إن أكبر مظاهر الزعامة الديمقراطية لتتجلى في رغبة الجماعات في العمل معا، ومعرفة وجوه القوة ووجوه الضعف فيها، واكتشاف الميول التي لا تجد سبيلها، والنزعات التي لم تبلغ غايتها، والعمل على توجيه الجهود والقيام ككتلة واحدة تامة الأجزاء مرصوصة البنيان.
ومما يعيب بعض الزعامات أنها قد تروح جنوحا إلى الترفع عن الجماعة واعتزال الصفوف، والتواري بالحجاب عن الجماهير، ومحاولة السمو على الأفراد، وأنها قد تنادي بوجوب التضافر أو التعاون، ولكنه لا يعدو أن يروح تعاونا من جانب واحد وتضافرا يؤدي كل فرد منهم ما يريده الزعيم ويشاطره ويبتغيه، وقد كان تيودور روزفلت أكبر من أدرك وجوب قيام العناصر الديمقراطية في الزعامة فقال: «لقد تعلمت درسا غاليا لا يقوم بثمن ولا يقدر بقيمة، وهو أن ليس من أحد في وسعه أن يؤدي أرفع خدمة للمجموع ما لم يتعاون وصحبه وزملاءه عليه، فإن كلمة «خذ وهات» هي شعار التعاون الصحيح، ووجه التضافر التام الكفيل بأحسن الثمر.»
إن الأسلوب والتنظيم إذن مشتركان اشتراكا فعليا حقيقيا في العمل على إنجاح الزعامة، وتيسير السبل أمامها نحو الفوز المبين، وبلوغ الغاية النهائية الحاسمة ...
أخطار الزعامة والعوامل السيئة التي تتأثر بها
كثيرا ما نقرأ أو نسمع خلقا من الناس في حديثهم عن زعيم أو قائد جماعة أو ذي سلطان يقولون: «لقد ورم رأسه» أو «هو المسرف في تقدير نفسه»، أو أنه عنيف في الحمل على أنصاره وسوق أتباعه، أو هو «لا يستمع إلى نصح ناصح، ولا يستجيب إلى مشورة مشير»، أو «إذا أردت أن تكون ذا قربة منه وحظوة لديه، فأمن على كل كلمة يقولها، وصانعه في كل ما هو صانع»، أو «هو يحاول أن يجعل كل إنسان طائر النفس شعاعا من خيفته»، أو «إذا رأيته غاضبا فلا تقترب منه، والتمس عياذا ونجوة من سورة غضبه»، أو «هو بالنساء أبدا مشغول الخاطر مفتون».
هكذا يقول الناس في أحاديثهم عن زعماء كثر أو قواد أعلام، وهذا بلا ريب بعض ما يذم الزعماء به، فإن هناك ما هو أكثر من هذا وأسوأ قيلا، وكله يدل على أن الزعماء هم أبدا موضع دراسة الناس وملاحظاتهم أكثر مما يتصورونه حاصلا، كما ينم على أن الذين يبلغون مراتب السلطان على الغير قد تتطرق إليهم صفات غرائب عليهم، وتتسلل إلى نفوسهم عوامل سيئة تبديهم في صور شوهاء للأبصار، وتتعرض زعامتهم لأخطار متعددة وآفات كثر وأذى شديد.
وقد يكون الزعيم في إنفاذ سلطانه على الناس مستمدا مكانه ونفوذه من رضاهم التام وبيعتهم الكاملة، وثقتهم الغامرة الشاملة، ومع ذلك نراه مجاوزا كل حدود نفسه إلى الإضرار بسلطانه، وتسوئة مكانه، والإيذاء لأنصاره وأشياعه وأعوانه.
وليس من شك في أن أية لوازم وخواص تجعل الزعيم معنيا بنفسه إلى حد الغلو والسرف والإفراط، ناظرا إلى إرضاء عاطفته وحدها وشخصه ذاته، تصبح خطرا يتهدد زعامته ويوشك أن يفسد صلاته بالذين من دونه، ومثل ذلك أن يكون غير متزن الذهن، أو مريضا ببعض العلل النفيسة، أو معوضا عن مناقص فيه ومعايب بوسائل غرائب، ووجوه شذوذ، أو أساليب مضللة، أو أسير عادات سيئة ولازمات فاسدة؛ فإن ذلك ونحوه من شأنه أن يحيط مكانه في الناس بخطر شديد لا يلبث أن يذهب به وينزعه منه نزعا.
على أن حالات الشذوذ الباثولوجية - الناشئة من بعض العلل والأدواء - هي كقاعدة عامة أقل من حالات الإفراط والغلو في خواص ولوازم اعتيادية تفسد السلوك وتتنكب الطريق السوي، والسبيل القويم، ومن ثم تقيم حواجز وحوائل أمام سلطان الزعيم ونفوذه.
ونحن معالجون في هذا الباب من الكتاب كلتا الناحيتين، متوخين شرح الظواهر الغالبة في ناحية الاضطرابات الخلقية والعلل والمساوئ التي قد تتعرض لها الزعامة أحيانا، فتفسد عليها محلها من النفوس، وتؤثر في مكانها من الجماعات أسوأ الأثر.
অজানা পৃষ্ঠা