وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... يخضع الرقاب نواكس الأبصار
وقوله: ليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا احتجب يطلع على ما غاب من أحوال الناس فلا يخفى عنه شيء فكأنه غير محتجب.
والثاني: أنه إذا احتجب لا يمكنه ذلك، لأن نور وجهه ينم عليه ويخرق الحجاب إليه. وهي كقوله:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
والثالث: أراد أنه ليس بشديد الاحتجاب، فمن أراد الدخول عليه لا يصعب عليه رؤيته، وإن كان محتجبًا؛ لتواضعه.
بياض وجهٍ يريك الشمس حالكةً ... ودر لفظٍ يريك الدر مخشلبا
المخشلب الرديء من الدر، وقيل هو الخرز الأبيض الذي يشبه اللؤلؤ. ليس بعربي؛ لكنه. استعمله على ما جرت به عادة العامة في الاستعمال واسمه في اللغة الخضض.
يقول: لو قست الشمس إلى بياض وجهه، لرأيتها سوداء حالكة! ولو قست لفظه بالدر كان بالنسبة إليه كالرديء الذي لا قيمة له! ووصفه بغاية الحسن والفصاحة.
وسيف عزمٍ ترد السيف هبته ... رطب الغزار من التامور مختضبا
هبة السيف: حركته. وغرار السيف: ما بين حده إلى وسطه. والتامور: دم القلب.
قيل في معناه وجهان: أحدهما يقول: إن له سيف عزم متى تحرك كان أمضى من السيف، الذي هو رطب الغرار من دم القلب. والثاني: أراد أنه متى تحرك عزمه خضب سيفه من دم قلب عدوه، فكأن سيفه لا يقتل إلا عند إمضاء عزمه فيهم.
عمر العدو إذا لاقاه في رهجٍ ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
قوله: إذا وهب قال ابن جنى: يعني أنه إذا أراد أن يهب؛ لأنه إذا وهب الشيء فليس يملكه كقوله جل وعلا: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ". أي أردت قراءته.
يقول: إن عمر عدوه إذا لاقاه في الحرب، أقل من عمر ما يحويه من الال، إذا أراد هبته، فيكون عمره أقصر بقاءً من المال في يده. وقيل أراد بقوله: إذا وهب إزالة الهبة؛ لأن عمر ما يحويه لا ينقطع إلا بالهبة دون الإرادة.
توقه؛ فإذا ما شئت تبلوه ... فكن معاديه أو كن له نشبا
نصب تبلوه بإضمار أن وتقديره: أن تبلوه. فحذف أن وأبقى عملها.
يقول لصاحبه: احذر هذا الرجل؛ فإن لم تثق بقولي وأردت اختباره فكن عدوه، أو ماله، لترى ما يفعل بك من الإبادة والإفناء؛ لأن عادته إهلاك أعدائه وتفريق ماله.
تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا
المذاقة: الذوق، ويجوز أن يكون طعم الشيء المذوق. وحالت: التأنيث للمذاقة وجعل المذاقة مما يقطر اتساعا، أي لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشرب.
يقول: هو في حال الرضى، حلو الأخلاق، فإذا تغيرت لغضبٍ عادت حلاوته مرارة، بحيث لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشربه أحد لمرارته.
وقد عيب هذا البيت من جهة التصريع لأنه لا يستعمل إلا في أول القصيدة لا في حشوها إلا عند الخروج من قصةٍ إلى قصة أخرى. وأجيب بأن هذا هو الأكثر وقد جاء مثل ذلك كما قال الآخر في أثناء التشبيب:
ألا نادٍ في آثارهن الغوانيا ... سقين سهاًا ما لهن وماليا؟
وتغبط الأرض منها حيث حل به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا
أيها: منصوب بتحسد لا بركب لأنه صلة، والصلة لا تعمل إلا في الموصول.
يقول: إذا حل في مكان من الأرض غبطها سائر المواضع لكونه فيها؛ لما نالها من الشرف والفخر، فتتمنى سائر البقاع حصول هذا الشرف بحلوله فيها، وكذلك إذا ركب فرسًا حسدته جميع الخيل لما يحصل لمركوبه من الشرف، فتتمنى أن يتحول هذا الفخر إليها بركوبه إياها. ومثله لأبي تمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعةٌ ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ولا يرد بفيه كف سائله ... عن نفسه ويرد الجحفل اللجبا
الجحفل: الجيش العظيم. واللجب: الشديد الصوت.
يقول: إذا جاءه السائل لا يرده بقوله ولا ينهره، وهو مع ذلك يرد الجيش العظيم بكلمة تهديد تخرج من فيه. وإنما قال: لا يرد بفية إشارة إلى أنه لا يرده خائبًا بقوله: لا ولكن يرده بالعطاء. ومنه قول الآخر:
لنا جانبٌ منه دميثٌ إذا ... رامه الأعداء ممتنعٌ صعب
وكلما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا
1 / 83