص علماء الحياة الذين يبحثون عن الظاهرة بحثا موضوعيا لا يفرقون فيه بين إنسان وحيوان ونبات إلا بمقدار ما تجيز لهم أبحاثهم الموضوعية الكمية أن يفرقوا؛ أعني أن أمثال هذه المدركات التي يخب فيها الفلاسفة خبا بغير حساب، ستخرج من مجال أحاديثهم كما تخرج كل كلمة دالة على مسمى تجريبي؛ فليس من شأن الفلسفة العلمية أن تنافس العلماء في بحث العالم الشيئي من أي جانب من جوانبه، بل إن موضع اهتمامها سينحصر في أن تتلقى من العلماء قضاياهم الأولية، التي عليها يبنون بناءاتهم العلمية، ثم يحللون تلك القضايا إبرازا لخفيها وتوضيحا لغامضها.
وقد يسأل سائل متعجبا: كيف يمكن لكلمة «نظام» في مثل قولنا إن الكون يسوده نظام وليس هو بالفوضى التي تخبط خبط عشواء؟ كيف يمكن لكلمة كهذه أن تقاس بالفرسخ أو توزن بالرطل؟ أليس معناها واضحا لكل من جري لسانه باللغة العربية التي هذه الكلمة إحدى كلماتها؟ هل يحتاج الطفل الصغير الناشئ إلى شرح إذا ما قيل له إن الكتب على منضدته منظمة؟ فلماذا إذن يأخذنا الإشفاق من فيلسوف يقول عن الكون إنه منظم، وإنه لا بد لهذا النظام من قوة منظمة؟
لكن هذا السائل المتعجب سرعان ما يدرك مدى الغموض في معنى كلمة كهذه يرسلها الناس إرسالا ولا يكون لذلك كبير خطر لأنهم لا يرتبون عليها النتائج الخطيرة، ثم يلقفها منهم الفلاسفة الموقرون فيستخدمونها هم أيضا كما يستخدمها سواد الناس على غموضها وانبهام معناها، لكن الأمر عندئذ يكون جد خطير؛ لأنهم يجعلونها مبدأ كونيا يستدلون منه ما وسعتهم البراعة المنطقية أن يستدلوه. ونحن مع علمنا بأننا من حيث نحن فلاسفة لا شأن لنا بما عسى أن يقوله العلماء في تحديد أمثال هذه المدركات، لكننا مع ذلك نقدم للقارئ لمحة للطرائق التي يمكن أن تترجم بها مدركات «النظام» و«الحياة» و«النفس» وغيرها من أمثالها، إلى لغة الكم التي تجعلها مدركات علمية موضوعية.
خذ مجموعة من ورق اللعب حالة كونها «منظمة» الأوراق بحيث تجتمع الورقات ذوات اللون الأحمر كلها معا، والورقات ذوات اللون الأسود كلها معا، ثم امزج هذه المجموعة بعضها في بعض، تأخذ الحمراوات والسوداوات في الامتزاج ، فها هنا تراك تصف الحالة الأولى بأنها على «نظام» والحالات التي تنشأ بعد ذلك بأنها حالات يقل فيها «النظام» أو يزيد بمقدار قربها أو بعدها عن الحالة الأولى ؛ فماذا في الحالة الأولى مما يجيز لك أن تصفها بما قد وصفتها به، بحيث إذا ما زال، زال «النظام» تبعا لذلك؟ فكر في الأمر ما شئت، تجد أن الحالة التي تكون فيها الورقات الحمراوات كلها مجتمعة معا، والسوداوات كلها مجتمعة معا، إن هي في الحقيقة إلا أحد الأوضاع الممكنة لمجموعة الورق؛ فهنالك ملايين الحالات التي يمكن أن يرتب عليها الورق، وهذه الحالة المشار إليها واحدة منها. ولو أخذت في «تفنيط» الورق آلاف المرات بعد آلافها، فيجوز أن تصادف الحالة «المنظمة» الأولى عفوا؛ أي إنه يجوز أن يعود الورق إلى ترتيبه الأول مصادفة، فليس ذلك مستحيلا وإن يكن بعيد الاحتمال، وبعد احتماله ناشئ من أنه حالة من ملايين الحالات. وسؤالنا هو: ما الذي يجعل هذه الحالة موسومة عندنا ب «النظام»؛ هذا «النظام» ما معناه؟
يقول أناتول رابورت:
16
إن «النظام» في الحالة التي نقول عنها إنها منظمة، إنما يقاس بكمية الكلمات التي لا بد من استعمالها إذا أريد وصف تلك الحالة؛ فحالة النظام الكامل لا تختلف عن غيرها من الحالات إلا في أنها تحتاج منا في وصفها إلى كلمات أقل، وكلما ابتعدنا عن حالة النظام الكامل وأردنا الوصف، زاد عدد الكلمات المطلوبة في الوصف حتى نصل إلى حالة انعدام النظام انعداما كاملا؛ فعندئذ نحتاج إلى عدد من الكلمات في وصفها أكبر مما احتجناه في وصف أية حالة أخرى.
ففي المثل الذي ضربناه، وهو ورق اللعب، نستطيع في حالة نظامه الكامل أن نقول إن ستا وعشرين ورقة من ذوات اللون الأحمر قد رتبت على النحو الفلاني، تتلوها ست وعشرون ورقة سوداء قد رتبت على النحو نفسه، ولكن ابدأ في كسر هذا النظام بأن تأخذ من النصف الأحمر ورقة واحدة لتضعها في النصف الأسود، فعندئذ تراك مضطرا - عند محاولة الوصف - أن تزيد من عدد العبارات والكلمات المطلوبة، وهكذا.
وليس الأمر مقصورا على حالتين، فإما نظام أو لا نظام، بحيث يكون احتمال كل منهما مساويا لاحتمال الآخر، بل إن الأمر درجات متدرجة يتفاوت فيها النظام تفاوتا كميا بين الطرفين؛ طرف النظام الكامل من ناحية، وطرف انعدام النظام انعداما تاما من ناحية أخرى، وإذا ما استطعت من الوجهة النظرية أن تحسب عدد هذه الحالات المتدرجة، استطعت بالتالي أن تحسب مقدار احتمال وقوع الحالة التي يكون فيها النظام كاملا؛ لأن هذا المقدار هو كسر بسطه واحد ومقامه عدد الحالات الممكنة كلها.
وقل شيئا كهذا في مقدارين من الغاز يتفاوتان حرارة، مزجا معا فتعادلت الحرارة في المزيج؛ فالأمر ها هنا شبيه بالأمر في ورق اللعب في حالات نظامه وعدم نظامه؛ فعند البدء في مزج المقدارين من الغاز نكون إزاء مجموعتين من الذرات، إحداها سريعة والأخرى بطيئة، وكون الذرات السريعة كلها مجتمعة معا، والبطيئة كلها مجتمعة معا، شبيه بكون ورق اللعب في حالته الأولى مرتبا على نحو يجعل الأوراق الحمراء كلها مجتمعة معا، والسوداء كلها مجتمعة معا، وامتزاج الذرات في الغازين شبيه بالحالات التي تنشأ من «تفنيط» ورق اللعب؛ أهو مستحيل أن تظل الذرات في امتزاجها تتخذ أوضاعا مختلفة حتى يحدث مصادفة أن تعود الذرات السريعة إلى تجمعها الأول والبطيئة إلى تجمعها؟ كلا، ليس ذلك مستحيلا، لكنه بعيد الاحتمال؛ لأنه حالة واحدة من ملايين الحالات، وإنما نقول عن الحالة الأولى إنها أكثر نظاما من الحالات التاليات لأن وصفها يتم بكلمات أقل مما يمكن استخدامه لوصف سائر الحالات.
وهكذا إذا التقى غاز أكثر حرارة بغاز أقل حرارة، أي إذا التقت مجموعة من الذرات أسرع حركة بمجموعة أبطأ حركة، كان الأرجح - بناء على ما شاهدناه في الطبيعة لا بناء على ما يحتمه العقل الصرف - أن تمتزج المجموعتان من الذرات امتزاجا يخلط سريعها ببطيئها خلطا ينتج عنه تعادل الحرارة في المجموعة كلها؛ ومعنى ذلك بلغة «النظام» أن الأمر يسير من نظام أكثر إلى نظام أقل؛ أي من تجمع للمتجانسات إلى تفرق لهذه المتجانسات تفرقا يجعل الأمر خليطا.
وهذا السير من حالة التجمع إلى حالة التفرق، من حالة النظام إلى حالات انعدامه، من حالة المفارقة بين المجموعات المختلفة إلى حالة الامتزاج الذي يتم فيه التعادل، هو ما يسمونه في علم الطبيعة ب «الأنتروبي»؛ فكأن الأمر في الكون يسير سيرا مطردا نحو عدم النظام. ولو بلغ السير منتهاه، بحيث يبلغ الأمر بالذرات إلى حالة تمتزج فيها امتزاجا ينعدم معه كل نظام، أي إنه يبلغ حالة لو وصفت لاحتاج وصفها إلى عبارات وكلمات أكثر من أية حالة أخرى، فإن التعادل عندئذ يكون تاما، وينتهي الأمر بالكون إلى سكون.
لقد شهدت الفلسفة اليونانية القديمة أعلاما من رجالها، كانوا - وكأنهم الأنبياء - ينفذون ببصائرهم إلى كنه الحقيقة الكونية فيصفونها بمثل ما يصفها به علم الطبيعة الحديث، لولا أنهم كانوا يتحدثون بلغة الكيف، وهذا العلم الحديث يتحدث بلغة الكم؛ فمن الفلاسفة الأقدمين من أدرك أن الكون قوامه عناصر مختلفة، بدأت حين كان كل عنصر متجانس على حدة، ثم دبت فيها الحركة، فأخذت تمتزج بعضها ببعض حتى أصبح الشيء الواحد مكونا من خليط من عناصر قد يصعب فصلها بعضها عن بعض، لكن مصير هذه الحركة في النهاية هو أن تعود العناصر المتجانسة إلى تجمعها، ثم دورة كونية أخرى وهكذا. وشيء كهذا هو ما يقوله العلم الطبيعي الحديث، لكن هذا العلم لم يتحدث عن التراب والهواء والماء والنار وأشباهها على أنها العناصر الأولية، بل رد هذه كلها إلى أنواع من الذرات التي لا تختلف كيفا بل تختلف كما؛ فذرة أقل من أخرى في عدد كهاربها السالبة والموجبة. وكذلك لم يعد هذا العلم الحديث يتحدث باللغة الكيفية التي كان يتحدث بها الفلاسفة الأقدمون من حيث امتزاج العناصر وانفصالها، حتى لقد جعل أحدهم الخير والشر دافعين يدفعان العناصر؛ الخير يدفعها إلى التجانس، والشر يدفعها إلى الخلط والفوضى. كلا، لم يعد علم الطبيعة يتحدث بهذه اللغة الكيفية، بل هو يستخرج متوسطات ويقيس سرعات ويحسب بالدقة أطوال المكان وأبعاد الزمان. وهكذا نرى أن فلاسفة الماضي وعلماء الحاضر قد يتناولون موضوعا بذاته ويتفقون على فكرة بعينها، لكن موضع الاختلاف بينهم - وهو نفسه موضع التقدم الذي تقدمه الآخرون عن الأولين - هو أن فلاسفة الماضي كانوا يتكلمون بلغة الكيف فجاء علماء الحاضر وأخذوا يلتمسون طريقهم إلى لغة أخرى، هي لغة الكم.
وبلغة الكم نستطيع أن نتحدث عن ظاهرة «الحياة» كما فعل شريدنجر في كتاب صغير له جعل عنوانه: «ما الحياة؟»
17
فقال فيه إنه إذا كان مجرى الطبيعة في سائر ظواهرها يسير من نظام التجانس في الذرات إلى عدم النظام، أي إلى الامتزاج والخلط، فإن ظاهرة الحياة تتميز بأنها تسير في الاتجاه العكسي؛ لأن الكائن العضوي يعمد إلى شيء من التنظيم والتصنيف، فيخرج المتجانس من غير المتجانس، كما يخرج النبات - مثلا - السكر من ثاني أوكسيد الكربون والماء، وكما يستخرج الحيوان بعملية الهضم البروتينات التي يبني بها خلاياه من مختلف العناصر التي يتغذى بها؛ فإذا كانت ظواهر الطبيعة تتجه في سيرها نحو الزيادة من «الأنتروبي» - أي الزيادة من عدم التصنيف - فإن ظاهرة الحياة تتجه في سيرها نحو الحد من «الأنتروبي»؛ أي نحو الزيادة من التصنيف والتنظيم، لكن هذا التصنيف - كما أسلفنا - يمكن التحدث عنه بلغة الكم؛ وبالتالي فمن الممكن أن نتحدث عن «الحياة» بهذه اللغة نفسها.
كذلك تحدث الفلاسفة عن «النفس» كما يتحدث عنها علماء النفس في وقتنا الحاضر، لكن الفرق بين هؤلاء وأولئك هو أيضا الفرق بين لغة الكم ولغة الكيف؛ فالنفس عند الفلاسفة روحانية لا يمكن تحويلها إلى شيء تقاس أطواله وأبعاده، وحتى إن تفاوتت الأنفس في منازلها رقيا أو هبوطا، فهي إنما تتفاوت على أساس اختلافها الكيفي؛ فالنفس النباتية - عند أرسطو - نفس نامية، والحيوانية حاسة، والإنسانية ناطقة؛ ولو ظللنا عند هذه المرحلة الكيفية في نظرنا إلى النفس لظللنا إلى الأبد نقول اليوم كلاما وننقضه غدا.
أما إذا أردنا دقة في الحديث وموضوعية في البحث، فلا مناص لنا من الخروج بالأمر إلى مجال آخر، هو المجال الذي نستطيع فيه أن نترجم الظواهر النفسية إلى شيء يمكن أن تقرأ صفاته بلغة الأرقام؛ فالذكاء والإحساس والذاكرة وسائر القدرات العقلية أمور لا يستحيل أن ننظر إليها من جوانبها السلوكية الظاهرة؛ وبالتالي فلا يستحيل أن نصطنع لها وسائل لقياسها؛ وعندئذ نمسك عن التحدث عن الأذكياء والأغبياء، كما أمسكنا عن التحدث - في مجال العلم - عن الحار والبارد والرطب واليابس، وهي لغة مألوفة عند الفلاسفة، ويصبح الأمر ليس أمر أضداد كيفية، بل أمر تفاوت كمي؛ فظاهرة الذكاء هي نفسها ظاهرة الغباء، ولكنهما حالتان على تفاوت في الدرجة، بل «النفس الإنسانية» هي بعينها «النفس الحيوانية» أو «النفس النباتية»، ولكنها حالات تتفاوت مقدارا، وهكذا.
ليست النفس عند العلم هي «الجوهر» الذي كان عند الفلاسفة، بل هي سلوك، وما ليس يظهر لعين الرائي سلوكا لا يجوز الحديث فيه حديثا علميا؛ لأنك إذا ما جاوزت حدود الظاهر إلى ما هو باطن خفي، فقد تجاوزت ما يمكن أن يشاركك الناس في مشاهدته ومراجعته إلى ما هو خاص بك. ولسنا بهذا القول نريد أن ننكر أن للإنسان جانبا ذاتيا يحسه باطنا، لكننا نصر على أن هذا الجانب الباطني إذا لم نجد له جانبا ظاهرا مصاحبا، بحيث يمكن أن نجعله هو - دون طرفه الباطن - حدود الظاهرة كما يفهمها البحث العلمي، فسنظل نقول عن النفس كلاما لا تتغير الدنيا بنفيه أو بإثباته.
على أننا في هذا الكتاب لا نريد أن نلبس أردية العلماء، فنخوض فيما هو من شأن عالم الطبيعة أو عالم النفس، وما نريد تقريره في إصرار هو أن العبارة من عبارات اللغة إذا اشتملت على كلمة أو كلمات مما لم نستطع بعد ترجمته إلى لغة المعادلات والأرقام، كانت عبارة بغير معنى يصح أن يكون موضعا للمراجعة والمجادلة بين الباحثين.
الفصل الثاني عشر
من المطلق إلى النسبي
1
لم يكن يرضى الفلاسفة أن يقفوا عند هذا العالم المحسوس المتطور المتغير على أنه العالم الحق، بل كانوا يطمحون دائما إلى حقيقة أعلى يكون من صفاتها الثبات والدوام والسكون؛ فيستحيل - مثلا - أن تكون هذه المثلثات التي نرسمها على الورق بأقلامنا، والتي تتفاوت في دقتها بتفاوت آلات الرسم، أن تكون هي «المثلث» الحقيقي الذي هو المعيار لتلك المثلثات المرسومة؛ فكلما قرب المثلث الرسوم على الورق من ذلك المعيار كان أقرب إلى المثلث الحق؛ ويستحيل أن يكون أفراد الناس الذين نصادفهم في هذه الدنيا الأرضية هم «الإنسان» الحقيقي؛ لأن هؤلاء الأفراد إنما يتفاوتون في تحقيقهم لفكرة الإنسان، فبعضهم أفضل من بعض، هذا إلى أنهم يولدون ويحيون حينا حياة يعتورها النقص والمرض ثم يموتون، أما «الإنسان» باعتباره جوهرا فلا بد أن يكون كاملا وثابتا لا يتغير ولا يمرض ولا يموت. وهكذا كان الفلاسفة ينفذون بأبصارهم وبصائرهم خلال الجزئيات المتغيرة الفانية لعلهم يدركون وراءها عالما آخر هو العالم الحقيقي النموذجي الذي ما جاء هذا العالم الأرضي بكائناته إلا ليكون صورة منه، وهي صورة تقرب أحيانا وتبعد أحيانا عن درجة الكمال في تصويرها لما جاءت تصوره.
ولئن كانت الحواس هي أداة المعرفة للجزئيات المحسوسة المتغيرة، فليست هي أداة المعرفة للعالم النموذجي الثابت. وكيف تكون وذلك العالم الثابت لا يدرك بالبصر ولا بالسمع ولا باللمس؟ فهو «فكرة»، وسبيل إدراكها هو العيان العقلي. تلك كانت فلسفة أفلاطون في صميمها، وهي فلسفة المثاليين جميعا على ما بين هؤلاء من أوجه الاختلاف في طريقة عرضهم للمذهب.
ولقد شهد القرن التاسع عشر أحد الشوامخ الذين حملوا المذهب المثالي على عواتقهم، وأعني به هيجل، الذي بلغ من الخطر في تاريخ الفلسفة حدا جعله مصدرا لمعظم الاتجاهات الفلسفية المعاصرة إما بالتأييد أو بالتفنيد؛ ذلك أنك لا تكاد تجد من فلسفات القرن العشرين فلسفة لا تبدأ من هيجل، مناصرة له في أقل الأحيان، معارضة له في أكثرها؛ فلم يقتصر تأثيره على «الماركسية» و«الوجودية» و«البرجماتية» - وهي اتجاهات ثلاثة من أهم اتجاهات الفكر المعاصر - بل شمل كذلك الحركات الفلسفية الأخرى التي هي من شأن محترفي الفلسفة ولا تجاوزهم إلى حيث سواد المثقفين ثقافة عامة، وأعني بها «الوضعية المنطقية» و«الواقعية» و«الفلسفة التحليلية»؛ فأئمة هذه الاتجاهات كلها من أمثال «كيركجارد» و«كارل ماركس» و«جون ديوي» و«برتراند رسل » و«جورج مور» كانوا جميعا في مرحلة من مراحل حيواتهم أتباعا لهيجل.
ومؤدى المذهب الهيجلي هو أن الكون كله بجميع من فيه وما فيه، إن هو إلا تعبير عن «روح العالم» أو «الفكرة المطلقة»، أو إن شئت فقل «المطلق» على سبيل الاختصار؛ فهذا «المطلق» الروحاني في جوهره إنما يتبدى ويكشف عن نفسه في مظاهر العالم كما تقع لحواسنا؛ فلئن كان العالم المحسوس متطورا من مراحل أدنى إلى مراحل أعلى، فما ذاك إلا تطور في كشف «الروح المطلق» عن نفسه كشفا متدرجا، كأنما هو الشريط المنطوي يبسط نفسه بسطا ليبدو منه ما قد كان خافيا. وليس الكون على هذا المذهب بمختلف عن كائن عضوي حي ذي روح ورغبات وأهداف؛ فكما تستطيع أن تفسر سلوك الكائن الحي إذا عرفت رغباته وأهدافه، فكذلك تستطيع أن تفسر كل ظواهر الكون وتغيرات التاريخ وتطورات الأنظمة إذا عرفت الروح الكوني كيف يكشف عن نفسه وإلى أي هدف يتجه.
فلئن كان هيجل، كأفلاطون وأرسطو، يذهب إلى القول بحقيقة روحانية عليا وراء هذا العالم المحسوس بما فيه من كائنات جزئية، إلا أنه يختلف عنهما في أن الحقيقة الروحية عنده متطورة في الكشف عن نفسها، على حين أن الفيلسوفين القديمين كانا يريان أنها حقيقة ثابتة ساكنة؛ فلا عجب أن رأينا المنطق الأرسطي - والمنطق هو المرآة المصورة لطرائق الفكر ومبادئه - قائما على أساس ذلك الثبات والسكون؛ فالأنواع والأجناس في ذلك المنطق ذوات تعريفات ثابتة لأنها ذوات جواهر لا يطرأ عليها تغير، وبناء على ذلك المنطق محال أن تجتمع الصفة ونقيضها في شيء واحد وفي وقت واحد؛ فإذا كانت «أ» متصفة بصفة «ب» في لحظة ما، فيستحيل أن تكون متصفة في تلك اللحظة نفسها بصفة «ب»، فإما أن تكون «أ» متصفة بالصفة «ب» أو بنقيضها «ب» ولا ثالث لهذين الوضعين. أما والحقيقة الكونية متطورة عند هيجل، فلا بد أن يتغير تصوره للمنطق تبعا لذلك، فلم يعد يرضيه المنطق الأرسطي الصوري السكوني؛ لأنه لا يصور الحقيقة المتطورة، واستبدل به منطقا تطوريا يقابل به الحقيقة كما تصورها؛ فإذا كان شيء ما «أ» سيتغير بحيث يصبح شيئا آخر «ب»، فلا بد أن تكون عناصر «ب» كائنة في «أ» ليمكن خروجها منها، وإذن فقد كانت «أ» محتوية على شيء غيرها؛ أي محتوية على نقيضها؛ وبهذا يجتمع النقيضان في كائن واحد على خلاف المبدأ الأرسطي. كيف يمكن - مثلا - للشجرة أن تخرج من البذرة إذا لم تكن البذرة محتوية على ما ليس بذرة؟ وكيف يمكن للرجل أن ينشأ عن الطفل إذا لم يكن الطفل محتويا على ما ليس طفلا؟ وهكذا.
كان هذا المنطق التطوري، أو الجدلي كما يسمونه، هو محور الفلسفة الهيجلية، فهي فلسفة مثالية تطورية، أو مثالية جدلية، تذهب إلى أن في الكون روحا مطلقا يكشف عن نفسه على طراز تطوري أو جدلي، وهو طراز قوامه أن تكون الخطوة الأولى - ويمكن تسميتها بالوضع - كاشفة عن صفة ما، ثم تتلوها خطوة ثانية - وهي نقيض الوضع - كاشفة عن نقيض الصفة الأولى، وأخيرا تجيء مرحلة ثالثة - هي التقاء الطرفين - تدمج الوضع ونقيضه في كائن واحد، ثم يصبح هذا الدمج «وضعا» يتلوه «النقيض»، فدمج جديد، وهلم جرا. وقد جاء ماركس واستغل هذه الفلسفة التطورية الهيجلية، بعد أن حولها من «مثالية» تتناول الأفكار في تطورها، إلى «مادية» تتناول الأوضاع الاجتماعية كما شهدها التاريخ؛ فالنظام الرأسمالي - مثلا - فيه وضع ونقيضه؛ إذ فيه صاحب رأس المال والعمال الذين هم بغير مال، ويستحيل قيام الجانب الأول بغير الجانب الثاني؛ ومن ثم يقوم الجانبان معا في نظام واحد، لكنهما نقيضان؛ وإذن فلا بد من صراع بينهما ينتهي إلى مرحلة يلتقي فيها الطرفان، بحيث يصبح العامل هو نفسه صاحب المال.
ولو غضضنا البصر عن هذا التحول للفلسفة الهيجلية على يدي ماركس، وهو تحول أبقى على الجانب التطوري منها ثم استبدل بالجانب المثالي جانبا ماديا، فإننا مع ذلك نستطيع أن نرى كيف كانت تلك الفلسفة ملتقى شتى اتجاهات عصرها؛ مما أكسبها رواجا عجيبا جاوزت به حدود أرضها فعبرت بحر المانش إلى إنجلترا، وعبرت المحيط الأطلسي إلى أمريكا ، وأصبحت هي الفلسفة السائدة هنا وهناك فترة من زمان. وحسبها أن تكون فلسفة تهيئ للمتدين أساسا لتدينه بعد أن هدمه هيوم في إنجلترا، وعصر التنوير في فرنسا، وكانت في ألمانيا؛ وتهيئ منفذا لمن أراد الخروج من الحتمية المحكمة التي اقتضاها علم الطبيعة النيوتوني. أضف إلى ذلك كله أنها فلسفة وجدت من العلم المعاصر لها ما يعززها؛ فقد كان هنالك إلى جانبها «دارون» ينشر نظريته في تطور الأحياء، فكأنما كان ذلك بمثابة إعلان المصالحة بين طرفين ظن أنهما ضدان لا يلتقيان، وهما الدين والعلم؛ فما كان أيسر على المتحمسين للدين أن يوحدوا بين «المطلق» الهيجلي وبين الله عند المسيحيين، كما وجد المتحمسون للعلم في الفلسفة الهيجلية معينا يرجعون إليه في نظرتهم التطورية التي حاولوا أن ينظروا بها إلى شتي ميادين المعرفة.
كان هذا المعين الزاخر - معين الفلسفة الهيجلية - مصدرا لتيارات الفكر كلها في القارة الأوروبية وفي إنجلترا وأمريكا على السواء، حتى حين كانت تلك الفلسفة موضعا للهجوم والنقد. وإنه لمما يستلفت النظر حقا أن نرى الطبائع القومية المختلفة قد أخذت من الفلسفة الهيجلية ما يتفق وتلك الطبائع؛ فلم يكن أثرها على القارة الأوروبية هو نفسه أثرها على الناطقين بالإنجليزية في إنجلترا وأمريك؛ ومن ثم انشعبت الفلسفة المعاصرة في اتجاهات مختلفة على الرغم من أن مصدرها واحد؛ فقد رأيت كيف أخذ ماركس فلسفته عن الفلسفة الهيجلية بعد تحوير، وكذلك فعل كيركجارد الوجودي حين ثار على هيجل ونسقه الذي يجعل الوجود كله كائنا عضويا واحدا؛ فقد أفزعه - على حد قوله - أن يرى نفسه فقرة من فقرات هذا الكائن الكبير، لا يتفرد وحده بوجود خاص به يمارس فيه إرادته الحرة وشخصيته المستقلة. وهكذا استقى ماركس وكيركجارد من معين الفلسفة الهيجلية نواحيها التاريخية والسياسية والأخلاقية والدينية.
أما حين عبرت فلسفة هيجل إلى إنجلترا فقد كانت موردا للفلاسفة هناك، ولكن من نواح أخرى، هي نواحيها المنطقية والميتافيزيقية وما يتصل منها بنظرية المعرفة؛ فلئن كان الجانب الإنساني من فلسفة هيجل هو ما لفت الأنظار في القارة الأوروبية ، فقد كان الجانب الفلسفي الصميم منها هو الذي أغرى فلاسفة إنجلترا وأمريكا؛ ففي إنجلترا كان على رأس المدرسة الهيجلية «برادلي»
1
و«ماكتاجارت»
2
اللذان على أيديهما أخذ الفلسفة «رسل » و«مور». وفي أمريكا كان «جوزيا رويس»
3
هو الذي قام بنفس الدور الذي قام به «برادلي» و«ماكتاجارت» في إنجلترا من حيث اعتناق الهيجلية مذهبا، ونشر ذلك المذهب في طلاب الفلسفة جميعا، حتى أولئك الذين ثاروا بعدئذ عليه.
نعم، اعتنق الطلاب الفلسفة الهيجلية ثم ثاروا عليها كل من ناحيته الخاصة، فجاءت الثورة عليها نوعين؛ فثائرون لم يعجبهم مضمون تلك الفلسفة، لكنهم أبقوا على أسلوبها الذي يجعل من الفلسفة بناء شامخا فيه حساسية بانيها وعلمه الواسع وحكمته النافذة. ومن هؤلاء الثائرين «كروتشي» و«سانتيانا»؛ فهما وإن لم يأخذا «بمطلق» هيجل إلا أنهما ما زالا محتفظين للفلسفة بصورتها التي تقدم نظرة شاملة عن الكون والإنسان. وكذلك يمكن القول عن الوجوديين، كيركجارد ومن تبعوه، في توكيد أهمية الوجود الفردي ضد القول بنسق مجرد يكون الفرد جزءا منه، مثل هيدجر وياسبرز ومارسل وسارتر؛ فهؤلاء جميعا من الثائرين الذين رفضوا مضمون الفلسفة الهيجلية ولكنهم أبقوا على أسلوبها.
4
لكن هنالك ضربا آخر من الثائرين على الفلسفة الهيجلية، الذين لا يكفيهم أن يرفضوا القول ب «المطلق» مضمونا للفلسفة ثم يحتفظوا بأسلوب تلك الفلسفة من حيث طريقة التعبير وطريقة البناء النسقي، بل هم يثورون على المضمون وعلى الأسلوب معا، ومن هؤلاء «رسل» و«مور» و«وتجنشتين» والوضعيين المنطقيين والواقعيين؛ فهؤلاء ينكرون أن تكون مهمة الفلسفة إقامة بناء نسقي يشمل الوجود بكل ما فيه من كائنات ومن علم وفن وأخلاق ودين وسياسة. ولو استثنينا من هؤلاء «رسل» وحده، وجدناهم جميعا ممن لا يتعرضون بعملهم الفلسفي لمشكلات الإنسان في حياته الخاصة والعامة، ومن المشكلات الفكرية الأخرى التي كانت من تقليد الفلسفة أن تتناولها بالبحث؛ لأن هذه كلها من وجهة نظرهم أمور لا تدخل في مجال عملهم الفلسفي الذي يرونه مقتصرا على التحليل المنطقي وحده.
لم يعد فيلسوف هذا العصر يحلم ببناء نسقي يشمل الكون بأسره، لا لأنه حلم بعيد المنال متعذر التحقيق إلا على العباقرة القادرين، بل لأنه حلم وكفى، لا يتعلق به إلا الحالمون الواهمون؛ فالعالم كثرة لا وحدة ، فيه مجموعة من وقائع، ولكل واقعة عبارة تصدق عليها، دون أن يتحتم لشتى العبارات الواصفة للوقائع أن تنصب في نسق استنباطي واحد؛ لأن الوجود نفسه الذي جاءت العبارات لتصف أجزاءه متغير متعدد الجوانب.
تحطم «المطلق»، ضالة الفلسفة المثالية المنشودة، وحل محله مسائل جزئية محدودة، يشتغل الفيلسوف بواحدة منها أو بطائفة قليلة، لكنه في كل حالة يقنع بمسألة واحدة يصب عليها تحليله؛ فليس بين الفلسفات المعاصرة كلها على اختلافها، الوجودية والبرجماتية والواقعية الجديدة والوضعية المنطقية، ليس بين هذه الفلسفات المعاصرة فلسفة واحدة تبحث عن الحقيقة الروحانية الواحدة المطلقة من حدود الزمان والمكان، بل هي جميعا - على عكس ذلك - تبحث في الفرد الواحد، وفي الموقف الجزئي الواحد، وفي الشيء الواحد، وفي الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة.
2
إن من أهم ما جاءت الفلسفة التحليلية المعاصرة لتؤكده، هو أنه ليس في مستطاع العقل الاستنباطي الصرف، الذي يضع لنفسه المقدمات ثم يستدل منها النتائج، أن ينسج من جوفه نسيجا نظريا فإذا هذا النسيج الداخلي يطابق الواقع الطبيعي الخارجي؛ فقد كان ذلك الزعم هو محور الفلسفة الكانتية؛ إذ لم يشك «كانت» في أن العقل بطبيعته يصوغ أحكاما ضرورية يقينية عن الطبيعة، ثم يسأل نفسه بعد ذلك: كيف أمكن ذلك؟ كيف أمكن مثلا - من وجهة نظر كانت - أن تكون الهندسة الإقليدية من نتاج العقل الصرف، ثم تكون في الوقت نفسه مطابقة للمكان الخارجي كما هو كائن في الطبيعة؟ وإنما جاز ل «كانت» أن يسأل سؤالا كهذا لأن العلم كما كان يراه عصره (القرن الثامن عشر) قائم على أسس نيوتن، ومؤداها جميعا هو أن القوانين العلمية مطلقة لا يتوقف صدقها على مكان معين أو زمان معين أو شروط خاصة.
لكن العلم قد تغير في هذه الناحية تغيرا جوهريا إبان القرنين التاسع عشر والعشرين، ولم يعد يقول العلماء عن قوانين العلم إنها مطلقة الصدق رياضية اليقين، بل يقولون إنها نسبية؛ فقوانين علم الطبيعة النيوتوني - كقانون الجاذبية مثلا - إن تكن صادقة على محيطنا الأرضي المحدود، فهي غير صادقة على الأبعاد الفلكية من جهة، ولا على الذرة الصغيرة من جهة أخرى. ولكي نشمل بأحكامنا العلمية هذين الجانبين أيضا فلا مندوحة لنا عن قوانين أخرى غير التي صاغها نيوتن، والتي أقام كانت فلسفته على أساسها. وهذا وحده كاف للدلالة على أن القوانين العلمية إنما تتغير لتقابل الظروف المتغيرة، وليست هي بالمطلقة يمليها العقل الصرف إملاء.
وعلم الهندسة في تطوره الحديث هو خير مثل يوضح لنا كيف تم الفصل بين ما يبنيه العقل وحده غير معتمد على تجربة خارجية، وبين ما هو واقع في الطبيعة؛ فقد لبثت هندسة إقليدس منذ عصر اليونان لا ينافسها منافس في ميدانها، ولم يشك أحد طوال القرون في أن نظريات تلك الهندسة الإقليدية - رغم كونها استدلالات عقلية صرف - فهي مع ذلك وصف للطبيعة كما هي قائمة. ومن ذا كان يتردد في أن كل مثلث في الطبيعة إنما يتصف بما تقول الهندسة الإقليدية إن المثلث النظري يتصف به، كأن يكون مجموع زواياه قائمتين وما إلى ذلك؟ كلا، لم يكن أحد ليشك في أن هندسة إقليدس صحيحة من الوجهة الرياضية النظرية ومن الوجهة الطبيعية التطبيقية على حد سواء، بل لم يكن أحد ليظن أن هذا التطابق بين نتاج العقل وواقع الطبيعة أمر يثير الدهشة أو يحتاج إلى برهان. والفضل يرجع إلى عمانوئيل كانت في أن الأمر يستوقف النظر ويستوجب البحث. نعم إن كانت نفسه لم يشك في قيام هذا التطابق بين الجانبين، لكنه على الأقل نبه الأذهان إلى أنه يحتاج إلى تفسير، وكان تفسيره هو نفسه مرتكزا على ما أسماه بالقضية «التركيبية القبلية»، وبتحليله لكيفية تكوين هذا النوع من القضية التي يعتمد مضمونها على التجربة، ومع ذلك يحكم الإنسان بصدقها بغض النظر عن التجربة.
لكن الأمر تغير حين بدا لعلماء الرياضة أخيرا أن يغيروا من فروض إقليدس - التي يبني عليها نظرياته - ليروا ماذا تكون نتائج هذا التغيير، ولفت أنظارهم بصفة خاصة الفرض الذي يقول إن من نقطة معينة خارج خط مستقيم يمكن رسم خط واحد فقط لا يتقاطع مع ذلك الخط الأول، وأما سائر الخطوط فلا بد أن تتقاطع معه في موضع ما من المكان (وليلاحظ القارئ أن النظرية التي تجعل زوايا المثلث قائمتين ناتجة عن هذا الفرض)، أقول إن هذا الفرض قد لفت أنظار الرياضيين أخيرا، ونخص بالذكر منهم «جون بولياي» المجري (1802-1860م)، و«لوباتشفسكي» الروسي (1793-1856م) و«جوس» الألماني (1777-1855م) و«ريمان» الألماني (1826-1866م)،
5
فهؤلاء جميعا قد بينوا إمكان الاستغناء عن الفرض الذي جعله إقليدس بين فروضه التي لا بد من تصدير بنائه الرياضي بها؛ إذ بينوا أن من نقطة معينة يمكن رسم أكثر من خط واحد مواز لخط آخر؛ ومن هنا نشأت عدة هندسات غير هندسة إقليدس، تختلف فيما بينها باختلاف ما يضعه الرياضي مكان هذا الفرض المحذوف.
بهذا تنشأ المشكلة التي تهمنا فيما نحن الآن بصدده، وهي إذا كان من الجائز رياضيا أن نبني عدة هندسات، ثم إذا كانت إحدى هذه الهندسات فقط هي التي تطابق الطبيعة الخارجية، فأيها يكون؟ افرض مثلا أن زوايا المثلث مجموعها في إحدى الهندسات يساوي قائمتين، وفي هندسة أخرى يساوي أكثر من قائمتين، وفي هندسة ثالثة يساوي أقل من قائمتين، فكيف نعرف أي هذه الهندسات الثلاثة هو الذي يصف المكان الطبيعي الخارجي حين تحدده ثلاثة أضلاع؟ أهو العقل الذي يهدينا أي هذه الهندسات ينطبق على الطبيعة؟ كلا؛ فالهندسات الثلاثة من بناء العقل على حد سواء، إنما هي المشاهدة التجريبية التي تقرر لنا ما ينطبق من نظريات الرياضة البحت وما لا ينطبق.
لكن كيف تتم هذه المشاهدة التجريبية؟ أتقول - مثلا - إنها مشاهدة لعمليات قياسية نقوم بها، فنقيس الأطوال والأبعاد والمساحات على الطبيعة لنرى ما هنالك؟ نعم، غير أن المشكلة هنا أعقد مما تظن، فكيف تقيس البعد بين نقطتين - مثلا - على الطبيعة؟ أتقيسه بوحدة قياسية كالمتر أو الميل أو ما شئت؟ لكن كيف تعلم أن الوحدة القياسية - المتر مثلا - لا يغير طوله حين تنقله من مكان إلى مكان؟ كيف تعرف أنك إذا قست به طولا هنا على الأرض، ثم حدث أن قست به طولا هناك على سطح القمر، ظل ثابتا في كلتا الحالتين لا ينقص ولا يزيد؟ ألا يجوز أن يكون انتقال الوحدة القياسية من مكان إلى آخر عاملا على تغير طولها، أم تقول إنك ستستوثق من ثبات الوحدة على حالها في الظروف المختلفة بأن تلجأ إلى ضبطها بوحدة أخرى؟ لكن هذه الوحدة الضابطة تقع في نفس المشكلة من جديد؛ لأنك ستضبط بها طول المتر هنا، ثم تنقلها معك لتضبط بها طول المتر هناك، وفي انتقالها هذا قد تتعرض لنفس ما كانت الوحدة القياسية الأولى قد تعرضت له من تغير في طولها بسبب التغير في مكانها.
كلا، إنه محال علينا أن نعلم على سبيل اليقين المطلق بأن بعدين في مكانين مختلفين متساويان؛ لأن انطباق وحدة قياسية معينة عليهما في مكانيهما المختلفين لا يضمن لنا هذا التساوي؛ إذ - كما قلنا - قد يكون من شأن الوحدة القياسية أن تغير من طولها في انتقالها من مكان إلى مكان، وليس ثمة وسيلة لضبط هذا التغير ومقداره، فما حيلتنا إذن؟
لا حيلة لنا سوى أن نفرض فرضا اتفاقيا بأنه إذا انطبقت الوحدة القياسية المعينة على بعدين في مكانين مختلفين، عددناهما متساويين بحكم الاتفاق لا بحكم الحقيقة الواقعة المطلقة. افرض أنك قست ارتفاع شخص فوجدته مترا وثلاثة أرباع المتر، ثم افرض أن كل ما في العالم قد زاد خمسة أمثاله بنسبة واحدة، فهل في وسعك أن تعلم ذلك؟ كلا؛ لأنك ستقيس الشخص نفسه بالمتر وستجده كما كان بالأمس مترا وثلاثة أرباع المتر، وليس هنالك من ضابط يبين لك إن كانت الوحدة القياسية قد تغيرت أم لبثت على ما كانت عليه بالأمس؛ لأن الوحدة الضابطة نفسها سيطرأ عليها التغير نفسه؛ وإذن فمحال على الإنسان أن يعلم إن كانت الأشياء اليوم محتفظة بنفس أطوالها وأبعادها بالأمس، أم زادت كلها بنسبة واحدة أو نقصت كلها بنسبة واحدة؛ وإذن فلم يبق أمامه سوى أن يفرض على سبيل الاتفاق أن أطوال اليوم هي نفسها أطوال الأمس.
وما معنى ذلك كله؟ معناه أن الطبيعة كما هي قائمة فعلا لا يمكن الحكم عليها حكما مطلقا، بل إن أحكامنا عليها «نسبية» تتوقف على أسس نتفق عليها اتفاقا؛ فالأبعاد المتساوية هي ما نقول نحن عنه إنه أبعاد متساوية، حين نفرض لأنفسنا فرضا أن الوحدة التي نقيس بها التساوي لا تتغير بتغير ظروفها. وهذا هو «المبدأ الاتفاقي» في المنهج العلمي الذي يقول به هنري بوانكاريه
6
وكثيرون غيره من المحدثين والمعاصرين.
ونعود إلى سؤالنا: كيف يمكن - إزاء الهندسات الكثيرة القائمة - أن نعلم أيها ينطبق على الطبيعة الخارجية؟ والجواب هو: إن العلم بذلك علما مطلقا محال، والأمر بعد ذلك متوقف على اختيارنا نحن؛ فإذا قسنا زوايا مثلث في الطبيعة، أضلاعه أشعة ضوئية، وأركانه أجسام فلكية فسيحة الأبعاد بعضها عن بعض، ثم وجدنا مجموع الزوايا منحرفا عن قائمتين إما بالزيادة أو بالنقص؛ فلا فرق عندئذ بين أن تقول إن هندسة إقليدس هي التي تنطبق على العالم، وما انحراف مجموع زوايا المثلث الذي قمت بقياسه إلا نتيجة لتغيرات تطرأ على أشعة الضوء وعلى وحدات القياس، أو أن تقول إن الهندسة اللاإقليدية هي التي تنطبق على العالم؛ لأن أشعة الضوء ووحدات القياس لا تتعرض للتغير؛ فكلا هذين القولين سواء. وإنه لمما يجدر ذكره في هذا الصدد أن أينشتين - بنظريته في النسبية العامة - يجعل هندسة الأبعاد الفلكية هندسة لا إقليدية، وهندسة الأبعاد الأرضية هندسة إقليدية؛ لأن الانحراف في الأبعاد الأرضية يبلغ من الصغر حدا يستعصي على الملاحظة وعلى القياس؛ وإذن فمن الممكن إهماله؛ فإن كان المثلث - مثلا - مرسوما على الأرض، جاز لنا أن نطبق عليه هندسة إقليدس ونقول إن زواياه تساوي قائمتين، وأما إن كان الثلث مكونا من أشعة ضوئية فسيحة الأبعاد، فالانحراف عن هذا المقدار عندئذ يبلغ حدا لا يمكن تجاوزه؛ وبالتالي يتحتم أن نطبق عليه هندسة غير هندسة إقليدس.
ومؤدى ذلك في تصورنا للمكان هو ألا نجعل المكان ترتيبا ثابتا مطلقا للأشياء الطبيعية بحيث يمكن الحكم عليه بحكم ثابت لا يتغير، كلا ولا هو بالحقيقة الذاتية التي تنبع من نفس الإنسان، بل هو أمر يتوقف على المشاهدة وعلى اتفاقات يتواضع عليها رجال العلم في قراءة تلك المشاهدة، وللرياضي بعد ذلك أن يبني بعقله المحض ما شاء من بناء هندسي، لكن عالم الطبيعة مضطر ألا يأخذ بتلك الهندسة العقلية والرياضية كما هي بحذافيرها، ويتصور العالم الطبيعي قائما على أساسها هي وحدها؛ وإذن فليس صدق الهندسة على الطبيعة أمرا مفروغا منه كما ظن «كانت»، بحيث راح ينفق جهده كله في تفسيره دون أن يتشكك فيه.
ولقد ضربنا بالهندسة مثلا لشدة الصلة بينها وبين الفلسفة في تاريخها الطويل، حتى ليجوز لنا أن نقول إنه لو كانت الهندسة قد تغيرت لتغيرت الفلسفة تبعا لها؛ فما أكثر الفلاسفة منذ اليونان، الذين اتخذوا من علم الهندسة نموذجا يحتذونه في بناءاتهم الفلسفية، ولم لا يفعلون وهم من ذلك العلم الرياضي بمثابة من يقف إزاء حقيقة لا يتطرق إلى صدقها شك، وهي ليست حقيقة عقلية نظرية فحسب، بل هي أيضا حقيقة طبيعية؛ ومن ثم كانت قوة الفلاسفة العقليين في تاريخ الفلسفة وكان هزال الفلاسفة التجريبيين؛ لأن الأولين إنما كانوا ينسجون على غرار علم ثابت ويقيني، وأما الآخرون فكانوا يعتمدون على مشاهدة الحواس، وهي ليست بمثل هذا اليقين ولا ذلك الثبات. ولم ينكشف موضع الخطأ في هذا كله إلا حين تبين في عصرنا الحديث أن صدق الرياضة صدق تحليلي صرف، ولا شأن له بالطبيعة وكيف تكون؛ فإذا كان في مستطاع الرياضي أن يستند في إقامة البرهان على نظرياته إلى بديهيات، فليس في مستطاعه أن يبين أن هذه البديهيات نفسها صادقة على أمور الواقع؛ وإذن فلتكف الرياضة عن التحدث عن الطبيعة، وليترك هذا للتجربة وحدها؛ وبهذا فقد الفلاسفة العقليون حليفهم القوي، وزال من طريق الفلاسفة التجريبيين أكبر عائق كان يعترض سبيلهم.
ولو حدث هذا الكشف أيام اليونان لتغير التفكير الفلسفي كله منذ ذلك الحين، ولم يكن مستحيلا أن يكون بين تلاميذ إقليدس شاب من قبيل «بولياي» يعترض على أستاذه قائلا: ألا يجوز أن نغير من الفروض فتتغير النظريات تبعا لذلك؟ فعندئذ كان لا بد أن يؤدي بهم البحث إلى أن صدق نظريات إقليدس معتمد على قيام فروضها، وأنه لا يجوز - بناء على ذلك - أن نقول عنها إنها الهندسة التي لا هندسة سواها في وصف العالم الواقع.
لو كان شيء كهذا حدث في عهد اليونان، لما طفق أفلاطون يبحث عن الحقائق الثابتة التي تقابل الحقائق الرياضية الثابتة، ولما تشكك المتشككون في صدق المعرفة التجريبية لعدم تحقق اليقين الرياضي فيها، ولما جاهد فلاسفة العصور الوسطى لتأييد اللاهوت ببراهين عقلية تشبه البراهين الرياضية، ولما أخرج سبينوزا كتابه المسمى «أخلاق» مقيما لبنائه على غرار المنهج الهندسي بلا تحوير ولا تغيير، ولما لقي «كانت» ما لقيه من عناء في «نقد العقل الخالص» ليبين به كيف تكون قوانين العلوم عقلية يقينية من جهة وتجريبية تطبيقية من جهة أخرى؛ لأنه كان سيعلم أن مثل هذا الاقتران غير قائم؛ وبالتالي فهو بغير حاجة إلى سؤال. •••
ويكمل هذه النسبية في المكان نسبية في الزمان؛ فما وسيلتنا إلى الحكم على فترتين زمانيتين بأنهما متساويتان بغض النظر عن الحالة النفسية عند من يقيسهما؟ إننا نحكم على فترتين بالتساوي بناء على ساعاتنا، وهذه الساعات نضبطها على ساعة في المرصد مثلا نتخذها معيارا لنا نرجع إليه، ولكن كيف تضبط ساعة المرصد؟ يضبطها الفلكيون على مواضع النجوم وحركاتها؛ لأن هذه الحركات وتلك المواضع هي التي تعكس لنا حركة الأرض في دورانها حول نفسها وحول الشمس؛ وإذن فدوران الأرض هو في النهاية الساعة القياسية، ولكن ماذا يضمن لنا أن يكون دوران الأرض من الاطراد والانتظام بحيث نجزم أن فترات انتقالها من موضع معين إلى نفس هذا الموضع مرة أخرى هي فترات متساوية فتصلح أن تكون مرجعا في القياس الزمني؟ إننا إذا جعلنا اليوم هو الفترة الممتدة من نقطة الزوال إلى نقطة الزوال الذي يليه، كانت الأيام غير متساوية الطول؛ وبالتالي فهي لا تصلح وحدات زمانية متساوية، والذي يحدث اختلافا في أطوال هذه الوحدات هو أن فلك الأرض حول الشمس بيضي الشكل؛ فالأرض تكون في بعض مواضعها أقرب إلى الشمس منها في بعض مواضعها الأخرى، ولهذا أثره في دورانها. والفلكيون على علم بهذه الانحرافات؛ ولذلك تراهم لا يتخذون من الزمن الشمسي مقياسهم الأخير، بل يلجئون إلى نجم أكثر بعدا من الشمس، وهذا البعد الشاسع يجعل اتجاه الأرض بالنسبة له ثابتا نسبيا، ولكنا إذا أردنا الدقة المطلقة فالزمن النجمي نفسه ليس مطلق الثبات ولا كامل الاطراد؛ لأن محور الأرض في دورانها لا يثبت على اتجاه واحد، بل يميل هنا وهناك كما يتذبذب محور الخذروف وهو يدور.
ومن المشاكل المنهجية في هذا الصدد أن علماء الطبيعة إذ يهمون بصياغة قوانين الحركة وسرعة الأجسام، إنما يعتمدون بطبيعة الحال على قياس ثابت للزمن، لكننا إذا عدنا فسألنا: وكيف عرفت أن هذا القياس الزمني ثابت؟ كان الجواب: هو ثابت لأنه هو القياس الذي تصدق عليه قوانين العلم الطبيعي. وفي هذا دور؛ فمعرفة قياس ثابت للزمن تتوقف على معرفته قوانين الطبيعة، ومعرفة قوانين الطبيعة بدورها متوقفة على معرفة قياس ثابت للزمن.
ولا مخرج من هذا الدور إلا بالاعتراف بأننا إذ نقول عن فترتين من الزمن إنهما متساويتان، فلسنا بذلك نزيد على قولنا إننا قد اتفقنا على أن يكون معني التساوي الزمني هو كذا وكذا، ولا حاجة لنا بعد ذلك بأن نسأل إن كان هذا التعريف الاتفاقي هو وصف للحقيقة الواقعة المطلقة أو ليس كذلك؛ لا يجوز لنا أن نسأل: هل الوحدة الزمنية التي يستند إليها الفلكيون في قياس الزمن هي مطردة حقا؟ إذ نكتفي بأن يكون ذلك على سبيل التعريف الذي نأخذ به. نعم يكفينا أن نتواضع معا على نوع من الزمن نختاره، كظهور نجم معين مرتين متتاليتين مثلا، ونجعله معيارا نقيس إليه سائر الفترات الزمنية؛ وإذن فالزمن قياسه نسبي لا مطلق؛ إذ يقاس على وحدة معيارية نحن الذين جعلناها معيارا فرضنا فيه الثبات.
ولنترك الآن مشكلة قياس الزمن لنسأل سؤالا آخر عن ترتيب لحظات الزمن ترتيبا يجعل منها ما هو سابق وما هو لاحق؛ فكيف نعرف أن حادثة أسبق في الزمن من حادثة؟ لا تقل إننا نلجأ في ذلك إلى ساعاتنا؛ لأن هذه الساعات أدوات لقياس الزمن، ولا بد أن يكون الزمن مستقلا عن أدوات قياسه، فلا بد أن تكون هناك وسيلة أخرى نستدل بها على تتابع لحظات الزمن. إنه ليقال أحيانا إن في الظواهر الطبيعية نفسها ما يدل على نوع من الترتيب الزمني؛ فنمو البذرة في شجرة وتفاعل العناصر الكيماوية في مركب واحد وأمثالها، تبين اتجاها في السير لا ينعكس؛ فالشجرة لا تعود فتصبح بذرة من جديد، والمركب الكيماوي لا يعود من حالة التركيب إلى حالة التحليل، ولكننا ينبغي أن نتذكر هنا أن حكمنا على هذه الظواهر كلها باتجاه واحد في سيرها إنما هو نتيجة المشاهدة، وليس هناك ضرورة عقلية تحتم أن يكون هذا وحده هو طريق السير؛ وإذن فإذا قلنا عن لحظات الزمن إنها مرتبة سابقا فلاحقا، وإن هذا الترتيب لا ينعكس، مهتدين في ذلك ببعض الظواهر الطبيعية وطريق سيرها، فإنما نقول شيئا نسبيا، ينسب الأمور بعضها البعض، دون أن يكون لها ما يفرض علينا صدقها بصورة مطلقة.
ومن المشكلات الهامة التي أثارها أينشتين في نسبية الزمن، تحديد «الآنية» ما هو؛ ماذا نعني حين نقول عن حادثتين وقعتا في مكانين متباعدين إنهما وقعتا في آن واحد؟ إنهما تكونان كذلك إذا لم تكن إحداهما لا قبل ولا بعد الأخرى، ولكن ما وسيلتنا إلى معرفة ذلك؟
إنك لكي تعرف أن حادثة وقعت في مكان بعيد عنك، لا بد لك من رسالة أو إشارة تأتيك من هناك لتدلك على أن تلك الحادثة قد وقعت، كما يأتي صوت الرعد وضوء البرق، لكن وصول هذه الإشارات إلى حواسك لم يكن في نفس اللحظة التي وقع فيها الحادث؛ إذ لا بد للإشارة الصوتية أو الضوئية من زمن تستغرقه في الانتقال من مكان وقوع الحادثة إلى مكان استقبالها، فكيف تقيس سرعة انتقال هذه الإشارات؟ ولنحصر سؤالنا فنقول: كيف نقيس سرعة الضوء؟ هل نرسل إشارة ضوئية من مكان إلى مكان آخر، ثم نسجل زمن صدورها وزمن وصولها لنعرف المدة المستغرقة في انتقالها، ونقسمها على المسافة بين المكانين فتكون السرعة؟ لكن ذلك يقتضي أن تكون هنالك ساعتان؛ إحداهما عند مكان الإرسال وأخرى عند مكان الوصول، ولا بد من ضبط الساعتين إحداهما على الأخرى لنعرف أنها يدلان دلالة واحدة على طول فترة من الزمن، وهذا نفسه يقتضي أن نعرف كيف نحدد الآنية لحادثين يقعان في مكانين متباعدين. وهكذا نقع في الدور، أردنا أن نحدد معنى الآنية فلجأنا إلى قياس سرعة الضوء، ثم أردنا قياس سرعة الضوء فلجأنا إلى الآنية.
هنا قد يقال: ولماذا نستخدم ساعتين لتسجيل وقت إرسال الإشارة الضوئية ووقت وصولها؟ لماذا لا نستخدم ساعة واحدة، فنرسل شعاعا من الضوء من مكان ما ونجعله ينعكس على مرآة في المكان الآخر فيرتد إلينا؟ وبهذا فمن نقطة واحدة نستطيع أن نسجل بساعة واحدة لحظة الإرسال ولحظة وصول الشعاع المرتد، ونقسم المدة بين اللحظتين نصفين، فيكون نصف المدة قد استغرق في وصول الإشارة الضوئية من مكان إصدارها إلى مكان وصولها؛ وبهذا نستخرج سرعة الضوء. قد يقال هذا، ولكن في هذا افتراضا بأن سرعة الضوء في الذهاب هي نفسها سرعتها في الإياب، مع أنه لا وسيلة لدينا لمعرفة ذلك، ولو أردنا معرفة تساوي السرعة في الاتجاهين فلا بد من ساعة ثانية توضع في مكان الوصول؛ ومن ثم نعود إلى المشكلة التي اعترضتنا منذ حين.
إننا إذ نرى لمعة البرق نفرض في شيء من التجوز أن لحظة استقبالنا للمعة الضوء هي نفسها لحظة إرسالها، معتمدين في ذلك على أن الضوء أسرع جدا من أن يكون لزمن انتقاله من موضع السحاب إلينا أثر ملحوظ؛ فإذا أردنا بعد ذلك أن نقيس سرعة الصوت - صوت الرعد - حسبنا الفترة بين رؤيتنا للمعة ضوء البرق وبين سمعنا للصوت، وجعلناها هي الفترة التي استغرقها الصوت في انتقاله من السحاب إلينا، وقسمنا الزمن على المسافة فيكون لنا بذلك سرعة الصوت؛ أي إننا نعتمد في حساب سرعة الصوت على وصول إشارة الضوء إلينا.
ولو كان في الطبيعة نوع آخر من الإشارات أسرع من الضوء نفسه بدرجة كبيرة، بحيث إذا جاءتنا إشارة منها من مصدر بعيد جاز لنا أن نهمل زمن انتقال الإشارة من مصدرها إلينا، وأن نجعل زمن وصولها هو نفسه زمن انبعاثها، أقول لو كان هنالك إشارات كهذه أسرع من الضوء لأمكن أن نقيس سرعة الضوء إليها، لكن الضوء هو أسرع ما في الطبيعة؛ وإذن فليس هنالك ما نقيس إليه سرعة الضوء، بحيث لو فرضنا أننا أرسلنا إشارة ضوئية إلى المريخ ثم انعكست إلينا، ثم لو فرضنا أن الإشارة في ذهابها وإيابها قد استغرقت عشرين دقيقة مقيسة بساعاتنا على الأرض، لما استطعنا أن نعرف معرفة مطلقة الصدق متى وصلت إشارتنا إلى المريخ؛ إننا لا نستطيع ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نقول إنها ذهبت في نصف المدة وعادت في نصف المدة الآخر؛ إذ لا يجوز لنا أن نفرض أن سرعة الضوء في ذهابه هي نفسها سرعته في إيابه؛ ومعنى ذلك أن لحظة الوصول إلى المريخ قد تكون أي لحظة في العشرين دقيقة؛ فقد يكون الذهاب قد تم في خمس دقائق والإياب في خمس عشرة، وقد يكون الذهاب في عشر والإياب في عشر، وقد يكون الذهاب في خمس عشرة والإياب في خمس وهكذا؛ فليس إذن في وسعنا أبدا أن نقول عن أية حادثة مما قد وقع على الأرض خلال العشرين دقيقة إنها متآنية مع لحظة وصول الإشارة الضوئية إلى المريخ؛ وهذا هو ما يسميه أينشتين بنسبية الآنية. وخلاصة القول أنه ليس في الكون زمن مطلق بحيث نقول عن الكون كله معا إنه في لحظة زمنية واحدة؛ أي إنه كله في آنية؛ لأن هذه الآنية نفسها نسبية.
المكان والزمان كلاهما نسبيان، فليس هذا ولا ذاك كائنا مطلقا ذا حقيقة ثابتة، بل وليسا نسبيين بمعنى أنهما ذاتيان يحسهما كل منا على نحو خاص به، بل هما نسبيان بمعنى آخر، وهو أنه من الممكن عقلا أن نرتب الحوادث على عدة صور زمنية وعدة نسقات من الترتيب المكاني، أما أي هذه الصور والنسقات هو الذي يطابق الواقع فعلا، فأمر موكول للتجربة وحدها .
3
حل الاحتمال محل اليقين في العلوم الطبيعية (راجع الفقرة 4 من الفصل السابع)، وأثبت التحليل الحديث أن يقين الأحكام الرياضية ناشئ من كون هذه الأحكام تكرارية لا تضيف شيئا في النتائج عما كان متضمنا في المقدمات (راجع الفصل السادس). وأظهر التطور أن العالم متغير أبدا؛ فهو فعل دائب وليس هو بالحالة السكونية التي تخيلها أفلاطون في عالم المثل. وجاءت النسبية والطبيعة الذرية في عصرنا الحديث فقضت على كل تصور يجعل من الكون حقيقة مطلقة في طبيعته أو في مكانه وزمانه.
وكذلك الأمر في عالم القيم الجمالية والأخلاقية؛ فقد زال عنه سراب اليقين الرياضي الذي كان الفلاسفة يلتمسونه فيه، وكشف التحليل المنطقي للأحكام الدالة على قيم أنها ليست من المعرفة إطلاقا، فضلا عن أن توصف بما يوصف به أدق أنواع المعرفة من يقين.
وأول من حاول من الفلاسفة أن يسلك الأخلاق مسلك العلوم الرياضية اليقينية هو سقراط، الذي لم يدخر وسعا في بيان الجانب العلمي من الفضيلة؛ فليست هي بالأمر الذاتي الذي تشكله الأهواء كيف شاءت، بل هي - كعلم الهندسة سواء بسواء - يمكن استدلالها استدلالا منطقيا من البديهيات كما قد فعل إقليدس في الهندسة؛ فالفضيلة عنده علم والرذيلة جهل؛ بمعنى أنك تستطيع أن تعرف الشجاعة - مثلا - كما تعرف المثلث، ومن التعريف تستخرج كل ما يترتب عليه، وحيث يقع الخطأ في هذه العملية العقلية يكون الضلال عن الجادة المستقيمة ويكون ما نسميه بالرذيلة، أما إذا استقام المنطق من أول الشوط إلى آخره فيستحيل ألا يؤدي بصاحبه - في الأخلاق وفي الرياضة على السواء - إلى نظريات صحيحة؛ وبالتالي إلى سلوك صحيح. وكما أن النظريات الهندسية الصحيحة صحيحة بالنسبة للبشر أجمعين أيا ما كان زمانهم ومكانهم، فكذلك النظريات الخلقية الصحيحة صحيحة بالنسبة للبشر أجمعين في كل مكان أو زمان.
ولقيت هذه المماثلة بين الأخلاق من جهة والهندسة من جهة أخرى تأييدا قويا على يدي سبينوزا (1632-1677م)، الذي أخرج كتابه «الأخلاق»
7
على غرار كتاب الهندسة لإقليدس خطوة خطوة؛ فتراه يبدأ - كما يبدأ إقليدس - بطائفة من تعريفات، ثم يعقب عليها بمجموعة من البديهيات، وبعد ذلك يستنتج ما يترتب على تعريفاته وبديهياته من نتائج. وهكذا جاء سبينوزا متمما للمذهب السقراطي في منهج الأخلاق وإقامته على أساس المنهج الرياضي حتى ينتهي الأمر في كلتا الحالتين إلى نتائج مطلقة الصدق؛ فلا فرق بين أن يأخذ الأستاذ بيد تلميذه في علم الهندسة خطوة خطوة حتى يتبين له في يقين أن كل مثلث مهما تكن صورته يمكن أن ترسم فيه دائرة تمس أضلاعه، لا فرق بين هذا وبين أن يأخذ الأستاذ بيد تلميذه في الأخلاق خطوة خطوة حتى يتبين له في يقين أيضا أن الوفاء بالعهد أمر محتوم مهما تكن الظروف القائمة؛ ففي كلا الأمرين يرتد التلميذ بمعونة أستاذه إلى مبدأ يدرك بالبداهة.
لكن الفضل يرجع بعد ذلك ل «كانت» في إبراز مشكلة هذه البديهيات نفسها، كيف أمكن للإنسان أن يحكم بصدقها على الواقع؟ إنه إذا كانت النظريات التي ينتهي إليها الاستنباط تستند في برهان صدقها على الأصل الذي استنبطت منه، فماذا نقول في هذا الأصل نفسه؟ وهنا يجيب «كانت» جوابه المشهور بأن بديهيات الأخلاق هي كبديهيات الرياضة وعلم الطبيعة على السواء، «تركيبية قبلية» معا؛ أي إنها تخبر عن العالم الخارجي، وفي الوقت نفسه يكون صدقها ضروريا عند العقل. وقد كتب «كانت» كتابه «نقد العقل الخالص» ليبين هذه الحقيقة بالنسبة لعلمي الرياضة والطبيعة، ثم كتب كتابه «نقد العقل العملي» ليبينها بالنسبة للأخلاق؛ ففي هذا الكتاب يوضح الفيلسوف كيف ترتد الأفعال الخلقية إلى بديهية أولية هي التي يطلق عليها اسم «الأمر المطلق»، وهو: «افعل بحث يصلح فعلك أن يكون مبدأ لتشريع عام.» أي إن الأمر المطلق يقضي بأن يفعل الإنسان أفعاله بحيث لو فعل كل البشر أفعاله هذه لما ترتب على هذا التعميم شيء من تناقض؛ فبناء على ذلك - مثلا - لا يجوز لإنسان أن يكذب؛ لأنه لو كذب الناس جميعا لانتفى أن يسمع أحد لأحد أو أن يثق أحد في أحد؛ وبالتالي يبطل المجتمع من أساسه. وليس لنا أن نسأل: ولماذا نطيع هذا الأمر المطلق ؟ والجواب هو: لأن طاعته هي نفسها طاعتنا للعقل؛ إذ إن الخروج على الأمر المطلق هو في الوقت نفسه وقوع في نتائج متناقضة، والعقل يأبى التناقض. الأمر المطلق في الأخلاق هو في منزلة البديهيات في الرياضة وفي علم الطبيعة، يرى العقل صدقها بحدسه، فيرى ذلك الصدق فيها أمرا ضروريا.
وهكذا يبلغ تشبيه الأخلاق بالعلوم، والتماس الأحكام اليقينية المطلقة فيهما معا على حد سواء، حده الأقصى على يدي «كانت»، ولكن فات «كانت» وغيره من الآخذين بضرورة الأحكام الخلقية أن هذه المماثلة بين الأخلاق والعلوم سينتهي بها الأمر إلى وبال على الأخلاق نفسها؛ فقد عرضنا على القارئ خلال هذا الكتاب كيف أظهر التحليل المنطقي الحديث استحالة أن تكون الجملة الواحدة تركيبية وقبلية في آن معا؛ لأنها إذا كانت تركيبية - أي إخبارية - فيستحيل أن تكون عندئذ ضرورية الصدق، وهي إذا كانت قبلية - أي ضرورية الصدق - فيستحيل أن تكون في الوقت نفسه حاملة خبرا عن العالم؛ فإن كانت قضايا العلوم الطبيعية تخبرنا عن العالم كيف تقع ظواهره، فليست تلك القضايا بضرورية الصدق؛ بمعنى أن العقل يمكنه أن يتصور قيام نقيضها؛ وإن كانت قضايا العلوم الرياضية ضرورية الصدق بمعنى أن العقل لا يمكنه تصور نقيضها، فهي لا تخبر أبدا بشيء عن العالم؛ وبناء على ذلك فإن المبدأ الأخلاقي إن كان شبيها بقضايا العلوم الطبيعية فليس هو ضروري الصدق، وإن كان شبيها بقضايا العلوم الرياضية في ضرورة صدقها فليس هو بالقائل عن عالم السلوك شيئا؛ وفي كلتا الحالتين لا يكون لمبادئ الأخلاق ما أراد لها الفلاسفة من صدق يقيني مطلق يفرض نفسه على كافة أفراد البشر في كل مكان وفي كل زمان.
كلا، ليست الأخلاق ومبادئها من قبيل المعرفة العلمية بنوعيها الرياضي والطبيعي؛ فهذه المعرفة لا تصاغ على صورة «أوامر» كما هي الحال في أوامر الأخلاق، وإن أصر الفلاسفة على أن يماثلوا بين الأخلاق وبين العلم، كانت النتيجة الحتمية لذلك زوال الأخلاق نفسها؛ لأننا عندئذ سنكتفي فيها بالعبارات الوصفية، ونخرج منها جانب الأمر؛ أي إننا نكتفي بأن نصف الطرائق التي يسلك بها هذا المجتمع أو ذاك في ظروف حياتهم المختلفة دون أن نصف هذه الطرائق بقيمة معينة فنقول إنها حسنة أو رديئة، مع أن صميم الأخلاق هو أن تكون معيارية؛ أي أن تضع للناس ما «ينبغي» أن يكون، لا أن تكتفي بمجرد وصف ما هو كائن، لكنها إن رسمت لنا ما «ينبغي» أن يكون فقد خرجت عن نطاق العلم الموضوعي ودخلت في نطاق آخر من الكلام، وهو الكلام الذي يعبر به الإنسان عن رغباته وآماله، وفي ذلك قد يختلف الناس دون أن يكون في اختلافهم تناقض يأباه العقل ومنطقه.
8
অজানা পৃষ্ঠা