ولكن تحديد المعنى في الجملة الواحدة يقتضي تحليلها لنتبين وحداتها البسيطة التي منها تتكون، وما هذه الوحدات البسيطة إلا القضايا الذرية التي تندمج في كيانها، وبغير إبراز هذه القضايا الذرية لا يمكن إدراك العلاقة بين الكلام من ناحية والعالم الخارجي الذي عنه قد قيل الكلام من ناحية أخرى. أما إذا تكلم المتكلم بحيث لم يرد بكلامه أن ينصرف إلى عالم الواقع، وبحيث يكفيه أن تكون أجزاؤه متسقة بعضها مع بعض؛ فعندئذ تتكون ضروب أخرى من البناءات الرمزية لا يكون المدار فيها مراجعة الرمز على مسماه، بل يكون المدار مراجعة الرمز على رمز آخر في البناء الذي أقمناه، ومن أهم هذه البناءات الرمزية المكتفية بذاتها، غير المعتمدة في معانيها على وقائع العالم الخارجي، بناء المنطق وبناء الرياضة البحتة؛ فكلاهما صوري، يحافظ على ألا يكون بين أجزائه تناقض، دون أن يتوقف صدق البناء كله على مطابقته أو عدم مطابقته للعالم الخارجي.
الفصل السادس
مطلب اليقين
1
كان إدراك العلم اليقين بالكون أملا يراود الفلاسفة طوال عصورهم؛ فقد جاهدوا ما وسعهم الجهد أن يكشفوا عن حقيقة هذا العالم بكل من فيه وما فيه. ولم يكن يكفيهم في مطلبهم ذاك أن يحيطوا بالأمر إحاطة المتشكك المرتاب، بل أرادوا علما لا يأتيه الباطل من أية ناحية من نواحيه. ولم يكونوا في هذا السعي وراء الحق يفرقون بين علم وعلم، فسواء كان موضوع البحث منطقا صوريا أو هندسة أو فلكا أو أجسادا أو نفوسا، فلا مناص في هذا كله من بلوغ العلم اليقين الذي ما دونه لا يكون من العلم في شيء، حتى لقد كانوا يجعلون اليقين جزءا من تعريفهم للعلم أو للمعرفة بمعناها الصحيح، وأما ما يحتمل الخطأ فظن لا يرقى إلى أن يكون علما.
وسرعان ما كانوا يجدون الفرق واضحا من حيث الصواب بين ما يحصلونه بحواسهم عن العالم الخارجي، وبين ما يستنبطونه بعقولهم من حقائق الرياضة وما إليها؛ فالضرب الأول قابل للخطأ، والضرب الثاني يقين ثابت؛ فمن الضرب الأول - مثلا - أن تقول عن الشمس إنها تتحرك في السماء من الشرق إلى الغرب بناء على شهادة الحواس، ومن الضرب الثاني أن تقول عن الخطين المتوازيين إنهما لا يتلاقيان مهما امتدا؛ فقد يثبت - كما ثبت فعلا - أن الشمس لا تتحرك كما يوهمنا البصر، وأما الحقيقة الثانية عن الخطين المتوازيين أنهما لا يتلاقيان - وهي من استنباط العقل - فثابتة مهما شهدنا بالعين أنهما يتلاقيان عند الأفق. وقد كان شغلهم الشاغل في هذا الصدد أن يبحثوا عن سر اليقين فيما هو علم يقيني؛ لعلهم يطوعون علمنا بالطبيعة إلى مثل ما في الرياضة من يقين؛ وبذلك يبني الإنسان علمه على أساس متين.
وسقراط هو الفيلسوف المنهجي الأول الذي أراد أن يلتمس للمعرفة الإنسانية سواء السبيل فلا تضل ولا تخطئ، حتى لقد احتل مكانته الرئيسية في الفكر اليوناني بفضل منهجه قبل أي شيء آخر. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أن أرسطو حين ألقى على نفسه هذا السؤال: ماذا أفادت الفلسفة من سقراط؟ أجاب: «إنهما شيئان ينبغي أن ينسبا بحق إلى سقراط، وهما: إقامة الحجج على أسس استقرائية، والتعريف الذي يشمل كل أفراد النوع.»
1
أي إنه كان صاحب منهج جديد، ولا نزال حتى اليوم نصف بعض الاتجاهات الفكرية بأنها «جدلية»، وهي كلمة تشير إشارة صريحة إلى المنهج السقراطي الذي كان يجري على أسلوب الحوار.
وكانت خطته في حواره هي الرجوع من النتائج إلى المقدمات؛ أي من النتائج إلى المبادئ التي تولدت عنها تلك النتائج، هي الرجوع من المواقف الجزئية إلى الفروض التي تكمن في صميم تلك المواقف؛ ذلك أننا كثيرا ما نتكلم أو نسلك بحيث يكون كلامنا أو سلوكنا قائما على مبدأ معين ونحن لا ندري، بل كثيرا ما يكون ذلك المبدأ الخبيء في كلامنا وسلوكنا محل اعتقادنا الجازم، ومع ذلك ترانا - على غير وعي منا بما نكون فيه من تناقض - ننكره في جدالنا مع خصومنا؛ فانظر - مثلا - إلى فيلسوف من الظاهريين ينكر أن يكون في الشيء إلا مجموعة ظواهره التي تبدو للحواس؛ أي إنه ينكر أن يكون للشيء جوهر عنصري ثابت دائم بغض النظر عن الظواهر وتغيرها وزوالها، إنه ينكر ذلك وفي الوقت نفسه تراه يبحث عن قلمه الذي ضاع وعن كتابه الذي لا يذكر أين وضعه آخر مرة. وفي هذا السلوك نفسه دليل على اعتقاد كامن في نفسه بأن القلب والكتاب لا يزالان قائمين رغم انعدام ظواهرهما بالنسبة إلى ما تدركه الحواس.
অজানা পৃষ্ঠা