ولما أتم الرجل كلامه وافق الجميع على أقواله، وتماوجوا هنا وهنالك في حالة وعيد وتهديد، وهنا وعدهم الأمير بأنه سوف يرسل إليهم خمسين كيسا من القمح في مكان عملهم، وطلب منهم أن يئوبوا من حيث أتوا، وأن يستأنفوا عملهم، ويكفوا عن مطاردة سكرتيره، وإلا فهو لا يستطيع أن يصنع لهم شيئا.
وترددوا مدة؛ لأنهم منوا قبل ذلك بالوعود التي لم يوف واحد منها، ولكن لما كانوا ينقصهم زعيم ماهر ليقود العصيان، ولما لم يكن معهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وقد كانت رماح العبيد تظهر مخيفة في أيديهم؛ فقد آبوا من حيث أتوا متذمرين ساخطين، أما الأمير فقد دخل القصر وهو يهز كتفيه، وأما إرسال الأكياس أو عدم إرسالها، فهذا شيء آخر.
فالإضراب - كما نرى - لم يكن مجهولا في تلك الأيام.
الفصل الثالث
يوم في طيبة
بعد أن مر أمامنا منظر إضراب العمال وعودتهم إلى عملهم ثانيا، واصلنا سيرنا إلى قلب المدينة، ولقد لاحظنا أن شوارعها ضيقة، وتتقابل المنازل من فوق الرءوس هنا وهنالك؛ فكان يحدث أننا نسير تحت منازل متصلة، كمن يسير في سرداب مظلم، وبعض المنازل عظيم الاتساع شاهق الارتفاع، ولكن مظاهرها الخارجية - على العموم - غير جميلة.
فقد يكون داخل المنزل جميلا فاخرا، تكتنفه الحدائق الغناء الحافلة بجميع أنواع الأزهار والأشجار، وفي وسطه بركة بديعة، وغرفه مؤثثة بأفخر الرياش، مزينة بأجمل الستائر، ولكن أسواره الخارجية سوداء، ولها باب ضخم عظيم.
ثم مررنا بأحياء مكدسة بالأكواخ الحقيرة، مزدحمة بالمارين، حتى إنه صعب على المار أن يشق طريقا لنفسه! هذه هي أحياء العمال، ولا تذهب في أي جهة منها إلا وتشعر بالحرارة المرتفعة، وتشم الروائح الكريهة التي لا تطاق. وكم عجبت؛ كيف يستطيع إنسان أن يعيش في أمثال هذه الأماكن؟!
وبعد أن قطعنا شوطا كبيرا، انتهى بنا المسير إلى ميدان فسيح، وهو سوق من أسواق المدينة، والعمل هنالك في حركة دائبة، والحوانيت عبارة عن خيم أو مظلات متوسطة الاتساع ومفتوحة من الجهة الأمامية، وترى البضائع موضوعة في الداخل والخارج، بينما يجلس صاحب الحانوت القرفصاء متأهبا للبيع والحساب، ويلفت إليه الأنظار بصوته العالي وهو يشيد بجودة بضاعته ورخص ثمنها.
وكان الناس - وهم من جميع الطبقات والأجناس - يذهبون ويجيئون دون أن ينقطع لهم تيار؛ فإن أمثال هذه الأسواق كانت تجذب إليها الناس من جميع أنحاء القطر وأطراف العالم القديم.
অজানা পৃষ্ঠা