ظهر الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية في يناير سنة 1929، فاستقبلته الصحف استقبالا طيبا، وكتب عنه بعضها مقالات قيمة، واكتفى بعضها بكتابات عابرة بمثابة «تسديد للخانات». وكان طبعه قد كلفني مبلغا لا يستهان به، أنفقته من إيرادي من المحاماة. وكانت طريقتي في توزيع كتبي الأولى أن أختزن عندي ما أطبع من كل كتاب، وتطلب مني المكاتب الكميات التي تريدها لتبيعها للجمهور وتدفع لي ثمن هذه الكميات مقدما بعد خصم 25٪ من ثمنها، وبعض المكاتب كان لا يدفع الثمن مقدما بل يؤجله حتى يتم توزيع الكتب. وقد لاحظت أن طلبات المكاتب قليلة، والكميات التي تطلبها ضئيلة، والوارد منها من الثمن هزيل، وكان يدفع على مرات متقطعة بحيث لا يحس الإنسان بقيمتها - على تفاهتها.
وقد قالوا لي إن وزارة المعارف تقتني لمكتباتها في المدارس نسخا من كل كتاب مفيد لتثقيف الطلبة وأن علي أن أعرض عليها ما يظهر من كتبي، فعرضت عليها فعلا كل ما كان يصدر منها، فكانت بعض الفحص عن كل كتاب تطلب النزر اليسير منه، وكان العدد الذي طلبته من الأجزاء الأولى لم يتجاوز 240 نسخة من كل كتاب زادتها في الأجزاء اللاحقة إلى 375 نسخة، وكانت تدفع ثمنها مخصوما منه كذا في المائة مما يتم الاتفاق عليه بينها وبين المؤلف؛ وهذه كلها مظاهر لتثبيط العزائم.
ومثل هذا التثبيط لا يمكن أن يشجع على التأليف، بل فيه ما فيه من خذلان للنهضة العلمية، ولكني كما أسلفت كنت أؤدي رسالة حملت نفسي إياها. فعلى الرغم من الكساد الذي صادفه الجزء الأول ثم الذي تلاه، تابعت إخراج الحلقات التالية، وكان لي من إيرادي من المحاماة ما عاونني على سد العجز في النفقات، ومعنى ذلك أنه لولا هذا المورد لانصرفت عن متابعة إخراج هذه المجموعة مع ضرورتها الثقافية والتاريخية والوطنية.
استقبلت الصحافة كل ما أخرجته من الكتب استقبالا حسنا، وإني معترف بفضلها علي في هذه الناحية، وقد نوهت إلى هذا الفضل في مقدمة الجزء الثاني. ومن الحق أن ألاحظ أن الصحف فيما مضى كانت أكثر عناية منها الآن بالمؤلفات عامة؛ فكثيرا ما كانت تنشر الفصول الضافية عن كتبي، وفي أغلب الأحيان كانت تنقل مقدماتها، والمقدمة كما تعلم هي خير إعلان عن الكتاب، أما الآن فالصحف تقتصر على كلمة عابرة تنشرها من قبيل «جبر الخاطر» للمؤلف الذي قد يقضي السنين في وضع كتابه، وما بهذه الطريقة يشجع التأليف وتشجع الحركة الفكرية والعلمية في البلاد.
وبالرغم من أني تابعت إصدار الأجزاء الأولى من هذه المجموعة، بحيث لم يكن ينقضي عام حتى يصدر جزء منها، ومع أن كل جزء كان يجر القطار الواقف خلفه من الأجزاء السابقة، ومع حسن استقبال الصحف لكل جزء منها؛ فإن الركود كان حليفها. لقد قيل لي إني لم أعلن عنها الإعلان الكافي، وأظن أني لو أنفقت ما أنفقت في سبيل الإعلان فإن النتيجة ما كانت تتغير كثيرا. وأعتقد أن أهم سبب لهذا الركود هو ضعف الميل إلى القراءة المجدية بين الطبقة المثقفة في بلادنا، وقلة اكتراثها بتعرف تاريخ بلادها، فربما يعرف بعضهم عن تاريخ الأمم الأخرى أكثر مما يعرفون عن تاريخ أمتهم ...
انقضت السنوات والأجزاء الأولى بطيئة الحركة وإيرادها لا يغطي مصاريفها، على أني لم ألق بالي كثيرا إلى هذه الناحية لأني عددتها «تضحية» يجب أن أتحملها. ألسنا نخرج صحفا قد لا تلقى الرواج والانتشار ومع ذلك نثابر على إخراجها مع ما يكتنفها من الخسائر حتى نعجز عن إصدارها؟ وأنا والحمد لله لم أعجز عن متابعة إصدار هذه المجموعة، فمضيت في سبيل إخراجها حلقة بعد أخرى.
ولما أخذت في تأليف كتابي عن «عصر إسماعيل» نصحني ذلك الصديق المخلص أن أسلك فيه سبيلا جديدا قد يكون أدعى لرواج كتبي، وقال لي يوما: ها أنت قد أخرجت ثلاثة مجلدات في تاريخ مصر الحديث، فأرخت عهد الحملة الفرنسية، وما بعد الحملة، وعصر محمد علي، والآن يجيء دور خلفاء محمد علي، وستصل طبعا إلى عصر إسماعيل، فبأي روح ستكتب عن الخديو إسماعيل بالذات؟ فقلت له: إني سأكتب عنه بنفس الروح التي استلهمتها في كتبي السابقة واللاحقة، وسأذكر ما له وما عليه. وكان يعلم آرائي عنه. فقال لي: لا تكن غبيا، ويلزمك أن تراعي الظروف، ولاحظ أنك ستخرج كتابك عن إسماعيل في وقت يجلس على عرش مصر ابن إسماعيل (المغفور له الملك فؤاد)، أفلا تفهم ذلك؟ إنك تعلم أن الملك يهتم كثيرا بإحياء تاريخ والده، ويوحي بإخراج كتب عنه في تمجيده، وينفق في سبيل ذلك أموالا كثيرة؛ لأن جمع الوثائق ونقلها من مصادرها الأصلية وإخراج الكتب، كل ذلك يحتاج إلى نفقات طائلة، ولقد أخبرتني (وحقا قد أخبرته بذلك) أنه أبدى نحوك شعورا طيبا وثناء على مواقفك في مجلس النواب الأول، ولا شك أن وثائق السراي الملكية من أهم المراجع عن عصر إسماعيل بالذات؛ لأن جلالة الملك عني بجمع هذه الوثائق وأمر بتنسيقها وترتيبها، فأرى أن تتصل بصديقك محمد زكي الإبراشي باشا (ناظر الخاصة الملكية، وكان بيني وبينه ود قديم متصل) لكي تراجع وثائق السراي الخاصة بعصر إسماعيل، ولكي يمدوك بالمعلومات التي تطلبها عن حكمه، ولا شك أنك ستجد من كل ذلك مادة غزيرة لكتابك الذي أراك تضعه الآن (1931) عن هذا العصر.
ومع أن النصيحة صادرة عن صديق أثق في إخلاصه؛ فإني لم أعمل بها؛ لأني وجدت أنني إذا أحكمت الصلة بيني وبين هذه الجهات العليا، وأكثرت من التردد على مكتبة القصر الملكي، فقد لا يكون من الذوق بعد ذلك أن أكتب عن أخطاء إسماعيل - وكان المراد تغطيتها - وقلت لصديقي إني مع تقديري لنصحه فإن دراستي الخاصة والمراجع التي طالعتها عن عصر إسماعيل كافية لأؤرخه تأريخا واضحا صحيحا، أما الوثائق الجديدة فمع أهميتها لا يمكن أن تغير من الخطوط الرئيسية للتاريخ، إنها ولا شك قد تفيد في معرفة بعض التفاصيل والملابسات، ولكن الحوادث في ذاتها والحقائق الجوهرية التي هي عماد التاريخ تبرز من خلال المراجع العديدة التي درستها عن هذا العصر.
وقد وجد صديقي ألا فائدة ترجى من إقناعي بنصيحته، فتركني أمضي في سبيلي. (12) الوزارة وكتاب عصر إسماعيل
ولما ظهر الكتاب تبين لي عدم الرضا عنه من امتناع وزارة المعارف عام 1933 عن أن تقتني منه النزر اليسير الذي كانت تشتريه لمكتباتها من الأجزاء السابقة، وأرسلت لي خطابا بتاريخ 18 أبريل سنة 1933 تنبئني فيه بأن بالكتاب مآخذ تحول دون إيداعه مكتبات مدارس الوزارة، وأرسلت طي خطابها صورة من تقرير ما أسمته «لجنة فحص الكتب التاريخية لمكتبات المدارس» وفيه تعداد لهذه المآخذ المزعومة، وقوامها أني تحاملت على الخديو إسماعيل، وهاك نص الخطاب والتقرير:
অজানা পৃষ্ঠা