3
هو الذي قام بنفس الدور الذي قام به «برادلي» و«ماكتاجارت» في إنجلترا من حيث اعتناق الهيجلية مذهبا، ونشر ذلك المذهب في طلاب الفلسفة جميعا، حتى أولئك الذين ثاروا بعدئذ عليه.
نعم، اعتنق الطلاب الفلسفة الهيجلية ثم ثاروا عليها كل من ناحيته الخاصة، فجاءت الثورة عليها نوعين؛ فثائرون لم يعجبهم مضمون تلك الفلسفة، لكنهم أبقوا على أسلوبها الذي يجعل من الفلسفة بناء شامخا فيه حساسية بانيها وعلمه الواسع وحكمته النافذة. ومن هؤلاء الثائرين «كروتشي» و«سانتيانا»؛ فهما وإن لم يأخذا «بمطلق» هيجل إلا أنهما ما زالا محتفظين للفلسفة بصورتها التي تقدم نظرة شاملة عن الكون والإنسان. وكذلك يمكن القول عن الوجوديين، كيركجارد ومن تبعوه، في توكيد أهمية الوجود الفردي ضد القول بنسق مجرد يكون الفرد جزءا منه، مثل هيدجر وياسبرز ومارسل وسارتر؛ فهؤلاء جميعا من الثائرين الذين رفضوا مضمون الفلسفة الهيجلية ولكنهم أبقوا على أسلوبها.
4
لكن هنالك ضربا آخر من الثائرين على الفلسفة الهيجلية، الذين لا يكفيهم أن يرفضوا القول ب «المطلق» مضمونا للفلسفة ثم يحتفظوا بأسلوب تلك الفلسفة من حيث طريقة التعبير وطريقة البناء النسقي، بل هم يثورون على المضمون وعلى الأسلوب معا، ومن هؤلاء «رسل» و«مور» و«وتجنشتين» والوضعيين المنطقيين والواقعيين؛ فهؤلاء ينكرون أن تكون مهمة الفلسفة إقامة بناء نسقي يشمل الوجود بكل ما فيه من كائنات ومن علم وفن وأخلاق ودين وسياسة. ولو استثنينا من هؤلاء «رسل» وحده، وجدناهم جميعا ممن لا يتعرضون بعملهم الفلسفي لمشكلات الإنسان في حياته الخاصة والعامة، ومن المشكلات الفكرية الأخرى التي كانت من تقليد الفلسفة أن تتناولها بالبحث؛ لأن هذه كلها من وجهة نظرهم أمور لا تدخل في مجال عملهم الفلسفي الذي يرونه مقتصرا على التحليل المنطقي وحده.
لم يعد فيلسوف هذا العصر يحلم ببناء نسقي يشمل الكون بأسره، لا لأنه حلم بعيد المنال متعذر التحقيق إلا على العباقرة القادرين، بل لأنه حلم وكفى، لا يتعلق به إلا الحالمون الواهمون؛ فالعالم كثرة لا وحدة ، فيه مجموعة من وقائع، ولكل واقعة عبارة تصدق عليها، دون أن يتحتم لشتى العبارات الواصفة للوقائع أن تنصب في نسق استنباطي واحد؛ لأن الوجود نفسه الذي جاءت العبارات لتصف أجزاءه متغير متعدد الجوانب.
تحطم «المطلق»، ضالة الفلسفة المثالية المنشودة، وحل محله مسائل جزئية محدودة، يشتغل الفيلسوف بواحدة منها أو بطائفة قليلة، لكنه في كل حالة يقنع بمسألة واحدة يصب عليها تحليله؛ فليس بين الفلسفات المعاصرة كلها على اختلافها، الوجودية والبرجماتية والواقعية الجديدة والوضعية المنطقية، ليس بين هذه الفلسفات المعاصرة فلسفة واحدة تبحث عن الحقيقة الروحانية الواحدة المطلقة من حدود الزمان والمكان، بل هي جميعا - على عكس ذلك - تبحث في الفرد الواحد، وفي الموقف الجزئي الواحد، وفي الشيء الواحد، وفي الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة.
2
إن من أهم ما جاءت الفلسفة التحليلية المعاصرة لتؤكده، هو أنه ليس في مستطاع العقل الاستنباطي الصرف، الذي يضع لنفسه المقدمات ثم يستدل منها النتائج، أن ينسج من جوفه نسيجا نظريا فإذا هذا النسيج الداخلي يطابق الواقع الطبيعي الخارجي؛ فقد كان ذلك الزعم هو محور الفلسفة الكانتية؛ إذ لم يشك «كانت» في أن العقل بطبيعته يصوغ أحكاما ضرورية يقينية عن الطبيعة، ثم يسأل نفسه بعد ذلك: كيف أمكن ذلك؟ كيف أمكن مثلا - من وجهة نظر كانت - أن تكون الهندسة الإقليدية من نتاج العقل الصرف، ثم تكون في الوقت نفسه مطابقة للمكان الخارجي كما هو كائن في الطبيعة؟ وإنما جاز ل «كانت» أن يسأل سؤالا كهذا لأن العلم كما كان يراه عصره (القرن الثامن عشر) قائم على أسس نيوتن، ومؤداها جميعا هو أن القوانين العلمية مطلقة لا يتوقف صدقها على مكان معين أو زمان معين أو شروط خاصة.
لكن العلم قد تغير في هذه الناحية تغيرا جوهريا إبان القرنين التاسع عشر والعشرين، ولم يعد يقول العلماء عن قوانين العلم إنها مطلقة الصدق رياضية اليقين، بل يقولون إنها نسبية؛ فقوانين علم الطبيعة النيوتوني - كقانون الجاذبية مثلا - إن تكن صادقة على محيطنا الأرضي المحدود، فهي غير صادقة على الأبعاد الفلكية من جهة، ولا على الذرة الصغيرة من جهة أخرى. ولكي نشمل بأحكامنا العلمية هذين الجانبين أيضا فلا مندوحة لنا عن قوانين أخرى غير التي صاغها نيوتن، والتي أقام كانت فلسفته على أساسها. وهذا وحده كاف للدلالة على أن القوانين العلمية إنما تتغير لتقابل الظروف المتغيرة، وليست هي بالمطلقة يمليها العقل الصرف إملاء.
অজানা পৃষ্ঠা