بقوله: هبوا فقد هلك البخل، لوجود هذا الرجل، الذي أصاب بالجود مقتل البخل. ويجوز أن يكون وصل عطاؤه إلى الناس، ومن دون أن يسافروا لأجله، فكأنه ناداهم ونبههم لوصوله إليهم في أوطانهم.
وحالت عطايا كفه دون وعده ... فليس له إنجاز وعدٍ ولا مطل
يقول: إن عطاياه اعترضت دون وعده وسبقته، فلا يحتاج إلى إنجاز وعد، ولا مطل ولا مدافعة؛ لأن هذه الأشياء لا تكون إلا بعد الوعد.
فأقرب من تحديدها رد فائتٍ ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل
الهاء في تحديدها، وإحصائها: للعطايا، وكان الوجه أن يقول: وأيسر من إحصائها إحصاء القطر، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: رد فائتٍ أقرب من تحديد عطاياه، وتحديد منحه. وعد قطر المطر، وحبوب الرمل: أهون من إحصاء نعمه؛ فكما لا تقدر الناس على هذين، كذلك تحديد عطاياه، وتعديد مننه غير مقدور عليه، بل ذلك دخل في المقدور.
وما تنقم الأيام ممن وجوهها ... لأخمصه في كل نائبةٍ نعل
تنقم: تعيب، وما: للسؤال. ومن في قوله: ممن هو الممدوح: والهاء في وجوهها: للأيام. وفي أخمصه: للممدوح والأخمص؛ باطن القدم.
يقول: وما تنكر الأيام، وتعيب من رجل، وجوه الأياه نعلٌ لأخمصه في كل نائبة ومحنة، يعني أن الأيام تابعة له ومطيعة، وهو يعلوها حتى يطأ وجوهها، فتكون بمنزلة النعل لأخمصه. أي باطن قدمه.
وما عزه فيها مرادٌ أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل
عزه: أي غلبه.
يقول: لم يتعذر عليه مراد طلبه، وإن كان ذلك صعبًا شديدًا، إلا أن يريد أن يأتي بمثل له، فإنه يتعذر عليه وجوده لأنه لا مثل له.
كفى ثعلًا فخرًا بأنك منهم ... ودهرٌ لأن أمسيت من أهله أهل
الرواية الصحيحة نصب دهرًا عطفًا على ثعل وقوله: بأنك منهم رفع: لأنه فاعل كفى وأهل رفع: بخبر ابتداء محذوف. كأنه قال: هو أهلٌ لأن أمسيت من أهله، فارتفع أهلٌ وصفًا لدهر، وارتفع دهرٌ بفعل مضمر، تقديره: ليفخر دهرٌ أهلٌ، لأن أمسيت من أهله.
يقول: كونك منهم، كفاهم فخر كونك أهلًا له وهذا وما قبله إفراط في المدح.
وويلٌ لنفسٍ حاولت منك غرةً ... وطوبى لعينٍ ساعةً منك لا تخلو
طوبى له: أي خير له، وقيل: أصله من الياء. وهو من طيب.
يقول: ويلٌ لمن طلب منك غفلة؛ فإنه إذا طلب ذلك قتلته، وهو لا يظفر بك، وطوبى لعين منك لا تخلو ساعة، فإنها تكون في الراحة وترتع في روض محاسنك.
فما بفقيرٍ شام برقك فاقةً ... ولا في بلادٍ أنت صيبها محل
يقول: ليس لفقير أبصر برقك ونظر جودك فاقة، وليس في بلادٍ أنت قطرها قحطٌ ولا جدب.
وقال أيضًا يمدحه:
اليوم عهدكم فأين الموعد؟ ... هيهات! ليس ليوم عهدكم غد
وروى: اليوم وعدكم وكذلك في الثاني؛ لأنهما متقاربان في المعنى.
يقول: اليوم لقاؤكم، وهو آخر اليوم الذي اجتمعنا فيه، فعرفوني أين الموعد للقاء الثاني؟ ثم قال: هيهات: أي ما أبعد ما أطلب! ليس ليوم وعدكم غدٌ أبلغ إليه. وقيل معناه: اليوم ميعادكم الذي وعدتموني فأنجزوا لي وعدي، وهو وعد الملاقاة والوصل ثم قال: هيهات! ليس ليوم وعدكم غدٌ. أي أموت وقت فراقكم، فلا أعيش إلى غد ذلك اليوم. ومثله قول الشاعر:
قالت أسير غدًا فقلت لها ... هدد ببينك من يعيش غداه
والأصل في البيت قول أبي تمام.
قالوا الرحيل غدًا لا شك قلت لهم ... الآن أيقنت أن اسم الحمام غد
الموت أقرب مخلبًا من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
روى مخلبًا: وهو للسبع كالظفر للإنسان، ويروى مخلبًا؛ وهو مصدر خلب يخلب: إذا أخدع، خلابةً ومخلبًا، أو يكون مصدرًا من خلب: إذا اختطف. وروى لا تبعدوا: من البعد في المسافة. ولا تبعدوا: من الهلاك.
يقول: الموت أقرب إلي من فراقكم، لأني أموت قبل أن تبينوا عني، خوفًا من فراقكم، ومهما فارقتموني كان العيش أبعد منكم، لأنه يعدم البتة، فهو أبعد منكم، لأنه لا يرجى عوده، وإذا بعدتم كنتم موجودين. ثم قال: لا تبعدوا. يعني لأن ببعدكم تبعد الحياة مني، وقيل: إنه دعاء للأحباب بألا يهلكوا، بل يبقوا سالمين، وبأن يقربوا منه. وهو تفسير البيت الأول.
إن التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أن دمي الذي تتقلد
1 / 40