ثم تقدم استجواب من المرحوم الأستاذ يوسف الجندي عن المعتقلين السياسيين، وبعد وفاته تمسكت بهذا الاستجواب، وبدأ المجلس بنظره بجلسة 20 يناير سنة 1942 في أواخر عهد وزارة سري باشا، وأخذت في شرحه. ثم استقالت الوزارة وخلفتها الوزارة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا في فبراير سنة 1942، واستمر اعتقال المعتقلين، وزاد عليهم معتقلون آخرون.
وفي 7 أبريل سنة 1942 جددت الاستجواب بتوجيهه إلى رئيس الوزارة الوفدية ونظر بجلسة 20 مايو سنة 1942.
وقد استغرق شرحي للاستجواب خمس صحائف كاملة من مضابط المجلس المطبوعة، وأخذت على حكومة الوفد إبقاءها المعتقلين السياسيين، وزدت عليهم من اعتقلتهم هي، وفي مقدمتهم علي ماهر باشا، وقلت إن الاعتقال السياسي في عهد حكومة الوفد قد حصلت له مضاعفات شديدة تدعو للأسف.
وكان المجلس قبل أن أشرح هذا الاستجواب قد نظر بجلسة سابقة استجواب الأستاذ مصطفى الشوربجي بك عن اعتقال علي باشا ماهر، وقرر المجلس بعد مناقشته «الانتقال إلى جدول الأعمال»، ولاحظ لي بعض الأعضاء من أنصار الحكومة قبل انعقاد الجلسة أن هذا القرار له حجته في استجوابي. فناشدت أعضاء المجلس أن ينظروا في استجوابي غير متأثرين بقرارهم السابق، وقلت في هذا الصدد ما يأتي: «إني أرجو من حضراتكم ألا تعتبروا القرار الذي صدر فيما يتعلق بالحصانة له أثره في استجوابي؛ لأن القرار الذي صدر من المجلس في شأن رفعة علي ماهر باشا إنما هو قرار بالانتقال إلى جدول الأعمال، فليس قرارا موضوعيا ولا مسببا، وإنما هو قرار سلبي بالانتقال من المسألة الفلانية إلى المسألة الفلانية، وهذا لا يمكن أن يؤثر في رأي حضراتكم فيما لو عرضت عليكم مسألة تشبه هذه المسألة عن قرب أو عن بعد.
ومع ذلك، يا حضرات الزملاء، فإن المبادئ السامية التي قررت حقوق الإنسان، ومنها الحرية الشخصية، ووضعت بذلك الحجر الأساسي للحضارة البشرية وللمجتمع الإنساني، لم تتقرر دفعة واحدة في المجالس التشريعية في مختلف العصور والبلدان، بل احتاجت إلى أخذ ورد طويلين، وشد وجذب، ومد وجزر، حتى استقرت آخر الأمر على أساس مكين، وإن مضابط هذه المجالس التشريعية لتفيض بشتى القرارات والبحوث، بعضها غامض مبهم، وبعضها صريح فصيح. وكانت هذه المبادئ في حاجة إلى هذا التطور حتى وضعت في نصابها، فلا يضيرنا أبدا أن تعرض هذه المسائل مرة بعد مرة لأن هذه المبادئ التي استنفدت قرائح العلماء والفلاسفة والمشرعين، والسياسيين والمجاهدين ، استنفدت قرائحهم وجهودهم على توالي السنين، جديرة بأن يعاد فيها النظر المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة، حتى تبرز في حقيقتها الرائعة، وفي حلتها الساطعة، مقررة حقوق الإنسان.
فهذه المبادئ، يا حضرات الزملاء، جديرة بأن تعيدوا النظر فيها حينا بعد حين، وآنا بعد آن، وفي كل ظرف، وفي كل مناسبة، ولا يحول دون ذلك قرار سابق أو لاحق، هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم وعنايتكم، حتى يمكن أن تبرز جلية واضحة وأن توضع في نصابها الصحيح، وحتى يتقرر فيها حقا أن حرية الفرد مكفولة بحكم الدستور وحكم المبادئ السامية.
هذه المبادئ جديرة بأن تحبوها بتأييدكم وعنايتكم، وأنتم جديرون بذلك؛ ومن أجدر منكم بذلك يا شيوخ الأمة، يا حماة الحق، وحماة الدستور، وحماة الحرية؟!
فلا يؤثر إذن في موضوع الاستجواب القرار الذي صدر منكم، وهو قرار محترم، ولكنه ليس قرارا صادرا في الموضع، ولا في الموضوع الذي صدر فيه، ولا يؤثر في الموضوع المعروض الليلة عليكم، ومع ذلك فإن ميزة هذه القاعة الكبرى أنها تنشد الحقيقة في كل مسألة تعرض عليها وتنشد المثل العليا، فإذا ما عرضت عليها مسألة وجب أن ينظر فيها كأنها مسألة جديدة جديرة بأن ينظر فيها بعين العدل والإنصاف والدستور. فاسمحوا لي إذن، يا حضرات الزملاء، أن أعرض على حضراتكم وجهة نظري في أن الأحكام العرفية لا تؤثر مطلقا في حقوق الأفراد التي قررها الدستور، وأن السلطة العسكرية لا تملك القبض على الأشخاص إلا في الحدود الواردة في قانون تحقيق الجنايات.»
ثم شرحت للمجلس وجهة نظري في مدى سلطة الحكومة في الاعتقال، وخلاصتها أن الدستور؛ إذ أجاز تعطيل حكم من أحكامه في أثناء قيام الأحكام العرفية قد اشترط أن يكون ذلك على الوجه المبين في القانون وهو قانون الأحكام العرفية الذي صدر في 26 يونيو سنة 1923؛ أي في أعقاب الدستور. وهذا القانون حدد الأحكام العرفية التي يصح فيها تعطيل حكم من أحكام الدستور، وهي التي تعلن كلما تعرض الأمن أو النظام العام في مصر أو في أي جهة منها للخطر سواء كان ذلك بسبب إغارة قوات العدو المسلحة أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية. أما الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 فقد كان إعلانها بناء على طلب الحكومة البريطانية تنفيذا لمعاهدة سنة 1936 كما هو ثابت من الوثائق الرسمية. فليست هذه هي الحالة التي عناها الشارع في قانون الأحكام العرفية؛ ومن ثم تظل حصانة الأفراد في ظلها قائمة ولا يجوز المساس بها إلا في حدود قانون تحقيق الجنايات.
وهنا قال صبري أبو علم باشا (وزير العدل وقتئذ) إن المعاهدة قد أبرمت بقانون، فأجبت بأن لي رأيا آخر وهو أن المعاهدة شيء والقانون شيء آخر، والمعاهدة ليست قانونا. وتابعت شرح وجهة نظري في أن الأحكام العرفية التي أعلنت في سبتمبر سنة 1939 بناء على طلب الحليفة ليست من النوع الذي يجوز فيه إهدار حصانة الأفراد؛ لأن هناك نوعين من الأحكام العرفية: نوع يقصده الدستور في المادة «155» وهو الموضح في قانون سنة 1923، ونوع آخر تولد عن التزام في معاهدة سنة 1936، فما كان الدستور وهو يوضع في سنة 1923 يتنبأ بأحكام عرفية ستعلن طبقا لمعاهدة أبرمت في سنة 1936؛ أي بعد ثلاث عشرة سنة من صدور الدستور.
অজানা পৃষ্ঠা