أيجوز أن نتحدث عن الكون كله دفعة واحدة؛ أي أن نتحدث عن الكون باعتباره كلا واحدا؟ يجيب «كانت» بما يجيب به أتباع التجريبية العلمية المعاصرة، وهو أن ذلك غير جائز؛ لأن الكون باعتباره كلا واحدا لم يقع ولن يقع لنا في خبراتنا. والفرق بين «كانت» وبين أنصار التجريبية العلمية هو - كما أسلفنا - أن «كانت» يعلل استحالة مثل هذا الحديث بكونه فوق متناول العقل النظري بمبادئه ومقولاته، وأما التجريبيون العلميون فيعللون استحالة ذلك تعليلا منطقيا؛ إذ يقولون إن كل عبارة تقال عن مثل هذا الموضوع يمكن للتحليل المنطقي أن يبين أنها ليست بذات معنى.
غير أنك لو سمعت ما يقوله «كانت» عن النتائج التي تترتب على الحديث عن الكون باعتباره كلا واحدا، لحسبته واحدا من أتباع الفلسفة الوضعية المنطقية المعاصرة يتكلم ويبني كلامه على أساس منطقي صرف! فاستمع إليه وهو يصف لنا «النقائض» التي نتورط فيها لو جعلنا «الكون» موضوع حديثنا، فعندئذ يجوز للمتكلم أن يقول قضية ونقيضها في آن معا:
فلك أن تقول عندئذ إن العالم لا بد أن تكون له بداية زمنية، ولا بد أن تكون له حدود مكانية؛ لاستحالة أن يمتد زمانه إلى ما لا نهاية من حيث لحظة الابتداء، أو أن يمتد مكانه إلى ما لا نهاية، لكنك تستطيع في الوقت نفسه أن تقول نقيض ذلك، فتقول إن العالم يستحيل أن تكون له بداية في الزمن ولا حدود في المكان، وإلا فلو زعمنا له بداية زمنية للزم أن يكون قد سبق هذه البداية زمن خال مما يملؤه من حوادث، أو لو زعمنا له حدودا مكانية للزم أن يكون وراء هذه الحدود مكان خال مما يحل فيه، وكلا الفرضين محال تصوره؛ لأن الزمن الخالي لا يمكن التمييز فيه بين لحظة ولحظة، وبغير تتابع اللحظات فلا زمان، ولأن المكان الخالي لا يمكن التمييز فيه بين نقطة ونقطة، وبغير تحديد العلاقات بين مختلف النقط فلا مكان.
وانظر إلى «نقيضة» أخرى من هذه النقائض التي لا مندوحة للإنسان عن التورط فيها إذا هو جاوز حدود خبراته؛ ذلك أنه إذا ما رجع من المسبب إلى سببه، ومن هذا السبب إلى سببه، وهكذا، فقد يقول إنه لا بد من الوقوف عند سبب أول لا يكون بدوره مسببا لشيء سابق عليه حتى لا يظل ينتقل من المسببات إلى أسبابها إلى غير نهاية معلومة؛ ومن ثم تراه يزعم وجوب أن يكون للكون سبب مطلق غير مسبوق بشيء، وهو في الوقت نفسه سابق لكل شيء - لكنك من الناحية الأخرى تستطيع أن تقرر نقيض هذه الحقيقة فتقول إن السبب المطلق من كل قيد وشرط محال تصوره، وإلا فكيف أحدث هذا السبب الأول مسبباته؟ ما الذي جعل السبب الأول يحدث ما قد نشأ عنه في اللحظة المعينة التي حدث عندها ما قد حدث؟ وبإلقائك سؤالا كهذا تكون بمثابة من يبحث للسبب الأول عن أسباب تحدد له مسلكه، وهو نقيض ما قد قررناه له بادئ ذي بدء. وهكذا يمكن للإنسان أن يقول النقيضين عن الموضوع الواحد إذا هو أباح لنفسه أن يجاوز حدود خبراته، وما دام «الكون» باعتباره كلا واحدا خارجا عن حدود هذه الخبرات فلا يجوز للإنسان أن يتخذ منه موضوعا للحديث. ومثل هذا الاعتراض كما يبديه «كانت» هو هو بعينه ما يرتكز إليه الوضعيون المنطقيون في تحليلاتهم، حين يرفضون العبارات الميتافيزيقية على أساس أن كان عبارة منها يمكن أن تقال هي ونقيضها معا دون أن نجد في خبراتنا ما ينفي أحد النقيضين ليثبت الآخر، وما هكذا يكون الكلام ذو المعنى من الناحية المنطقية؛ إذ لا بد في مثل هذا الكلام أن يكون الصادق هو أحد النقيضين دون الآخر.
ولعل أقرب ما يقرب «كانت» من جماعة الوضعية المنطقية هو موقفه إزاء البرهان الوجودي على وجود الله؛ فمن الأسس الهامة عند هذه الجماعة - كما سنبين في هذا الكتاب - أن يظل المدرك العقلي بغير «معنى» حتى نجد له مسمي بين محسوساتنا الفعلية أو الممكنة، وأن المدرك العقلي في ذاته لا يضمن لنا أن يكون له مثل ذلك المسمى المحسوس؛ فلك إن شئت أن تكون في رأسك مدركا عن «الغول» أو عن «جبل من ذهب» أو عن «جنية البحر»، لكن مثل هذا المدرك العقلي لا يكون وحده دليلا على أن له مدلولا في عالم الأشياء.
وهذا هو نفسه موقف «كانت» في البرهان الوجودي على وجود الله، وهو البرهان الذي يستنبط وجود الله من المدرك العقلي الذي نتصوره عنه، فكأنما نقول لأنفسنا: بما أننا قادرون على تكوين هذه الفكرة المعينة عن الله، فلا بد أن يكون لهذه الفكرة مدلولها في الخارج؛ وإذن فلا بد أن يكون الله موجودا وجودا فعليا. وهنا يعترض «كانت» بحق قائلا إنه من تصورنا لفكرة معينة عن شيء معين لا يجوز الاستدلال بأن ذلك الشيء موجود وجودا فعليا، وحتى إن فرضنا أن الفكرة التي تصورناها قد بلغت الغاية في الدقة واستكمال شتى العناصر، فسيظل السؤال مع ذلك قائما: هل يوجد أو لا يوجد ذلك الشيء الذي عنه تكونت الفكرة في رءوسنا؟ ذلك لأن «الوجود» ليس صفة كسائر الصفات؛ فحاول - مثلا - أن ترسم في ذهنك صورة لما شئت من كائنات، كأن تتصور «جبلا من ذهب»، وارسم الصورة الذهنية بكل تفصيلاتها، ومع ذلك فلن يكون «الوجود» صفة تضاف إلى تلك التفصيلات كأنها واحدة منها؛ بل يكون معنى «الوجود» هو أن هذه الصورة الذهنية لها ما يقابلها في الخارج، فإذا لم يكن لها ذلك المقابل الخارجي لم تنقص الصورة شيئا من صفاتها ولا من تفصيلاتها. بعبارة أخرى، كون الصورة العقلية التي تصورتها مقابلة أو غير مقابلة لشيء في الخارج لا يؤثر في مضمون الصورة العقلية نقصا أو زيادة؛ فمضمونها ومحتواها هو هو في كلتا الحالتين، وليس هنالك أدنى تناقض بين أن أتصور كائنا معينا تصورا عقليا غاية في الدقة واستيفاء العناصر والصفات، وأن أتصور أن ذلك الكائن نفسه غير موجود؛ وإذن فالعقل الخالص وحده لا يستطيع أن يستنبط الوجود الفعلي لكائن صوره لنفسه مدركا عقليا، ولا سبيل إلى إثبات هذا الوجود الفعلي للكائن الذي تصورنا صفاته سوى الخبرة الحسية. ولا يكفي أن نحلل مضمون المدرك العقلي فنجد عناصره متسقة بعضها مع بعض وخالية من التناقض، لكي نزعم أنه لذلك لا بد أن يكون مشيرا إلى كائن خارجي موجود.
3
جاء القرن التاسع عشر فجرى خلال أعوامه تياران فكريان؛ تيار المثالية من جهة وتيار الوضعية من جهة أخرى؛ الأول يلبي نداء القلب ويشبع الجانب العاطفي من الإنسان، والثاني يحصر نفسه في حدود التجربة وحدها، بحيث لا يجاوز عالم الأشياء العينية التي تدركها الحواس. ولئن كان هذان التياران الفكريان - على بعد ما بينهما من تباين - يستهدفان غاية واحدة، هي الكشف عن حقيقة العالم، إلا أنهما قد نبعا من مصدرين متقابلين وسار كل منهما في اتجاه مضاد لاتجاه الآخر؛ فتيار منهما يقصد إلى غايته هابطا من أعلى إلى أسفل، وتيار آخر يقصد إلى الغاية نفسها صاعدا من أسفل إلى أعلى. أما التيار المثالي فينبع من داخل الفيلسوف ومن ذاته خارجا إلى عالم الأشياء، وأما التيار الوضعي فعلى عكس ذلك، يبدأ الشوط من عالم الأشياء لينتهي إلى باطن الفيلسوف وذاته. الأول ينتهج منهجا ذاتيا، والثاني يصطنع المنهج الموضوعي الذي يبني بناءه بلبنات من حقائق الواقع.
المثالية والوضعية كلتاهما - إبان القرن التاسع عشر - متفقتان على أن يكون هدف البحث هو الحقيقة القائمة، ولا حاجة بهما إلى الحفر وراء هذه الحقيقة القائمة بغية الوصول إلى ما هو كائن في جوفها - كما فعل «كانت» بتحليله للعقل - ولذلك تراهما معا، على ما بينهما من اختلاف في المنهج والوسيلة، ينصرفان إلى البحث في الطبيعة وفي التاريخ، كما تراهما معا يسلمان بأن العالم تطوري سائر إلى أمام، لا سكوني ذو حقائق ثابتة جامدة؛ وإذن فليس صوابا كل الصواب أن يقال عن وضعية القرن التاسع عشر إنها رد فعل للحركة المثالية التي سادت النصف الأول من ذلك القرن؛ لأن الحركتين قد سارتا حينا جنبا إلى جنب، حتى في إنجلترا نفسها التي تنطبع فلسفتها غالبا بطابع التجريبية والواقعية، ولكننا - مع ذلك - نلاحظ أن التفكير الوضعي قد أسرع الخطى حين وهنت قوة التيار المثالي، ولبث الأمر كذلك حتى أوشك أن يكون هو الفلسفة القائمة بلا منازع.
وليس من شك في أن الفلسفة الوضعية - وهي فلسفة تبدأ سيرها من الحقائق الواقعة المحسة - قد وجدت معينا في تقدم العلوم الطبيعية إبان القرن التاسع عشر، تقدما حدا بالإنسان أن يتساءل: أفلا يكون مصير هذا المنهج العلمي الذي يتسع مداه بهذه القفزات السريعة، أن يطرد اتساع رقعته حتى يشمل نواحي الفكر كلها؟ أيجوز لنا أن نجتزئ من مجال الفكر جانبا لنقول إن هذا الجانب لا يخضع ولن يخضع للمنهج العلمي أبد الآبدين؟ وحتى إن ثبت قطعا أن من حياة الإنسان الفكرية ما ليس يخضع للمنهج العلمي، أفلم يحن الحين أن نركز اهتمامنا كله في حدود ما يستطيعه العلم ومنهجه؟ أخذت هذه الأسئلة وأمثالها تساور النفوس إزاء ما قد شهده الناس من تقدم العلوم الطبيعية تقدما يستوقف النظر، ولعل أبرز من تمثلت فيه هذه النزعة هو «أوجيست كونت» (1798-1857م)، الفيلسوف الفرنسي الذي نهض ليؤدي رسالتين؛ أولاهما أن يجعل من العلوم العقلية علوما وضعية، والثانية أن ينسق شتى العلوم بما لها من قوانين ومناهج، وما تتناوله من موضوعات للبحث، في بناء نسقي واحد، كأنما أراد أن يدل ببنائه هذا على أن كل ما لا يقع في حدوده لا يكون من العلم الإنساني في شيء؛ وإذن فقد مضى عصر اللاهوت وانقضى عصر الفلسفة التأملية، وأصبح التفكير الوضعي من علم وفلسفة هو طريق النجاة، وسيكف الناس عاجلا أو آجلا عن إرباك أنفسهم بأسئلة لا تجد لها جوابا في عالم الحقائق الواقعة.
অজানা পৃষ্ঠা