أصدرت هذا الكتاب في ديسمبر سنة 1930، وهو الحلقة الثالثة من هذه المجموعة، وقد اقتضى مني جهدا أكبر من الجهد الذي بذلته في إخراج الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية، لأهمية العصر الذي تولى فيه محمد علي الكبير حكم مصر، وطول مدته، وعظم وقائعه ومنشآته، ونتائجه وآثاره الضخمة في حياة مصر السياسية والقومية. وكانت المراجع فيه أوسع مدى وأكثر عددا من مراجع الحملة الفرنسية، يضاف إليها الدوريات والوثائق التي لا بد من الرجوع إليها. وقد جعلت عصر محمد علي دورا من أدوار الحركة القومية؛ إذ إن الحركة القومية كما عنيتها وجعلتها أساس البحث والتدوين هي «الجهود التي بذلتها الأمة في سبيل تحرير مصر من النير الأجنبي وفك قيود الاستبداد عنها وتقرير حقوق الشعب السياسية، هي التضحيات التي قدمتها والآلام التي احتملتها في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة.» وقلت تعقيبا على هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب: «على هذا الاعتبار يجب أن نعد عصر محمد علي صحيفة مجيدة من صحائف الحركة القومية، ففيه نشأت الدولة المصرية الحديثة، وفيه تحقق الاستقلال القومي وشيدت الدعائم الكفيلة بالقيام به، فيه تأسس الجيش المصري والأسطول المصري والثقافة المصرية، وفيه وضعت أسس النهضة العلمية والاقتصادية في البلاد؛ فهو عصر استقلال وحضارة وعمران.»
وقد أبرزت فضل الشعب وفضل محمد علي معا في تحقيق استقلال مصر ونهوضها في مختلف النواحي، وعنيت بتمجيد روح البذل والتضحية في الجيل الذي عاش في عصره، وقلت في هذا الصدد: «إن استقلال مصر كان ثمرة الحروب التي خاضت غمارها في عصر محمد علي، تلك الحروب التي بذلت فيها الأمة أرواح عشرات الآلاف من زهرة أبنائها، من أولئك الأبطال المجهولين الذين جاهدوا واستشهدوا في ميادين القتال وسقوا أديم الأرض بدمائهم في ربوع مصر والسودان، وفي صحاري جزيرة العرب، وجبال كريت والمورة، وبطاح سورية والأناضول، وفي قاع اليم بمياه اليونان، أو على سواحل مصر والشام. فلا جرم أن كان الجيل الذي عاش في عصر محمد علي هو أكثر الأجيال عملا وتضحية في سبيل تكوين مصر المستقلة؛ فعلى أكتافه وبجهوده وضحاياه قام صرح الاستقلال عالي الذرى، وهو الذي نهض بالأعمال الأولى لحضارة مصر وعمرانها، فشق الترع، وأقام القناطر والجسور، وشاد المدارس والمعاهد، وبنى العمائر والدواوين والقصور، وأنشأ الموانئ ودور الصناعة (الترسانات)، واستحدث المعامل، وشيد القلاع والاستحكامات، وبذل في سبيل تلك المنشآت راحته وحياته. ويكفيه فضلا في ميدان التضحية أنه أنشأها وبناها عاملا على السخرة دون أن ينال على جهوده أجرا ولا جزاء ولا شكورا، وأن عشرات الآلاف من بنيه قد ماتوا تحت أعباء المجهودات المضنية التي احتملوها في سبيل إتمام تلك الأعمال المجيدة. فإذا قارنت بين جهود ذلك الجيل وتضحياته وما بذلته الأجيال المتعاقبة من بعده إلى اليوم، حكمت من غير تردد أنه أكثر الأجيال بذلا ومساهمة في أعباء الجهاد القومي وأكثرها تضحية بالنفس والروح والمال في سبيل استقلال مصر وعمرانها، فهو جدير بأن تنحني الأجيال المصرية احتراما لذكراه، وتقديرا لفضله؛ لأنه عمل لها جميعا، وبذل راحته ودمه وحياته، واحتمل ما احتمل من جهد وحرمان ليعبد لها الطريق كي تجني ثمار جهوده وتضحياته وآلامه. والحقيقة البارزة التي تخلص لك من إنعام النظر في تاريخه أن عبقرية محمد علي يرجع إليها الفضل الكبير في تنظيم ذلك الجهاد واستثماره وتوجيهه إلى خير مصر وعظمتها، كما أن مواهب الأمة المصرية وحسن استعدادها للتقدم وماضيها في الحياة القومية، كل أولئك كان مادة الاستجابة لدعوة محمد علي، ومن جميعها تكون الفلك النوراني لتلك النهضة التي سطعت شمسها في عصره. فلو أنه تولى الحكم في بلد آخر من بلدان السلطنة العثمانية وقتئذ لدفنت فيه عبقريته، ولما استطاع أن يشيد ذلك الملك الضخم، ولا أن ينهض بتلك المشروعات والأعمال الجليلة، ولكانت نهايته لا تختلف كثيرا عن خاتمة الباشوات الذين شقوا عصا الطاعة على السلطنة العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر وخلال التاسع عشر. ولكن تأييد الشعب له ومناصرته إياه عند اشتداد الأزمات، كان لها الفضل الأكبر في ثبات ملكه وتغلبه على الدسائس والعقبات التي اعترضته في طريقه. وحسبك تبيانا لهذه الحقيقة أن تلقي نظرة على مباحث هذا الجزء (الكتاب) وأن ترجع إلى الفصول التي أفردناها للكلام عن الجيش والأسطول وأعمال العمران، تجد أن على سواعد المصريين قد قام ذلك الملك العريض وتمت تلك المنشآت العظيمة، وأن محمد علي لم يستطع إنشاء الجيش النظامي من العناصر غير المصرية التي كانت تتألف منها القوة الحربية في أوائل حكمه لما فطرت عليه من التمرد والفوضى، ولم يوفق إلى تأسيس ذلك الجيش الذي تفخر به مصر في تاريخها الحديث إلا بعد أن ألفه من صميم المصريين.» (4) عصر إسماعيل
في ديسمبر سنة 1932 أخرجت كتاب «عصر إسماعيل» ويشتمل على تاريخ مصر القومي في عهد خلفاء محمد علي، وهو في جزأين، يحتوي الأول على عهد عباس وسعيد وأوائل عهد إسماعيل، ويتضمن الثاني ختام الكلام عن عهد إسماعيل، وقد أسميت الكتاب «عصر إسماعيل» تغليبا للجزء الأهم في هذه الفترة من تاريخ مصر الحديث.
بدأت بهذا الكتاب أدخل في العصر الذي يشعر فيه من كان في موقفي بشيء من الحرج في الكتابة عنه؛ فقد وضعته وأخرجته في الوقت الذي كان المغفور له الملك فؤاد نجل إسماعيل في أوج مجده وسلطانه، وكنت أعلم مبلغ اهتمامه بتمجيد تاريخ والده والتعظيم من شأنه. وبتوجيهه ومساعداته السخية صدرت عدة مؤلفات ترمي كلها إلى إبراز الجوانب الحسنة من شخصية الخديو إسماعيل، وأنا أعرف هذه الجوانب الحسنة، وقد ذكرتها بإسهاب في كتابي عنه، ولكني أيضا أعرف أن لإسماعيل جوانب سيئة كان لها أثرها الضار في حياة مصر السياسية والاقتصادية، ولا بد من تدوينها. وبعد أن فكرت في ذلك مليا وجدتني مدفوعا من تلقاء نفسي إلى أن واجبي كمؤرخ للحركة القومية يقتضي مني أن أدون الحقائق كلها عن الخديو إسماعيل وأذكر ما له وما عليه، وهذا في الواقع هو منهجي في التراجم والشخصيات، وأنا بطبعي ميال إلى الاعتدال، ولا أحب التشنيع في ذكر السيئات، ولكن لا يصح أن أغفلها أو أتجاوز عنها، لأني أنشد الحق والإنصاف فيما أقول وأكتب، وأود ألا أظلم أحدا، ولا أرضى لنفسي أيضا أن أحابي أحدا بغير الحق. وقد وضعت لنفسي هذه القاعدة في سلسلة هذه المجموعة، واتبعتها قدر ما استطعت في كل حلقة من حلقاتها، وعلى هذا الأساس وضعت كتاب عصر إسماعيل. (5) الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي
أخرجت كتاب «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» في فبراير سنة 1937، وقد أخذ مني جهدا كبيرا في تأليفه؛ إذ لم يكن قد صدر من قبل كتاب مجتمع عن هذه الثورة، والحديث عنها مبعثر في شتى المراجع والمجاميع والمذكرات، والآراء عنها متباينة متضاربة، وأشرت إلى هذا التضارب في مقدمة الكتاب. وقد قضيت نحو أربع سنوات في تأليفه، واقتضاني التحري عن حقائقه أن أرجع إلى المذكرات المخطوطة لعرابي باشا وكانت محفوظة في دار الكتب، وإلى كل ما كتبه أو قاله زملاؤه ومعاصروه ممن اشتركوا في الثورة أو ساهموا فيها أو أدركوا عصرها، كمحمود باشا فهمي في كتابه «البحر الزاخر»، ومذكرات الشيخ محمد عبده، وما كتبه المستر بلنت، ورجعت أيضا إلى مضابط مجلس النواب في الوقائع الرسمية وفي أصولها المحفوظة في مكتبة البرلمان، وإلى جميع الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ذلك الحين، ومحاضر التحقيق، ومحاضر محاكمة العرابيين وفيها كثير من أقوالهم التي تلقي ضوءا على حوادث ذلك العصر، هذا عدا المراجع الفرنسية والإنجليزية من مؤلفات وصحف ومجلات مصورة وغير مصورة، مما كان يصدر في عهد الثورة. وجملة القول أني عانيت من الجهد في إخراج هذا الكتاب أكثر مما عانيت في الجزأين الأول والثاني من تاريخ الحركة القومية وعصر محمد علي؛ إذ كان الموضوع في كل منها متشعبا، والطريق فيها غير سهل ولا معبد. (6) مصر والسودان
في يونيو سنة 1942 في إبان الحرب العالمية الأخيرة نشرت كتاب «مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال»، أرخت فيه العشر السنوات الأولى للاحتلال، وهي الفترة التي رسخت فيها أقدام الإنجليز في البلاد وخيم اليأس على نفوس الأمة بعد هزيمة الثورة العرابية، وقد أسميتها فترة الانحلال الوطني الذي أعقب الاحتلال، وكان لا بد أن أؤرخ هذه الفترة قبل فترة البعث التي جاءت على يد مصطفى كامل.
وهذا الكتاب وإن كان يسبق من جهة التحديد الزمني كتاب «مصطفى كامل» وكتاب «محمد فريد» لكني أخرجته بعد هذين الكتابين؛ إذ رأيتني قد أبطأت في إخراجهما لاشتغالي بالحلقات الأولى من تاريخ الحركة القومية، فآثرت أن أؤجل إصدار كتاب مصر والسودان حتى أنتهي من إخراجهما. (7) مصطفى كامل
ظهر هذا الكتاب في يناير سنة 1939، وهو إلى جانب تاريخ الزعيم يشتمل على تاريخ مصر القومي من سنة 1892 إلى سنة 1908. وقد حرصت على أن يكون حلقة من سلسلة التاريخ القومي فلم أكتبه كما يكتب التلميذ عن أستاذه فحسب، بل سلكت في وضعه المنهج العلمي في كتابة التاريخ، وهو المنهج الذي اتبعته في حلقات هذه المجموعة، وخصصت فيه عدة فصول عن حوادث مصر السياسية في تلك الحقبة من الزمن، بحيث يرجع إليه كل من يريد أن يقف على تاريخها بصرف النظر عن ميوله السياسية. وأحسبني قد أصبت في اتباع هذا المنهج في كتبي؛ فإني لم أجعل منها دعاية سياسية أو حزبية، بل قصدت أن تكون مرجعا لمن يريد أن يعرف تاريخ مصر المعاصر. على أن الروح الوطنية، لا الروح الحزبية، تتمشى في فصول الكتاب وفي غيره من الحلقات، وهذه الروح قد استلهمتها من دراسة التاريخ، وأعتقد أن هذا هو واجب المؤرخ في كل أمة؛ فالتاريخ ليس مجرد سرد للوقائع وتدوين لحوادث السنين سنة فسنة، ولو هو اقتصر على ذلك لكان علما جامدا لا أثر له في توسيع الأفق الذهني وارتقاء المدارك واستنارة البصائر، بل التاريخ هو إبراز وتصوير لتطور ذلك الكائن الحي ألا وهو الشعب واطراد نموه وتقدمه على تعاقب السنين والأجيال؛ فالشعب الذي يريد الحياة يجب أن يعرف ماضيه معرفة تامة لكي يفهم حاضره على ضوء هذا الماضي، ويستنير بعظاته ودروسه، ويعرف أمجاده فيحافظ عليها ويرعاها، ويعرف أيضا أخطاءه وعيوبه وعثراته فيتجنبها ويتلافاها. وقد اغتبطت كثيرا لإظهار كتاب «مصطفى كامل»؛ إذ أتيح لي أن أطالع الجيل بتاريخ حقبة هامة من البعث القومي الذي ظهر كرد فعل للاحتلال الأجنبي.
الزعيم مصطفى كامل:
من كان لي أبا روحيا، وسأبقى له تلميذا وفيا. (8) محمد فريد
অজানা পৃষ্ঠা