وإذا كان الماء يروي أوار الجسم، فإن هذه القبلة إنما تروي أوار النفس، وشتان بين هذا وهذا في مذهب الشعور!
هذه قبلة تتظاهر الحواس كلها على إصابتها وإدراكها، وتتجمع النفس من جميع أقطارها لتشهدها وتلتذ بها، فلا يبقى شيء منها غائبا عنها ولا مخطئا لها؛ حتى لتشعرن بأن هذه النفس تتقطر كلها على وجهه، ولا يبقى منها إلا رمق هو الذي يشعرك ما أنت فيه من اللذة ومن النعيم!
وإنني لأسمع صوت ولدي الصغير في لغوه أو في كلامه أو في ضحكه، فيشيع في من الطرب ما لا يشيع أندى الأصوات، ولا نغم عود في يد أحذق الضاربين! بل إني لأجد منه ما يجد الشجر إذا نزل عليه الماء فاهتز العود وضحك الزهر!
ولقد تخبث نفسي بما يشب فيها من الغيظ والاضطغان، حتى أحسها تكاد تتمزق تمزقا، فما إن أرى ولدي وأنا على هذه الحال إلا رأيتها قد تطامنت وسمحت حتى توشك أن تصير نارها إلى خمود!
وإن أشد الناس جبنا وفرقا ليرى ولده في خطر أو مستهدفا لخطر، فلا تراه إلا ينصب لاستنقاذه انصبابا ما يبالي ما يصيبه، بل ما يبالي أهلك معه أم هلك دونه! •••
وهذا ولدي يمرض، فهذه كبدي تسيل مسالا، وها أنا ذا أجن ولكنني لا أغفل عن المكروه غفلة المجانين، ولا أجد ما يجدون من رضى بحالهم وارتياح، وهذا حسي يضطرب اضطرابا شديدا بين الرحمة والألم، والحنان والخوف، والإشفاق والجزع، وإن وراء هذا كله لشيئا هائلا بشعا يتراءى لي شبحه من بعيد، فأغمض عيني دونه حتى لا أراه ولا أتبينه، بل إني إذا خلوت إلى نفسي لأطلبه وأتفقده، فإذا تمثل لي بكيت حتى استعبرت، فأجد لهذا البكاء راحة مما يغمز على كبدي ويحرق صدري تحريقا، بل إني لأتمنى على الله أن ينقل ما به إلي، فإذا كان ثمة حدث لا بد من أن يجري به القدر، وددت جاهدا مخلصا لو أنني أكون أسبق الاثنين.
وإني لأذكر في هذا المقام أنني احتسبت ولدا لي كان وحيدا، فجن جنوني، وفعل بي الأسى الأفاعيل، وقد انتهى إلى أبي رحمة الله عليه بعض ما أصنع أو بعض ما يصنع الوجد بي، فدعا بي وقال لي: بلغني أن الجزع قد بلغ منك إلى أنك تفعل كيت وكيت، أفلا آثرت الاحتمال وتجملت بالصبر على هذا كما احتملت أنا وكما صبرت؟ فسكت لأنني لم أصب قولا أقوله، فأقبل علي رحمه الله وأخذ يدي كلتيهما في يديه، وقال: اسمع يا ولدي، إذا كنت قد حزنت لموت فلان مرة فلقد حزنت لموته مرتين! فرفعت وجهي إليه وقلت له في شيء من الدعة والرفق يخالطهما كثير من الدهش: وكيف هذا؟ فقال في لوعة شعرت بما يعانى في مجاهدتها: لأنه إذا كان ابنك مرة فإنه ابني مرتين! ورأيت الدمع يترقرق في عينيه ولكنه لا يأذن له في أن يتجاوز المحجرين، ووالله لقد سرى هذا الكلام عني كثيرا إذ قد علمت أنني في هذه المصيبة صاحب أضعف السهمين!
وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الإنسان الأثر الشديد الأثرة، الحريص على الحياة أبلغ الحرص، والكلف بها أشد الكلف، والذي يود لو يمتد عمره إلى ما وراء أعمار الناس جميعا، هذا الإنسان يفرق أشد الفرق من أن يتقدمه إلى الفناء ولده، وإن اللذة كلها والسعادة جميعها لتتمثل له في تصوره أن ولده سيعلله إذا شكا، ويقلبه إذا مرض، ويغمض جفنيه إذا مات، ويسوي عليه التراب بعد أن يفضى به إلى لحده! •••
ثم إنك تسألني: أيكون حظ الأبناء من حب أبيهم واحدا، وأنهم كلهم فيه بمنزلة سواء أم أنه يختلف باختلافهم بالصغر والكبر، والذكورة والأنوثة، فاعلم يا سيدي، أنك على إغراقك في حب أبنائك جميعا، وشمولهم بلون من الحب لا يشركه في مذاقه سواه، فإنك واجد لحب كل منهم كذلك شعورا خاصا لا يشركه فيه غيره ولا يزاحمه عليه سواه، فحبهم أشبه بالجنس عند أصحاب المنطق تحته أنواع، وإنك لتصيب من التفاح ومن الكمثرى ومن العنب والتين وغيرها من ألوان الفاكهة فتلتذها كلها فكلها حلو لذيذ؛ على أن ما تجده لهذا من الطعم غير ما تجده لذاك، ولله شوقي بك رحمة الله عليه حين يقول في وصف الخمر:
حمراء أو صفراء، إن كريمها
অজানা পৃষ্ঠা