كالغيد، كل مليحة بمذاق
والواقع أن الإنسان لو قد حد حسه، وأرهف شعوره، وراح يتدسس في أعماق ضميره ليتفقد حقيقة هذا الاختلاف، ويتعرف وجهه، لرأى أن مادة هذا الحب واحدة وجوهره غير مختلف، ولكن سن كل ولد، وظروفه وأسبابه وجنسه تتناول صورة حبه بالتشكيل والتلوين.
ولقد زعمت لك في بعض هذا الكلام أن حب الولد مزج من عواطف كثيرة أسطعها الرحمة والحنان، فإذا كان الوليد في المهد فإنك لا تكاد تجد له إلا هاتين العاطفتين، فإذا تقدمت به الأيام حتى درج وجعل ينطق ببعض اللفظ ، أضيف إلى هاتين شيء من الأنس به والطرب له، فإذا تقدمت به الأيام فجعل يثب ويلعب، ويقلد في بعض الأقوال، ازداد بك هذا الأنس وهذا الطرب، وأحسست إلى ذلك جديدا، هو أن هذا الغلام يشغل من لهوك صدرا عظيما ما لك منه بد ولا لك عنه غناء، فإذا تقدمت به السنون حتى استوى للتربية والتعليم، دخل على كل أولئك شيء من الإيثار له بإجماله بالطاعة والنجابة وحسن الأدب مع الناس، وشيء من التأميل الرفيق في أن يكون في مستقبل شأنه من الناجحين، وكلما اطردت به السن ربت هذه العاطفة له واشتدت حتى تكاد تغمر سائر ما تجد له من الأحاسيس، فإذا اغترب أو مرض أو أصابه مكروه من المكروه، عادت تانك الخلتان إلى سطوعهما حتى لا يكاد يشعر له إلا بالرحمة والحنان، لأن شأنه في ذلك أولى بالرحمة والحنان!
أرجو أن تكون قد فهمت الآن حق الفهم الوجه في قول ذلك الذي زعم أن أحب بنيه إليه صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ، ولعلك كذلك تكون قد استخرجت من كلامي أن أسطع العناصر في حب البنات إنما هو الرحمة والعطف والإشفاق، لأنهن ضعيفات ما لهن بعراك الأيام يدان. •••
ثم إنك تسألني: أيختلف حب الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الأدب وسوء الخلق، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة، وغير ذلك من الصفات.
لعله قد وقع لك يا سيدي في بعض ما تقرأ جواب ذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: «والله إني لأرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس!»
لقد ترى أن هذا الأعرابي كذب أشد الكذب، لأن القمر على جدار صاحبته كالقمر على جدران سائر الناس، ولقد تراه صادقا أتم الصدق لأنه يرى القمر على جدار صاحبته أحسن منه على جدران سائر الناس، وكذلك الولد فإنك لا تكاد ترى فيهم إلا جميلا، أو على الأقل إنك لا تكاد تلمح عيوبهم سواء أكانت خلقية أم نفسية إلا بعد شيء من التأمل والتفكير، أما ما دمت ترسل النظر فيهم عفوا بلا تعمل، فإنهم عندك أحسن الأولاد، ذلك بأنك إنما تنظر إلى كبدك، أو على الصحيح إنما تنظر إلى نفسك، وأنت خبير بأن المرء قل أن يتفطن إلى عيوبه، ولو قد تفطن إلى شيء منها فإن أمره لا يتعاظمه كما يتعاظمه مثله في غيره من الناس، وكذلك ترى الرجل لا ينكر من بنيه بعض ما ينكر من غيرهم من الأبناء، إذ كان يقدر هؤلاء بالعقل والفكر، أما أولاده فإنما يقدرهم بالعاطفة والهوى، ما يكاد يلابسهما تفكير ولا تدبير.
نعم، لقد يكون في الولد عيب خلقي واضح، ولقد يصاب بالآفة من شأنها أن تثقله عن السعي في الحياة، ولقد يبلغ من انحراف الطبع وفساد الخلق وسوء الأدب أقصى الغايات والعياذ بالله، فإن موقع ذلك من نفس أبيه، وحظه من التقدير عنده، أضعف من قدره في الواقع ومن قدره عند الناس، وإن ذلك ليسوءه بالضرورة، وقد يكدر عليه عيشه، وقد يهيجه ويثير على الولد سخطه، قد يبلغ ذلك به كل هذا، ولكنه لا يحط من حبه لولده وإيثاره له على أي حال، بل إن ذلك منه لدليل على هذا الحب والإيثار، فما ساءه ولا كدر عيشه ولا أحنقه ولا أسخطه إلا الرحمة له، والشفقة به، والأسى على أنه لم يكن من أسعد الناس أو أنه لا يكون أسعد الناس.
بل إن الوالد لقد يتمنى الموت لولده في بعض الحين، لا بغضا له ولا اضطغانا عليه، ولكن رحمة به وشفقة مما يجني عليه سوء أخلاقه، حيث لا رجاء فيه لخير ولا لصلاح؛ فشأنه في هذا شأن من تضرب العلة أعز الناس عنده وأكرمهم عليه، العلة المعنية الشديدة الإلحاح بآلامها وبرحها، والتي لا يعرف الطب لها شفاء، ولا منها نجاء، وإنه ليتعجل له الموت رقة له وإيثارا له بالاستراحة مما يعاني من هذا العذاب الشديد، على حين أنه أشد الناس لموته جزعا، وأعظمهم منه ورعا وإشفاقا! •••
وأخيرا أراك تسألني: كيف يستقيم الجمع بين حب الولد إلى هذا الحد وتمني أكثر الناس لو لم يكن الولد بعد أن قد كان؟
অজানা পৃষ্ঠা