ولا مراء في أن الجماعات الكبيرة المنظمة من شأنها أن تمتص وتبتلع وتجتذب، وهي في ذلك كله قوية الأثر، شديدة الامتصاص، رهيبة الجاذبية، ومن ثم قد تنتزع الزعامة المتفردة المطلقة بقوة هذا الامتصاص آخر شيء من النشاط عند الأفراد والتابعين، وتستنفد كل ذرة من قوى الأنصار والمنضوين تحت رايتها، كما قد ينتهي الغلو في التنظيم إلى جعلهم مجرد آلات مسخرة وأجهزة آلية فاقدة الإرادة، ومثل هذا مشاهد في الجماعات الكبيرة التي يقودها هتلر، كما هو ظاهر كل الظهور في النظم الفاشية تحت سلطان الزعيم الإيطالي موسوليني، فإن الرجال والنساء والشباب والشيب مندمجون في هذه النظم اندماجا كليا ينزع منهم كل إرادتهم، ويجردهم من كل استقلال المشيئة وحرية التصرف والسلوك والتفكير.
ولكن الزعيم الحذر الشديد اليقظة غير المجازف ولا المتهور، حري بألا يغلو في بسط سلطانه، خليق بألا يتناهى في إملاء إرادته، حتى لا تكون قيادته قيادة استعباد، ونفوذه نفوذ مستبد طليق الهوى.
وقد رأينا قبل الآن زعماء عدوا من خيرة المنظمين للجماعات، ثم لم يستطيعوا في بعض الأحيان أن يجنبوا أنفسهم الجنوح إلى انتزاع إرادة الناس انتزاعا، والحمل على قواهم بأشد العنف والإجهاد، وقد قيل عن الرئيس «هوفر» إنه كان يتولى كل شيء في الجماعة، وينفرد بكل صغيرة وكبيرة من السلطان حتى لينفرد بالأمر المطلق في تحريك أقل شيء، وتنفيذ أتفه الشئون.
وأخطر ما تنبغي الإشارة إليه بسبيل التنظيم هو حسن اختيار الأكفاء لتوزيع التبعات عليهم، فقد شهدنا زعماء حكماء يحسنون انتقاء الأفراد الذين يعرفون أكثر منهم في النواحي المختلفة من حياة الجماعة ويدركون ماذا ينبغي من العمل، وما يجب من التصرف، أسرع وأتم وأكمل من إدراكهم. والقاعدة التي راضوا أنفسهم في ذلك على اتباعها هي أن يجعلوا صحبهم وزملاءهم كبارا مثلهم ذوي تبعات معينة عليهم، بارزين بجانبهم، ماثلين أمام الشعب بأخطارهم وكفاياتهم ومواهبهم المنوعة.
وقد كان من هذا الطراز من الزعماء سعد زغلول، إذ جعل من دأبه وديدنه توزيع التبعات بين صحبه وأنصاره الكبار، وخلى بينهم وبين مواهبهم يبرزونها في كل ما يسرت له، كما كان يشجع على إبرازها، ويأخذ بأيدي الموهوبين والأكفاء ليصعد بهم إلى القمة، ويعلو بهم إلى الأوج. وكان الوفد المصري هو ثمرة هذا التنظيم النيابي في هيئته، ونتاج هذا التنسيق الحكيم في سائر نواحيه وفروعه، حتى لقد عد الوفد بشهادة خصومه من خير الهيئات السياسية تنظيما، وأمتنها في تدبير الخطط إحكاما، وأروعها في العمل أساليب.
وقد سار خليفة سعد على آثار سلفه؛ فاستطاع أن يبقي الوفد على هذا النظام التقليدي المكين بعنايته البالغة بالروح المعنوي في وسط الجماعة، ويقظته التامة لمطالب التوزيع في المسئوليات، وتقسيم الواجبات، وحسن سير العمل في كل موقف وظرف وحين.
وقد مات بوكر واشنطن فظن خصوم حركته في أمريكا أن عمله قد انتهى بنهايته، والحركة منطفئة بانطفاء سراج حياته، ولكن لشد ما بهتوا وعجبوا أن رأوا ذلك النظام البديع المكتمل قد عمر بعده طوال السنين.
وهذا هو ما كان خصوم الوفد يتوقعونه عقب رحيل سعد من هذه الدنيا، ولكن خاب فألهم، وطاشت أحلامهم، وظل الوفد قائما على شأنه، مستوليا على مكانته، ملتفا حواليه من الأمة التي عرفت كيف تصونه وتحوطه بسياج من الإيمان، وسور منيع من اليقين.
وبفضل التنظيم الداخلي في الجماعة أو الهيئة أو الحزب لا يلبث الزعيم أن يجد نفسه على رأس حشود من أشباهه، وجموع زاخرة يحتذون حذوه ويسيرون على منهاجه، فهو قائم على رأسهم، ولكنه في الواقع موزع فيهم، كثير بينهم، متعدد الصور والأمثال في وسطهم، وإنما نجاح ذلك كله رهن بمجنح الزعيم واستعداده واتجاهه، فإذا ابتغى من هذا جميعا محض مجده الذاتي ومجرد شهرته وغايته، ففي أكثر الأحايين ينتهي الأمر به إلى السقوط والتلاشي والفناء، أما إذا كان هدفه الأوحد منه هو إنجاح قضية ما، أو الفوز بمقصد عام وأمنية قومية، فليس أمامه سوى العمل على تنمية الكفايات من حوله، وادخار القوى المنشئة بجانبه، ولا غناء في سبيل النجاح عن إطلاق اللجم وإرسال الأعنة، والسماح للأفكار الجديدة والمثل العليا أن تعيش وتحيا بفضل احتثاثه وحفزه وتشجيعه.
وأنت فقد تسأل كيف يتسنى للزعيم أن يتعهد الهيئة التي يقودها بالتنمية والتعزيز والتكثير، هل يعمد إلى زيادة عدد أفرادها، والإكثار من أعضائها، وتضخيم حجمها، حتى تتفيل وتتناهى جسامتها البارزة، أم يتولى الإشراف على الكفاية، وتغذية مصادر الإنتاج، والعناية التامة بالعمل والإنشاء والخلق والبناء؟ ونحن مجيبوك بأن الزعيم الطليق المنفرد يفضل الوجه الأول، وأن الزعيم الديمقراطي هو الذي يؤثر السبيل الثانية. وقد رأينا زعيما مثل فرانكلين يأبى قبول مزيد من الأفراد في عضوية حزبه أو ناديه «الجونتو»، على رغم الإقبال على الدخول في حظيرته، مكتفيا بالقدر الذي اندمج فيه، مستغنيا عن الإكثار بترقية الكفايات وحسن القيام على النظام؛ لأنه المعوان الأوحد على النجاح.
অজানা পৃষ্ঠা