ثم يدخل الخادم مستأذنا لامرأة قد كتبت على بطاقتها هذه الجملة الغريبة: «قدرت ولكنك لم تر»، وفيها من الإغراء ما تحس وتقدر، فيضحك الصديقان ويأبيان استقبال هذه المرأة، ولكن الخادم يعود ومعه بطاقة لمونسينيور بودريار الأسقف المعروف بمكانته الدينية والأدبية، وكأنه قد أرسل هذه البطاقة يقدم بها هذه المرأة إلى الصديقين، فيأذنان لها كارهين، وقد اتفقا على أن يستقبلاها واقفين قد وضعا قلنسوتيهما على رأسيهما استعدادا للخروج حتى لا تثقل ولا تطيل، وهما في حاجة إلى الخروج لشئونهما الفنية، ولكن هذه المرأة قد أذن لها فتدخل متقدمة قصيرة الخطى شديدة الحياء، لا هي بالباسمة ولا هي بالعابسة، محتشمة الزي ولكن لها جمالا رائعا، لا يكاد يقع في عين هذين الرجلين حتى يعبث بهما عبثا لا حد له، وكانا يزدريانها قبل دخولها أشد الازدراء. وكان كل منهما يعرضها على صاحبه حتى اتفقا أن أيهما وضع قلنسوته عن رأسه بقي معها، وانصرف عنه صاحبه ليترك له حريته التامة، ولكنهما لم يكادا ينظران إليها حتى وضعا قلنسوتيهما، وحتى أخذ كل منهما مكانه فجلس ونسي الخروج، وما كان له من موعد، وهذه المرأة في الخامسة والعشرين من عمرها تسمى ماري إيف أرسجيس، تبدأ فتعتذر من التوسل ببطاقة الأسقف؛ لأن الأسقف لم يعطها هذه البطاقة، وإنما ظفرت بها، بينما كانت ترتب بعض أوراق الأسرة فاتخذتها وسيلة إلى هذين الصديقين، وهي تعتذر أيضا من بطاقتها، والجملة التي كتبت عليها قائلة إنها جملة بشعة، وإنها إذا خلت إلى نفسها اجترأت على كل شيء، فإذا اتصلت بالناس فقدت كل حظ من الجرأة، وهي تعرض نفسها عليهما لاعبة بين اللاعبات، وهي مشفقة أن ترد، ولكنهما يسرعان إلى وعدها بأنها ستقبل وهما يستبقان إلى إرضائها وتملقها، وقد اتفقا على أن تبدأ التجربة فورا، فيميل أحدهما إلى التلفون ليأمر بالبدء في هذه التجربة، فإذا الآخر ليس أقل منه إسراعا إلى هذا الأمر، وإذا ذكر أحدهما مصورا سيبدأ التجربة رفض الآخر هذا المصور واقترح غيره؛ لأنه صاحب عبث ولهو، وما أسرع ما تذهب هذه المرأة إلى حيث التجربة ويخلو الصديقان، فلا يكاد أحدهما يتحدث إلى صاحبه في أمرها بشيء، كأن كلا منهما يخفي ما وقع في نفسه منها على صاحبه، وقد أحس كل منهما في الوقت نفسه ما يملأ قلب صاحبه من الحب لهذه المرأة، وأخذت الأثرة تعمل عملها، وأخذت الغيرة تعمل عملها أيضا، وقد أخذ الصديقان يترددان في الذهاب لما كانا يريدان أن يذهبا إليه من شأن، كل يغري صاحبه بالخروج، ويعتذر عن البقاء، ثم يتفقان فيبقيان، وتنتهي التجربة وتعود المرأة، فما أحسن ما يستقبلانها، وما أشد ما ينهران الخادم؛ لأنه لم يحسن معاملتها في بعض لفظه، ولأنه احتفظ بقلنسوته على رأسه، وقد أجلست المرأة وقبلت، والصديقان يستبقان ويتنافسان أيهما يكون أشد إرضاء وأكثر تملقا، وهي سعيدة مغتبطة لا تحس ما بينهما من غيرة ولا تفكر إلا في أنها ستقبل وستعمل، وستكسب حياتها، بل هي تفكر وتتحدث بشيء آخر: هي سعيدة لأن هذين الرجلين يتحدثان إليها في شيء من الاحترام والحشمة، لا يبسط أحدهما إليها يدا، ولا يلقي أحدهم عليها نظرة مريبة، وهي تريد أن تعيش وفية دائما لصديق لها فقدته، وكلا الصديقين يعدها المعونة والتأييد، ويقربها إلى نفسه، حتى يقول لها أحدهما: إن ساءك شيء من العمال فستجديني عونا لك، فينكر الآخر عليه ذلك، ويظهر بينهما شيء من الخلاف تلحظه المرأة، ويشتد هذا الخلاف حتى يضطر أحدهما إلى أن يطلب إليها أن تعتزل حينا حتى يتم عقدها الذي يهيأ.
فإذا خلا الصديقان بدآ بالعتاب، ثم لم يلبث هذا العتاب أن يستحيل إلى خصومة منكرة يظهر فيها الحقد في أقوى مظاهره وأقبحها بين رجلين كل منهما يحب هذه المرأة حبا لا حد له، ويريد أن يؤثر بها نفسه، وأن يضحي في سبيل ذلك بكل شيء وبكل إنسان، ويصل الأمر بالصديقين إلى أن يعلن كل منهما إلى صاحبه الحرب التي لا سلم فيها، وإلى أن يتمنى كل منهما لصاحبه لو قد ظل في قعر البحر فلم ينج منه يوم نسفت السفينة.
وهذا أحد المصورين قد أقبل فيتحدث إليهما في شئونه، ثم يعرض عليهما رسما يقول إنه اختلسه اختلاسا حين رأى امرأة جديدة تبدأ تجربتها، ويترك لهما هذا الرسم، فإذا هو رسم هذه المرأة، والصديقان يختصمان حوله: كل يريد أن يجذبه إلى نفسه، ويصل الأمر بهما إلى أن يشتبكا، وقد أنذر كل منهما صاحبه أقبح النذير، حتى إذا انتهى بهما البغض إلى أقصاه، ولم يبق بينهما إلا الموت ذكرا صداقتهما، وذكرا السفينة، والخطر، وما بذل كل منهما من الجهد لإنقاذ صاحبه، وإذا أحدهما يعتذر إلى صاحبه، وإذا الآخر يعتذر له أيضا، وإذا هما قد تابا من هذا الشوط البعيد الذي جرياه إلى البغض والموت، وإذا الصديقان قد ظهر كل منهما لصاحبه، ولكن المرأة ما زالت قائمة بينهما ... وكلاهما يريدها لنفسه، وكلاهما يأباها على صديقه، وكلاهما يعلن إلى صاحبه أنه لو استطاع أن ينزل عنها لصاحبه لفعل، ولكنه لا يستطيع، وهما في مأزق الحيرة بين الصداقة والحب، وبين الإيثار والأثرة، وإذا فرنسوا قد وفق إلى حل يصلح ما بينهما بعض الشيء، ولكن يفسد حياتهما جميعا، فهو يعرض على صاحبه أن يتقاسما بشرفهما العسكري ليمتنعن كل منهما حيا وميتا وفي جميع أطوار الحياة، ومهما تكن الظروف عن أن يتحدث بحبه إلى هذه المرأة، وإذن فقد اتفقا، هما يحبانها، وهي عليهما حرام، هما يحبانهما، والتحدث بالحب عليهما حرام، وهذان الصديقان يتصافحان مذعنين مستسلمين، مستقبلين حياة كلها شر ومشقة وألم، وهذه إحدى العاملات تدخل وقد أعدت العقد فينظران فيه، ويتمه أحدهما، وهما يزيدان في أجر صاحبتهما، ويتنافسان في الحرص على منفعتها، حتى إذا تم لهما من ذلك ما أرادا دعوا هذه المرأة فأقبلت مضطربة يائسة أو كاليائسة، وقد طال عليها الانتظار، ورأتهما فأحست تغيرهما، فاستيقنت أنها غير مقبولة، ثم أنبئت أنها مقبولة، ثم يعرض عليها العقد فتنظر فيه فلا تملك نفسها حين ترى ما يعرض عليها من أجر لم تكن تنتظر بعضه، وهي سعيدة مغتبطة، وهي تطلب إليهما أن تقبلهما، فما أسرع ما يقبلان، وهي تقبلهما، وتنصرف على أن تعود من الغد، وقد خلا الصديقان فهما في حيرة ماذا يصنعان، وكيف يحوطانها من العبث واللهو، ويحميانها من أطماع الطامعين، وتتبع المتتبعين.
وهذا أحد المصورين قد دخل يستأذنهما في السفر لإجازته، ولكنه ينبئهما بأن قريبة له قد أرسلت إليه قصة سخيفة على أن تلعب في السينما توغراف، وهو يعلم أن هذه القصة لا يمكن أن تقبل بل يجب أن تمزق، ولكنه يريد منهما كلمة إلى صاحبة هذه القصة فيها شيء من الأمل ضئيل؛ لأنه سينفق عندها إجازته، فإذا سئل عن هذه القصة أنبأ بأنها قصة إحدى القديسات التي أنقذت طائفة من الناس في القرون الوسطى بألوان من الجهاد والتضحية سخيفة، فما أسرع ما يقبلان القصة، وينفقان في شرائها ثمنا ضخما، ويلغيان إجازة المصور ليبدأ في التجربة، والمصور دهش لا يفهم هذا، ولكن فهمه يسير، فستلعب ماري إيف في هذه القصة، وستكون فيها قديسة لا تتعرض لقبل المقبلين، ولا للعبث ولا للمزاح، ولا لشيء مما يكره العاشق أن يرى صاحبته تتعرض له، ويأتي المصور يحمل نتيجة التجربة، ولكن ما قيمة هذه النتيجة؟ وما قيمة التجربة؟ أليس قد تم الاتفاق بينهما وبين المرأة؟ أليست ستبدأ عملها من الغد؟
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى شهر على ما حدثتك به، ونحن حيث كنا في الفصل الأول، في مكتب المديرين، والمكتب كما كان لم يتغير إلا أن فيه أزهارا كثيرة لم تكن فيه من قبل، وإلا أن فيه لوحة بشعة تمثل جسم امرأة قد عبث به الجراحون ، فأظهروا كل ما فيه، أو بعبارة أدق أقبح ما فيه، أظهروا تكوينه الداخلي، أظهروا الأمعاء والمعدة والقلب والكبد، وما إلى ذلك، ونحن نرى الخادم يهيئ الأزهار ويصلحها، وينظر تحت المقاعد والمكاتب كأنه يلتمس شيئا، ثم تأتي السكرتيرة، فنفهم من حديثها مع الخادم أن أحد المديرين وهو فيليب قد فقد محفظته منذ أمس، فالخادم يبحث عن هذه المحفظة، ونفهم أن ماري إيف هي التي تحمل هذه الآثار في كل أسبوع، ونفهم أن شيئا من شئون المديرين قد تغير ...
وهذه امرأة مقبلة يظهر عليها في وضوح أنها إحدى المومسات، وإحدى المومسات المنحطات، قد دخلت، لم تستأذن، وهي تسأل عن فيليب، ويحاول الخادم أن يخرجها فلا يوفق، وبينما هو يلح عليها في الخروج وهي تأبى، يقبل فرنسوا ومعه رجل بلجيكي من رجال السينما توغراف يقال له ورتز، فإذا رأى هذه المرأة أنكرها، وإذا عرف أنها تطلب صاحبه صرف من حوله وخلا إليها لحظة، فنفهم من حديثهما أن صاحبه قضى عندها الليل، ونسي عندها محفظته، فهي ترد هذه المحفظة وهي تترك عنوانها كاملا، وقد فهمنا من حديثها أن فيليب يلتمس اللهو بل يلتمس أقبح ألوان اللهو يتعزى به عن حبه المضيع، وتنصرف المرأة ويأتي البلجيكي فيتحدث في بعض الشئون إلى فرنسوا، ونفهم نحن من هذا الحديث أن فرنسوا مدله قد ذهب لبه أو كاد؛ فهو يعاني من حبه آلاما ثقالا قد غيرت جسمه، وأخذت تغير عقله أيضا.
وبينما يتعزى صاحبه باللهو القبيح يتعزى هو بشيء آخر، بهذه اللوحة التي تظهر له أقبح ما في جسم المرأة، وبينما ينفق صاحبه ليله في المواخير ينفق هو أوقات فراغه في المستشفيات، وفي قاعات التشريح؛ يريد أن يبغض المرأة إلى نفسه.
وهو لا يكاد يفقه ما يتحدث البلجيكي به إليه، أليس قد أمضى ليالي لم يذق فيها النوم؟ أليس قد أمضى أياما لم يذق فيها الطعام؟ وصاحبه البلجيكي يسأله عن امرأة رآها تلعب، فإذا هي ماري إيف، يراها البلجيكي جميلة ويطمع فيها فيثبطه فرنسوا؛ لأن لها عاشقين خطرين .
وينصرف البلجيكي، ويأتي فيليب متعبا مكدودا، فيتحدث الصديقان في عملهما، ولكنا نحس أنهما يكتمان كتمانا شيئا ما يأكل قلبيهما من لوعة وعناء، وهذه ماري إيف قد أقبلت، وإذا هما يستقبلانها استقبالا حسنا ولكنه مؤلم، وهي تتحدث إليهما في صراحة أن قد كانت تريد الوفاء لصديقها الذي فقدته، ولكن الحياة لذيذة، وللشباب حكمه، وقد وفت لصاحبها ما استطاعت، وما الوفاء إلا ظل، فيجيب أحدهما في سخرية: ظل الوفاء ... ونفهم من حديثها أن أحد اللاعبين قد عرض لها بالحب ودعاها إلى العشاء، وأنها تريد أن تذهب وتتعشى معه، وإذا هما مغضبان يصرفانها عن ذلك ما استطاعا، ويدعوانها إلى العشاء معهما ضنا بها على هذا اللاعب، فتقبل وهي سعيدة وهما سعيدان، وهم ينظمون عشاءهم، وإذا أمر يدعوهما فينصرفان عنها حينا، وما هي إلا أن يقبل البلجيكي فيراها فيفتتن عاشقا، وتحب أن تتبين الأمر، وقد خلت إلى نفسها حينا، ثم أقبل فيليب فتتلطف له، وتدنو منه، وتأخذ في مداعبته كأنها تعرض نفسها عليه، ولكنه يردها ردا عنيفا بشعا مهينا، ويعلن إليها في قوة أنه يزدري المرأة، وما يزال بها حتى يحنقها، يريد أن يخيل أنه لا يحبها ولا يمكن أن يحبها، وهو في ذلك إذ يحس صاحبه مقبلا فينصرف، ويلح عليها في أن تبقى، وليست هي في حاجة إلى الإلحاح، فهي تريد أن تعلم علم صاحبها الآخر.
وقد دخل صاحبها فتصنع معه مثل ما صنعت مع الآخر، فلا تلقى منه إلا ردا عنيفا، ولكنه ليس كرد صاحبها الأول، فهو لا يهين ولا يزدري، ولا يكاد يخفي عواطف نفسه، ولكنه يأبى ويمتنع، ويتخذ العلل والمعاذير، ويلح في ذلك حتى يؤيسها، وقد انصرفت وكأنها تحس منه الحب، ولكننا لا نفهم في حقيقة الأمر نفسيتها الخاصة، ويقبل صاحبه فيتحدثان، ونفهم أنه قد خلا إلى ماري إيف لحظة، فانصرف ليخلو إليها صديقه لحظة مثله، وهما سيئا الحال، قد فشلا في الوفاء بما كانا قد أقسما على الوفاء به، وكل منهما يعلن فشله، ولكن الذي يؤذيهما حقيقة الأمر هو ما يراه كل منهما من ألم صاحبه وعنائه، وفساد أمره، وقد انتصرت الصداقة أو كادت، فكلا الرجلين يلح على صاحبه في أن يحل نفسه من قسمه، ويعلن أنه نازل عن حبه وعن حبيبته، وكلاهما يرفض من صاحبه هذا الوفاء. •••
অজানা পৃষ্ঠা