والقسم الثالث من خساس الناس: من يرميني من الناس. من هو جاهل قد اجتمع فيه ثلاثة أضرب من الجهل: جهله بقدري، وجهله بأنه جاهل بقدري، وجهله بأني عالم بجهله وبقدري، فمن اجتمع فيه هذه الضروب من الجهل كيف يعرف قدري؟!.
ويجهل أني مالك الأرض معسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
مالك: نصب على الحال، وكذلك على ظهر السماكين: في موضع نصب، لأنه حال، وخبر أن الأولى معسر، وخبر الثانية راجل.
يقول: إن الجاهل الذي ذكرته يجهل أني في حال ملكي الأرض معسر، لأن همتي أعلى من ذلك، وهذا قليل في جنب ما أستحقه، وأني في حال كوني على ظهر السماكين، راجلٌ عند نفسي وعظم محلي. يصف أن همته عالية، لا يسعها ملك الأرض.
تحقر عند همتي كل مطلبٍ ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
يقول: إن لي همة تحقر عندي كل مطلب، وتقصر الغاية القصوى في عيني مع تطاولها. يعني لا أرضى لنفسي كل مرتبة أبلغها، بل أطلب فوقها.
وما زلت طودًا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل
الطود: الجبل العظيم، ومناكبه: جوانبه.
يقول: كنت كالجبل لا يزول؛ لعظم حالي، فالآن قد اضطررت إلى قبول الضيم فحركني الذل والضيم، كما تحرك الزلازل الجبل، ومعناه: لم يؤثر في الضيم إلا قدر ما تؤثر الزلزلة في الجبل.
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل
القلاقل: جمع القلقل، وهي الناقة الخفيفة. والعيس: الإبل التي يعلو بياضها شقرة.
يقول: لما بدت في زلازل الضيم، حركت الذي حرك قلبي، الخفاف السراع من الإبل والعيس، كلهن سراع خفاف. وأراد به السفر.
إذا الليل وارانا أرتنا خفافها ... بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل
يصف شدة سير العيس فيقول: إذا الليل سترنا عند السرى، أرتنا أقدام هذه العيس، عند وقعها على الحصى، لشدة ضربها بالحصى، أو ضرب بعضها ببعض، ما لا ترينا المشاعل من الضوء! يعني أن ما ينقدح من النار عند سيرها، كانت تزيد على نار المشاعل وضوئها.
كأني من الوجناء في متن موجةٍ ... رمت بي بحارًا ما لهن سواحل
الوجناء: الناقة الغليظة العظيمة الوجنتين. وقيل: هي الغليظة البدن الصلبة. ورمت: فعل الموجة، شبه المفازة التي سار فيها، بالبحار، لسعتها، ولما فيها من السراب الجاري مجرى الماء.
يقول: كأني من هذه الناقة الوجناء في هذه الفلاة على متن موجة، رمت بي الموجة بحارًا ما لها سواحل؛ لبعد هذه المفازة وسعتها.
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
يقول: يصور لي أن البلدان التي أجول فيها مسامعي وأذناي، وأنا في هذه مثل عذل العواذل في أذني، فكما لا يستقر اللوم في أذني، كذلك لا أستقر أنا في بلد من البلاد، وشبه نفسه بالعذل، والبلاد شبهها بالمسامع.
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى ... تساوى المحايى عنده والمقاتل
المحايى والمحايا: واحدها المحيا وهو الحياة.
يقول: من طلب ما أطلب من الشرف والارتفاع، تساوت عنده مواضع الحياة والموت، ولا يبالي بالقتل؛ لأن من طلب التعظيم خاطر بالعظيم.
ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم ... وليس لنا إلا السيوف وسائل
يقول مخاطبًا لأعدائه من الملوك وغيرهم: إن ما أتحمله من الشدائد وما أقتحمه من المشاق، ليس إلا طلبًا لهلاككم، فليست الحاجات إلا نفوسكم وأرواحكم، وليست لنا إلى سلب أرواحكم وسائل وأسباب، إلا السيوف.
فما وردت روح امرىءٍ روحه له ... ولا صدرت عن باخلٍ وهو باخل
يقول: إن هذه السيوف لا ترد روح امرىء إلا سلبتها، فلا تكون روحه له، ولا انصرفت عن رجل بخيل يبقى بخيلًا، يعني أنه إذا وردته أهلكته، فهو يجود بنفسه التي هي أعز الأشياء، والواو في قوله وهو باخل واو الحال.
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغثٍّ أن تغث المآكل
الغثاثة الهزال، من غث يغث ويغث.
يقول: إن نقصي في نقصان الكرامة لا في نقصان المأكولات، فلست أبالي بسوء المأكولات إذا كنت مبجلًا ذا كرامة، فكأنه يقول: إذا سمعت كرامتي فلا بأس بغثاثة المأكول.
وقال أيضًا في صباه في الحماسة والفخر:
ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلًا منه باللمم
1 / 29