وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمو الروح البريء من الهوى، وتقدم الطريقة العلمية في البحث، وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة، ظل البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة، فيضل ويضلل، ولا يزال رجال الفلسفة، حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر، فيما يقرءون أو ترو في الاستنتاج، وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الاستشارة، فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه!
ولمس بعض أساتذة التاريخ هذا الضعف، وهالهم أمر هذا الشطط، فنبهوا إليه وردعوا عنه، وبين هؤلاء غبريال مونو، فإنه ما فتئ منذ السنة 1876 عندما ظهر العدد الأول من مجلته التاريخية الإفرنسية؛ نقول ما فتئ يردع عن التعميم قبل الإحاطة، وينذر بالخطر الذي ينجم عن تقبل مذهب معين من مذاهب الفلسفة، وكتابة التاريخ على ضوئه، قبل التثبت من الحقائق التاريخية تثبتا مستقلا عن كل رأي فلسفي، وذلك حتى وفاته في السنة 1912، وقال غيره من المؤرخين الأساتذة، بوجوب تربية المؤرخين المبتدئين الصغار تربية علمية واقعية تتفق في جوها وأسلوبها وتربية طلاب العلوم الطبيعية، وأشهر من أقدم على هذا العمل الشاق وأعرقهم شرفا العلامة الألماني الأستاذ الدكتور أرنست برنهايهم . فإنه أعد في الثمانين من القرن الماضي، مؤلفا خاصا لهذه الغاية، أبان فيه الخطوات الصائبة التي يجب على المؤرخ أن يخطوها، والعقبات التي تعترضه، وكيفية تذليلها، والمهالك التي قد يقع فيها، وكيفية تحاشيها، وأردف كلامه فيها كلها بالأمثلة الدقيقة المفصلة. ثم نشر هذا المؤلف الأول مرة في السنة 1889 وأعاد طبعه مرارا، وهو لا يزال حتى يومنا هذا أكمل ما صنف من نوعه، وانبرى بعده المؤرخان الإفرنسيان الكبيران شارل سينيوبوس وشارل لانغلوا، فأصدرا في السنة 1898 مقدمتهما في الأبحاث التاريخية، فجاءت مختصرا دقيقا مفيدا. أما علماء الإنكليز، فإنهم آثروا ولا يزالون التعليم بالأمثلة دون اللجوء إلى كتاب خاص بالقواعد.
ولست أذكر تماما متى بدأ عهدي بهذا العلم؛ ولكني أذكر تماما أني لما عدت من جامعة شيكاغو سنة 1923، وباشرت عملي في جامعة بيروت توليت تدريس علم المثودولوجية فيها، وأول ما عملته أني أخذت أجمع أهم المؤلفات التي تدور حوله. فتوفر لدي عدد منها في اللغات الأجنبية، ولكني لم أعثر على شيء في العربية، فصممت آنئذ أن أتلافى هذا الفراغ، وأكتب شيئا في هذا الموضوع.
ورأيت أن أتريث في الأمر، فأبدأ بتدريس الموضوع بلغة أجنبية، ريثما تتوفر لدي الأمثلة التاريخية المحلية والاصطلاحات الفنية العربية. فاضطررت أن أرجع إلى مصطلح الحديث لسببين: أولهما: الاستعانة باصطلاحات المحدثين، والثاني: ربط ما أضعه لأول مرة في اللغة العربية بما سبق تأليفه في عصور الأئمة المحدثين.
فأكببت على مطالعة كتب المصطلح، وجمعت أكثرها، وكنت كلما ازددت اطلاعا عليها، ازداد ولعي بها وإعجابي بواضعيها، ولا أزال أذكر حادثا وقع لي عام 1936 في دمشق، يوم احتفلت الحكومة السورية بمرور ألف عام على وفاة المتنبي. فإني كنت من جملة الوافدين إلى عاصمة الأمويين والمحتفلين بذكرى شاعر العرب، وأقمت فيها مدة من الزمن، أقلب في أثنائها مخطوطات المكتبة الظاهرية، وما إن بدأت بالعمل حتى أيقنت أني أمام أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم. ففي خزائن هذه المكتبة، عدد لا يستهان به من أمهات المخطوطات في هذا العلم، وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث، ومن أهم ما وجدت فيها، نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض في علم المصطلح، كتبها ابن أخيه سنة 595 للهجرة، وكنت قد قرأت شيئا عنها في بعض رسائل المصطلح. فاستنسختها بالفوتوستات وبدأت في درسها وتفهم معانيها. فإذا هي من أنفس ما صنف في موضوعها، وقد سما بهذا القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم، والتدقيق في عصره، والواقع أنه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ اليوم، أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها، وذلك على الرغم من مرور سبعة قرون عليها. فإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج، تحت عنوان «تحري الرواية والمجيء باللفظ» يضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في كتب الفرنجة في أوروبا وأمريكا، وقد اقتطفنا من كلام القاضي عياض في هذا الموضوع شيئا كثيرا أوردناه في باب تحري النص والمجيء باللفظ في كتابنا هذا.
والواقع أن المثودولوجية الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمت إليه بصلة قوية. فالتاريخ دراية أولا ثم رواية، كما أن الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها، وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوروبا فيما بعد، في بناء علم المثودولوجية، ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين، لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية، حتى أواخر القرن الماضي.
وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا في الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به، من هذا القبيل، نشأ وترعرع في بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه، والعمل بأسسه وقواعده.
وها أنا الآن أضع بين يدي القارئ رسالتين في مصطلح التاريخ، متوخيا خدمة لغتي وبلادي، ومحاولا أن أفتح بابا جديدا لطلاب التاريخ العربي، ينفذون منه إلى مجاهله، ويتوصلون به إلى فهم الروح العلمية الحديثة التي تتجلى في مؤلفات علماء الغرب اليوم. فكأي من قضية في تاريخنا، لا يزال مؤرخونا يخبطون في حلها، خبط عشواء، وكأي من ناحية في حياة القدماء، في العصور السالفة يجهلونها تمام الجهل، وحسبنا أن نذكر أن أكثر مؤرخينا اليوم يزعمون أن كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النص، فقد هيئت لك العدة لكتابة التاريخ، ولقد فات هؤلاء أن التاريخ هو علم أيضا، يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى من طب وهندسة وفقه وغيرها، وأنه لا بد لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كل علم، مما أوردنا في تضاعيف هذا الكتاب، ولعلي أول من حاول أن يربط ما توصل إليه علماؤنا في الحديث بما وضعه علماء الغرب اليوم، في هذا الحقل من العمل.
أسد رستم
عن الشوبر لبنان في 12 أيلول سنة 1939
অজানা পৃষ্ঠা