إننا نريد للفلسفة أن تكون شبيهة بالعلم، لكننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء في موضوعات بحثهم، فيبحثون في الفلك مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة، وفي تطور الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا، بل إننا - على نقيض ذلك - نحرم على الفيلسوف باعتباره فيلسوفا أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأي وجه من الوجوه؛ لأنه لا يملك أدوات البحث التي تمكنه من ذلك؛ فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب حتى ينتهي بها إلى أحكام إخبارية عن العالم. ونأخذ على الفلاسفة التأمليين أن ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم؛ إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده في وسعه أن يصف الوجود الخارجي، مع أن ذلك محال كما سيتبين في غضون هذا الكتاب؛ فانظر مثلا إلى هيجل وهو يحاول إقامة البرهان العقلي الخالص على أن الكواكب تسير وفق قوانين كبلر، بل استدل بالقياس العقلي المحض مواضع الكواكب أين تكون، بحيث أقام البرهان على استحالة أن يكون ثمة كوكب بين المشتري والمريخ، مع أنه لسوء حظه كان علماء الفلك قد كشفوا بالفعل عن كوكب بينهما قبل ذلك بشهور قلائل.
2
كلا، إننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذي يورط الفلاسفة فيما لا شأن لهم به من شئون العلم، ولكننا نحب لهما أن يقترنا بعدة معان أخر؛ أولها التزام الدقة البالغة في استخدام الألفاظ والعبارات، التزاما يقرب الفيلسوف من العالم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية، فإذا كان العالم يحدد على وجه الدقة ما يريده حين يقول «جاذبية» و«ضوء» و«صوت» ... إلخ، فكذلك ينبغي للفيلسوف أن يكون بهذه الأمانة نفسها وبهذه الدقة نفسها في استخدامه لألفاظه الأساسية الهامة، فلا يقول - مثلا - كلمة «نفس» أو كلمة «عقل» أو كلمة «خير» ... إلخ، إلا وهو على أتم العلم بحدود معناها، بل إنه لا يكفي أن يحدد الفيلسوف معاني هذه الألفاظ تحديدا يشترطه لها اشتراطا لكي يمضي في حديثه على أساس هذه المعاني التي هي من صنعه؛ فلا يكفي - مثلا - أن يقول سبينوزا في بداية بحثه: «إنني أعرف «العنصر» بأنه ما يوجد في ذاته ويمكن تصوره بغير الاستعانة بأية فكرة أخرى.» أقول إنه لا يكفي أن يعرف الفيلسوف ألفاظه على هذا النحو، ثم يستدل من هذا التعريف نتائجه التي تترتب عليه، وبعد ذلك يظن أن هذه النتائج التي وصل إليها تطابق العالم الحقيقي الواقع؛ ذلك لأن تعريفه لكلمة «عنصر» - وهو المثل الذي سقناه - لا يزيد على كونه شرحا للطريقة التي يستخدم بها الكلمة، فمهما تكن النتائج التي يمكن استدلالها بعد ذلك من هذا التعريف، فهي نتائج تستخرج مضمون التعريف وفحواه، ولا تجاوز حدوده إلى حيث العالم الواقع، أما إذا أراد الفيلسوف أن يحدد معاني ألفاظه تحديدا يعينه على دقة التفكير، فخير له ألا يبدأ بالكلمة ثم يعقب عليها بتعريف، بل أن يبدأ بالصفة أو مجموعة الصفات التي يلاحظها ويريد لها اسما يميزها، ثم يطلق هذا الاسم آخر الأمر على ما قد لاحظه؛ وبهذا يصبح تعريف الاسم هو الصفات التي كانت وقعت في حدود المشاهدة؛ فإذا ما استخرجنا بعد ذلك من هذا التعريف نتائج مترتبة عليه، كانت هذه النتائج متطابقة مع حوادث الواقع المشهود.
إننا لا نستطيع أن نترك هذه النقطة الهامة دون أن نشير إلى الأثر العميق الذي تركه أرسطو في ثقافة العصور الوسطى، وما يشبه تلك الثقافة حتى في بعض الأمم القائمة في عصرنا الراهن، بسبب نظريته في «التعريف»؛ فقد كان من رأي أرسطو - كما هو معلوم لكل من درس منطقه - أن تعريف أية كلمة إنما يكون بذكر «الجوهر» الذي منه يتألف معناها؛ ومؤدى ذلك أن تبدأ بكلمة تصادفها وتريد أن تحدد تعريفها، ثم تحاول بعد ذلك أن تبحث عما يؤلف لها معنى. وكثيرا جدا ما تكون الكلمة التي بين يدي اسما زائفا أطلق على غير مسمى، لكنني - لو سرت على نهج أرسطو - فلا يجوز أن أسأل عن الكلمة التي أريد تعريفها قبل محاولة تعريفها؛ هل هي أولا كلمة حقيقية لها ما تسميه في دنيا الأشياء؟ فإن كانت اسما حقيقيا كان علي أن أحدد صفات الشيء المسمى بها، فيكون ذلك هو تحديد دقيق لمعنى الكلمة المراد تحديد معناها.
ألا إنها لنكبة ثقافية كبرى تصاب بها الأمة إذا سادت بين قادة الرأي فيها عادة التفكير على النهج الأرسطي الذي أسلفناه؛ لأنهم عندئذ سيغوصون في بحر من الثقافة اللفظية الفارغة، إنهم سيتمسكون بكل ما في أوراقهم ودفاترهم ومجلداتهم من «ألفاظ»، ثم يصبح مجهودهم الفكري بعد ذلك هو أن يشرحوا هذه الألفاظ، ثم يشرحوا الشروح، ثم يضعوا لهذه الشروح هوامش شارحة يعلقون عليها بمجلدات في إثر مجلدات، مع أن «الألفاظ» الأولى التي بنوا عليها هذا البناء الهش كله قد تكون زائفة بغير معنى؛ فافرض - مثلا - أن «المفكر» من هؤلاء اللفظيين قد بدأ تفكيره بكلمة «نفس»، فها هنا سيجد نفسه إزاء لفظة لا يتردد في أنها من ذوات المعنى، فيأخذ في تعريفها على أسلوب أرسطو بأن يحاول تحديد صفاتها الجوهرية، وقد يجد أن هذه الصفات بحاجة إلى شرح، فيمضي في شروحه إلى آخر ما تسعفه الكلمات التي حفظها من دراساته السابقة، لكن هل سأل بادئ ذي بدء إن كانت الكلمة اسما حقيقيا تسمي شيئا معينا أو لا تسمي؟
إنني أقترح في هذا الصدد طريقة
3
من شأنها أن تضبط هؤلاء الشاطحين ، وهي أن يعكس «المفكر» طريق سيره هذا، فبدل أن يبدأ بالكلمة لينتهي إلى معناها، يبدأ بالمعنى لينتهي إلى الكلمة، وفي هذا ضمان بألا نبقي بين أيدينا إلا الكلمات ذوات المعنى الحقيقي؛ فأرى اللون المعين أولا قبل أن أقول كلمة «أحمر»، وأذوق الطعم المعين أولا قبل أن أقول كلمة «مر»؛ وعلى هذا القياس أنتظر حتى تأتيني حواسي بالعناصر التي أريد لها اسما، ثم أختار لها اسم «نفس»، حتى إذا ما سئلت بعد ذلك ما معنى هذه الكلمة؟ قلت: هو العناصر الفلانية التي يمكن أن تراها العين أو تسمعها الأذن، أما إذا لم يكن هنالك من هذه العناصر الحسية ما يريد التسمية كففت عن استخدام الكلمة، وإلا استخدمتها بغير مسمى؛ أي بغير معني.
إذن فتحديد ألفاظنا الفلسفية مثل هذا التحديد الذي لا يدع أمامنا كلمة بغير مسمى مما يمكن تعقبه بالحواس، هو أول ما نريده حين نطالب بأن تكون الفلسفة «علمية» في منحاها ومنهجها، ثم نريد لها بعد ذلك أن تحصر بحثها في مشكلات جزئية محددة؛ فبدل أن يحاول الفيلسوف مستحيلا ببحثه عن «مبدأ» يضم الكون كله بما فيه ومن فيه، يقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم كمفهوم «السببية» مثلا، يتعاون في تحليله مع زملائه الفلاسفة كما يتعاون العلماء في المعمل على تحليل مادة من موادهم؛ وبهذا يستفيد بعضهم من بعض ويكمل بعضهم بعضا، وتنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا يجعل آخره أقرب إلى الصواب من أوله.
لقد مضى عهد «الشوامخ» في عالم الفكر كما مضى عهد الأباطرة المستبدين، وجاء عهد التعاون الفكري مع الديمقراطية في نظام الحكم؛ فلم يكن الفرق بعيدا بين حاكم فاتح كالإسكندر الأكبر يريد أن يسيطر على العالم كله بكلمة منه، وبين الفيلسوف التأملي كأفلاطون أو أرسطو يريد أن يخضع الكون كله لمبدأ واحد من عنده، وكذلك ليس الفرق بعيدا بين جماعة الأفراد في أمة تريد أن يكون الحكم قسمة بينهم وأن تكون التبعة مشتركة، وبين جماعة الأفراد في طائفة علمية معينة تتعاون كلها على مشكلة بعينها حتى تظفر لها بحل يرضي؛ فلا عجب أن تري أعلام الفلاسفة فيما مضى يقفون وأتباعهم من حولهم كالعناقيد، ثم تتوالى عناقيدهم عنقودا بعد عنقود، على حين تدور بناظريك في عصرنا فتجد الفلاسفة جماعات جماعات، تكاد تتعادل بين أعضائها القامات، فلا نبي ووراءه الحواريون، ولا أستاذ وحوله التلاميذ الصغار، بل هم كأعضاء الندوة يسمرون ويتبادلون الرأي تبادل الند مع الند، أو ما هو قريب من ذلك.
অজানা পৃষ্ঠা