عن رأس بيروت في 2 نيسان سنة 1955
الباب الأول
التقميش
إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها. هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم. فإذا سطت محن الدهر، أو عوادي الزمن، على بعض هذه الآثار، وأزالت معالمها، فقدها التاريخ، وكانت كأنها لم توجد، وبفقدها يجهل التاريخ عصرها ورجالها. أما إذا بقيت، وحفظت، فقد حفظ التاريخ فيها. لهذا يرى المؤرخون لزاما في أعناقهم، قبل كل شيء، أن يتفرغوا للبحث والتفتيش، عن شتى الآثار التي تخلفت عن السلف، والتي اصطلحنا أن نسميها أصولا.
والأصول لدى المؤرخ، هي جميع الآثار التي تخلفت عن السلف، فالرسائل الواردة إلى مجلس محمد علي باشا، والصادرة عنه هي أصول لتاريخ هذه الحقبة من تاريخ العرب، ومجموعة المدافع والأسلحة التي ترجع إلى عهده والتي لا تزال محفوظة في وزارة الحربية في مصر وفي سراي عابدي الملكية، هي أيضا أصول، بعرف المؤرخ واصطلاحه، وكذلك جامعه الشهير القائم اليوم على هضبة المقطم، والذي يطل ويشرف على مدينة القاهرة، وقل الأمر نفسه على عظامه المحفوظة في مثواه في داخل هذا الجامع العظيم، وعن بقايا ألبسته وأدواته الشخصية التي لا تزال محفوظة، لدى أحفاده في سراي عابدين الملكية ، وسائر قصورهم . وما يصح من هذا القبيل على الآثار الشخصية المتخلفة عنه، يصح أيضا على آراء غيره من المعاصرين وآثارهم؛ فتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاش في القاهرة وعاصر عزيز مصر هو أيضا أصل من الأصول، وكذلك كتاب الدكتور كلوت بك الذي استخدم في حكومة الباشا والذي أسس كلية الطب في القصر العيني، وكتاب الدكتور مخايل مشاقة الدمشقي الذي درس الطب في القصر العيني، والذي التحق بخدمة الأمير بشير الثاني، وغيره من الأمراء الشهابيين الذين عاصروا عزيز مصر، ودخلوا تحت حكمه ردحا من الزمن، كل هذه في عرف المؤرخين ضروب من أصول، وهلم جرا.
فإذا صحت القاعدة العامة - وهي صحيحة دون جدال - في أنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ، أقول إذا صحت هذه القاعدة لزم على المؤرخ أن يبدأ عمله دائما بجمع الأصول، وهي لعمري حقيقة أساسية لازمة، عرفها علماء الحديث قرونا عديدة، وعملوا بها قبل أن يدرك فائدتها، وينوه بصحتها، ويحبذ العمل بها المؤرخون الحديثون، إن في أوروبا أو في غيرها من مراكز العلم الحديث.
قال المحدث الشهير أبو حاتم الرازي،
1
من أعيان القرن الثالث: «إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش.»
2
অজানা পৃষ্ঠা