سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكثيرون غيرهم من أئمة الفلسفة في شتى عصورها يرون أن الصدق اليقيني هو علامة الفلسفة بمعناها الصحيح، وأن هذا الصدق اليقيني هو ضالة الفيلسوف المنشودة؛ فهو يريد أن يعرف الحقيقة، وأن تكون معرفته إياها يقينا لا يحتمل الخطأ. ولقد وجدوا هذا اليقين المنشود في العلم الرياضي، وبقي أن يجدوه كذلك في سائر العلوم من طبيعية وإنسانية ولاهوتية وميتافيزيقية، فكيف السبيل إلى ذلك؟ كان هذا هو سؤالهم؛ فآنا تري الفيلسوف يائسا من اليقين في العلوم الطبيعية لاعتماد تحصيلها على الحواس أولا؛ ولذلك فهو يرفضها ويقضي بعدم جوازها؛ لأن العلم فيها لا يعدو الظن والاحتمال، ومن هؤلاء أفلاطون، الذي لا يكون العلم عنده علما إلا إذا كان مرئيا بالعقل رؤية اليقين. ولما كان ذلك لا يتيسر في معرفتنا بالأشياء الجزئية - أشياء هذه الدنيا التي نعيش فيها - وجب إهمالها. واليقين المنشود عنده لا يتحقق إلا في الرياضة من جهة وفي الميتافيزيقا من جهة أخرى، والفرق بينهما هو أن الرياضة تستند إلى فروض تبدأ منها استنتاجاتها اليقينية، وأما الميتافيزيقا فهي رؤية الصور الكاملة للأشياء، أي المثل، رؤية مباشرة بالمواجهة الحدسية كما تواجه قرص الشمس لتراها. وآنا آخر ترى الفيلسوف لا ييئس من أن يصب العلم الطبيعي في قالب اليقين الرياضي - مثل ديكارت - وإنما تكون وسيلة ذلك عنده هي اتباع منهج الرياضة عند التفكير في الطبيعة؛ فكما تبدأ الرياضة بحقائق بسيطة كالعدد ثم تمضي في طريقها إلى التركيب، فكذلك يبدأ العلم الطبيعي بطبائع بسيطة كالجوهر والامتداد، ثم يمضي في طريقه إلى التركيب؛ وبذلك يكون اليقين مضمونا هنا كما هو مضمون هناك.
وهؤلاء الفلاسفة جميعا على اختلافهم في المذهب والطريق يتفقون على أن ما يدركه العقل الخالص وحده عن الوجود الخارجي هو نفسه ما عسانا واجدوه في الوجود الخارجي كما هو واقع؛ فما على العقل إلا أن ينسج من طبيعته خيوطا، بادئا بالبديهيات الواضحة ومنتهيا إلى نتائجها، وإذا بهذا النسيج الذي نسجه في الداخل هو صورة ما يقع في الخارج؛ فهذا هو إقليدس - مثلا - يقيم بناءه الهندسي على أساس عقلي صرف؛ بمعنى أنه يبدأ بمسلمات يضعها، بأن يعرف طائفة من المفاهيم الهامة في الهندسة، كالنقطة والخط والسطح وما إلى ذلك، ويقدم ببديهيات ومصادرات يطلب التسليم بها من غير برهان؛ لأنها عنده بمنزلة الفروض، والمناقشة لا تكون في الفروض ذاتها، بل تكون في النتائج التي تستدل منها؛ أقول هذا هو إقليدس يبني هندسته على فروض بناء عقليا صرفا، لكنه في الوقت نفسه يتوقع أن تكون تفصيلات هذا البناء هي نفسها صورة الواقع الطبيعي؛ فإذا انتهى في بنائه العقلي مثلا إلى أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساويا لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، كان هذا هو نفسه ما أجده على سطح الأرض لو رسمت عليه مثلثا قائم الزاوية ثم رسمت مربعات على أضلاع ذلك المثلث؛ إذ إني سأجد عندئذ أن مساحة المربع المنشأ على الوتر تساوي مجموع مساحة المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.
كيف أمكن هذا؟ كيف أمكن أن يكون اليقين الذي يصل إليه العقل تفكيره الرياضي هو نفسه الحالة الواقعة فعلا في العالم الطبيعي؟ كان ذلك هو السؤال عند «كانت»؛ فهو لم يتردد أبدا في أن القضية الرياضية التي هي ضرورية الصدق إنما تصور في الوقت نفسه وقائع الطبيعة، وأخذ يسأل: كيف أمكن لما هو صادق صدقا لا يعتمد على الخبرة أن يكون صادقا كذلك على أساس الخبرة؟ أو بتعبيره الاصطلاحي: كيف أمكن قيام قضية قبلية وتركيبية في آن واحد؟ قضية لم نستمدها من الخبرة، لكنها مع ذلك تخبر عما هنالك في عالم الوجود الفعلي؟
حتى جاء فلاسفة التحليل المعاصر فألقوا ضوءا جديدا على طبيعة القضية الرياضية، وإذا بهذا الضوء الجديد يزيل كل هذه المشكلات بضربة واحدة. وإن هذا الكشف عن طبيعة القضية الرياضية ليعد أهم كشف فلسفي في القرن الأخير كله، وهو هو موضع الثورة في الفلسفة المعاصرة كلها؛ فيقين الرياضة ليس له مصدر سوى أن القضية الرياضية تكرار لفظي في الرموز؛ فلا فرق في طبيعة العبارة الرمزية بين أن تقول 2 + 2 = 4، وبين أن تقول إن الماء هو الماء، وسبيلنا الآن إلى شرح ذلك في شيء من التفصيل.
القضية الرياضية ضرورية الصدق؛ فصدقها غير مرهون بمكان معين ولا زمان معين، صدقها ليس مرهونا بمجموعة من الظروف دون أخرى، بل إن صدقها ضروري هنا وعلى المريخ، وصدقها ضروري الآن كما كان ضروريا عند إنسان الكهوف؛ فماذا نعني ب «الضرورة» هنا؟ نعني بها أن النقيض مستحيل.
والاستحالة المقصودة هنا هي الاستحالة المنطقية؛ ذلك لأن هنالك ثلاثة أنواع من الاستحالة كثيرا ما يخلط الناس بينها، وتوضيحها لا بد منه في هذا السياق؛ فهنالك - أولا - الاستحالة المنطقية التي أشرنا إليها، وهي لا تقال إلا على جملة فيها شيء ونقيضه؛ فإذا قلت مثلا إن المربع له أربعة أضلاع وليس له أربعة أضلاع، كنت تقول بذلك عبارة مستحيلة منطقيا لأن ألفاظها ينقض بعضها بعضا. كذلك قولك إن الدائرة مربعة قول مستحيل منطقيا؛ لأننا لو حللناه بأن وضعنا مكان الدائرة تعريفها ومكان كلمة «مربعة» تعريف المربع، ألفينا أنفسنا إزاء كلام ينقض بعضه بعضا؛ لأنك عندئذ تكون بمثابة من يقول إن الخط المنحني هو في الوقت نفسه خط مستقيم؛ أي إن الخط المنحني ليس خطا منحنيا. وكثيرا ما يخفى مثل هذا التناقض في كلام الناس، بحيث يقولون ما هو مستحيل منطقيا بالمعنى الذي أسلفناه، وفي الوقت نفسه يظنون أنهم يقولون كلاما متسقا لا تناقض فيه. خذ مثلا القائلين بأن روح الميت يمكن استحضارها وهي تتكلم وتسلك كما كانت تفعل في حياة جسدها. وفي ذلك استحالة منطقية؛ لأن العبارة نفسها تحمل الكلمة ونقيضها، ويتضح ذلك لو عرفنا الألفاظ المستعملة في هذه العبارة، وأولها كلمة «روح»، ومن عجب أن هؤلاء القائلين أنفسهم هم الذين يتمسكون بأن يكون التعريف دالا على أن الروح شيء غير مادي؛ أي إنه شيء لا يحتل نقطة من مكان، ومع ذلك يجعلون هذه التي ليست مكانا يجعلونها أمواجا هوائية هي الصوت المسموع، والأمواج الهوائية لا تكون إلا في مكان؛ فهم إذن بمثابة من يقولون إن ما ليس له مكان له مكان.
وهنالك - ثانيا - استحالة تجريبية، وهي استحالة تكون في الجملة إذا كانت تقرر شيئا يناقض قانونا من قوانين الطبيعة كما استخلصتها المشاهدة والتجارب؛ فمن قوانين الطبيعة أن الماء يغلي في درجة مائة وهو في مستوى سطح البحر، وإذن فإذا قال قائل إن الماء لا يغلي في درجة مائة وهو في مستوى سطح البحر، كان بذلك يقول ما هو مستحيل من الوجهة التجريبية. وإن يكن غير مستحيل من الوجهة المنطقية، فالقول لا تناقض فيه ؛ أي إن لفظا من ألفاظه لا يناقض لفظا آخر؛ كانت الاستحالة لتكون منطقية لو قال القائل: «إن هذا الماء الذي أمامي يغلي ولا يغلي.» لكنه يقول عبارة بين أجزائها اتساق، وكل ما في الأمر أنها عبارة تقدم صورة للواقع غير الصورة التي قد قررتها التجربة العلمية. إننا نريد للقارئ أن يكون هنا على حذر شديد، فلا يصف بالاستحالة المنطقية ما هو مستحيل من الناحية التجريبية وحدها؛ ذلك لأنه قمين أن ينفر من العبارات التي تقرر أشياء تخالف المألوف مخالفة صارخة، نفورا قد يدعوه إلى الحكم على تلك العبارات بأنها تجاوز حدود المنطق العقلي ذاته، ولا تكتفي بمجاوزتها لحدود التجربة وحدها؛ فمثلا لو قيل: «إنك إذا ألقيت من النافذة بحجر سار سيرا أفقيا في الهواء.» كان هذا القول مستحيلا من الناحية التجريبية وحدها لا من الناحية المنطقية؛ إذ ليس في العبارة نفسها تناقض بين أجزائها حتى تكون استحالتها منطقية، وكل ما في الأمر أنها تقرر شيئا غير الذي قد قررته التجارب. ولو قيل: «إن أمطار هذا الشتاء قد نزلت من السماء لبنا وعسلا.» كانت استحالة القول هنا كذلك تجريبية لا منطقية؛ لأنها استحالة تنفيها التجربة ولا ينفيها أن بين أجزائها تناقضا.
وهنالك - ثالثا - استحالة فنية، وهي الحالة التي لا يكون القول فيها مستحيلا من الناحية المنطقية لخلوه من التناقض بين أجزائه، وكذلك لا يكون مستحيلا من الناحية التجريبية لعدم تعارضه مع أي قانون من قوانين الطبيعة، ولكنه في الوقت نفسه قول مستحيل الصدق في الظروف الحاضرة؛ لأن الوسائل العلمية والأدوات المخترعة لا تعين الآن على قيام الحالة التي تصفها العبارة المذكورة، لكن تلك الوسائل والأدوات قد يصيبها التقدم فيما هو آت من الزمن فيصبح ممكنا ما هو اليوم مستحيل التنفيذ؛ فالسفر إلى القمر مستحيل حتى الآن، لا لأن قولي: «سافر فلان إلى القمر.» فيه شيء من التناقض الذي يأباه المنطق، ولا لأن السفر إلى القمر فيه ما يتعارض مع قوانين الطبيعة، وكل ما في الأمر أن الأدوات الفنية المعينة على ذلك لم تكمل بعد، وقد تكمل في المستقبل وقد لا تكمل؛ وإذن فالاستحالة هنا لا هي منطقية ولا هي تجريبية، ولكنها فنية، وزوالها مرهون بالزمن وتقدم العلم .
أما وقد فرقنا بين هذه الأنواع الثلاثة من الاستحالة، فإننا نعود إلى سؤالنا الذي طرحناه منذ قليل: ما معنى «الضرورة» حين نصف قضية رياضية بأنها ضرورية الصدق؟ وجواب ذلك هو أن نقيض القضية يكون مستحيلا استحالة منطقية؛ فالذي يجعل قولنا: «إن المثلث له زوايا ثلاث.» ضروري الصدق هو أن نقيض هذا القول ينطوي على تناقض بين أجزاء العبارة نفسها؛ وإذن فاستحالته منطقية؛ فالنقيض هو: «ليس للمثلث زوايا ثلاث.» وبقليل من التحليل الرياضي نجد أن هذا القول الجديد يتضمن قولا آخر، هو: «ليس للمثلث أضلاع ثلاثة.» ولما كان تعريف المثلث هو أنه سطح مستو محوط بأضلاع ثلاثة، كان معنى قولنا الأخير هو: «ليس المثلث مثلثا.» وهكذا ننتهي إلى عبارة متناقضة الأجزاء لو أننا نقضنا القضية الأولى التي وصفناها بأنها ضرورية الصدق.
ودعوانا هي أن القضية الرياضية تستمد يقينها من لفظها؛ فهي تكرار للرمز الواحد مرتين، وإن يكن هذا التكرار يختبئ عادة وراء اختلاف صورة الرمز في كل من الحالتين؛ فليس في يقين الرياضة سر ولا سحر يغري الفلاسفة بجعله نموذجا لكل علم سواها، بل إن من يطلب اليقين الرياضي هو بمثابة من يطلب من المتكلم أن يكرر الموضوع ولا يضيف إليه خبرا جديدا؛ فالقضية الرياضية رمزها البسيط هو أ هي أ، وأما القضية في العلوم الطبيعية على اختلافها فرمزها هو أ هي ب؛ أي إنه في الحالة الأولى لا خلاف بين المبتدأ والخبر، وأما في الحالة الثانية فلا بد أن يكون الخبر شيئا يختلف عن المخبر عنه. نعم، إن دعوانا التي نحن الآن في سبيل تأييدها، هي أن القضية الرياضية ضرورية الصدق لمجرد كونها تكرارا لفظيا؛ وبذلك يكون نقيضها مستحيلا منطقيا؛ لأنك بينما تقول صدقا ضروريا إذ تقول إن الماء هو الماء، تراك تقول استحالة منطقية إذا نقضت قولك ذاك بحيث أصبح: «الماء ليس هو الماء.» هذا هو صدق الرياضة، وهذه هي ضرورتها.
অজানা পৃষ্ঠা