يقول مخاطبًا للظبية الوحشية: لولا الظبية الأنسية لما غدوت إلى المنزل الذي كنت فيه، وارتحلت عنها، بجدٍّ عثورٍ في هواك.
وخاطب الوحشية لشبهها بالأنسية، أو لأن الموضع صار مألفًا للوحش، أو ليدل على أن الوحش يألفه بملازمة الفلوات.
ولا سقيت الثرى والمزن مخلفه ... دمعًا ينشفه من لوعةٍ نفسي
اللوعة: شدة الحزن. والمزن: السحاب الأبيض. والثرى: التراب. ومخلفة: من أخلف البرق، إذا لم يمطر.
يقول: لولا الظبية الأنسية لكنت لا أسقي ثرى ربعها دمعي، في حال تخلف السحاب فلا يسقيه، ثم بين حرارة نفسه بأنه لحرارته كان ينشف ما يبل الأرض من دموعه، وهو من قول الآخر:
لولا الدموع وفيضهن لأحرقت ... لأرض الوداع حرارة الأكباد
ولا وقفت بجسمٍ مسى ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس
تقديره: ولا وقفت مسى ثالثةٍ بجسم ذي أرسم درس.
يقول: لولا الظبية الأنسية، لكنت لا أقف في رسوم دار هذه المحبوبة الدارسة ثلاثة أيام ولياليها، حتى يصير آخر وقوفي وقت العشية من الليلة الثالثة، من أول وقوفي، بجسمٍ ذي أرسم دارسة: نحيلٌ شبيه بالأرسم الدارسة من منزل المحبوبة، ويكون المراد بمسى ثالثة تقديره أيام وقوفه عليها.
قال ابن جنى: ولا يجوز أن يريد به أنه وقف بعد ثلاثة أيام من غيبوبتها عن الدار، لأنها لا تصير دراسة بثلاثة أيام.
وقيل: إن ذلك أيضًا جائز، لأن ديار الأعراب لا تكاد تسلم من الدروس لأول ريح تهب فتسفي عليها التراب من جهة، وتطم آثارها، وإن وافقها مطرٌ كان دروسها أدعى.
صريع مقلتها سئال دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
صريع وسئال وقتيل: منصوبة على الحال، من وقفت، والدمنة: ما اسود من آثار الدار كالأثافي ونحوها، واللعس: حمرةٌ في الشفة تضرب إلى سواد، فوق اللمى.
يقول: ظبية الإنس لما وقفت صريع مقلتها سائلًا آثار دارها متعللًا بذلك، قتيل تفتير أجفانها وقتيل اللعس الذي في شفتيها.
خريدةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت ... ولو رآها قضيب البان لم يمس
الخريدة: الجارية الناعمة. وقيل: الحيية. ولم يمس: أي لم يتبختر.
يقول: هي جارية ناعمة حيية حسنة معتدلة القامة، لو رأتها الشمس ما طلعت؛ خجلًا من وجهها، وإنها وإن طلعت فكأنها لم تطلع؛ من حيث لا يبين نورها لنور هذه الظبية الأنسية، ولو رآها غصن البان لما تبختر؛ خجلًا من اعتدال قامتها.
ما ضاق قبلك خلخالٌ على رشإٍ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس
الرشأ: الغزال، والكنس: بيت الظبي، وروى على كنس، وهو صفة الظبي، أي ذي كنس.
يقول: مارئى خلخال على غزال، ولو رئى لكان لا يضيق عليه؛ لأن رجله دقيقة، ولا سمعت بديباج فوق كناس، وهذه الظبية الأنسية ضاق عليها الخلخال، وغشي بيتها الذي هو الهودج بالديباج وهذا من قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
إن ترمني نكبات الدهر عن كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس
النكبات: جمع نكبة وهي المحنة، وعن كثب: أي عن قرب. والرعديد: الجبان. والنكس: الساقط الخامل.
يقول: إن ترمني محن الزمان من قرب. فقد رمت امرأً غير جبان، ولا ضعيف ساقط، يوهنه رميها.
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدي حافر الفرس
يقول: يا عبيد الله، حاسد بنيك صار فداءً لهم، على وجه الدعاء. ثم قال: بجبهة العير يفدي حافر الفرس: أراد به أنهم كرام وحسادهم لئام، فهم فداء لهم، كما يفدي حافر الفرس، وهو أحسن خلقةً بجبهة العير. وهي: أي الجبهة أعلى الأعضاء.
وقيل: جعل أبناء الممدوح منه، بمنزلة الحافر من الفرس، وجعل الممدوح بمنزلة أعلى الفرس، وجعل حساد أبنائه بمنزلة جبهة الحمار، من سائر الحساد الذين هم كالحمر، فجعل أعلى الأشياء من الحساد فداء لأدنى الأشياء من الممدوح، لأن الابن بإضافة الأب إليه بهذه المنزلة، وهما كما يقال للشيء الخسيس: فداء للشيء النفيس وكبار هؤلاء القوم، فداء لصغار قومك، وأشباه ذلك.
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبًا غير مفترس
أبا الغطارفة: منصوب لأنه منادى مضاف، أو لأنه بدل من عبيد الله أو يكون نصبًا على المدح، والغطارفة: جمع غطريف، وهو السيد، والمفترس، والصائل.
1 / 20