1 - أرض ذات شهرة قديمة
2 - يوم في طيبة
3 - يوم في طيبة
4 - فرعون في القصر
5 - حياة الجندي
6 - حياة الطفل
7 - بعض الأساطير
8 - بعض الأساطير
9 - استكشاف السودان
10 - رحلة استكشافية
অজানা পৃষ্ঠা
11 - الكتب المصرية
12 - المعابد والقبور
13 - قدماء المصريين والسماء
1 - أرض ذات شهرة قديمة
2 - يوم في طيبة
3 - يوم في طيبة
4 - فرعون في القصر
5 - حياة الجندي
6 - حياة الطفل
7 - بعض الأساطير
অজানা পৃষ্ঠা
8 - بعض الأساطير
9 - استكشاف السودان
10 - رحلة استكشافية
11 - الكتب المصرية
12 - المعابد والقبور
13 - قدماء المصريين والسماء
مصر القديمة
مصر القديمة
تأليف
جيمس بيكي
অজানা পৃষ্ঠা
ترجمة
نجيب محفوظ
الفصل الأول
أرض ذات شهرة قديمة
لو سألنا سائل عن أعظم أمم الأرض حفولا بغرائب التاريخ؛ لذكر سوادنا فلسطين؛ ليس ذلك لوجود شيء غريب فيها، ولكن للحوادث العظيمة التي مثلت على أرضها. وفوق ذلك فقد كانت موطن نبينا.
وبعد فلسطين تأتي مرتبة مصر، وفيها تمت سلسلة القصص التي بدأت على أرض فلسطين والمذكورة في العهد القديم؛ ذلك العهد الذي يخبرنا عن يوسف الصبي الرقيق الذي صار نائب ملك مصر، وعن موسى الطفل الإسرائيلي الذي صار أميرا في عائلة فرعون، ثم كان بطل قصة خروج بني إسرائيل من مصر. وفضلا عن ذلك؛ فمصر لها تاريخها الخاص بها، ترويه آثارها إلى اليوم ثم إلى غد وبعد غد، فلم يقم لها بين أمم الأرض القديمة نظير له ما لها من الملوك العظام والرجال العقلاء والجنود الشجعان، ولا يجد إنسان في مملكة غيرها آثارا ومخلفات لها نصف ما للآثار المصرية من الروعة والجلال.
إن لنا بعض المباني القديمة - وهي الحصون والكنائس - التي يرجع وقت تشييدها إلى خمسمائة أو ستمائة عام، وربما أكثر. وكم يتكبد الناس من مشقات السفر ليشاهدوها.
في مصر، تعد أمثال هذه المباني من الآثار الحديثة العهد، ولا يكاد يحفل برؤيتها إنسان، ويمكن أن تتصور ذلك إذا علمت أن المعابد العظيمة والمقابر الهائلة الموجودة الآن في مصر شيدت قبل أن يبدأ الكتاب المقدس بمئات السنين.
ولأضرب لك مثلا بالهرم العظيم الذي لا يزال أعجوبة الدنيا، فهو لم يشيد قبل أي بناء قائم الآن في أوروبا بآلاف السنين فقط ، وإنما شيد قبل أن يباع يوسف ويصير رقيقا في منزل يوتيفار. وآلاف الأعوام قبل أن يسمع إنسان بالإغريق والرومان، كان يحكم مصر ملوك عظام، يرسلون بجيوشهم لتغزو سوريا والسودان، ويبعثون سفنهم لتستكشف البحار الجنوبية. وكان حكماء المصريين يضعون الكتب التي نقرؤها الآن.
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا جزيرة مجهولة مسكونة بالمتوحشين والهمج - كأنهم لتوحشهم وهمجيتهم سكان جزر البحار الجنوبية - كانت مصر أمة متمدينة كثيرة المدن العظيمة، عديدة المعابد والهياكل والقصور، وكان سكانها من أعقل الرجال وأعظمهم علما. وقد قصدت - في هذا الكتاب الصغير - أن أروي لك نتفا من تاريخ هذه الأمة العجيبة، وأبين لك نوع الحياة التي كان يحياها الناس في تلك الأيام الغابرة، قبل أن تبدأ الأمم الأخرى في الاستيقاظ، وقبل أن يكون لها تاريخ.
অজানা পৃষ্ঠা
ولكن قبل أن أبدأ في قصتي، دعني أكون لك فكرة عن جغرافية الأرض.
ويجدر بي هنا أن ألاحظ أن أعظم الممالك خطرا في التاريخ كانت من أصغرها مساحة؛ فبريطانيا لا تعد مملكة واسعة رغما عن تاريخها المجيد، وفلسطين التي أسدت للعالم أيادي لم تسدها أمة أخرى كان يطلق عليها الأرض الصغيرة، ثم تلا فلسطين في هذه المرتبة بلاد الإغريق، وما هي إلا زاوية جبلية في جنوب أوروبا، ومصر أيضا أرض صغيرة.
ربما خيل إليك وأنت تراها على الخريطة أنها كبيرة المساحة، ولكن ينبغي أن تتذكر أن معظم الأرض التي تقرأ عليها «مصر» صحراء أو تلال صخرية، حيث لا يقدر الإنسان على الحياة. أما مصر الحقيقية فهي شريط رفيع على جانبي النيل، وفي بعض الأحيان يكون امتداده ميلا أو ميلين داخل الرمال التي يخترقها النيل، ولا يزيد على ثلاثين ميلا في أي جهة من النهر (إذا استثنينا الجزء الشمالي منه، المسمى الدلتا). وقد شبه بعضهم وادي النيل بزنبق ذي ساق ملتوية، وقد صدق في تشبيهه؛ فالنيل هو الساق الملتوية، والدلتا هي الزهرة، وتحت الزهرة مباشرة توجد برعمة صغيرة؛ واد خصب هو الفيوم. وفي عهد مضى - قبل أن يبدأ تاريخ مصر نفسه - لم يكن للزنبق زهرة .
فقد كان النيل أوسع بكثير مما هو عليه الآن، وكان يصب في البحر بقرب القاهرة - العاصمة الحديثة لمصر - ولم تكن الأرض إلا ذلك الوادي الضيق المحدود من الجانبين بتلال الصحراء.
ولكن على مرور الأيام قرنا بعد قرن، حفر النيل مجراه، فزاد عمقه، وغارت المياه وانخفضت تبعا لذلك، تاركة أرضا خصبة بين المجرى الجديد والتلال، أما الطين الذي حملته المياه، فقد كان يرسب عند المصب حتى كون الدلتا كما هي الآن تقريبا.
كانت مصر كذلك قبل أن يبدأ التاريخ؛ فلما ابتدأ التاريخ كانت الدلتا أرض مستنقعات؛ لأنها كانت حديثة التكوين في مكان البحر، قبل أن يطرد النيل بطينه مياهه.
وكان سكان الوادي يحتقرون الناس الذين يعيشون بين المستنقعات، وحتى بعد أن تم تكوين الدلتا، لم تكن مساحة المملكة كلها لتعادل مساحة ويلز مرتين، ومع ذلك كان يعمرها عدد عظيم من السكان - عظيم بالنسبة لمساحتها - وكان يبلغ - على أكثر تقدير - قدر سكان لندن مرتين.
قال مؤرخ إغريقي قديم: «مصر هبة النيل» وهذا صحيح.
لقد رأينا كيف أن النيل كونها باختراقه طريقا بين التلال، وبتكوينه الدلتا، وهو لم يخلقها فقط، بل هو يحفظ لها حياة مستديمة.
ولقد كانت مصر - كما هي الآن - من أخصب البلدان أرضا، ومن ميزاتها أن ينمو بها أغلب المزروعات، فهي تنتج أجود أنواع القمح والخضراوات والقطن.
অজানা পৃষ্ঠা
ولما كانت روما عاصمة العالم، كانت تستورد ما تحتاجه من الحبوب من مصر، بواسطة سفن الإسكندرية الشهيرة، وأنت تذكر ما يروي الإنجيل عن إخوة يوسف، الذين أتوا مصر من فلسطين - التي اجتاحتها المجاعة - ليشتروا من قمح مصر.
ومع هذه الخصوبة، فالمطر غير معروف في مصر؛ نعم قد تمطر السماء في أحايين قصيرة من عام طويل لا تسقط فيه من السماء قطرة!
كيف يتيسر لأرض لا تمطرها السماء أن ينمو بها أجود أنواع النباتات؟ سر ذلك النيل؛ ففي كل عام إذا سقطت المياه في أواسط إفريقيا وعلى جبال الحبشة ازداد النيل ارتفاعا، وحملت الأمواج إليه طينا كثيرا، وفي هذه الحال تغمر المياه الأراضي، ثم تتركها بعد أن يرسب فيها الطين. ولما كانت المياه لا تصل إلى الأراضي المرتفعة؛ فإنه يوصل بها ترع، ثم تقسم هذه الترع إلى قنوات صغيرة حتى تتخلل جميع الأراضي، وتسير فيها المياه كما يسير الدم في الأوردة والشرايين. وقد نتج عن هذا النظام أن زادت خصوبة الأرض، وارتوت منها جميع الجهات، فعوضت بذلك ما يمكن أن تكسبه الأمطار من المياه في الأراضي التي تسقط فيها.
ولولا نهر النيل، لكانت مصر قطعة من الصحراء ليس فيها ما يميزها عن بقية أجزائها، وليس من شيء في حياة مصر يسترعي الانتباه إلا تاريخها العظيم؛ ذلك التاريخ القديم الذي وسم القطر بميسم سحري جعلها مصدر جاذبية لجميع الناس. وكذلك آثارها المجيدة؛ ولهذا لا توجد أمة -غير مصر - تشاهد فيها السكان الأصليين ومظاهر الحضارة القديمة كما كانت في بدء تاريخها.
هنا تستطيع أن تشاهد معابد الآلهة القديمة وهياكلها، والقبور الهائلة التي لم ترها عين إنسان، بل تشاهد السيوف والحراب والخوذ التي كان يحارب بها الملوك والجند والشجعان - لأجل وطنهم - قبل أن يشترك داود في حروب بني إسرائيل بآلاف السنين.
ومن الصور المختلفة على جدران المعابد والقبور، أمكننا أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس يعيشون في تلك الأيام الماضية، وكيف كانت تبنى بيوتهم، وكيف كانوا يكسبون ويعملون، وكيف يلهون ويقصفون، وكيف يعبرون عن هم دفين في وقت الأسى والحزن، ثم كيف يعبدون آلهتهم. تراهم في هذه الصور وهم يقومون بهذه الأعمال كلها، بل تستطيع أن تعرف ما كان يغرم به الأطفال من أنواع اللهو واللعب، وتعرف اللعب والعرائس الجميلة التي كانوا يلعبون بها، وتستطيع أن تقرأ القصص التي كانت ترويها الأمهات والمربيات لأطفالهن.
كل هذا مما يجعل لمصر جاذبية خاصة، وسحرا خياليا بديعا. وما قصدت إليه هنا هو أن أصور لك بعض نواحي هذه الحياة، لتستطيع أن تكون لنفسك صورة في مخيلتك عن الحياة في هذه الأيام.
الفصل الثاني
يوم في طيبة
لو أراد غريب أن يكون لنفسه فكرة صحيحة على حالتنا الحاضرة، والدرجة التي بلغها من الحضارة والرقي، فأول مكان يخطر له أن يقصده ليشاهده هو لندن؛ لأنها عاصمة المملكة ومدينتها العظمى.
অজানা পৃষ্ঠা
وعلى هذا القياس، لو أردنا أن نستقي أخبارا صحيحة عن الحياة المصرية القديمة، وكيفية طرق المعيشة فيها وأحوال الناس ووسائل معيشتهم، ينبغي لنا أن نذهب إلى عاصمتها، ثم نمعن النظر فيما عساه أن يقع تحت بصرنا.
وعلى ذلك، افرض أننا لم نعد من سكان بريطانيا، وأننا لسنا من أبناء القرن العشرين، بل أننا رجعنا إلى الماضي البعيد، وأننا من أحياء سنة 1300 قبل الميلاد، أي قبل أيام المسيح، وقبل عهد موسى أيضا. •••
وصلنا من «صور» في سفينة فرعونية محملة بأنواع مختلفة من الملابس والأقمشة، وأوعية من برنز ونحاس، على أمل بيعها في أسواق طيبة، أعظم مدينة في مصر.
لقد رست السفينة على شاطئ البحر، على مقربة من مصب النيل، بعد أن كنا هالكين - لا محالة - في عاصفة هائلة لم ننج منها إلا بعد جهد جهيد.
وكان معنا على السفينة دليل مصري، وقد وقف على منحنى السفينة يصيح بأعلى صوته؛ ليعين الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه السفينة، وكان مديرا المجدافين الكبيرين الملصقين بجانبي السفينة عند مؤخرها- يوجهان السفينة تبعا لتعاليمه.
وكانت الريح الشمالية تهب بقوة وعنف، وتدفع السفينة بقوة، حتى سارت بسرعة رغما من أمواج النيل الثقيلة التي تسير في اتجاه مضاد لنا، تبعا لانحدار النهر صوب البحر.
ولذلك فقد ترك العمال المجاديف بعد أن انتهكت قواهم، وسرنا جهة الجنوب بعد أن أطلقنا الشراع في الهواء. وكنا نرى على جانبي النيل أراضي واسعة؛ بعضها سهل لين، تنمو بها نباتات مختلفة، والبعض تكتنفه المستنقعات التي تنمو على حافاتها نباتات شيطانية.
وكلما تقدمت بنا السفينة صوب الجنوب كانت السهول الزراعية تضيق شيئا فشيئا، وكنا قد شارفنا على مؤخر الدلتا، بل أخذنا نسير في وادي النيل.
ولقد مررنا على مدينة عظيمة تناطح معابدها العالية السماء الزرقاء، وعلى ساريات المعابد تتموج الرايات، والمسلات منتثرة هنا وهناك. وقد أخبرنا دليلنا بأن هذه المدينة هي ممفيس - وهي من أقدم مدن مصر - وكانت عاصمتها يوما من الأيام. وعلى مقربة من ممفيس شاهدنا الأهرامات الثلاثة تظهر كأنها جبال عالية، وقد علمنا من دليلنا بأن كل هذه الكتل الحجرية - التي لا مثيل لها في الضخامة والعظمة - هي مقابر الملوك الأقدمين، وأن ما يحيط بها من أهرامات - أصغر حجما وأقل خطرا - هي مقابر بعض أمراء وعظماء الدولة.
ولما لم تكن ممفيس هي الغرض من رحلتنا، فقد واصلنا السير صوب الجنوب، وانقضت عدة أيام والسفينة تمخر بنا عباب الماء دون انقطاع.
অজানা পৃষ্ঠা
ولقد مررنا بمدن كثيرة، وقد استوقف نظرنا من بينها مدينة متهدمة خربة، لم نر من آثارها إلا أكوام الحجارة والتراب، ولقد قال لنا الدليل: إن تلك الخرائب كانت مدينة من أجمل مدن القطر، بل وكانت عاصمة لأحد الملوك، غير أنه آمن بآلهة جديدة، وحاول أن ينشر ديانته الحديثة، فعمد إلى الآلهة القديمة، وهدمها وخرب معابدها، ليمحو آثارها ويبعد عن الأذهان اسمها.
وأخيرا - بعد سفر طويل - لاحت لنا عن بعد أبنية عظيمة على شاطئ النيل، ثم تبين لنا أنها مدينة عظيمة، لم نر لها نظيرا فيما رأيناه من مدن الأرض.
ولما اقتربت السفينة من المدينة، ميزنا أمامنا مدينتين في الواقع؛ فعلى الشاطئ الشرقي للنيل تقوم مدينة الأحياء؛ بأسوارها المرتفعة، وأبراجها العالية، ومعابدها العظيمة، وصفوف منازلها التي لا يرى لها أول ولا آخر، من قصور النبلاء إلى أكواخ الفقراء.
أما على الشاطئ الغربي فتقع مدينة الأموات، ولم يكن بها قصور ولا شوارع، وكان السكون يخيم عليها، والهدوء يشملها، ولا يستطيع الناظر إليها إلا أن يشعر بالخشوع والحزن والكآبة.
ولقد رأينا فيها تلالا ممتدة، بها فتحات كثيرة متراصة، تظهر كخلايا النحل؛ هذه هي قبور طيبة، حيث يرقد أمواتها من سنين لا عداد لها.
وفي المكان الفسيح الممتد ما بين النيل والتلال الغربية توجد هياكل متتابعة يخيل للناظر أن ليس لها حصر، وبعض هذه الهياكل متين الجدران، سليم البنيان، عظيم الحجم، والبعض الآخر واهي الأساس، متهدم الجدران، لم يبق منه إلا أثر ضئيل.
وكانت إذا سقطت أشعة الشمس عليها، انعكست مرسلة في الجو أسلاكا من ذهب، وقرمزا يبهر العين.
أخذت سفينتنا تقترب من الشاطئ لترسو هنالك؛ وبذلك تكون قد انتهت رحلتنا.
ولقد أتى نحوها في الحال ضباط الجمرك المصري في قوارب ليفتشوا أمتعتنا، وليجمعوا منا ما يجب دفعه عليها. ولقد جلسنا نراقبهم بجذل وسرور؛ لأن مظهرهم كان غريبا عنا كل الغرابة، فهم يختلفون عن ملاحينا ذوي اللحى المرسلة والمعاطف ذات الألوان الكثيرة، إذ يحلق المصريون لحاهم وشعورهم، وبعضهم يضع على رأسه شعرا مستعارا، ويطلقونه مسترسلا حتى الأعناق، ولا ريب أنهم يتكبدون تعبا جما في تنسيقه وتمشيطه، وسواهم يرتدي ملابس من الكتان قصيرة «أشبه برداء الجند السكسونيين».
أما رئيس الضباط فيرتدي معطفا أبيض جميلا فوق ردائه السكسوني، وحول وسطه منطقة ذهبية لها أهداب طويلة تكاد تلامس ركبتيه، وفي يده اليمنى عصا طويلة، لا يتأخر عن إلهاب ظهر أحد أتباعه بها إذا قصر في تأدية واجباته.
অজানা পৃষ্ঠা
وبعد مناقشة بيننا وبينه، أعطيناه المبلغ المطلوب، وصرنا بذلك أحرارا في أن نتوجه إلى أي ناحية من أنحاء المدينة.
ولم نتعمق داخل المدينة مسافة قصيرة حتى تجلى لنا ما كانت عليه من العظمة، ومما وصل إلى آذاننا علمنا أنها في حركة دائمة تدل على الحياة والنشاط.
ولكنا سمعنا ضوضاء داوية آتية من الشارع الضيق الذي يساير النيل، ورأينا - بعد برهة - جماعة من العمال تصخب وتصرخ وتتدافع بعنف في شكل مظاهرة، ويتقدمهم شخص ظهر لنا - من حالته التي كان يرثى لها - أنه يجري فارا من العمال، وأنه يخشى على نفسه منهم أن يصيبوه بسوء. وكان العمال في حالة مزرية؛ عرايا الأجسام إلا مما يستر عوراتهم، والظاهر أن الجوع عضهم، فثاروا وأضربوا عن عملهم، ولم يجدوا أمامهم من يصبون عليه جام غضبهم إلا هذا الرجل العجوز، الذي يجري أمامهم محاولا النجاة بحياته.
واتجه الرجل العجوز نحو قصر جميل تحيط به حديقة غناء ذات أسوار ضخمة، ولما يئس العمال من اللحاق به رموه بالحجارة، فأصابه بعضها، وتفجرت الدماء من عدة أجزاء من جسمه، ولكنه - رغما عن ذلك - جرى بقوة نحو باب القصر، وهمس في أذن البواب بضع كلمات، ثم دخل إلى الحديقة، ثم أغلق الباب في وجه المطاردين، الذين اضطروا للوقوف، وقد أخذ الغضب منهم كل مأخذ، وأخذوا يهزون قبضاتهم في الهواء مهددين مزمجرين.
وبعد فوات مدة قصيرة فتح الباب، وخرج منه رجل جميل الطلعة بادي النعمة والجاه، يتبعه ستة من العبيد مدججين بالسلاح.
هذا الرجل هو الأمير باسر، الذي يهيمن على مصلحة العمل في حكومة طيبة. أما العمال فكانوا بنائين يقومون بعمل فوض إليهم في مقبرة طيبة.
سأل الأمير العمال عما جعلهم يحدثون هذا الشغب ويطاردون سكرتيره.
وقد رد كل واحد منهم بما شاء على هذا السؤال، فحدثت ضجة، ولم يفهم الأمير كلمة واحدة، فأنابوا عنهم واحدا يتكلم بلسانهم، وقد ابتدأ الرجل الكلام في تلعثم واضطراب، ولكن لم يلبث أن زال عنه ما ألجم لسانه من الخوف، وبلغ الأمير الشكوى.
قال إنه وزملاءه يشتغلون منذ أسابيع، ولم يأخذوا أجرا مقابل أتعابهم، حتى القمح والزيت اللذان هما حق لكل عامل من عمال الحكومة.
وعليه، فقد قصدوا سيدهم يضرعون إليه أن يصرف لهم جرايتهم، فإن كانت المخازن خاوية فليرفع شكواهم لفرعون. إننا مسوقون إلى هنا بدافع الجوع والظمأ، ولا نملك ملابس ولا زيتا ولا طعاما، فاكتب لفرعون يرسل لنا ما تقوم به حياتنا.
অজানা পৃষ্ঠা
ولما أتم الرجل كلامه وافق الجميع على أقواله، وتماوجوا هنا وهنالك في حالة وعيد وتهديد، وهنا وعدهم الأمير بأنه سوف يرسل إليهم خمسين كيسا من القمح في مكان عملهم، وطلب منهم أن يئوبوا من حيث أتوا، وأن يستأنفوا عملهم، ويكفوا عن مطاردة سكرتيره، وإلا فهو لا يستطيع أن يصنع لهم شيئا.
وترددوا مدة؛ لأنهم منوا قبل ذلك بالوعود التي لم يوف واحد منها، ولكن لما كانوا ينقصهم زعيم ماهر ليقود العصيان، ولما لم يكن معهم سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وقد كانت رماح العبيد تظهر مخيفة في أيديهم؛ فقد آبوا من حيث أتوا متذمرين ساخطين، أما الأمير فقد دخل القصر وهو يهز كتفيه، وأما إرسال الأكياس أو عدم إرسالها، فهذا شيء آخر.
فالإضراب - كما نرى - لم يكن مجهولا في تلك الأيام.
الفصل الثالث
يوم في طيبة
بعد أن مر أمامنا منظر إضراب العمال وعودتهم إلى عملهم ثانيا، واصلنا سيرنا إلى قلب المدينة، ولقد لاحظنا أن شوارعها ضيقة، وتتقابل المنازل من فوق الرءوس هنا وهنالك؛ فكان يحدث أننا نسير تحت منازل متصلة، كمن يسير في سرداب مظلم، وبعض المنازل عظيم الاتساع شاهق الارتفاع، ولكن مظاهرها الخارجية - على العموم - غير جميلة.
فقد يكون داخل المنزل جميلا فاخرا، تكتنفه الحدائق الغناء الحافلة بجميع أنواع الأزهار والأشجار، وفي وسطه بركة بديعة، وغرفه مؤثثة بأفخر الرياش، مزينة بأجمل الستائر، ولكن أسواره الخارجية سوداء، ولها باب ضخم عظيم.
ثم مررنا بأحياء مكدسة بالأكواخ الحقيرة، مزدحمة بالمارين، حتى إنه صعب على المار أن يشق طريقا لنفسه! هذه هي أحياء العمال، ولا تذهب في أي جهة منها إلا وتشعر بالحرارة المرتفعة، وتشم الروائح الكريهة التي لا تطاق. وكم عجبت؛ كيف يستطيع إنسان أن يعيش في أمثال هذه الأماكن؟!
وبعد أن قطعنا شوطا كبيرا، انتهى بنا المسير إلى ميدان فسيح، وهو سوق من أسواق المدينة، والعمل هنالك في حركة دائبة، والحوانيت عبارة عن خيم أو مظلات متوسطة الاتساع ومفتوحة من الجهة الأمامية، وترى البضائع موضوعة في الداخل والخارج، بينما يجلس صاحب الحانوت القرفصاء متأهبا للبيع والحساب، ويلفت إليه الأنظار بصوته العالي وهو يشيد بجودة بضاعته ورخص ثمنها.
وكان الناس - وهم من جميع الطبقات والأجناس - يذهبون ويجيئون دون أن ينقطع لهم تيار؛ فإن أمثال هذه الأسواق كانت تجذب إليها الناس من جميع أنحاء القطر وأطراف العالم القديم.
অজানা পৃষ্ঠা
فأهل المدينة يأتون ليشتروا حوائج منزلية، وليتبادلوا الأخبار المختلفة، والفلاحون يبادلون ما يحملونه من قطعان الحقول ومحصولاتها بالبضائع التي لا توجد إلا في المدن، ويجيء كثير من السيدات النبيلات - يتبعهن الخدم - لينتقوا من بين المعروضات ما يروقهن من الجلابيب المزخرفة والصنادل الجميلة.
وكنا نرى غير ذلك كثيرا من الغرباء، وقد رأينا حيثيا من قادش وحوله مظهر خاص به يميزه عما سواه؛ يضع على رأسه غطاء عالي القمة، وبشرته صفراء، وحذاؤه ثقيل، ويسير ملتفتا حواليه وعيناه تبرقان بحب الاستطلاع والجشع، كأنه يعتقد أن طيبة خير مدينة للنهب والسلب. وشاهدنا كاهنا من الطبقة العليا، يسير برأسه المحلوق لافا حول كتفيه جلد نمر، ممسكا بيده درجا من درج البردي، ويتبعه سرديني يسير متغطرسا، وقد انعكست أشعة الشمس على قرني خوذته، وتمايل السيف المعلق بجانبه، وليبي من رماة القوس يتبعه بقوسه، ويلفت الأنظار إليه بريشتيه المعلقتين في غطاء رأسه.
وكان الجميع منهمكين في البيع والشراء والمبادلة. والنقود التي نستعملها الآن كانت مجهولة في تلك الأيام، ولهذا كانت المبادلة أساس المعاملة التجارية.
وكثيرا ما كانت المناقشة تحتد والأصوات تعلو إذا ما اختلف على عدد السمكات - مثلا - التي يصح أن تبادل بفراش، أو على عدد أكياس البصل التي تقدم في مقابل مقعد فخم، وهكذا. ولما كان المصري - بطبعه - ميالا للمساومة ماهرا فيها، فقد كانت ضوضاء الكلام لا تنخفض أبدا، وكثيرا ما كان يخرج بعض التجار عن العادة المتبعة في المبادلة، فيبادلون بالخواتم النحاسية والفضية والذهبية بدلا من البضائع. فإذا أراد فلاح أن يبيع ثورا يقدم له التجار نظيره تسعين خاتما نحاسيا، ولكن الفلاح يشكو قلة الثمن، ويصرح بأن مثل هذه المبادلة تعد سرقة، وبعد مشادة طويلة يرفع التاجر عدد الخواتم إلى أحد عشر فوق المائة، فيتم الاتفاق بذلك؛ ولكي يتحقق الفلاح بأنه لم يخدع يعمد لوزن الخواتم، ويأتي بميزان كبير، ويضع الخواتم في كفة، ويضع في الكفة الأخرى أثقالا (على شكل رءوس الثيران)، ولا يهدأ ثائره إلا إذا انخفضت كفة الخواتم، ولكن رغم حذره وشدة احتراسه، فإنه لا يجمع الخواتم في كيسها ويسير في حال سبيله، حتى يكون التاجر قد استرجع كثيرا من الخواتم إلى محلها الأول.
وبعد ذلك ضربنا خيمتنا، وعرضنا فيها ما حملنا من نفائس البضائع، وكانت أقمشة ذات ألوان زاهية، وكان جارنا صائغا، وهو دائما منهمك في عمله، قابض على منفاخه، وأمامه فرنه الصغير، وكان يلحم سوارا لامرأة تنتظره بصبر وأناة .
وفي إحدى نواحي السوق يقع منزل كبير، ولم تكن به بضائع ولا معروضات، وكان الناس يدخلونه زرافات زرافات، وكان كثير من العمال يدخلونه، ثم يغيبون برهة، ويخرجون وهم يمسحون أفواههم ويترنحون في ضعف وانحلال.
ولقد رأيت شابا يترنح يتجه نحو باب المنزل، وكان بجانبي رجلان، فلما رآه أحدهما قال لزميله: «إن بنتوير ذاهب مرة أخرى ليمضي يوما في سرور؛ سوف تكون نهاية هذا الشاب سيئة.»
وخرج - بعد وقت قصير - بنتوير، وكانت قدماه لا تستطيعان حمله، وبعد أن تمايل ذات اليمين وذات اليسار، سقط على الأرض لا حراك به كمن فقد الحياة، وترك على هذه الحالة المخزية، والمارة يضحكون منه دون أن يكترثوا لشأنه، وحدث أن مر به رجل وابنه، ولما تأمله قال لابنه: «انظر إلى هذا الشاب يا بني، واتعظ بمصيره، وعاهد نفسك ألا تشرب خمرا، فإنها تتلف صحتك، وتلوث نفسك بالأوحال، فإن صرعت يسخر منك الناس، ولا يمد لك أحد يد المعونة، حتى رفقاؤك، فإنهم يتركونك ويذهبون ليشربوا، ولا ترى إلا راقدا في الطين وغائبا عن الوجود.»
ولكن أمثال هذه النصائح كانت تذهب هباء؛ لأن المصري ميال بطبعه لقضاء اليوم الطيب - كما كان يدعو اليوم الذي يمضيه في الحان- حتى السيدات الجميلات كن يشربن حتى يتعذر عليهن المشي، ويرفعن وهن في حالة إعياء إلى منازلهن.
مضينا في سيرنا ببطء وتمهل، حتى اقتربنا من الحي المقدس في المدينة؛ حيث لاحت لأنظارنا المعابد العالية والمسلات العظيمة من فوق أسطح المنازل.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد رأينا عن بعد جماعات من الناس مقبلة نحونا في مظاهرة كبيرة، وسمعنا أصوات الطبول والناي، وقد سألنا بعض المارين مستفسرين عن هذا الموكب وأخبرونا بأنه احتفال ديني، وأن هذه الجماعة تحمل صورة صغيرة للرب آمون؛ إله طيبة العظيم، وأنهم يتأهبون لحفلة دينية كبرى، سيكون على رأسها فرعون نفسه.
ووقفنا ملتصقين بأحد أبواب المنازل من شدة الزحام، وراقبنا الاحتفال وهو يمر أمامنا، فمر الموسيقيون والمغنون، وأخذت النساء يرقصن ويحركن في أيديهن قطعا من المعدن، وشاهدنا في وسط الجماعات ستة من الرجال كانوا مركز المظاهرة الدينية، وإليهم كانت تتجه الأنظار.
كانوا طوالا نحافا، حادي النظرات، محلوقي الرءوس، ملفوفي الأجسام في أثواب بيضاء من الكتان المصري الجميل. وكانوا يحملون على أكتافهم - بواسطة قضبان - أنموذجا لقارب نيلي مقام في وسطه تمثال صغير، وكان هذا التمثال مغطى بستر، لم يظهر منه شيء، كأنهم أرادوا أن يخفوا الإله عن عيون المتطفلين.
وكان أمام الباب الذي كنا مستندين عليه عمود خشبي مثبت في وسط الشارع، فلما وصل الرجال إلى هذه البقعة وضعوا القارب الصغير على قمته، وكان مع اثنين منها بخور فحرقاه، وتصاعد دخانه حول القارب والتمثال.
ثم رفع كاهن صوته، وعدد مناقب الرب العظيم الذي خلق كل شيء وصان كل شيء، وعلى أثر ذلك تقدم بعض الواقفين، وقدموا للرب أزهارا أو فواكه ومأكولات أخرى.
بعد ذلك أتت الدقيقة الرهيبة، وتقدم كاهن من التمثال، وأزاح الستر الذي يخفيه، في وسط سكون مخيم كتمت فيه الأنفاس، ورأينا أمامنا صورة خشبية لا يزيد ارتفاعها عن ثماني عشرة بوصة، مزينة بالأوسمة، وملونة بالأخضر والأسود.
ولقد كان لظهور الصورة من التأثير على الطيبين (وهي أقدس شيء في العالم في نظرهم) ما جعل ألسنتهم تلهج بآيات الإعجاب والعبادة.
أسدل الستر بعد ذلك على التمثال، وواصل الموكب سيره، وتبعته الجموع الغفيرة، فعادت الشوارع إلى ما كانت عليه من السكينة والهدوء.
وكان علينا إن أردنا مشاهدة فرعون - في أثناء مروره إلى معبد آمون - أن نسرع بتناول الغداء، وعلى ذلك رجعنا إلى شاطئ النيل مخترقين الشوارع المضللة التي قطعنا في سيرنا الأول، وذهبنا توا إلى سفينتنا لتناول طعام الغداء.
الفصل الرابع
অজানা পৃষ্ঠা
فرعون في القصر
أزف الوقت الذي قرر أن يذهب فيه الملك إلى المعبد العظيم بالكرنك ليقدم أضحية. لقد ذهبنا إلى الطريق الذي يوصل ما بين القصر وطريق المعبد؛ لنشهد فرعون وموكبه الملوكي.
وأحب الآن أن أحدثك عن فرعون، والحياة التي يحياها.
ليست كلمة فرعون اسمه الحقيقي، وليست هي لقبه الرسمي، وكل ما في الأمر أنها لفظ كانوا يدلون به على أحد العظماء الذين يتهيبون من ذكر أسمائهم، كما كان يذكر التركي الباب العالي إذا عنى السلطان وحكومته، وعلى هذا القياس كان المصريون يطلقون لفظة فرعون على ملكهم العظيم، ومعناها اللغوي «البيت العظيم».
وقد كان ملك مصر عظيما حقا، وكان الناس لذلك ينظرون إليه كما لو كان أكثر من إنسان عادي، وكان هو نفسه يعتقد أن ذلك صحيح لا ريب فيه. نعم، لقد كان المصريون يعبدون آلهة متعددة، ولكن أقرب هذه الأرباب كلها إلى نفوسهم، وأحوزها لاحترامهم وعبادتهم كان ملكهم.
لقد حكمت الملوك مصر منذ أزمان غابرة، ولقد كانوا دائما يعتقدون أن ملوكهم آلهة كامنة في لحم بشري، وكان الملك يطلق على نفسه «ابن الشمس»، وعلى جدران المعابد ترى صورة الملك وهو صغير جالسا على فخذ الرب الذي يدلله كما يدلل الأب ابنه.
وتبعا لهذا الاعتقاد، فهم كانوا يبذلون في سبيله كل عزيز لديهم، ويقدمون له أنواع الضحايا، فإذا صعد إلى السماء لاحقا بإخوته الآلهة، شيدوا له معبدا عظيما لإحياء ذكره على الأرض، ويخصص لهذا المعبد جماعة من الكهنة يسلخون حياتهم في عبادته والتغني بمناقبه.
ولكن يوجد فارق واحد بين فرعون وبقية الآلهة، فالأرباب أمثال آمون في طيبة، وبتاح في ممفيس، وغيرها، تدعى «الآلهة العظام»، أما لقب فرعون فيختلف عن ذلك. ويدعى «الإله الطيب».
وفي الوقت الذي أتحدث عنه، كان «الإله الطيب» رمسيس الثاني، ولا ريب أن هذا جزء صغير من اسمه الكامل؛ لأنه مثل جميع الفراعنة، له قائمة من الأسماء تملأ صفحته.
ولم تكن رعيته في طيبة قد رأته من زمن طويل؛ لأنه كان غائبا في سوريا يحاول حل عدة مشكلات سياسية، فلما رجع لمصر، انهمك في بناء عاصمة جديدة في تنيس أو «زون» كما يدعوها اليهود. وهي واقعة بين الدلتا والحدود الشرقية، وكان يمضي معظم وقته فيها.
অজানা পৃষ্ঠা
وجميع الذين شاهدوا العاصمة الجديدة يثنون عليها أجمل ثناء، ويشيدون بعظمها إشادة بليغة، ويسهبون في وصف معبدها الجديد وتمثال فرعون المقام أمامه البالغ ارتفاعه تسعين قدما، ولكن، حتى في ذلك الوقت كانت طيبة لا تزال مركز حياة الشعب التجارية.
وكان سبب قدوم الملك إلى طيبة هو توقعه قيام حرب بينه وبين الحيثيين، وقد أتى ليستشير أخاه الرب آمون، ليجمع جيشه.
وكان القصر الملكي في حركة غير اعتيادية؛ فالرسل ذاهبون آئبون، والقواد والمستشارون يدخلون وبأيديهم التقارير والأوامر.
ولم يكن القصر الملكي من الفخامة والمتانة بحيث يستطيع الخلود على ممر الأيام، وقد كان المصريون يشيدون القبور والمعابد على أن تخلد أمد الدهر، أما القصور فقد كانوا يبنونها لأجل معلوم. وقد كانت العادة أن الملك الجديد لا يقيم في قصر أبيه، وإنما يأخذ في بنيان قصر جديد يوافق مزاجه وذوقه، فلم يكن فرعون يشيد قصره إلا ليمضي فيه حياته القصيرة، وكان عالما بأن ابنه إن تولى الملك يوما سوف يبني قصرا جديدا، وعليه فقد كانت القصور تبنى من مواد بسيطة، وتحاط بأسوار متينة ضخمة؛ لأنه وإن كان فرعون ربا معبودا، إلا أن رعيته قد تتمادى في أشد حالات العصيان والتمرد خطرا، ولم تكن المكايد ضد الملوك مجهولة في ذلك الوقت، فقد حدث لأحد الفراعنة الماضين أن هوجم وهو على فراش القيلولة، واضطر إلى الدفاع عن نفسه بمفرده وبيديه ضد جماعة قوية من المتآمرين.
ومن ذلك الوقت رأى فرعون أن يعتمد على أسواره الضخمة، وعلى حراسة السردانيين الأقوياء، وألا يجعل جل اعتماده في الدفاع عن نفسه موقوفا على ألوهيته وعبادة الناس له. ويحيط هذا السور بحديقة غناء حافلة بأنواع الزهور والرياحين، وفي وسطها بحيرة صناعية محاطة بأنواع الأشجار والشجيرات المختلفة.
وفي نهاية الحديقة يوجد باب ضخم يؤدي إلى بهو الاجتماع العظيم، وهو مزين بالألوان، ومقام سقفه على أعمدة مزخرفة على شكل سيقان اللوتس، وعلى كل جانب من جانبي البهو توجد غرفة كبيرة، وخلف بهو الاجتماع توجد غرفتان للاستقبال، وهما أفخم غرفتين في مصر كلها، وخلفهما تأتي حجرات نوم أهل القصر العديدين.
ولرمسيس زوجات كثيرات، وله تبعا لذلك جيش من الأولاد والبنات، وغرفة نوم الملك منعزلة في جهة وحدها، ومكللة بالزهور والرياحين.
وكان «ابن الشمس» يمضي يوما مملوءا بالأعمال المختلفة، فكان عليه أن يطالع كثيرا من الرسائل والتقارير ليصدر حكمه فيها، وكان الأمراء السوريون قد أرسلوا للملك تقريراتهم عن تقدم جيوش الحيثيين، وطلبوا معونة الملك لدفع الخطر عن أنحاء ملكه الواسع.
وقد عقد الملك العزم على أن يصدر تصريحا بكل ذلك، ومن ثم يتبادل المشورة مع قواد ونبلاء المملكة. وكان في إحدى نواحي البهو شرفة فخمة كان يظهر فيها الملك لشعبه، وكانت واجهتها مرصعة بالجواهر والأحجار الكريمة، وكانت العادة أن الملكة وبعض الأميرات يقفن بجانب الملك عند ظهوره للشعب.
فتحت أبواب البهو، وتسرب إليه جماعات النبلاء وحكام الأقاليم وقواد الجيش الكبار ومديرو الإدارة، وتزاحموا جميعا ليقدموا فروض الطاعة لسيدهم ومولاهم، وفي لحظة اصطف الجميع في نظام وأدب، وفتح باب كبير، وفي الحال ظهر الملك العظيم؛ ملك الوجهين البحري والقبلي، مصحوبا بزوجته وأسرته.
অজানা পৃষ্ঠা
وكانت العادة المتبعة قديما في استقبال الملوك، أن القوم الذين يحظون بمقابلة ملك من الملوك ينبغي لهم أن يركعوا له سجدا ويقبلوا الأرض بين يديه، ولقد اندثرت هذه العادة الآن، فلا يبلغ حب الملوك وإظهار الطاعة لهم حد السجود والركوع بين أيديهم.
لما دخل فرعون انحنى الجميع أمامه باحترام لا مثيل له، ورفعوا أيديهم كما لو كانوا في صلاة دينية «للرب الطيب»، وانتظروا صامتين متهيبين حتى يبدأ الملك بالكلام.
وصوب فرعون نظره إلى الجمع المحتشد أمامه، ونقل بصره من واحد إلى آخر، حتى استقر على قائد قوات طيبة، فسأله عن مقدار استعداد جيشه.
هنا تقدم الجندي باحترام، وانحنى بتهيب وإجلال، ولكنه لم يتفوه بكلمة في الموضوع؛ لأنه لم تكن العادة أن يتكلم مباشرة، وراح يلقي قطعة مديح محفوظة تشيد بعظمة الملك وشجاعته وإقدامه في الحروب، قائلا إنه حيث تجري جياده تفر أمامها جموع الأعداء، ثم أجاب بعد ذلك على سؤال الملك. وعلى هذا المنوال تقدم القواد والنبلاء والمستشارون ليجيبوا على الأسئلة الموجهة إليهم، وليبدوا آراءهم فيما يبسط أمامهم من أمور الدولة.
ولما انتهى الاجتماع، أصدر الملك أوامره بإعداد عربة ليحضر حفلة المعبد الدينية، وخرج كما دخل بين صفوف ساجدة بين يديه مستغرقة في عبادتها.
بعد ذلك رأينا الباب الحصين يفتح على مصراعيه، وخرجت ثلة من الجنود رافعة الرماح، ثم وقفت على مسافة قصيرة من باب القصر، وعلى أثرهم خرج الحرس السرداني مثقلا بالأسلحة، وعلى رءوسهم الخوذ اللامعة، وبأيديهم الدروع المتينة والسيوف الطويلة المسلولة، وقد اصطفوا على جانبي الطريق، ووقفوا كالتماثيل مترقبين ظهور فرعون.
وسمعنا أصوات عجلات، وظهرت أمامنا عربة فرعون وهي تسير به شطر طريق المعبد. وقد سارت الجنود الرافعة الرماح في المقدمة، أما السردانيون فقد جروا بحذاء عربة الملك على كل من جانبيها، ولم يتأخروا عنها قيد شعرة رغم تثقلهم بالأسلحة.
وما إن رأت الجموع المزدحمة عربة الملك، ووقعت أبصارهم على فرعون، حتى سجدوا على الأرض، ومسوا التراب بجباههم، وفرعون ينظر أمامه لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وكان واقفا منتصبا لا يتمايل - ولو قليلا - رغم اهتزاز العربة الشديد، وكان ممسكا بيده عصا معقوفة وسوطا، وهما الرمز الملكي المصري، وعلى رأسه خوذة الحرب، وفي الجهة الأمامية من هذه الخوذة أفعى مكونة قمة عالية بعدة لفات حول نفسها. وكان شكلها مخيفا كأنها تهدد أعداء مصر. وكان يزين طلعته الجميلة بلحية مستعارة، ويغطي جسمه القوي الجميل بثوب من الكتان الأبيض، وحول وسطه نطاق ذهبي تصل أهدابه إلى ركبتيه، وفي طرفيه حيتان مزخرفتان، ويجري بجانب العربة حاملوا المراوح من ريش النعام، يحركونها في أثناء جريهم دون أن يضطربوا لذلك، ومهارتهم تدعو للإعجاب والدهشة! ويتبع عربة الملك عربات الحاشية، وهي - على العموم - أقل فخامة وعظمة من عربة الملك. وقد جلست في العربة الأولى الملكة، وبيدها زهرة اللوتس الجميلة يتضوع شذاها.
أما الذين في العربات الأخرى فجلهم أمراء يجري في عروقهم الدم الفرعوني، وقد شاهدنا بينهم الأمير الساحر خامواس، وكان أعظم ساحر في مصر، ومن معجزاته قدرته على استحضار الأموات من القبور! وكان الناس يجفلون أمام بصره الحاد، ويتهامسون فيما بينهم وبين أنفسهم، بأن درج البردي الذي يضمه إلى صدره كان قد أخذه من قبر ساحر من ساحري الأيام القديمة.
وفي دقائق معدودة مر الموكب بعد أن بهر الأنظار بفخامته، وبالأشعات المنعكسة على أسلحته وجنوده والجواهر التي على أفراده العظام، وجرت خلفه الجموع الغفيرة نحو معبد الكرنك.
অজানা পৃষ্ঠা
لقد رأيت في لحظة أعظم رجل على ظهر البسيطة، والظالم الجبار المذكور في قصة بني إسرائيل؛ كم كان قويا، وكم كان فخورا!
وطبيعي أنه لم يكن يحلم بأن اليهودي الصغير الذي تبنته ابنته، والذي تربى بجامعة الكهنة بهليوبوليس، سوف يذل مصر في يوم من الأيام، ويبدل عزها هوانا، وأن اسم فرعون العظيم لم يكتب له الخلود وذيوع الصيت إلا لأنه اقترن باسم موسى.
الفصل الخامس
حياة الجندي
إنك إذا اطلعت على ما كتب عن المصريين في الكتاب المقدس، خيل إليك أنهم أمة حرب وطعان، وأنهم لم يوجهوا همهم لشيء في الحياة كالحرب والغزو. وحقا لقد حاربوا طويلا، وانتصروا كثيرا، واستطاعوا بذلك أن يكونوا إمبراطورية عظيمة لم تصغر في شأنها عن أي إمبراطورية قامت في العهد القديم.
ولكنهم لم يكونوا ميالين بطبعهم وسجيتهم إلى الحرب والقتال، ولم تكن روح المصري مفعمة بذلك الميل الغريزي الذي يدفع صاحبه إلى القتال في أي فرصة، ويسبب له من السرور والحبور في أثناء القتال ما لا يمكن تصوره عقل إنسان، أي إنهم لم يكونوا مثل أعدائهم الآسيويين والبابليين.
ونحن الذين قدر لنا أن نتصل بأحفادهم - المصريين الحديثين - وأن يكون بيننا وبينهم من الأمر ما هو معروف. نعلم حق العلم أن المصري ينفر من الحرب نفورا شديدا، ولقد تحققنا من ذلك في أثناء حروبنا معهم وضدهم.
نعم؛ قد يظهر الجندي المصري مهارة خاصة، ويبلي بلاء حسنا، إذا قاده إلى القتال قواد ماهرون، ولكنه مع ذلك يختلف عن السوداني الذي يقاتل حبا في القتال.
المصري يؤثر عيشة السلام على الحرب، وليس أشهى لديه من الإقامة في حقله بين أسرته وقطعانه يزرع الأرض ويرويها. هكذا المصري، وهكذا كان آباؤه وأجداده، ولكن إذا أمر فرعون بالحرب فلا يوجد من يتردد في طاعة أمره؛ هنالك يحاربون تحت قيادته ويبلون البلاء الحسن، ولكن طول الوقت لا يشغل بالهم مثل وطنهم والحنين إليه، وكم تكون سعادتهم عظيمة إذا انتهت الحرب، وأزف وقت الرجوع إلى الوطن ومسراته الهادئة البسيطة!
وعلى العموم، كانوا شعبا مسالما رحيما، ميالا للسرور والأخذ بأسباب المسرات، ولا تجد بينهم فظا غليظا كما تجد بين الآسيويين.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي الحقيقة كان المصري لا يرضى لنفسه أن يحترف الجندية؛ لأنه كان يعتقد أنها عمل مؤلم لا يختلف عن الأعمال الشاقة، ففيها يتعرض الجندي لكل أنواع الذل والمهانة، ولا تظن أن سوء ظنه هذا بالجندية كان على غير الحق.
أما ما يرجوه في الحياة، فهو أن يفوز بعمل كاتب عند أحد الأغنياء أو في مصالح الحكومة، يكتب التقارير ويحسب الحسابات. ولما لم يكن في الإمكان أن تتسع الوظائف لجميع الشبان، فقد كان الأب الذي يتمكن من توظيف أحد أبنائه أسعد الآباء، ولو أنه من المحتمل جدا أن يحتقره الابن، ويترفع عن الانتساب إليه وإلى إخوته الذين يزرعون في الحقول أو يخدمون في الجيش.
ولدينا الآن كتاب قديم كان كاتبه جنديا، ثم رقي إلى ضابط في الإدارة السياسية، كتبه لشاب صغير مبينا له آراءه عن الجندية، محذرا إياه أن يتخذها مهنة مستقبلة. وكان الشاب ولوعا بأن يكون في أحد الأيام من جنود العربات، وهم الذين يقابلون الفرسان عندنا اليوم، وكان يقف في العربة جنديان أحدهما يسوق ويقود الجياد، والآخر يحارب بقوسه، وفي بعض الأحوال بالسيف أو الرمح.
وقد قال له إن فرسان العربات ليسوا أحسن حالا من بقية الجند، وقد يظهر العمل لقليل الاختبار جذابا جميلا، فلا يركب الجندي العربة حتى يظن أنه ملك على الأرض كلها، ثم يذهب إلى أهله بملابسه الجديدة فخورا مختالا!
ولكنه معرض لأشد أنواع العقوبات وأقساها إذا ارتكب أقل الأخطاء وأهونها، فإذا جاء يوم التفتيش ووجد أن أحد الجنود مقصر أقل تقصير، أو أن إحدى معداته بها خلل لا يذكر، فإنه يطرح على الأرض، ويضرب بالعصي ضربا مبرحا، حتى يشرف على الهلاك من شدة الألم. ويؤكد للشاب أن هذه الحالة التي وصفها تعد خيرا بكثير من حالة الجنود العادية، فإنهم كانوا يجلدون في ثكناتهم لأي هفوة تصدر منهم، ثم إنهم يتكبدون أشد المتاعب في أثناء الحروب، فيسيرون إلى سوريا الأيام الطوال، والأرض تأكل أقدامهم التي لم تلمس إلا أرض مصر اللينة. وكانوا يحملون معداتهم ولوازمهم وآلات القتال. وبالجملة فقد كانوا ينوءون تحت حمل ثقيل، وكثيرا ما كانوا يضطرون إلى شرب الماء القذر في أثناء اجتيازهم الصحراء، غير مبالين بما قد يسببه لهم من الأمراض، وهم الذين يقاتلون الأعداء معرضين أنفسهم للموت وأجسامهم للتلف، بينما يجلس القواد في أمان وسلام. فإذا انتهت الحرب عاد الجندي منهم إلى بلده مثخنا بالجراح، مهدم البنيان، مسلوب الملابس؛ وذلك لأن النوبيين الذين يحرسون الأمتعة ينتهزون فرصة اشتباك الفريقين في القتال، ثم يسرقون الأمتعة ويلوذون بالفرار.
وختم الكاتب كلامه بأن قال: «خير من كل ذلك أن تختار لنفسك مهنة كمهنة الكتابة، وتعيش سعيدا في وطنك.»
وأستطيع أن أقول إن كلام هذا الكاتب صحيح، وهذه الحالة التي كانوا يشكون منها قديما لا تزال على ما كانت عليه إلى الآن، ولكن رغما عن كل ذلك، فقد استطاع فرعون أن يجمع الجيوش الجرارة في وقت الخطر.
ولم يكن الجيش المصري كثير العدد مثل الجيوش التي نسمع عنها الآن، أو التي نقرأ عنها في كتب القدماء؛ فالجيوش التي قادها الفراعنة إلى أرض سوريا لم تكن تزيد على العشرين أو الخمسة وعشرين ألفا، ولكن الغريب أن يكون الجيش - وهو على هذه القلة - كثير الجنسيات، مثل جيشنا الموجود في الهند.
وأهم فرق الجيش هي فرق الوطنيين من رماة القوس ورجال الرمح، ويحمل الأولون الأقواس والسهام، وهم أخف حملا من رماة الرمح إلا أنهم أشد خطرا، فإن المصريين اشتهروا بالمهارة في الرماية مثل الإنجليز القدماء، وقد كانوا سبب انتصار فرعون في كثير من الأوقات، أما الآخرون فيحملون الرماح والدروع، وفي بعض الأحيان الفئوس والخناجر أو السيوف القصار.
وهنالك فرقة من جنود العربات، وهم من المصريين أيضا، ويعتبرون أرقى درجة من المشاة. ولم تكن مهمة جندي العربة من الأمور السهلة، فقد كان عليه أن يحفظ توازنه، وأن يصيب عدوه في أثناء جري الخيل وسير العربة، ولا يخفى ما في ذلك من الصعوبة، وما يحتاجه من المران والثبات. وكانت خيول العربات تزين أجمل زينة.
অজানা পৃষ্ঠা
وفي كثير من الأحيان إذا خان الحظ الجندي المقاتل الموجود بالعربة، يعمد الآخر - السائق - إلى مساعدته، فيلف عنان الجوادين حول وسطه، ويبتدئ في الطعان، على أن يضبط الخيل بتمايله ذات اليمين وذات اليسار.
ويحيط بعربة فرعون الحرس الملكي، وكان مكونا من رجال يدعوهم المصريون «أرشردن» أو السردانيين، ومن المحتمل أن يكونوا من القوم الذين أتوا مصر من جهة البحر؛ ليرتزقوا من الخدمة في الجيش. وكانوا يضعون على رءوسهم الخوذ المعدنية ذات القرون، وحول صدورهم الدروع القوية، وبأيديهم السيوف الطويلة.
وخلف هؤلاء تسير الجند المرتزقة، وهم فرق سودانية على أجسامهم جلود الحيوانات المفترسة، وفي المؤخرة جنود ليبيون من البدو.
ويسبق الجميع في أثناء الحرب فرق الكشافة، يستطلعون الأخبار، ويتجسسون على العدو، ويمدون جيوشهم بالأخبار.
وكان للملك حارس خاص به، هو أغرب حارس في العالم القديم والحديث؛ لأنه كان أسدا مستأنسا، درب لخدمة سيده والدفاع عنه بأسنانه ومخالبه إذا هاجمه عدو.
أما مهمات الجيش، فكانت ترفع على ظهور الحمير ويرقبها الحمالون، وكان المصريون من أعظم الناس احتمالا لمشقات السفر والمشي، حتى ولو كان تحت أشعة شمس سوريا المحرقة، وخلال طرقها المجهولة، وكانوا يسيرون خمسة عشر ميلا يوميا، لمدة أسبوع دون أن ينهكهم التعب. والآن سأروي لك قصة جندي، حدثت في معركة من «أهم» معارك التاريخ.
كان مينا من أمهر راكبي العربات في الجيش المصري، وقد ساعده نبوغه على الترقي والتقدم مع حداثة سنه، حتى اختير ليكون سائق عربة فرعون نفسه لما خرج الجيش من زارو (حصن مصر على الحدود) ليحارب جيوش الحيثيين في شمال سوريا.
ولقد سار الجيش مسافة طويلة مخترقا الصحراء ثم أراضي فلسطين عابرا الجبال، ولم يظهر للعدو أثر، وكان مينا موجها اهتمامه لقيادة الخيل وإدارة العربة.
وابتدأ الجيش ينحدر إلى وادي الأورنت في اتجاه قادش، وقد تسربت الكشافة إلى جميع الجهات، ومكث الجيش ينتظر قدوم العدو وقد ساوره القلق.
وكانت قادش ترى على مرمى البصر، وقد ظهرت في الأفق قمم أبنيتها، وانعكست في الفضاء أشعة الشمس المنعكسة على سطوح أنهارها وسطح الخندق المحيط بها. وكان السهل الممدود بين الجيش المصري والبلد الزاحف عليها خاليا من أثر الإنسان، بما زاد في دهشة الملك وقلق جنوده، وجاءت الكشافة بالأخبار، وأعلمت الملك بأن جيش الأعداء تقهقر إلى الشمال من الخوف والفرق، فظن الملك أنه مستول على المدينة بلا عراك، ثم أسرع بتقسيم الجيش إلى أربع فرق، وقاد الفرقة الأولى، وسار بها نحو قادش بجرأة عظيمة، وبلا روية أو تدبير، بعد أن أمر الفرق الأخرى باللحاق به، على ألا تبدأ فرقة بالمسير إلا إن ابتعدت منها الفرقة السابقة لها بمسافة معلومة.
অজানা পৃষ্ঠা
ووصلت الفرقة الأولى يقودها فرعون إلى شمال غرب قادش، وعسكرت هنالك بعد أن أنهكها الأين والكلال، وأخذ منها التعب كل مأخذ.
ثم رفعت الأثقال عن ظهور الحمير؛ لتأخذ قسطها من الراحة.
وإذ كانت الكشافة تجوب الجهات المختلفة لتستطلع أخبار العدو، عثرت في طريقها بعربتين، فقبضت عليهما، وسارت بهما إلى المعسكر، وقدمتهما إلى فرعون، وأمر الملك بضربهما بالعصي، حتى اعترف البائسان بأن ملك الحيثيين مختبئ في الجهة المقابلة لعسكر المصريين، وأنه يتربص الدوائر لينزل بأعدائه هزيمة منكرة.
وأسرع الملك فأنحي باللائمة على جنود كشافته، واتهمهم بقلة التبصر والتسرع في نقل الأخبار، وأصدر الأوامر بالتأهب للمسير.
ولكن قبل أن يقفز الملك إلى عربته - التي هيأها مينا للرحيل - دوت في الفضاء ضوضاء مزعجة عند باب المعسكر، ورئيت الفرقة المصرية الثانية مشتتة الشمل ضائعة اللب، وهي تفر أمام جيوش الحيثيين الجرارة وعرباتهم البالغة خمسة وعشرين ألفا، والآخرون يقتلون فيهم ويأسرون.
انتظر الملك في مخبئه حتى وصلته الأخبار من جواسيسه بمعسكر الفرقة الأولى، ولما درى بقدوم الفرقة الثانية أمر بالهجوم عليها دفعة واحدة، ولما كانت الفرقة منهوكة القوى من مشقة السفر، لم تستطع المقاومة والثبات، وانتهى الأمر بفرارها وانتصار الحيثيين عليها. وقد أحدث فرارهم - وما هم عليه من تعب وبؤس - خوفا عظيما في معسكر فرعون، سرى في نفوس الجميع، ففر سوادهم مع بقية أفراد الفرقة الثانية، ولم يبق لمقاومة الأعداء إلا فرعون وبعض أفراد العائلة الذين أبت شجاعتهم أن يسلموا للخوف ويولوا الأدبار.
ومع ما أظهره رمسيس من قلة التبصر وضعف النظر في قيادة الجيش؛ إلا أنه أبدى شجاعة نادرة وبسالة لا مثيل لها.
فبعد أن قفز إلى عربته، أمر أتباعه المخلصين باتباعه، وأمر مينا بسوق العربة للقاء الأعداء، ولم يكن مينا جبانا، ولكنه لما رأي عربات المصريين التي تعد على الأصابع، ثم شاهد عربات الأعداء التي لا تعد ولا تحصى، شعر، بالرغم منه، بالخوف يهز قلبه.
ومع ما اختلج في نفسه من الخوف، لم يفكر لحظة في الهروب أو العصيان، ولكنه وهو يميل إلى الأمام ليقود الخيل همس في أذن فرعون: «يا قوة مصر العظيمة في يوم الحرب، أنقذنا.» فأجابه: «الثبات ... الثبات ... سأفترس جموعهم كالباز.»
وفي الحال سابقت جياد مصر الريح قاصدة جيوش الأعداء، وكان لاندفاعها غير المنتظر أثره في نفوس الحيثيين، حتى إن فرعون وأتباعه اخترقوا الصفوف وغاصوا في لجتها. وكان مينا منهمكا في عمله حاصرا عقله فيه، غير مبال بما قد يصيبه من آلاف السهام المتطايرة في الجو، وكان فرعون يقاتل بمهارة منقطعة النظير، وكان قوسه يرسل السهام باستمرار، فتصيب مقاتل الحيثيين، وتصرعهم من عرباتهم. وكذا فعل الأمراء الذين كانوا يتبعون فرعون، وقد تركوا خلفهم صفوفا من القتلى والجرحى.
অজানা পৃষ্ঠা
وهكذا استطاع فرعون أن يفتح ثغرة من صفوف الأعداء، ولكنهم كانوا جموعا زاخرة يزيدون عليه وعلى أتباعه آلاف المرات. وكانت بعض العربات المصريات قد اتجهت جهة الجنوب؛ لتأتي بنجدة من جنود الفرقتين الباقيتين، ولكن كان يلزم لوصولها مضي وقت غير قصير.
وكان مما يزيد الحالة حرجا أن ملك الحيثيين، على رأس جيش يبلغ الثمانية آلاف كان معسكرا على شاطئ النهر الآخر، ولو أنه أسرع بعبور النهر لقضى على رمسيس ومن معه. ولم يبق أمام فرعون إلا القتال، فقاتل بشدة هو وجنوده، واستطاع بمهارته أن يجعل بعض عربات الحيثيين بينه وبين النهر، وأمن بذلك شر نبال الجنود المعسكرة على الشاطئ الآخر. وبعد فوات زمن غير قصير، ظهرت طوالع الفرق المصرية، وفي الحال انضموا إلى إخوانهم، وأخذ الفرق بين الجيشين يقل نوعا ما عما قبل، وكانت جعبة المصريين قد خلت من السهام، فسلوا السيوف وأطلقوا الرماح، وهنا حمي وطيس القتال، وأخذ الأعداء في التقهقر صوب النهر، وقد وقف ملك الحيثيين على الشاطئ الثاني من النهر مندهشا لما رآه أمامه. وقد فات الوقت لعبوره النهر واشتراكه في القتال، أما الآن فلم يكن في الإمكان عبور النهر؛ لامتلاء الشاطئ الآخر بعربات الحيثيين وجنودهم، بما لم يدع مكانا لجنود جديدة.
ومما زاد في فرح المصريين وقوى ساعدهم، وصول الفرقة الأخيرة، وأسرع بقدومها الهلاك إلى جنود الأعداء، وأخذوا يتساقطون في النهر، وكانت مذبحة عظيمة.
وانتهت بهروب الأعداء، وقد رصد لهم رماة القوس المصريين من يرمونهم بسهامهم، فيقتلون منهم من يقتلون، ويجرحون من يجرحون. وقتل من الحيثيين شقيقا الملك ورئيس حراسه، وأعظم كتابه، وحامل درعه.
أما ملك الحيثيين، فقد سقط في النهر وهو يجتاز مخاضة فيه، وكاد يموت غرقا، لولا أن رمى أحد أتباعه بنفسه في الماء وأنقذ الملك من يد الهلاك المحقق، فترك ميدان القتال بعد أن ضاعت من يده فرصة عظيمة للقضاء على عدوه اللدود، وآب بالفشل والخذلان.
وبعد انتهاء المعركة دعا فرعون قواد الجند أمامه، وقد وقفوا متخاذلين تعلو وجوههم حمرة الخجل؛ لما بدر منهم من دلالات الجبن في بادئ المعركة، أما فرعون فقد خلع عن رقبته الملكية طوقا ذهبيا ووضعه حول رقبة تابعه الأمين مينا، ثم وبخ قواده عن تركهم له ليواجه الأعداء بمفرده وفرارهم جبنا وخوفا، ثم حدثهم عن مينا، وكيف أنه لم يتركه ساعة الخطر، وختم الحديث بقوله: «ولا أنسى جوادي عربتي، وسوف يتناولان طعامهما يوميا - أمامي- في السراي الملكية.» ولما كان الجيشان قد خسرا خسارة عظيمة وأخذ التعب منهما كل مأخذ، فقد تعذر عليهما مواصلة القتال، وقبلا عن رضاء خاطر الهدنة، وانسحب الحيثيون إلى الشمال، ورجع المصريون إلى وطنهم، ولم يربحوا شيئا رغما عما بذلوه من جهد وأبدوه من بسالة، ولكن فرحهم بالنجاة من الهلاك المحقق أنساهم ما خسروه. وكم كان مينا فخورا وهو يسوق عربة الملك داخل أسوار زارو.
وسار الجيش بين جموع الشعب التي أتت لاستقباله، ولنثر الورود على جنوده، وكانوا من جميع الطبقات؛ فيهم الكاهن والتاجر والنبيل.
ولم يكن يوجد بعد رمسيس الذي أنقذ جيشه ووطنه وشرفه من يستطيع أن يفتخر بعمله مثل مينا، الذي وقف بجانب سيده في أشد حالات الخطر.
الفصل السادس
حياة الطفل
অজানা পৃষ্ঠা