إلا أن بيت المتنبي أجود منه؛ لأنه دل على هذا المعنى في المصراع الأول بمعنىً آخر، وأنه لم يقتصر على الراحلة والزاد، لأن لفظ الضيف يتضمن سائر وجوه النعم والتعظيم، لأن من حكم الضيف أن يكون معظمًا مكرمًان فبين أنه كذلك حيثما سار من البلاد.
وقال أيضًا يمدحه. أي يمدح عليًا بن إبراهيم التنوخي:
ملث القطر! أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
الملث: الدائم القطر، والكناية في أعطشها: للربوع، وقدمها للدلالة، ونصب ربوعا على التمييز، كأنه قال: من ربوع.. والنقيع: المنقوع.
يخاطب المطر فيقول: يا دائم القطر، أعطش هذه الربوع من ربوع، ولا تسقها، وإن كنت لابد ساقيها، فاسقها السم النقيع! فإني شاكٍ منها؛ وقد بين العلة في ذلك في قوله.
أسائلها عن المتديريها ... فلا تدري ولا تذري دموعا
قوله: المتديريها: أي المقيمين بها والمتخيرين لها دارًا، وكان الأصل المتدوريها، لأن الدار: أصلها دور، فهو من الواوي يقول أسائل هذه الربوع عن المقيمين فيها، فلا تدري سؤالي ولا تجيبني عنه ولا تبكي الدموع مساعدة عن بكاء الذين كانوا فيها، حزنًا على خلوها منهم.
لحاها الله إلا ما ماضييها ... زمان اللهو والخود الشموعا
لحاها: أي لعنها، وأصله قشرها الله، والخود: الجارية الناعمة السهلة الخلق. والشموع: هي اللعوب المزاحة اللينة الكلام. وقيل: هي الصافية البياض.
يقول: لعن الله هذه الربوع إلا ماضيها، وهو استثناء منقطع، لكن شيئين منهما قد مضيا، فإني لا أدعو عليهما: أحدهما زمان اللهو، والثاني الخود الشموع وهي المحبوبة.
منعمةٌ، ممنعةٌ، رداحٌ ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
الرداح: السمينة الكبيرة العجز. والوقوع: جلوس الطير.
يقول: إنها منعمة ممنوعة الوصول إليها، سمينة حسنة الصوت والمنطق، فلو سمع الطير لفظها في الهواء لسقط على الأرض، فكأن لفظها كلف الطير الوقوع على الأرض.
ترفع ثوبها الأرداف عنها ... فيبقى من وشاحيها شسوعًا
رفع الأرداف: لأنها فاعلةٌ لترفع ومفعوله الثوب. والوشاح: شيء تقلد به العروس كتقليد السيف، ويكون طرفاه مرسلين من جانبي البدن، والشسوع: مبالغة في الشاسع وشسوعا: نصب على الحال.
يقول: إن أردافها ترفع الثوب عن جسمها؛ لعظم أردافها، فيصير الثوب بعيدًا عن وشاحيها وجسمها. وقد دل بذلك على دقة الخصر، لأنه لو لم يدق لم يبعد الثوب عنه، وروى: شسوعًا بالضم: وهو مصدر واقع موقع شاسع. كقولهم: صوم وعدل، وصفة الشيئين أولى؛ لأنه صفة صريحة وحقيقة، وهذا محمول عليها.
إذا ماست رأيت لها ارتجاجًا ... له، لولا سواعدها نزوعا
ماست: أي تبخترت. والارتجاج: الاضطراب. والهاء في لها: للأرداف، وفي له: للثوب. والنزوع: بمعنى النازع، وهو فاعل، من نزعت الشيء إذا جذبته عنه.
يقول: إذا تبخترت هذه المرأة في مشيها رأيت لأردافها من ثقلها اضطرابًا، لولا سواعد هذه المرأة، لكان ذلك الارتجاج نازعًا لثوبها عنها، فلكون سواعدها في الكم، وإمساكها لثوبها، لم ينفصل الثوب عن البدن!!
تألم درزه والدرز لينٌ ... كما تتألم العضب الصنيعا
تألم: أصله تتألم، فحذف إحدى التاءين، وهو فعل المرأة. ولينٌ: أصله لينٌ، فخفف. والعضب: السيف القاطع. والصنيع: الذي جرد. وقيل: الذي فيه جودة الصنع.
يقول: تتألم هذه المرأة لنعومتها من درز هذا الثوب مع كون درزه لينًا، كما أنت تتألم أيها المخاطب من ضرب السيف. يعني: أن هذا القدر من الخشونة يؤثر فيها ويقع موقع ضربها بالسيف.
ذراعاها عدوا دملجيها ... يظن ضجيعها الزند الضجيعا
يقول: ذراعاها، أي ذراعا هذه المرأة لامتلائهما، كأنهما عدوا دملجيها، لأنهما يكادان أن يكسراهما؛ لامتلائهما، أو أنه لا يمكنهما أن يدورا على ذراعيها، فيكون ذراعاها قد أمسكاهما. والدملجان: قد غاصا بذراعيها، فيعادي كلٌّ منهما صاحبه. من هذا الوجه. وقيل: أراد أن دملجيها لا ينحطان عن عضديها، إلى ذراعيها، لامتلاء ذراعيها بهما ومنعهما من أن يخرجا من ذراعيها، فهما والذراعان لا يلتقيان أبدًا، كالعدوين.
يقول: يظن مضاجعها أن زندها شخص واحد، قد ضاجعه لعظمه وامتلائه.
1 / 74