মিন ওয়ারা মিনজার
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
জনগুলি
وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم انطلق يتحدث ولم يكن حديثه إلى شكاة مرة موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعا، حتى صار إلى ما صار إليه، وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت ابنه في المدينة، فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانبا هو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كان الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكا: إن هذا الرجل كان فيما قبل زارعا أجيرا عند أسرته، وإنه يطلب إحسانا ... وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني. هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما بقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سببا في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخا خرفا لا يؤاخذ.
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ ولولا أدب الضيافة لصرفت هذا المتبجح السمج من مجلسي في غلظة، ونصحت للرجل من فرط غضبي، وليتخذني شاهدا، أن يرفع إلى القضاء دعواه، فنظر إلي نظرة شكر ولكنه قال: «يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر للجميل.»
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام، كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد لا يتكلم ولا ينصرف على الرغم من عنفي عليه، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسيا مشفقا.
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني، وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريبا أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى، وأن نظل وكأننا بما بيننا وبين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء، فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟
آدمي ...!
كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفارا مضعوفا، لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد، فبدت كأنما أوهنها طول العمل.
وألح عليه الداء فلم يبرح داره أياما، وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه.
مشيت دقيقتين أو ثلاثا فيما يسمى في القرية شارع «داير الناحية»، ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطورا صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شيء، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراض الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوصة فوق هامتها كأنها الأكاليل!
ولم أكن دخلت من قبل دارا من هاتيك الدور البائسة، ولم أر إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة، التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحا منه.
ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأعوده، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيرا على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقت من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل، فلا أثر للرماد فيه، وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة، وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حينا، ومن تحت الجاموسة أحيانا!
অজানা পৃষ্ঠা