سعادة اليوم
الثعلب الأزرق
ظهر حديثا
الأمر للقدر
أنا قاتلة
ما أجملها
حبان
التيه
شوط القبس
القيد
অজানা পৃষ্ঠা
قانون الرجل
اعرف نفسك
أرض الجحيم
الدمية الجديدة
نشوة الحكيم
بينيلوب
سعادة اليوم
الثعلب الأزرق
ظهر حديثا
الأمر للقدر
অজানা পৃষ্ঠা
أنا قاتلة
ما أجملها
حبان
التيه
شوط القبس
القيد
قانون الرجل
اعرف نفسك
أرض الجحيم
الدمية الجديدة
অজানা পৃষ্ঠা
نشوة الحكيم
بينيلوب
من هناك
من هناك
تأليف
طه حسين
سعادة اليوم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «أدمون جبرو»
وليس ينبغي أن يخدعك هذا العنوان فتقدر أنك ستقرأ تحليل قصة خلقية اجتماعية تعرض للسعادة، وتصور الناس لها في هذا العصر، فليس بين القصة التي نلخصها في هذا الفصل وبين هذا الموضوع صلة ما، وإنما «سعادة اليوم» اسم أداة من هذه الأدوات التي تتخذ في الدور، نستطيع أن نطلق عليها هذا الاسم العامي المبتذل «المكتب»، ونريد به هذه المائدة التي تتخذ للكتابة، وفيها أدراج كثيرة تحفظ فيها السيدات أوراقهن وما لهن من هذه الأدوات الدقيقة المتنوعة. «فسعادة اليوم» في هذه القصة ليست شيئا غير هذا. هو لفظ أطلق في عصر من العصور الفرنسية، وفي طبقة من الطبقات الفرنسية على هذه الأداة الشائعة. وقد أعطت هذه الأداة الشائعة اسمها لهذه القصة؛ لأنها كانت تحتوي سرا من أسرار أسرة، فكشف هذا السر، وكان مصدر طائفة من الأحداث والانفعالات، عبثت بطائفة من القلوب والنفوس عبثا عرضه علينا الكاتب في قوة ودقة ومهارة خليقة بالإعجاب.
ولعلك لم تنس بعد هذه القصة البديعة التي حدثتك عنها في الشهر الماضي، قصة الفؤاد المقسم، ولعلك لم تنس بعد هذه العواطف المختلفة التي تتنازع القلوب، وتعبث بالنفوس فيما رأيت من قوة وعنف، فقصتنا في هذه المرة تشبه تلك القصة من هذه الناحية، فهي قصة جهاد عنيف بين عواطف قوية حادة تتنازع قلبا كريما بريئا من الشر والإثم، ولكنه في الوقت نفسه متأثر أشد التأثر بالحياة الاجتماعية، وما توارث الناس من عادة ورأي وحكم، وما تواضعوا عليه من خلق ونظام. هي قصة نفسية؛ لأنها تعرض عليك نفسا إنسانية في ظرف من هذه الظروف الحرجة العسيرة التي تكشف عن دخائل الإنسان، وتجرده، أو تكاد تجرده، من كل هذه اللفائف التي تلفه بها الحياة الاجتماعية. وهي قصة اجتماعية؛ لأن هذه النفس التي يعرضها عليك الكاتب إنما تألم وتحس ما تحس من عذاب، وتخضع لما تخضع له من حرب وجهاد بحكم الأوضاع الاجتماعية المتناقضة، وبحكم الأحداث الاجتماعية التي تحدث في حياة الناس من حين إلى حين، فتكونهم كما تحب لا كما يحبون، وتصورهم كما تريد لا كما يريدون. وهي قصة خلقية أيضا؛ لأن هذه النفس حين تتألم وتشعر بالعذاب مضطرة إلى أن تظهر شيئا من الجلد والقوة على المقاومة، وهي لا تقاوم عبثا وإنما تقاوم فرارا من شر، وحرصا على خير، ونفورا من الأذى، ورغبة في البر.
অজানা পৃষ্ঠা
وهي بعد هذا كله قصة لم تنس المثل الأعلى الذي يضعه الأفراد والجماعات أمامهم حين يحبون، وحين يختلفون في أمورهم المتباينة، هي هذا كله، وهي إلى هذا كله نموذج اللفظ المختار المنتقى، والحوار الدقيق اللطيف، والمعاني الجيدة التي فكر فيها صاحبها فأحسن التفكير، ونسقها فأجاد التنسيق. وقد يستطيع هذا الفصل من فصول التمثيل الفرنسي أن يغتبط بعض الاغتباط، فهو غني بهاتين القصتين، وهو خير من فصول أخرى سبقته، ولم يظهر فيها كما رأيت في الشهر الماضي إلا لون من هذا القصص التمثيلي الفاتر الذي لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء.
ولأعرض عليك أشخاص هذه القصة كما تعودت أن أفعل بإزاء القصص الأخرى، فقد يكون هذا العرض أيسر سبيل إلى فهمها وتذوقها، ولكني حائر لا أدري بأي هؤلاء الأشخاص أبدأ، فالظاهر أن لهذه القصة بطلا ممتازا تدور حوله، ولكن أشخاصها جميعا أبطال ممتازون، وما أرى في حقيقة الأمر إلا أن لكل واحد منهم حياته القوية المؤثرة الممتازة. أأبدأ بهذا الشاب الذي تدور القصة كلها حوله، والذي يظهر أنه البطل الممتاز فيها، والذي يظهر في الوقت نفسه أنه ضحية أبيه وأمه وعصره؟ ولم لا! فلا بد من أن نبدأ بواحد من هؤلاء الأبطال، فليكن هذا الشاب. •••
جان بليسيه؛ شاب قد ناهز من عمره الثلاثين، جميل المنظر، قوي، عذب الخلق، حلو الحديث، رقيق القلب، ولكنه في الوقت نفسه بطل من أبطال الحرب الكبرى، أدركته ولما يكد يدع المدرسة، فدخلها جنديا، ولكنه أبلى فأحسن البلاء، وتقلب في مراتب هذه الخدمة العسكرية العاملة، وذاق آلامها ولذاتها جميعا، حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح ذا مرتبة عالية في فرقة الطيران، وقد أحسن البلاء في هذا اللون من ألوان الحرب، وجر عليه ذلك خطوبا وألوانا من الشرف، فرأى الموت وصافحه أو كاد، واضطر إلى المستشفى، وتحلى صدره بالأوسمة المختلفة، ثم انجلت عنه غمرة الحرب فإذا هو يعود إلى حيث يقيم أبواه في أحد الأقاليم الفرنسية، ويعيشان عيشة ثروة ونعمة وعمل وهدوء؛ يعيشان في قصر فخم من قصور العصور الوسطى، اشترته الأسرة حين أثرت، ولكن هذا القصر وما حوله من الأرض الواسعة مهملان أو كالمهملين؛ لأن رئيس الأسرة منصرف عنهما إلى مهنة الطب التي يحبها ويكلف بها، فإذا عاد الشاب إلى أسرته أسرعت ففكرت في أن تكل إليه تدبير هذه الثروة على أن يكون ذلك عمله في حياته، وأسرعت فاختارت له فتاة حسناء لتكون زوجه، وظهر اطمئنان الفتى إلى هذا النوع من الحياة، فعني بالقصر والأرض، وشغف بالفتاة، وشغفت به الفتاة أيضا، وأخذا يستقبلان الحياة في ابتسام وبهجة، لولا «سعادة اليوم» التي حدثتك عنها في أول الفصل، والتي ستظهر لهذا الفتى أن نشاطه وسروره وابتهاجه للعمل في هذه الحياة السلمية ليست طبيعية، وإنما هي علة يتعلل بها كارها، وإنما حياته الحقيقية في الحرب. وهذا الشاب من أبوين مختلفين أشد الاختلاف في الطبقة والتربية؛ فأمه من أسرة شريفة بعيدة في الشرف، تحفظ نسبها في القرون الوسطى، وتذكر ما كان لأجدادها من بلاء في تاريخ فرنسا، ومن مكانة في قصور ملوكها، وأم هذا الفتى قد ورثت عن أسرتها الشريفة هذه كل خلالها، فهي مترفة، مهذبة، رقيقة ممتازة، وقد أورثت هذه الخلال كلها ابنها الشاب.
أما أبوه فمن طبقة أخرى، من هذه الطبقة التي كانت مهضومة مظلومة قبل الثورة، والتي اكتسبت الحرية بعد الثورة، وجدت فأضافت إلى الحرية ثروة وقوة، واستئثارا بالحكم، وفيها خلالها، فهي نشيطة عاملة صريحة، شريفة الخلق، وفيها عيوبها أيضا، فهي غليظة خشنة، قليلة الحظ من التهذيب والرقة والامتياز، لا تتنزه عن صغائر تعافها الأرستقراطية، كان جد هذا الفتى يعمل في البريد، ولكنه جد حتى أثرى، وأحسن تربية ابنه حتى أصبح ابنه وزيرا في الإمبراطورية الثالثة، وترك هذا الوزير ابنا أحسن تربيته، فهو طبيب، وهو أبو هذا الشاب.
وهذا الشاب متأثر - كما قلنا - بما ورث عن أمه، نافر أشد النفور من أخلاق أبيه. فهو لا يكاد يحتمل أباه منذ رجع من الحرب. وهو يألم لهذا ولكنه لا يجد إلى اتقائه سبيلا. وأبوه يألم له أيضا، ولكنه يروض نفسه على هذا الألم، وقد علمته الحياة أن يروض نفسه على الألم. فقد نشأ - كما رأيت - ابنا لهذا الوزير، وأدركته حرب السبعين، وما تبعها من الهزيمة فتركت في نفسه ما تركت في نفوس الفرنسيين جميعا من هذه الآثار المؤلمة التي يمثلها ضعف العزيمة والاستسلام، ثم الطمع والشك.
وكان أبوه ضخم الثروة، فزوجه من امرأته الشريفة الفقيرة، وجد هذا الرجل في مهنة الطب حتى أحبها علما وعملا، واتخذها سبيلا إلى البر بالفقراء، والإحسان إلى البائسين، وهو شديد الإعجاب بأسرته وجدها ونشاطها، لا يكره مع ذلك أن يزدري الأشراف وخمولهم وكبرياءهم. ولكن الحياة كانت تدخر له ألما هو الذي جعله بطلا، كما أنه أسبغ البطولة على امرأته أيضا. وليس من الخير أن نتعجل فنكشف لك عن هذا الألم، فهو قوام الشطر الأول من القصة.
فلندع هذه الأسرة، ولنذكر الشخص الرابع من أشخاص القصة، وهو «جرمين داجوزون» خطيبة جان، فهي فتاة جميلة فتانة، ولكنها فقيرة، هي من أسرة نبيلة، ولكن أباها كان سيئ السيرة والخلق، وأمها كانت تعسة سيئة الحال، فأما أبوها فقد مات، وأما أمها فقد بقي لها من هذه الحياة السيئة ضرب من الاضطراب العقلي والخلقي، يمثله الغرور والشره، والتكلف، وما إلى هذه الأخلاق مما يجعل الإنسان موضع السخرية والإشفاق في وقت واحد، ولكن الفتاة لم تتأثر بشيء من هذا، وإنما نشأت نبيلة ذكية القلب، جلدة، قوية الإرادة، قادرة على المقاومة، ولكنها رقيقة محبة أيضا، ولم تكد تعرف هذا الفتى حتى أحبته حبا قويا عنيفا، ولكنه شريف ممتاز، يشبه حب الفتى لها.
هؤلاء هم الأشخاص، لم أعرض عليك من أمرهم إلا ما يمكن أن يعرف قبل أن تحدث حوادث القصة، فتكشف من نفسياتهم عما كان مخبوءا. •••
فإذا كان الفصل الأول، فنحن في أعلى القصر، في هذه الغرف التي تتخذ ملقى للأدوات العتيقة بعد أن يستغنى عنها، ويزهد فيها، فتترك في هذه الغرف مهملة وديعة في أيدي الزمان، يفنيها قليلا قليلا، وتهمل معها هذه الغرف قد أغلقت أبوابها من دون هذا المتاع، كما تغلق المقابر دون ما تودع من أجسام الموتى. وقد صعد جان إلى إحدى هذه الغرف، ففتح أبوابها ونوافذها للهواء والضوء، وأخذ يتفقد ما فيها من متاع في إعجاب وشغف، وما هي إلا أن أخذ ينسق من هذه الغرفة وما فيها مكانا يستقبل فيه خطيبته وأمها وأبويه لتناول الشاي. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لخطيبته حين علمت بأن في أعلى القصر أدوات قديمة من متاع القرون الوسطى، فأقبل الفتى يهيئ لها هذه الغرفة وهو يحاور في ذلك خادمه حوارا لذيذا خفيفا، فهو كلف بهذا المتاع القديم؛ لأنه يمثل حياة آبائه، ولكن خادمه منصرف عن هذا المتاع لأنه عتيق، قد عمل فيه الفناء، ولأنه يؤثر الجديد الذي لم ينله البلى. وانظر إلى الغرفة قد نسقت تنسيقا حسنا، وإلى طاقات الزهر قد وضعت في هذه الآنية القديمة، ثم انظر إلى الفتاة قد أقبلت، فما تكاد تنظر إلى هذه الأشياء حتى تفتن بها، وتمضي في الإعجاب والثناء. وما كان أخلقها أن تمضي في ذلك إلى غير حد لولا أنها تحب صاحبها، وصاحبها يحبها، وخلوتهما ضيقة محدودة، فلا بد من أن يتحدثا في الحب، ولا بد من أن يتبادلا هذه القبل التي يفتن الخطيبان في انتهاز الفرص لها.
وهما يتحدثان في حبهما في خفة ورشاقة وجد أيضا، ونحن نحس أننا لسنا أمام حب فاتر أو نزق، وإنما هو الحب القوي الحاد الذي لا يكاد يدخل القلب حتى يملأه ويستأثر به، ويندفع منه إلى جميع الملكات والعواطف والحواس فيخضعها لسلطانها، هذا الحب الذي كله ثقة وأمل، ورغبة واحترام وطمأنينة، وهما في هذا الحديث، وفي هذا الحب، وإذا الأسرة قد أقبلت، فلا ألخص لك ما يدور من حوار حول المتاع، ثم حول الشاي، فقد تستطيع أن تستغني عن هذا كله، وإنما ألاحظ أن الأب قد أقبل فرحا مبتهجا، فتغنى مع الفتاة بعض أغاني الأقاليم، وكانت الفتاة بهذا مبتهجة، وأمها كذلك، وامرأته أيضا، إلا الفتى فقد غاظه ذلك، وضاق به ذرعا، ولم يستطع أن يخفي ضيقه، بل عرض باللوم لأبيه، وقبل الشيخ هذا اللوم في ألم وغيظ وحزن وسخرية. وانقضى الشاي بين الضحك والحزن، تتقيه أم الفتى ما استطاعت.
অজানা পৃষ্ঠা
ثم يعلن الشيخ إلى الفتاة أن في القصر غرفا كهذه الغرف فيها متاع أقدم من هذا المتاع وأجمل، فترغب الفتاة في أن ترى، ويقبل الشيخ على أن يظهرها على هذا المتاع. وينصرفون جميعا إلا الخطيبين تخلفا فيما يظهر ليختلسا كلمة أو قبلة، والفتاة تدعو صاحبها إلى أن يتبعها إلى حيث ترى المتاع، وهو يأبى ويتعلل، وما هي إلا أن تفهم من تعلله أنه لا يريد أن يرافق أباه، وأنه ضيق الذرع بأبيه وطبقة أبيه، وما لهذه الطبقة من عادة، وما فيها من عيب، وأنه شديد الإعجاب بأمه وطبقة أمه، وما فيها من ترف ولين ورقة، وانظر إليه وقد كشف هذا المتاع القديم الذي كان يسمى «سعادة اليوم»، فهو يظهر الفتاة على محاسنه، وما فيه من رشاقة فنية، وهو يوازن لها بين هذه الأداة الرشيقة التي تمثل ذوق أمه وأسرتها الشريفة، وبين تلك الأدوات الغليظة التي يمتلئ بها القصر، والتي تمثل ذوق هذه الطبقة الوسطى التي سادت بعد الثورة.
وقد تركته الفتاة، فعمد إلى هذا المتاع، وأخذ ينظر في أدراجه، ويستنشق رائحتها في شغف وفتنة؛ لأن هذا المتاع قد كانت أمه تستخدمه في شبابها، فهو إنما يتنسم شباب أمه، وقد جذب إليه درجا فتنسمه، ثم حاول أن يرده فيستعصي عليه كأن شيئا يعترض دونه، فينظر فإذا حزمة من الورق، فيسرع إليها متلهفا، ويتردد ثم يفضها، فإذا رسائل تنثر، فيسرع إلى هذه الرسائل يجمعها ويخفيها في جيبه، ولكنه يسمع صوتا فيبالغ في السرعة، ثم ينهض فينصرف، وقد أقبل أبوه فرآه موليا، ونظر فإذا رسالتان على الأرض قد أخطأهما الفتى، فيسرع إليهما فيدسهما في جيبه. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على ما قدمت لك، والقوم مجتمعون في غرفة المائدة بعد العشاء، ومعهم الخدم جميعا كأنهم في حفل منزلي، والشيخ قائم أمام نار الموقد المتأججة يشتوي فيها بنفسه الشاه بلوط، أو «الكاستنيا» - كما يسمونه الآن - وهو يقص على الفتاة وأمها من عادات الإقليم وأحاديثه ما يضحكهما ويلذهما، وهم جميعا مبتهجون إلا الشاب فقد تنحى وانصرف إلى كتاب كأنه ينظر فيه، وإلا أم الفتى فهي قلقة لما تشاهد من ضيق ابنها، وسوء الحال بينه وبين أبيه. وقد انتهى عبث الجماعة إلى آخره، وأعلن الشيخ أن ستجمع طائفة من هذا الشاه بلوط الذي يشتوي، تخرج من الجمر، ثم يوضع عليها غطاء ما، ثم تجلس عليها أصغر الحاضرين سنا، وقد قبلت الفتاة، والخدم مبتهجون، وأمها مترددة متكلفة، ولكن الفتى يترك كتابه وينهى خطيبته عن هذا العبث فتأبى، فيلح فتزداد إباء، فيبالغ في الإلحاح فتغضب، ويفسد الأمر بينهما بعض الشيء، وتنصرف غير حافلة بأمها ونذيرها، وقد أعلنت أن خطيبها يجب أن يعرفها حق المعرفة، وأن يعلم قبل أن يتخذها له زوجا أن لها إرداة، وأنها قد تغلو في هذه الإرادة أحيانا. وقد فسد الحفل، وانقلب السرور شيئا يشبه الحزن.
ومضى كل إلى مضجعه، ويظل المسرح خاليا حينا، ثم إذا الشاب قد أقبل إلى المكتبة يلتمس فيها شيئا، فيستخرج مجمعا للصور، وينظر فيه كأنه يبحث عن صورة بعينها، حتى إذا انتهى إليها اختلسها ودسها في جيبه، وما يكاد يفرغ من هذا حتى يحس صوتا، فيرد مجمع الصور، ويظهر أنه يأخذ كتابا، وقد أقبل أبوه، فيسأله ماذا يصنع، فيجيب الفتى أنه قد امتنع عليه النوم فأقبل يلتمس كتابا يستعين به على الأرق، يجيب الشيخ: وهذه حالي، فلنتحدث قليلا.
وما يكادان يبتدئان الحديث حتى يصل الشيخ إلى ما كان يريد، فهو يريد أن يتعرف من شأن ابنه مصدر هذا الضيق الذي ظهر عليه منذ أيام، والذي أقلق أمه، ونغص عليها الحياة، أو قل إن الشيخ يعرف مصدر هذا الضيق، ولكنه يريد أن يتحدث فيه إلى الفتى. أما الفتى فيتكلف الجواب، ويحتال في اتقاء الشيخ، ويعلن إليه أنه ضيق الذرع بهذه الحياة التي يحياها بعد الحرب، والتي لا عمل فيها، وأنه يريد أن يعمل وأن يكسب، وألا يكون مدينا بحياته لأحد. أما الشيخ فلا تخدعه هذه المحاولة، وما هي إلا أن يصل إلى عرضه في صراحة، فيعلن إلى الفتى أنه قد عثر بطائفة من الرسائل، ولكنه نسي منها اثنتين ويدفعهما إليه، وأنه قد قرأ هذه الرسائل وعرف ما عرف من أمرها، وأن هذه الرسائل هي التي تنغص عليه حياته، فإذا أظهر الفتى شيئا من الدهش أنبأه الشيخ في هدوء وألم مبتسما بأنه يعرف ما في هذه الرسائل منذ ثلاثين سنة، ثم يقص على الفتى القصص.
فليس الفتى ابنه، وإن كان ابنه أمام القانون وأمام الناس وأمامه هو أيضا؛ ذلك أنه قد كان تزوج من امرأته دون أن تحبه كما يتزوج أصحاب الثروة من الفقيرات في غير حب ولا كلف، فلما لم يجد من امرأته حبا ولا حنانا ولا هياما زهد فيها، وانصرف عنها إلى اللهو والعبث، وفرحت هي بهذا الزهد والانصراف، وفي ذات ليلة لقي صديقا له كان رفيقه في المدرسة، وكان من الأشراف، وكان قد أحب امرأته، وكانت قد أحبته، وكانا يريدان الزواج، ولكن الفقر حال بينهما وبينه، فلأمر ما حرص صاحبنا على أن يستأنف الصلة بينه وبين صديقه القديم. وانظر إليه يتهم نفسه أشنع التهم في لطف ورقة وكرم أيضا. انظر إليه يحدث الفتى بأنه اجتهد في أن يتردد صديقه على بيته، وتتجدد الصلة بينه وبين حبيبته القديمة لأمر لا يكاد يتبينه، وربما كان منه أنه أحب أن يثير في نفس امرأته حبها القديم لهذا الرجل لعلها تتورط في شيء من الإثم، فيتخذ ذلك حجة عليها، وعذرا لنفسه من آثامه الكثيرة. ومهما يكن من شيء فقد كان ما لم يكن منه بد، وأثمت المرأة، وكان الفتى نتيجة هذا الإثم، فأما أبوه فقد ندم وألح عليه الندم حتى التحق بجيش من جيوش المستعمرات الأفريقية، وجاهد حتى اشترى خطيئته بالموت. وأما أمه فقد لقيت في الحمل آلاما ثقالا، وتعرضت في الوضع لخطر الموت، ووقف زوجها بين الأمانة لمهنته كطبيب يجب أن ينقذ المريضة، والانتقام لنفسه كزوج يريد أن يقتل الخائنة، فوفى لمهنته وأنقذ المريضة، حتى إذا تم لها الشفاء لم يجد في نفسه القدرة على استئناف الانتقام فصفح وعفا، وندمت زوجه وثابت، وكانت بينهما مودة استحالت حبا قويا شريفا استفاد منه الطفل، فنشأ بين قلبين يحبانه، ويعطفان عليه.
وقد سمع الفتى هذا القصص، ولكنه بطل من أبطال الحرب قد تعود الهول وتجشمه، وتعود المكروه وصبر نفسه عليه، فهو يألم ولكنه يكظم ألمه. وهو بين أمرين يتنازعان قلبه ونفسه؛ السخط على أمه وأبيه لأنهما وضعاه في هذه المنزلة الكريهة، والبر بهذه الأم التي لقيت في سبيله ما لقيت من ألم، وتعرضت في سبيله لما تعرضت له من خطر، وهذا الشيخ الذي كان يظنه أباه، والذي كان ينكره ويضيق به، والذي ظهر الآن أنه ليس منه في شيء؛ أيحبه لأنه نشأه وترباه كما ينشئ الأب ابنه في مودة وحنان وحب، أم يبغضه لأنه ليس منه في شيء، ولأنه هو الذي عرض أمه للإثم والخطيئة، وهو الذي اضطر أمه إلى أن تلده في غير رضا الأخلاق والقانون؟ وأبوه! أيحبه لأنه أبوه أم يبغضه لأنه ورط أمه في الإثم، وجنى عليه هذا الوجود المنكر؟ وخطيبته! ماذا يصنع بها؟ أيمضي في حبها، ويكتمها ما عرف من أمره، فهو إذن يغشها ويدلس عليها، أم يظهرها على كل شيء، وإذن فإلى أي حال ينتهي حبه وكبرياؤه وكرامته؟
وهذه الثروة الضخمة التي يكلها إليه الشيخ أيقبلها وليست له، أم يردها، وإذن ماذا يصنع؟ فأنت ترى إلى هذا الموقف المعقد، وإلى ما فيه من حرج.
وموقف الشيخ! أتظنه يخلو من الحرج؟ كلا! فقد عفا عن امرأته، وقد استطاعت امرأته أن تمحو ما في نفسه من موجدة، وهو يحب امرأته ويريد أن يحميها من كل مكروه، وقد كان هذا يسيرا ما خفيت القصة على الفتى، ولكن الفتى قد عرف القصة، ووقف الشيخ منه في صراحة موقف الغريب فماذا يصنع؟ وكيف يعصم امرأته من احتقار ابنها وسخطه؟ وهو كان أحب الفتى، واتخذه ابنا حقا، وقد ظهرت خبيئة الأمر فما له بشيء هذا الفتى؟ ومع ذلك فلم يأثم الرجل، ولم يقترف خطيئة، وإنما تكلف اتهام نفسه ليخفف عن امرأته، وليعطف الشاب على أمه، ما خانها، ولا تعمد إغواءها وتوريطها في الإثم، ومهما يكن من شيء فهو لا يطلب الآن إلا أن تجهل امرأته أن ابنها قد ظهر على جلية الأمر، وهو يائس أو كاليائس من حب هذا الفتى، وقد ضحى بنفسه مرة، فلم لا يضحي مرة أخرى على أنه قد لقي من حب امرأته ما عزاه عن تضحيته الأولى، فلعله يلقى من إحسانه إلى الناس، ومن حب الفتاة ما يعزيه عن التضحية الثانية. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما كان في الفصل الثاني، ونحن نرى الشيخ في عيادته يستقبل المرضى، ويطب لهم، ولكنه متعب قد ظهر عليه السأم والضيق، حتى إذا انصرف آخر مرضاه دعا الخادم فيأمرها بأن تذهب إلى الصيدلي، وتطلب إليه أن يحتال في ألا تدفع إليه إحدى مرضاه ثمن الدواء، فهو كثير وهي فقيرة، ولكنها عزيزة النفس لا تقبل الصدقة، فليخدعها الصيدلي إذن، وليخيل إليها أن الدواء رخيص، وليضف قيمته الحقيقية إلى حساب الطبيب.
অজানা পৃষ্ঠা
وانظر إلى امرأة الطبيب، قد أقبلت محزونة تشكو إلى زوجها ضيق ابنها، وانصرافه عنها وعن خطيبته، وتلتمس لذلك العلل والأسباب، وتخبر زوجها بأن الرسائل متصلة منذ أيام بين ابنها وبين وزارة الحرب، وهي مشفقة من ذلك، والشيخ يعزيها في مودة وحب، ولكنه لا يظفر من تعزيتها بشيء، وهي تطلب إليه أن يتحدث إلى الفتى ويعظه لعله يكشف من أمره شيئا، ولعله يرده إلى حب أمه وخطيبته، والرفق بهما، فيتردد ثم يذعن، وتنصرف امرأته وترسل إليه الفتى!
وما هي إلا أن يتحدثا حتى نعلم أن الفتى قد طلب إلى وزارة الحرب عملا، فعرضت عليه بعثة في الصين حيث الحرب قائمة فقبل، ومهما يفعل الشيخ، ومهما يحتل، ومهما يتلطف للفتى، فلن يغير رأيه وعزمه، والموقف هنا بديع مؤثر حقا، اللين حينا والاستعطاف، والعنف حينا والنذير، والفتى ثابت لا يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، ولم يتزحزح عن موقفه وهو ابن الحرب قد كونته كما أرادت لا كما أراد! لقد أنفق من عمره أربع سنين في قتل وتدمير، يقتل النساء والأطفال والشيوخ والشبان، لا رأي له في ذلك ولا إرادة، ويواجه الموت يتقيه مرة، ويرسله على الناس مرة أخرى، فكيف تريده على أن يكون كغيره من أبناء السلم! إنه يعلم حق العلم أنه يمزق قلب في هذه الصورة! فليكن مصدر ألم، وليكن مصدر موت، فكذلك أرادت الجماعة أن يكون. وقد أيس منه الشيخ، وأقبلت أمه يائسة أيضا تسأله: أحق ما أنبأتني به خطيبتك من أنك مرتحل إلى الصين؟ يجيبها: نعم! فما أشد تأثير هذا الموقف بين الفتى وأمه تستبقيه ضارعة فلا يحفل. تحاول أن تعرف السر الذي يضطره إلى هذا فلا تفلح، وهي تفترض الفروض وتتوسل إلى الفتى بخطيبته، ثم يخيل إليها أنه لا يحب هذه الفتاة فتجتهد في صرفه عنها. ويكون بينهما حوار بديع مؤلم، نتمثل فيه نحن إلى أي حد نسيت هذه المرأة إثمها، وانصرفت عن خطيئتها، وإلى أي حد أثر هذا الإثم في نفس الشاب، وأفسد عليه أمره.
وينصرف الشاب وقد أيأس الشيخين من نفسه، ولكن أمه قد عرفت الآن أنه قد ظهر على جلية الأمر! فانظر إليها منتحبة بين ذراعي زوجها، وهو يعزيها وينبئها بأنه قد اتهم نفسه ما استطاع ليخفف عنها الوزر أمام ابنها. فإذا رآها تسرف في البكاء خيل إليه أنها تبكي ندما لما تذكر من إساءتها إليه، ولكنه لا يلبث أن يتبين أنها إنما تبكي على ابنها لا عليه، فليضح بنفسه مرة ثالثة!
أليس يحب هذه المرأة، أليس يحب هذا الفتى، فليعز هذه وليجتهد في إمساك ذاك، ولكن ليس إلى إمساك الفتى من سبيل. •••
فنحن في الفصل الرابع وقد أخفق الشيخ وامرأته والفتاة في صرف الفتى عن عزيمته، ونحن في طولون ثغر فرنسا الحربي حيث يأخذ الفتى سنته الحربية إلى الصين. وقد أقبل الجماعة يودعونه. ونحن في أحد المطاعم المطلة على البحر حيث السفينة، وحيث يستطيع المودعون أن يروا السفينة حين تقلع، ويتبعوها بأبصارهم حتى تغيب. وأنا أعفيك من هذا الحوار اللذيذ الطويل بين الشيخ وصاحب المطعم، وأنتهي مسرعا إلى هذا الموقف البديع بين العاشقين، فقد التقيا وتعاهدا على الحب والأمانة والوفاء. وأعلن كل منهما إلى صاحبه خبيئة نفسه، ولكن انظر إلى الفتاة تطلب إلى صاحبها أن يرفق بأمه فقد أثمت كارهة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه العصمة من الإثم! وأن يحب الشيخ ولو قليلا فقد كان زوجا برا، وأبا رحيما، وما ذنبه في كل ما كان!
فإذا سأل الفتى صاحبته كيف عرفت سره؟ أجابته: لقد أخبرتني به أمك، واتخذتني سبيلا إلى استعطافك، وحملك على الرفق، وانظر إلى الفتى وقد تأثر بهذا كله؛ بمكان أمه من نفسه، ومكان هذا الشيخ الخير البريء، ومكان هذه الفتاة الطاهرة المحبة تستعطفه على هذين البائسين، وقد أقبل الشيخان، فالفتى رفيق بهما ما استطاع، يظهر لأمه من العطف والمودة ما يملؤها رضا، ويقبل الشيخ ولكن دون أن يقول له شيئا، والشيخ يرضى بهذه القبلة وهو واجم؛ لأنه كان ينتظر كلمة مودة لم يظفر بها.
وقد أقبل ضابط من السفينة يتعجل الفتى، فيودع القوم جميعا، ولكنه لا يقول للشيخ هذه الكلمة التي كان ينتظرها ، وقد مضى نحو السفينة وهم جميعا يتبعونه بأبصارهم إلا الشيخ فهو على كرسيه واجم محزون، ولكن القوم يسمعون من الفتى صوتا لا يتبينونه، ثم لا يلبثون أن تبينوا، فإذا الفتى يدعو أباه، وإذا هم جميعا يدفعون الشيخ دفعا إلى النافذة حيث يرى الفتى، ويسمعه يدعوه بهذه الكلمة التي كان ينتظرها «إلى اللقاء يا أبت!»
الثعلب الأزرق
قصة تمثيلية وضعها الكاتب المجري فرانسوا هرزج، وصاغها في الفرنسية الكاتب الفرنسي «رينيه سوسيه»
يقول النقاد الفرنسيون لهذه القصة: إنها وضعت منذ خمس عشرة سنة فلقيت فوزا عظيما في بودابست، ثم ترجمت إلى لغات مختلفة، فأعجبت بها الجماهير في فينا وبرلين وروما ولندن وأمريكا، ولكنها لم تمثل في باريس إلا هذا العام.
অজানা পৃষ্ঠা
والنقاد الفرنسيون يجمعون، أو يكادون يجمعون، على أنها قصة جيدة، متقنة الوضع، بديعة التنسيق والتأليف، ولكن هذه القصة لم تنقل إلى الفرنسية كما وضعها صاحبها، وإنما صاغها الكاتب الفرنسي صيغة جديدة، فجعل أشخاصها فرنسيين، وأجرى حوادثها في ضاحية من ضواحي باريس، ولاءم بين نظامها وبين الذوق الفرنسي في التمثيل، ومن هنا يتفاوت النقاد الفرنسيون في تقدير ما ينال المؤلف والصائغ من حظ في الإحسان والإجادة، ثم من حظ في الثناء والتقريظ، فمنهم من يضيف جمال القصة إلى المؤلف المجري، ويأسف أسفا كثيرا أو قليلا لأن الصائغ الفرنسي لم يكن أمينا في الترجمة والنقل، ومنهم من يضيف هذا الجمال إلى الصائغ الفرنسي، ويرى أنه قد أحسن الإحسان كله حين غيرها وعرضها على الفرنسيين في هذه الصيغة الجديدة التي تلائم ذوق باريس.
وقد يكون من العسير علينا أن نحكم في قضية كهذه؛ لأننا نجهل الأصل المجري، ولم نوفق لترجمة ألمانية أو إنجليزية لنوازن بين الأصل وبين الصيغة الفرنسية لهذه القصة، لا سيما أن النقاد الفرنسيين يحدثوننا بأن الكاتب الفرنسي قد غيرها تغييرا شديدا، وبدل أشخاصها تبديلا باعد بينها وبين الأصل إلى حد ما.
على أن النقاد مهما يختلفوا فيما بينهم متفقون على أن الكاتب المجري نفسه متأثر في قصته هذه وفي غيرها من القصص التمثيلية بالأدب الفرنسي، وهم يذكرون تأثره بموباسان، وهنري بيك، وماريفو، فهي إذن في رأيهم قصة فرنسية عادت إلى فرنسا.
ومهما يكن من شيء فإن من المحقق أن هذه القصة على جمالها ودقة موضوعها، وعلى ما فيها من قوة في التصوير لا تخلو من شيء غير قليل من ضعف التأليف، فأنت حين تقرؤها لا تستطيع أن تنسى أنك تقرأ قصة وضعت للتمثيل بحيث لا يستطيع جمالها الفني أن يشغلك عن تأليفها، وعما تكلف الكاتب فيها من هذه الحيل التي يتكلفها أصحاب التمثيل للملاعب، فحركات الأشخاص مثلا حين يدخلون ويخرجون، وحين يذهبون ويجيئون، وحين يظهرون ويستخفون ليست حركات طبيعية، وإنما هي في كثير من الأحيان حركات متكلفة، نرى تكلفها ونحسه، حتى ليخيل إلينا أن هؤلاء الأشخاص قد اتصلوا بحبل أو سلك يجذبه شخص خفي ليظهروا حين يجب أن يظهروا، وليستخفوا حين يجب أن يستخفوا، وما هكذا يكتب أفذاذ الكتاب في التمثيل؛ أذلك عيب الكاتب أم ذلك أثر الصائغ؟ هذا شيء لا نستطيع الفصل فيه كما قدمنا.
وموضوع القصة نفسه مطروق، سبق الكاتب إليه غير مرة، سبق إليه في قصص مختلفة، منها المضحك، ومنها المحزن، ومنها ما هو بين بين، ولكن هذا كله لا يمنع أن هذه القصة جيدة، يجد قارئها لذة قوية، ويضطر إلى أن يقف عند بعض فصولها وقفة التفكير والتأمل، وليس أدل على ذلك من هذا الفوز العظيم الذي ظفرت به في عواصم أوروبا وأميركا.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فقد يطرق الموضوع الواحد مرات ومرات دون أن يحول ذلك بينه وبين الحدة وقوة التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، ذلك حين يكون الموضوع نفسه قويا قوة لا تذهب بها الأيام، ولا يعمل فيها تغيير الظروف، وحين يكون الموضوع شائعا مألوفا، نشهده في مواطن كثيرة، وفي ظروف مختلفة.
ولست في حاجة إلى أن أذكرك بهذه الموضوعات الخالدة التي تناولها الشعر القصصي اليوناني، وأخذها عنه الشعر التمثيلي اليوناني فزادها قوة وتأثيرا، ثم أخذها عنه التمثيل الحديث، والقصص الحديث في فرنسا وألمانيا وإنجلترا فلم يزدها إلا قوة وقوة على الأخذ بمجامع النفوس كما يقولون.
والموضوع الذي طرقه كاتبنا من هذه الموضوعات التي إن لم تكن شائعة مألوفة في بعض البيئات التي قلما يختلط فيها الرجال والنساء، فهي شائعة مألوفة في كثير من البيئات الأوروبية، وهو موضوع يسير جدا: زوجان لم يصل بينهما الحب، ولا ما يشبه الحب، وإنما قامت صلاتهما الزوجية على المنفعة أو على المصادفة ليس غير، فهما يعيشان عيشة هادئة وادعة، لولا أن لهما صديقا قد اتصل بهما، وقويت بينه وبينهما الصلة، فهو يلازمهما لا يستطيع أن يقضي يوما دون أن يراهما، لا يستطيعان هما أيضا أن يحتملا الحياة إذا لم يرياه.
وهو خير ليس بالشرير، ولا بصاحب المجون والدعابة، ولكنه على ذلك صاحب قلب يخفق، ونفس تحب، فلا يستطيع إلا أن يحب صديقته وامرأة صديقه، وهو يخفي على نفسه هذا الحب، ويصوره في صورة الصداقة والمودة الخالصة، وربما كان صديقه مثله مخدوعا أو ربما لم يكن مخدوعا، وربما خدعت المرأة نفسها، وربما عرفت حقيقة الأمر، وأحبت هذا الصديق، ولكنها تجاهد هذا الحب، وتنتصر عليه، تسلك إلى ذلك ما تستطيع أن تسلكه من طريق، ولعلهم يستطيعون جميعا أن يعيشوا مطمئنين إلى هذا الحال الغامضة الواضحة معا، هم سعداء، أو هم يحسبون أنفسهم سعداء، ولعلهم يستطيعون أن ينفقوا حياتهم كلها في مودة كلها صفو مطرد، لولا أن يعرض لهم من الظروف ما يزيل الغشاوة عن الأبصار، ويشق الغلاف عن القلوب، فيروا ... وهم إذا رأوا قد يسعدون وقد يشقون.
هذا الموضوع مألوف في البيئات الأوروبية، تنشأ عنه في كثير من الأحيان ألوان من التعقيد في حياة الأسر، وصلات الأصدقاء، منها ما ينتهي إلى السلام والدعة، ومنها ما ينتهي إلى الشر والنكر، وقد طرقه كاتبنا هذا فصوره تصويرا حسنا مؤثرا، ولكنه لا يخلو - كما قلنا - من تكلف، ومن غلو أحيانا.
অজানা পৃষ্ঠা
وأنا - كالنقاد الفرنسيين - شديد الإعجاب بشخصية هذه المرأة التي تدور القصة حولها، أو قل بقدرة الكاتب على اختراع هذه الشخصية الغريبة التي استطاعت أن تقاوم مهارة الصائغ الفرنسي، فاحتفظت بشيء غير قليل من طبيعتها المجرية، فهي غامضة أحيانا أشد الغموض، وهي واضحة أحيانا أشد الوضوح، وهي ضاحكة مغرقة في الضحك، ولكنها في الوقت نفسه تكفكف عبراتها، وتمسح دموعها مسحا رقيقا.
ولست أدري إلى أي حد وفق الكاتب والصائغ في شخصية الزوج، فأنا أفهم ألا يخلو الرجال ولا سيما العلماء من ضعف وسذاجة، ولكني أرى أن الكاتب قد صور هذا الزوج تصويرا اعتمد فيه على خياله أكثر مما اعتمد فيه على الحقائق الواقعة. •••
نحن في سان كلو؛ ضاحية من ضواحي باريس، في بيت تظهر عليه النعمة والثروة، وفي غرفة يظهر عليها الترف ولين الحياة، كما يظهر عليها الجد والعمل، ونحن نجد في هذه الغرفة رجلا قد جلس إلى مائدة بين الكتب والأوراق، وهو يتحدث ويتحدث لا يكاد يقف ولا يستريح، هذا الرجل هو العالم النباتي «فرانسوا دوجلي»، وهو يتحدث إلى مصوره الذي اتخذه ليصور له أنواع النبات في كتاب يهيئه للنشر، ولا نكاد نسمعه يتحدث حتى نتمثل العالم بما فيه من عيوب وخلال، فهو يتكلم مندفعا في موضوعه لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، وهو يتكلم لأن الموضوع يلذ له لا لأنه يريد أن يفيد سامعه، وسامعه متبرم به يريد أن يخلص منه ليدرك القطار الذي سينقله إلى باريس، وهو يحتال في هذا التخلص فلا يوفق له إلا بعد مشقة شديدة، وهو يخلص وقد استيأس من إدراك القطار.
فإذا انصرف هذا المصور، وخرج الأستاذ من غرفته لحظات، أقبلت إلى هذه الغرفة فتاة ظريفة، حسنة الصورة، متجملة ظاهرة الرغبة في أن تعجب الأستاذ وتقع من نفسه، تدخل، فما أسرع ما تهوي إلى علبة الحلوى فتزدرد منها شيئا، وتخفي شيئا آخر في حقيبتها، ثم تقف منتظرة أن يعود الأستاذ، فإذا عاد وتحدث إليها عرفنا أنها كاتبته التي تنسخ له ما يهيئ من فصول كتابه.
وهو يتلقاها مبتسما لها مبتهجا بلقائها، يسألها عما كتبت، فإذا هي قد أتمت عملها على أحسن وجه، فيقدم إليها بعض الحلوى فترفض معتذرة بأنها لا تحب الحلوى، فإذا قدم إليها السجارة اعتذرت بأنها لا تدخن، ثم يتركها لحظة وقد ترك سجارته على المائدة، فما أسرع ما تهوي إليها فتزدرد منها جرات، ثم تردها حيث كانت، ويعود الأستاذ فيستأنف معها الحديث، وإذا هي تظهر له رسما من عملها فيه صورة نبات، فلا يكاد الأستاذ يراه حتى يفتن به، وحتى يعلن إليها رغبته في أن تكون مصورته، وأن تضع له هي صور الكتاب، وهي سعيدة مغتبطة تصفق بيديها، وتكاد تقبل الأستاذ فرحا وابتهاجا، ولا تسل عن سعادتها حين يعلن إليها الأستاذ أنها ستقيم معه منذ غد، فتكتب له وتصور وتنسخ على الآلة الكاتبة.
وهما في هذا الحديث وإذا رجل يقبل، وهو «جان دي فيلييه» صديق الأسرة وخليطها، كان قد سافر يقضي الصيف في الألب، ولكنه استثقل السفر فعاد إلى باريس، وهو سعيد بهذه العودة؛ لأنه سيرى صديقيه، وسيأخذ مكانه بينهما كدأبه في كل يوم، وهو يسأل صاحبه عن امرأته، فيحدثه هذا بأنها ذهبت إلى باريس تصيد الثعلب الأزرق؛ لأنها مفتونة به، ولن تستريح حتى تظفر بهذا الصيد، ولكنها لا تصيده من الغابات ولا من الحقول، وإنما تصيده من المتاجر، فهي لا تلتمس الثعلب، وإنما تلتمس فرو الثعلب، وهي تخرج في طلبه كل يوم إذا أصبحت، ولا تعود إلا إذا أقبل المساء، وهو يدعها وما هي فيه من صيد؛ لأنه مشغول ببحثه عن النبات.
ويمضيان في الحديث حتى يصلا إلى لون من الطعام يحبه هذا الرجل الذي أقبل، وإذا الفتاة الكاتبة المصورة تزعم أنها تحسنه، وتعد بعمله إذا كان الغد، فلا تسل عن ابتهاج الأستاذ بهذه الفتاة النادرة الكاتبة المصورة الطاهية معا، ويتم الاتفاق بينهم على أن تهيئ لهم الفتاة من الغد هذا اللون من ألوان الطعام، ثم تتركهما يتحدثان.
والرجل يقص على صاحبه أنه رأى سيارة الراقص المعروف «ريالتو»، فأعجبته، ولن يستريح حتى يشتريها منه، وقد ذهب ليتحدث إليه في ذلك، فلقي خادمه يحمل زجاجات الشمبانيا، وألوانا من الطعام، ولكن الخادم أنبأه أن سيده غائب، فانطلق وهو يعلم أن سيده مشغول بإحدى السيدات لا يستطيع أن يستقبله، ذلك أن «ريالتو» هذا أستاذ رقص، وهو أجنبي جميل الطلعة، تفتن به تلميذاته عادة.
ثم يمضي «جان» في حديثه فيقول: إنه انصرف من بيت الراقص إلى الغابة، فما هي إلا أن رأى الراقص في سيارته ومعه امرأة لم ير منها إلا ساقها وحذاءها، وقد استقرت في نفسه صورة هذا الحذاء، فهو يصفه ويحقق وصفه حتى يسئم صاحبه، و«جان» هذا موسيقي بارع، فهو يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع، وقد انصرف عنه صديقه إلى عمله.
وهما في هذه الحال إذ تقبل الزوجة «سسيل»، وكأنها قد سمعت إيقاع البيانو فعرفت وجود صديقها، فدخلت في رفق، ووقفت إلى جانبه، وأخذت ترافقه مغنية وهو يوقع، فيلتفت، ثم تكون التحيات، ثم الحديث، ثم تقع منه نظرة على ساقها وحذائها وإذا هو صعق، أو كالصعق؛ لأنه عرف الساق، وعرف الحذاء، وهو يعود فيصف الحذاء مرة أخرى لصاحبه، ويذكر الراقص، وتسمع سسيل هذا فتضطرب قليلا، ثم تخفي من أمرها ما تستطيع، وهي تبالغ في الإخفاء، وهو يبالغ في الوصف والإعادة والتكرار حتى يسأم الزوج فينصرف إلى عمله، ويدعهما يتحدثان كدأبهما دائما، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار ينتهي بأن يتهم «جان» صاحبته بالإثم، وهي تدفع عن نفسها، وتغلو في الدفاع، وهو يتهمها ويسرف في الاتهام، حتى يفسد الأمر بينهما أو يكاد، ونحسن نحن في هذا الحوار أن الصلة بين هذين الصديقين ليست صلة مودة وصداقة، وإنما هي صلة حب يخفيها كل منهما على نفسه، وعلى صاحبه، ثم يدور الحوار، ويشترك فيه الزوج مرة أخرى، فيذكر أمر الكاتبة المصورة، ومهارتها في الطهي، وما تقرر من إعداد هذا اللون إذا كان الغد، وإذا «جان» يعلن أنه سيدعو الراقص «ريالتو» ليتناول معهم العشاء، وليذوق من هذا اللون البديع.
অজানা পৃষ্ঠা
وكان المعقول أن يبقى «جان» حتى يتناول العشاء معهما، ولكنه ضيق الصدر، فهو ينصرف ويترك الزوجين لما بينهما من شأن. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غد ذلك اليوم، وقد دنا الليل أو كاد، والزوجان ينتظران مقدم «جان»، ومقدم الراقص، و«سسيل» مضطربة محزونة تدخن فتسرف في التدخين، وزوجها يحاول أن يتعرف من أمرها فلا يظفر منها بشيء، وهو يعتذر إليها لأنه منصرف عنها إلى علمه ونباته، وهي لا تكاد تسمع له، فإن سمعت فلا تكاد تجيبه، وقد أقبل «جان» فتلقاه الزوج مبتهجا، وتتلقاه الزوجة محزونة مضطربة، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار كحوار أمس فيه اتهام ودفاع، ثم فيه ما يشبه الاعتراف، ثم فيه ثورة الصديق، ولكن الراقص قد أقبل، فيتلقاه الزوج و«جان» و«سسيل» لقاء مختلفا؛ هذا مبتهج، وهذه مضطربة منكرة، و«جان» يدبر في نفسه أمرا، فأما الراقص نفسه فقد أقبل لا يقدر شيئا، ولا يفكر في شيء، وهو يتكلم ويمضي في كلامه، مثنيا على الزوج مرة، وعلى الزوجة مرة أخرى، وعلى صديقهما مرة ثالثة، وعلى البيت مرة رابعة، حتى إذا فرغ من هذا الحديث الطويل المضحك التفت إليه «جان» وأخذ يذكر حب النساء له، وكلفهن به، والرجل ينكر ذلك في ضعف ورفق، ولكن «جان» يلح ويذكر حظه عند هذه، وحظه عند تلك، ويسرف في هذا، وهو في أثناء الحديث يرقب الراقص مرة، و«سسيل» مرة أخرى، وكل شيء على وجه «سسيل» يثبت اضطرابها وتورطها.
وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه، وخلا الثلاثة إلى أنفسهم، فإذا الراقص قد عرف المكيدة، وإذا «سسيل» تطلب إليه أن ينصرف، فيتردد فتلح، وتطرده طردا فينصرف، وقد ثبت كل شيء، ولم يبق شك في أنها قد أثمت معه.
ويعود الأستاذ، فإذا لم ير الراقص سأل أين هو؟ فيقال إنه انصرف، ويتكلف «جان» تأويل هذا الانصراف فلا يحفل الأستاذ بهذا، ولكن جان نفسه يريد أن ينصرف؛ فيدهش الأستاذ لذلك، ويسأل في شيء من الغفلة: «ماذا يحدث؟» فتجيبه امرأته في دعة وهدوء: «يحدث أني قد خنتك.» فيتلقى هذا الخبر في دهش هادئ، ويحاول أن يتبين الأمر، فتتركه امرأته معلنة إليه أن «جان» سيخبره بكل شيء ؛ لأنه كشف كل شيء.
فإذا خلا إلى «جان» لم يتردد هذا في أن يخبره بكل شيء في غضب وحقد وثورة لا يعدلها إلا هدوء الزوج ودعته واطمئنانه، والزوج يرثي لامرأته، ويشفق عليها، ولا يؤثم إلا نفسه، فهو قد انصرف من امرأته إلى العلم، وتركها مهملة لا يحفل بها، فليس غريبا أن تفتتن هذه المرأة، ثم يثور الزوج ولكن لا على امرأته ولا على نفسه، بل على صديقه؛ ذلك لأن صديقه قد سافر وأهمل «سسيل» وتركها وحدها، وكان من الحق عليه أن يبقى معها، وأن يرعاها ويحوطها، فإذا أنكر الصديق عليه هذا القول ولفته إلى أن هذا واجب عليه هو، أجابه: «أنت تعلم أني مشغول بالنبات.»
و«جان» يغريه ويذكي في نفسه نار الحفيظة، ينصح له مرة بالطلاق، وأخرى بمبارزة الراقص، والأستاذ يسمع هذا كله في هدوء وسخرية، ثم يجيب بحديث له قيمته، يمثل ذكاء وفطنة، وبصرا بالأمر، وإذعانا للقضاء، فالأستاذ يعلم حق العلم مصدر هذا الغيظ وهذه الحفيظة، وهو يقدر حب هذا الصديق لامرأته، ولا يتردد في أن يقول له: «إن كنت محفظا فلأنها خانتني مع غيرك لا معك.» بل لا يتردد في أن يقول له: «لوددت لو كنت أنت الآثم، فأنت صديق الأسرة تخفي مساوئها على الناس، وتخفيها علي أنا، فتضعني بمعزل عن هذه الأمور المنكرة التي تنغص علي الحياة، وتصرفني عما أنا فيه من عمل وبحث.»
وتقبل «سسيل» وقد تهيأت للخروج، فإذا سألها زوجها إلى أين تريد أن تذهب؟ أعلنت إليه أنها ذاهبة إلى بيت عمها تنتظر فيه الطلاق، ثم تطلب إليه أن يرافقها إلى هذا البيت، فليس ينبغي أن تخرج وحدها، فيقبل، وبينما هما يتهيئان للخروج تلتفت إلى «جان» قائلة: «لقد أردت المأساة فهذه هي المأساة، ولقد أردت أن تؤلمني فقد ظفرت، ولكن قد آن أن تألم أنت، وستألم كثيرا.» •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت سنة على ذلك اليوم، وتغير كل شيء في بيت الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ من كاتبته ومصورته، ونحن نراها في أول الفصل تنهر الخدم، وتتصرف تصرف السيدة المسيطرة، وتدخل على زوجها فإذا هو منكب على كتبه، فتتحدث إليه في رفق، ولكن في سلطان وتغلب، وهو مذعن مطيع، ولكن على كره.
وهي تطلب إليه الانتقال إلى باريس إذا أقبل الشتاء، فيدافعها قليلا، فتلح، فيستسلم، ثم تعلن إليه أن لديها من العمل ما يمنعها من أن تعينه بالكتابة والتصوير، وأنها ستلتمس له الكاتب والمصور.
ثم يعلن إليها الأستاذ أنه قد وصلت إليه أخبار من «سسيل»؛ فيظهر عليها الحنق والموجدة، وتهم بالنيل من هذه المرأة، فيمنعها الأستاذ من ذلك، وينبئها بأن «سسيل» قادمة الآن لتتفق معه على زيادة الراتب الذي فرضه لها، فتأبى إلا أن تذودها عن البيت، ولكن الأستاذ قد وجد الحل الملائم، فسيأتي «جان» وسيستقبل «سسيل»، وسيتفق معها على كل شيء على حين يخرج الزوجان لبعض شأنهما.
অজানা পৃষ্ঠা
وقد أقبل «جان» وعهد إليه صديقه بقضاء هذه المهمة فيأبى ثم يقبل، ونحن نرى أنه قد تألم كثيرا، وقد تغيرت حاله حتى أنكره الأصدقاء.
وقد خرج الزوجان وتركاه وحده يتردد في الغرفة ذاهبا جائيا، ثم يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع الذي كان يوقعه في الفصل الأول.
ومن هنا تحسن القصة حقا، وتخلص من التكلف والتصنع، وترقى إلى الخيال البديع المؤثر.
هو إلى البيانو في إيقاعه، وإذا «سسيل» قد أقبلت، فتقف كما كانت تقف، وترافق كما كانت ترافقه، ويحس بها فيلتفت وقد بلغ التأثر منه ومنها أقصى مبلغ، وكأنهما قد نسيا كل شيء لحظة، وخيل إليهما أنهما في عهدهما القديم، ثم يفيقان فيبتادلان أسئلة وأجوبة قصارا، ثم يعرض عليها ورقة تركها زوجها القديم لتمضيها، فتقرأ فإذا هو يعلن أن يزيد راتبها على أن تعيش عيشة امرأة شريفة، فتمضي معلنة في سخرية أنها تؤجر على الشرف في حين يؤجر غيرها على الإثم.
ونحن نحس أنها لا تملك نفسها من التأثر والاضطراب، وأن صاحبها لا يملك نفسه أيضا، وقد أمضت وخرجت متعجلة؛ لأنها مدعوة إلى الشاي، فنسيت أحد قفازيها، فيهوي إليه «جان» ويحمله إلى فمه يقبله باكيا، وكأنها ذكرت ما نسيت فتعود غير منتظرة، فترى ... فتطلب قفازها، فيدفعه إليها، ثم تطلب إليه الورقة التي أمضتها، فإذا دفعها إليها مزقتها تمزيقا، فإذا سألها عن ذلك أخبرته أنها ليست في حاجة إلى هذا الراتب، وأنها مخطوبة، وأنها ستتزوج من رجل غني.
فقدر أنت وقع هذا في نفس «جان»، وهي تريد أن تمضي ولكنها لا تستطيع، وهي تتحدث إلى «جان» حديثا قصيرا فيه إبهام وغموض، وفيه جلاء ووضوح، ولكنها لا تلبث أن تفاجئ «جان» بأنها تعلم ما في نفسه حق العلم، وتقدر أن تألم ألما لا حد له، وهي تعلم من أمره كل شيء، وهو يعلم كذلك كل شيء، وقد أجلسته في المكان الذي تعود الجلوس فيه من قبل، وجلست أمامه كما كانت تفعل، وأخذت تتحدث إليه لينة مرة عنيفة مرة أخرى، معلنة إليه أنها أحبته منذ ست سنين حين كانت خطبا لزوجها، ولو قد دعاها في ذلك اليوم لأسرعت إليه، ولكنه لم يفعل إيثارا لمودة صاحبه، وهي مازالت تحبه، وترى زوجها صديقا ليس غير، وهي لم تخن زوجها وإنما خانته هو، وإذا هو ينكر أن تكون قد خانته، ويزعم أنه كان مخطئا كذابا، وهي تؤكد له أنه لم يخطئ ولم يكذب، فيجيبها بأنها إن كانت آثمة فهو يحب الإثم، ويكره الفضيلة، وإن كانت كاذبة فهو يحب الكذب، ويكره الصدق.
وينتهي بهما هذا الحوار إلى شيء من الذهول، يدفع كل منهما إلى صاحبه، وإذا هما قد اعتزما السفر معا، واستئناف حياة جديدة فيها الحب الصريح الذي لا تكلف فيه، ولا غشاء عليه، ولكنها تذكر أنها تعرف من أمره ومن خلقه ما تعرف، وأنها تؤثر أن يكون الزواج بينهما قبل السفر، فلن يعيشا خليلين، فيفيق عند هذا ويذكرها بخطبها الغني، وما أنبأته به من الزواج، فتضحك وتعلن إليه أنه هو خطبها، وأنه سيكون زوجها، وأنها قدرت ذلك كله منذ رأته، وهما يتهيئان للخروج وإذا الأستاذ قد أقبل ومعه امرأته الجديدة، فيدهش وتدهش امرأته، ولكنها تقبل على «سسيل» لتحييها كارهة ، وهي تلتمس لها اسما تدعوها به فلا تجد، فتجيبها «سسيل» أن انتظري أياما فستدعينني «مدام دي فيلييه»، فانظر إلى ابتهاج الأستاذ وإلى قوله: «لقد أضعتما الوقت في انتظار هذا اليوم، وما كان أحراكما أن تصلا إليه منذ أمد بعيد.»
ظهر حديثا
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «أدوار بورديه»
بهذه الجملة تعنون الإعلانات التي تنبئ الناس بظهور الكتب في فرنسا، وقد اتخذها الكاتب الفرنسي أدوار بورديه عنوانا لقصة تمثيلية، دهش لها الباريسيون أشد دهشة، ثم أعجبوا بها أعظم الإعجاب، وكان الأدباء أشد الباريسيين دهشا لهذه القصة، وأكثرهم بها إعجابا؛ ذلك لأنهم رأوا فيها أنفسهم، فمنهم من أعجبته صورته فرضي، ومنهم من لم تعجبه صورته فسخط، ولكنه لم يستطع أن ينكرها ولا أن يخفي ما بينها وبينه من المطابقة فاضطر إلى الإعجاب في شيء من التحفظ قليل أو كثير.
অজানা পৃষ্ঠা
أما جمهور النظارة، فقد دهش لهذه القصة؛ لأنه لم يتعود أن يرى أمثالها في الملاعب، وإنما تعود أن يشهد طائفة من القصص تعرض عليه ألوانا من الناس يراهم في كل يوم، ويتصل بهم في كل حين من أحيان الحياة العملية. فأما الأدباء والكتاب فهو لا يكاد يراهم أو يتصل بهم إلا من طريق الكتب التي تذيعها المطبعة في كل يوم، وفي كل أسبوع بالعشرات والمئات، وقلما يتصل جمهور النظارة بكاتب أو أديب كما يتصل عادة بالصانع أو التاجر أو المهندس أو صاحب المال، فليس غريبا أن يدهش هذا الجمهور حين يرى الأدباء قد عرضوا أمامه في الملعب عرضا صريحا لا يخلو من قسوة، كما أنه ظريف لا يخلو من خفة وحيلة ودهاء، ثم ليس غريبا أن يدهش الجمهور؛ لأن الذي يعرض عليه هؤلاء الأدباء هذا العرض القاسي الظريف هو أحد هؤلاء الأدباء، فعمله هذا لا يخلو من شجاعة تسر وترضي، وتبعث على الدهش، ثم على الإعجاب.
وقد انقسم النقاد والأدباء في أمر هذه القصة، فمنهم من رأى أن الكاتب إنما أراد تمثيل طائفة بعينها من الكتاب والأدباء، هي هذه الطائفة التي تتنافس وتختصم، لا تحفل في تنافسها وخصومتها بشيء، والتي تتخذ الأدب والفن وسيلة إلى الثروة والشهرة، لا إلى الجمال الفني من حيث هو، ويجب أن نعترف بأن هؤلاء النقاد هم كثرة الذين تناولوا هذه القصة بالنقد، وذلك يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء النقاد جميعا قد سخطوا فيما بينهم وبين أنفسهم على هذه القصة، وأبوا أن يروا فيها صورا صحيحة للأدباء، فكانوا كالنعامة التي تخفي رأسها حتى لا ترى الصائد.
ونقاد آخرون - ولكنهم قليلون - رأوا أن هذه القصة تمثل ما في الأدباء من ضعف، ولكنهم مروا بذلك مرا سريعا، وأظهروا إعجابهم بلفظ القصة وأسلوبها، وما فيها من حركة خفيفة لبقة، وفي هؤلاء النقاد شجاعة، ولكنها شجاعة إضافية، فقد أبوا أن يخفوا رءوسهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمدوا أبصارهم مدا طويلا.
وأولئك وهؤلاء - فيما أظن - لم يقدروا القصة قدرها، ولم يضعوها حيث أراد الكاتب أن يضعها، ولو قد فعلوا لرأوا أن ما في القصة من عبث بالأدباء، وتمثيل لما فيهم من عيب ونقص يمس ما يقع بينهم من التنافس والخصومة ليس شيئا بالقياس إلى الفكرة الأساسية التي أراد الكاتب أن يمثلها، والتي هي شيء آخر غير هذه الحياة المادية التي يقع فيها التنافس والاختصام بين الأدباء.
شيء آخر يمس طبيعة الأديب من حيث هو أديب ويعرفه تعريفا منطقيا صادقا ما نظن أنه يقبل نقضا أو اعتراضا، فالأدباء جميعا يختصمون ويتنافسون، ويكيد بعضهم لبعض، ويغري بعضهم ببعض. وليس هذا العيب مقصورا على الأدباء، ولكنه يتناول أصحاب المهنة الواحدة في كل فن وفي كل صناعة تناولا يختلف قوة وضعفا باختلاف المتنافسين، وتفاوتهم في حدة الأمزجة واعتدالها.
ولو لم يقصد الكاتب في قصته إلا إلى تمثيل هذا النحو من عيوب الأدباء لما كان لقصته خطر، ولما استحقت قصته هذا الفوز الذي ظفرت به، إنما الفكرة الأساسية التي تدور عليها القصة، والتي قصد إليها الكاتب معروضة عرضا واضحا في الفصل الرابع من فصول هذه القصة حين يظهر في جلاء وبداهة أن الأديب يمتاز بأنه لا يستطيع أن يحس شيئا أو يرى شيئا حتى يستحيل هذا الشيء في نفسه فنا يجب أن يكتبه، وينشر على الناس مهما تكن النتيجة التي تنشأ عن هذه الكتابة وهذا النشر، ومهما يكن في هذه الكتابة والنشر من خروج على المألوف، وتجاف عن العادات والأخلاق، وما يصل بين الناس عادة من صلات المجاملة وحسن العشرة، بل من صلات المودة والصداقة، بل من صلات الحب والإخاء.
فالأديب أداة ناطقة لا تستطيع الصمت، وهي تنطق بكل شيء وفي كل ظرف، لا يحول بينها وبين النطق إلا هذه القوى القاهرة التي تضطرها إلى الصمت أحيانا، فتصمت ولكن على كره منها ورغم، والأديب أداة تصوير تصور أبدا، ولا تستطيع أن تكف عن التصوير إلا حين لا تجد ما تصوره أو حين يعرض لها الفساد في مزاجها وتكوينها، وهي تصور دون أن تحسب حسابا بالنتائج هذا التصوير، وما قد يستتبعه من الأحداث في التصوير، وأكثر ما تصور هذه الأداة، وأحسن ما تصور حين تضطر إلى تصوير نفسها، وما يعرض لها من ألوان التأثر والانفعال، ولو قد خليت وتركت لها الحرية المطلقة لأظهرت للناس من دخائلها أسرارا لا تخلو من بشاعة فظيعة، ولكنها لا تخلو في الوقت نفسه من جمال رائع، فالأديب إذن بطبيعته مرن الضمير، لا يكاد يحفل بما يحفل به الناس في سبيل القول والتصوير إلا لأنه يضطر إلى ذلك اضطرارا.
هذه الفكرة هي التي قصد إليها الكاتب وأراد تصويرها، وهو في طريقه إلى تصوير هذه الفكرة قد ألم بطائفة من عيوب الأدباء ونقائصهم لم يكن له بد من الإلمام بها؛ لأنه يصور تصويرا صحيحا فلم يكن يستطيع أن يخفي شيئا مما يتألف منه شخص الأديب حقا.
ومع أن موضوع هذه القصة طريف، فقد وفق الكاتب إلى أن يتقن تمثيله كما لو كان من هذه الموضوعات التي تطرق في كل يوم، والتي سهل أمرها على الناس، فهم يتناولونها ويتصرفون فيها دون أن يجدوا في ذلك مشقة أو عسرا. •••
وفي الفصل الأول من هذه القصة بنوع خاص حركة خفيفة شديدة الخفة، سريعة قوية السرعة، تدفعك معها؛ فإذا أنت مسرع في القراءة، مسرع في التفكير، مسرع في تحقيق ما تقرأ وما تفكر فيه، وإذا أنت تحيا حياة كلها سرعة، وكلها لذة ورضا، وفكاهة واشمئزاز مضحك، حتى إذا فرغت من هذا الفصل احتجت إلى أن تستريح، وإلى أن تطيل الراحة بعض الشيء؛ لأنك قد جريت فأكثرت الجري، حتى إذا كانت الفصول الأخرى سرت سيرا هادئا مطمئنا، ولكنه ممتع مفيد، لا تكاد تخطو خطوة حتى تضحك أو تعجب، أو تستكشف من أمر الأديب شيئا لم تكن تقدره، وما تزال كذلك حتى تنتهي مع القصة إلى الأديب المنتج فتراه كما أراد الله أن يكون ممليا ما أنتجه من الآثار الأدبية بعد ما شاء الله أن يقتحم في سبيله ما اقتحم من هول يبعث في نفسك الإشفاق والازدراء معا. •••
অজানা পৃষ্ঠা
نحن في دار من دور النشر في باريس، يشرف عليها رجل ماهر في صناعته، قوي الإرادة، حديد الفؤاد، مرن الضمير، فصيح اللسان، غريب الجمل، لا يفكر إلا في صناعته، ولا يعنيه إلا أن يفوز ويتفوق على خصومه الناشرين، هذا الرجل هو جوليان موسكا، ونحن نرى في أول الفصل رجلين يعملان، يملي أحدهما على صاحبه أسماء الكتب التي طلبتها المكاتب، ومقادير هذه الكتب، وهو يمضي في ذلك بطريقة مضحكة قد لا يكون من اليسير أداؤها في لغتنا العربية؛ لأنه يقرن بأسماء الكتب المختلفة باختلاف موضوعاتها الفنية والعلمية موازين هذه الكتب بالكيلوجرام. وبينما هما في عملهما هذا تختلف عليهما طائفة من الناس اختلافا سريعا، يعرض علينا أكثر أشخاص القصة، فهذا أديب يقال له بريجايون قد أقبل مسرعا يسأل عن صاحب الدار، فلما لم يجده أنكر تأخره في هذا اليوم، وأنبأ بأن لديه شيئا هاما يريد أن يفضي به إليه، وأنه سيعود بعد لحظة، وتفهم من حديثه أن لهذا اليوم في حياة الدار خطرا؛ لأن هناك جائزة أدبية كبرى هي جائزة زولا، يتنافس حولها الكتاب، وقد رشح لها صاحب الدار أديبا وجد في ترشيحه، وظفر بوعد الكثرة المطلقة من المحكمين أن يعطوه أصواتهم.
ثم ينصرف هذا الأديب ويقبل رجل آخر مهمل الزي، تقتحمه العين، يقال له مارك فورنييه، يسأل عن صاحب الدار، فلا يكاد يحفل به أحد، بل نحس من أهل الدار تبرما به، ورغبة في دفعه عنها وعن صاحبها، ونفهم أنه قد عرف صاحب الدار حين كانا يؤديان معا خدمتهما العسكرية، والرجل يلح في السؤال وأهل الدار يذودونه، ويمنونه بلقاء صاحبه بعد أيام، ولكن هذا أديب آخر قد أقبل متعاظما مشغول البال، فيستقبله أهل الدار في شيء من الإجلال والتكريم، وهو ماريشال مرشح الدار للجائزة، وهو يسأل عن صاحب الدار فينكر تأخره، ويسأل عن كتابه، فنفهم أنه قد طبع منه خمسة وعشرون ألفا، وأعدت النسخ لترسل إلى مكاتب باريس والأقاليم بعيد ظهور النتيجة، وقد كتبت العنوانات، وحملت العربات، وأعدت صور الكاتب الفتوغرافية، ولم يبق إلا أن ينسخ الكاتب اسمه عليها بخطه لتعرضها المكاتب بعد الظهر، والكاتب ينظر إلى هذه الصور فلا تعجبه؛ لأنها تمثله متقدما في السن كأنه قد بلغ الأربعين، ولكن صاحب الدار قد طلب أن تعرض هذه الصور؛ لأنها هي التي ينتظر أن تعجب السيدات، فيأخذ الكاتب في التوقيع، ثم يبدو له فينصرف على أن يعود بعد قليل.
وهذا صاحب الدار مقبلا ومعه كاتب مشهور فيلسوف أديب من المحكمين هو بورجين، فإذا دخلا تعرض مارك فورنييه لصاحب الدار، فينصرف عنه مزورا، ويمضي مع صاحبه إلى غرفته، ويقبل العمال يعرضون عليه أمور الدار في سرعة غريبة، فينجزها مسرعا، ناطقا بألفاظ قصار متقطعة، حتى إذا فرغ من ذلك في لحظة التفت إلى الفيلسوف الأديب وتحدثا في الجائزة، فنفهم أن كثرة المحكمين قد انقادت لهذا الناشر بفضل هذا الفيلسوف، ولكن من المحكمين من يتردد، فيقول الناشر لصاحبه: أفهمه أني أعتمد عليه في كتابة النقد التمثيلي لصحيفة كذا، فيغضب الفيلسوف؛ لأنه كان يرجو لنفسه هذا العمل، ويرضيه الناشر ويتفقان، وينصرف الفيلسوف على أن يرسل معه الناشر عاملا يأخذ منه أخبار المداولة ليوصلها إليه كأسرع ما يمكن.
وهذا بريجايون قد أقبل فأدخل على الناشر فيدور بينهما حديث موجز سريع يغير كل شيء، ذلك أن هذا الأديب يخبر الناشر بأن مرشحه قد خانه، وأنه اتفق مع ناشر آخر على أن يعطيه كتبه المقبلة، وقد أمضي العقد بينهما أمس، فإذا سئل عن البرهان قال عرفت ذلك من كاتبة ذلك الناشر التي كانت تحب ماريشال فخانها، فهي تنتقم لنفسها، ثم يخرج ويعود ومعه الكاتبة التي تظهر العقد للناشر فينظر فيه ويرده إليها، ويمنحها مكافأة مالية، ويعدها بكتمان السر، ويصرفها فتصرف، والناشر مغضب مضطرب؛ لأن صاحبه قد خانه وعبث به، ولأنه بذل جهدا عنيفا حتى ظفر بأصوات المحكمين، وأنفق ستين ألف فرنك في الإعلان عن هذا الكتاب، وكانت نتيجة هذا كله الخيانة.
ولكنه رجل لا يعرف الهزيمة، ولا يطمئن إليها، ولا تؤلمه الخسارة المادية، فإذا هو يسرع إلى التليفون فيدعو فيلسوفه الأديب، ويعلن إليه في حزم أنه لا يريد بوجه من الوجوه أن يفوز ماريشال، ثم ينتظر، وهذا ماريشال قد أقبل، فيتلقاه مبتسما مبتهجا، ويطلب إليه في هدوء أن ينظما أمرهما، وأن يمضيا هذا العقد الذي يضمن له نشر كتب الأديب المقبلة، ويضمن للأديب موردا ضخما، فيتردد الأديب، ويلح الناشر.
ويشتد تردد الأديب فيشتد إلحاح الناشر؛ فيأبى الأديب، وهذا التليفون يدعو فيصغي إليه الناشر، فيكتب أرقاما على ورقة أمامه، حتى إذا فرغ أعلن إلى الأديب في هدوء أنه قد انتهى التصويت الأول، وأنه لم يفز فيه. فيسخط الأديب ويضطرب ويصيح، ويتهم بالخيانة فلانا وفلانا من المحكمين. ولكن التليفون يدعو مرة أخرى، ويصغي إليه الناشر، ثم ينبئ الكاتب بأن فشله في التصويت الثاني أعظم من فشله في التصويت الأول، فيشتد سخط الكاتب، وهنا ينبئه الناشر في سخرية بأنه لم يحسن حين اتفق مع خصمه، فيفهم الأديب، وإذا هو يبرق ويرعد، وينذر ويوعد، ولكن التليفون يدعو للمرة الثالثة، فيصغي الناشر، ثم يعلن بعد ذلك أن قد انتهى التصويت وفاز بالجائزة رجل مجهول لا يعرفه أحد، ولم يسمع به أحد، رجل من الأقاليم يقال له إيفنوس.
وقد خرج الأديب مغضبا موعدا، ولكن الناشر عنه في شغل، فما أسرع ما يستفسر أمر هذا الفائز بالجائزة، فهو رجل من مدينة أورليان، طبع كتابه «استيقاظ الفؤاد» في مطبعة من مطابع المدينة، فما أسرع ما يتصل الناشر بصاحب هذه المطبعة من طريق التليفون، فينبئه بالخبر، ويشتري منه حقوق الطبع، وما بقي عنده من نسخ الكتاب، ويأخذ منه عنوان المؤلف في باريس، ويرسل إليه جماعة من العمال في سيارة يؤدون إليه الثمن، ويأخذون منه نسخ الكتاب على أن يعودوا مع الليل، ثم يدعو أحد عماله فيعطيه عنوان المؤلف، ويأمره أن يمضي مسرعا، ولا يعود إلا ومعه المؤلف مهما يكلفه ذلك من مشقة وحيلة، كل ذلك في سرعة ولباقة لا حد لهما.
وما هي إلا لحظة حتى يعود العامل ومعه سيدة فينبئ صاحب الدار بأنه لم يجد المؤلف فجاء بامرأته، وتدخل جاكلين فتتحدث إلى الناشر، فنفهم من حديثها أنها لا تقدر فوز زوجها، ولا تفكر فيه، وأنها تعرف أن زوجها قد ألف كتابا وعرضه على هذا الناشر، وهي تظن أن هذا الكتاب قد أعجب الناشر وهي سعيدة بهذا، والناشر لا يفهمها، ثم ينتهي بهما الأمر إلى أن يفهم كل منهما صاحبه، فيعلن إليها الناشر أن زوجها قد ظفر بالجائزة، فإذا هي مغتبطة سعيدة، وإذا هي تنبئ الناشر بأنها هي التي قدمت الكتاب إلى المحكمين؛ لأن زوجها رفض ذلك لثقته بأنه لن يظفر بشيء، وهو موظف في إحدى الوزارات، وهو رجل من أورليان يقال له مارك فورنييه، فإذا سمع الناشر هذا الاسم ذكره وذكر صاحبه، وذكر أنه هو هذا الذي يتردد منذ أيام فلا يقبل، وطلب إلى زوجه أن تكتب إليه كلمة يحملها إليه بعض العمال ليأتي به، وبينما هي تكتب يقبل مارك فورنييه، فيتلقاه العمال في تبرم وازدراء، ويذودونه عن الدار ذودا، فينصرف وقد دعا الناشر أحد العمال وطلب إليه أن يمضي بهذه الكلمة، وأن يأتيه بمارك فورنييه، فإذا أدخله على الناشر تلقاه هذا في مودة لا حد لها، فهو يضمه إليه ويقبله ، ثم ينظر الرجل فإذا امرأته وإذا هو يعلم بفوزه، وإذا هو دهش قد أذهله النبأ، وانظر إلى الناشر يفتح أمامه أبوابا من الأمل، فسيقبض الجائزة خمسة عشر ألف فرنك، وسيقبض منه هو عشرة آلاف مقدما، ثم يستقيل من الوزارة وينصرف إلى الأدب، وإذا هو من الأغنياء، وإذا هو من أصحاب الصوت الذائع، وهم في ذلك إذ أقبل صحفي يستنبئ عن هذا الكاتب الذي فاز، فإذا رآه رغب في أن يأخذ منه حديثا، وفي أن يأخذ صورته، وما أسرع ما تؤخذ الصورة فيها المؤلف وامرأته والناشر، ولكن المؤلف قد أخذ يشعر بقيمته، وأخذت تظهر فيه الصفة الأولى من صفات الأديب، فهو يسأل مبتسما: أليس يحسن أن أصور منفردا؟ •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على ما قصصنا عليك عام ونصف عام، وانصرف كاتبنا مارك فورنييه الذي اتخذ لنفسه اسم إفنوس إلى صناعة الأدب، واستقال من عمله في الوزارة، وأخذ من الشهرة الأدبية بحظ موفور، وكان قد اتفق مع الناشر على أن يتعجل إصدار كتاب آخر، وعلى أن يكون هذا الكتاب استمرارا لكتابه الأول الذي نال الجائزة، وهو منذ ثمانية عشر شهرا يعمل في هذا الكتاب الثاني، فلا تؤاتيه القريحة، ولا يكاد يظفر بشيء.
ونحن نراه أول هذا الفصل جالسا إلى مكتبه ينظر في صحيفة كئيبا ضيق الصدر، ثم يسرع إلى هذه الصحيفة فيمزقها مغضبا محرجا، وما هي إلى أن تقبل امرأته فيتلقاها فاترا، وتحدثه عمن لقيت في بعض زياراتها، ثم تسأله عن عمله، فينبئها بأنه لم يعمل شيئا، وبأنه لم يوفق إلى شيء، ويظهر لها ميله الشديد إلى الانصراف عن هذا الكتاب، بل عن الأدب كله؛ لأنه لا يحسن أن يكتب، وهي تلومه وتشجعه وتغريه، ولكنها لا تظفر منه بشيء، ونحس في هذا الحديث جهاد الرجل بين ما يشعر به من العجز، وما يشعر به من الاحتفاظ بمكانته الأدبية، وما يشعر به أيضا من طمع امرأته، وحرصها على هذه الحياة الجديدة التي تجد فيها الدعة والثروة، وتجد فيها الشهرة والرفعة. ثم نشعر بشيء آخر هو هذه الموجدة التي يحسها الأديب على الأديب إذا قدر التوفيق والفوز، فصاحبنا واجد على ماريشال؛ لأن الناس يتحدثون عنه، والنساء يتهالكن عليه، وصاحبنا يرى أن هذا الرجل ليس شيئا، وأنه من أصحاب الفن السهل الذي لا جد فيه ولا غناء، وامرأته لا تدافعه في ذلك، ولكنها لا تجاريه، وهي تنبئه بأن ماريشال قد يأتي بعد قليل ليراه فيكره ذلك، ويتبرم به، وهذا التليفون يدعو فنفهم من الحديث أن الناشر مقبل، ونرى كاتبنا شديد الضجر، مترددا بين الخروج؛ حتى لا يرى الناشر، وبين البقاء؛ حتى إذا رآه أخبره بعزمه على الانصراف عن الأدب، ولكن امرأته تستبقيه وتشجعه، وهذا الناشر قد أقبل فيلقاه وامرأته لقاء حسنا، وما هي إلا أن يدور الحديث على الكتاب المنتظر، فيزعم الكاتب أن قد مضى فيه إلى أمد بعيد، ويتعجله الناشر ويطلب إليه الأصل بعد ثلاثة أسابيع، فيتعلل، فيمد له الأجل أسبوعا، فيأبى، فيشتد إلحاح الناشر وإباء الكاتب، حتى يضيق الكاتب ذرعا، فيعلن أنه لن يكتب هذا الكتاب؛ لأنه لا يستطيع أن يمضي فيه.
অজানা পৃষ্ঠা
وتستطيع أن تتصور غضب الناشر وغيظه بعدما أنفق من الجهد والمال ما أنفق، فهو يترضى الكاتب، ويتوسل إليه، ثم ينذره ويخيفه، ولكن الكاتب مصر لن يعدل عن رأيه، وهنا يدور حديث نفهم منه طبيعة هذا الكاتب، ومقدرته الفنية، فهو لم يخترع كتابه الأول اختراعا، وإنما صاغه من قصة وقعت بالفعل لامرأته حين كانت تعمل في المستشفيات في أثناء الحرب، فأحبت أحد الأطباء وأحبها هذا الطبيب، ولم ينته حبهما إلى غايته، وكانت الفتاة تكتب مذكرات وخواطر وقعت للكاتب بعد أن اقترن منها، فصاغ منها قصته تلك.
وهنا تظهر مهارة الناشر، وحرصه على منفعته، فهو يسأل هذه المرأة: ألم يحبك أحد بعد هذا الرجل؟ ألم يحدث في حياتك ما يحملك على كتابة الخواطر والمذكرات؟ فتجيبه: لا، فيشتد غيظه، ويسوء الحديث بينه وبين الكاتب، ويعرض عليه الكاتب إلغاء ما بينهما من عقد، وما يزال الأمر بينهما في شدة حتى يفسد، فإذا الناشر يتهم الكاتب بالخيانة والاحتيال، وإذا الكاتب يطلب إلى الناشر أن يخرج من عنده، فيأبى، فينصرف الكاتب معلنا أنه لن يعود من غرفته حتى يخرج هذا الرجل. ويخلو الناشر إلى جاكلين، فيكون بينهما حديث آية في المهارة والغرابة، والحرص على النفع، والتماسه من جميع الوجوه الممكنة. يعود الناشر فيسأل جاكلين: أليس بين الناس من يحبها أو يظهر لها المودة؟ فتجيبه: لا، فيلح عليها، ثم يعلن إليها أنه لو كان مكانها لالتمس لنفسه عاشقا ومغازلا، ولكتب خواطر ومذكرات تمكن صاحبنا من وضع قصته، فإذا أنكرت ذلك خيرها بين النعيم والبؤس، وبين السعة والضيق، وبين الشهرة والخمول، ثم فتح أمامها أبواب الأمل في ثروة لا حد لها، وشهرة تنتهي بزوجها إلى المجمع اللغوي.
وما يزال بها حتى تحس منها شيئا من الضعف، ثم يسألها الرجل مفاجأة: ما بال ماريشال؟ أليس يحبك؟ فتجيبه: لا، فيلح فتجيبه: إن هذا الرجل يحب النساء جميعا، ويتملقهن جميعا، وهو يتملقني كما يتملق غيري من النساء، وهو مقبل بعد حين ليرى زوجي، فانظر إلى الناشر منتصرا مبتهجا؛ لأنه ظفر بحاجته، فلا بد من أن تتلطف جاكلين لماريشال وتطمعه، وتقبل تملقه وغزله، وتكتب خواطر ومذكرات، وهي تأبى الأمر في نفسه، وهو يلح، فتقبل ولكن مع غير ماريشال، فيلح ويسرف في الإلحاح، ونحس نحن أن في نفس هذه المرأة ميلا خفيا إلى ماريشال، وأنها لا تحب أن تعبث به هذا العبث، وقد أقبل ماريشال فحيا تحية المحب، وما يزال الناشر بهما حتى يصل بينهما حديثا يشبه أن يكون حديث حب، وقد أغرى كلا منهما بصاحبه، ثم يدعهما ليصلح ما فسد بينه وبين الكاتب، فإذا خلى أحدهما إلى صاحبه أسرع ماريشال فأعلن حبه وهيامه، وهمت المرأة أن تدفعه، ولكنها تذكر الناشر، وما تحدث به إليها من الثروة والشهرة، وتذكر في الوقت نفسه ميلها الخفي إلى هذا الرجل فلا تدنيه ولا تقصيه، وإنما تترك له أملا مغريا، ويأتي الكاتب والناشر وقد اصطلحا، وتم الاتفاق بينهما على أن يستريح الكاتب أشهرا لا يكتب شيئا ، ولا يفكر في شيء، حتى إذا أخذ من الراحة بحظ استأنف العمل فتنقاد له المعاني والألفاظ، وإذا الكتاب قد تهيأ للنشر في وقت قصير.
وللناشر بيت على ساحل البحر في جنوب فرنسا، فهو يدعو الكاتب وامرأته إلى أن يذهبا إلى هذا البيت ليستريحا فيه. وقد قبل الكاتب، ورضيت امرأته، وفهمنا نحن أن الناشر إنما دبر هذا كله ليترك الفرصة لحب ماريشال؛ لعله يظفر بما يحمل المرأة على أن تكتب الخواطر والمذكرات.
وقد أحس الناشر أن ذلك لن يكون إلا إذا أرسل ماريشال مع الزوجين إلى ساحل البحر، وقد مهد لذلك فوفق فيه، وأصبح ثلاثة القوم مستعدين للرحلة إلى الجنوب، ورضي الناشر عن نفسه، وعن خطته، وعن فوزه، فهو يدعو ثلاثتهم للعشاء معه في مطعم من مطاعم الضواحي، وسيحملهم في سيارته، فأما الزوج فسيجلس في مؤخرها مع ماريشال، ولا خوف عليهم من البرد ولا من الهواء، ففي السيارة من أنواع الوقاية ما يحجب من البرد والهواء. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في أقصى الجنوب الفرنسي في بيت الناشر على ساحل البحر حيث يقيم أصحابنا منذ حين، ونحن نرى جاكلين تتحدث إلى الصحفي الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد علم بمكان الكاتبين، فأقبل يطلب إليهما حديثين، فأما الزوج فقد تبرم بهذا الصحفي وخرج، والمرأة تعلل هذا الصحفي، وتطلب إليه أن ينتظر حينا، وأما ماريشال فقد أعد حديثه وكتبه، وها هو ذا قد أقبل يريد أن يقرأ على الصحفي هذا الحديث، وقد بدأ يقرؤه عليه، ثم خرجا يتمان هذه القراءة في الحديقة، ويقبل الزوج فإذا علم بمكان الصحفي أنكره، وسخط على ماريشال، فتدافع امرأته بعض الدفاع فيغضب، ونحس أنه يجد في نفسه شيئا، ثم يخرج ويعلن إلى امرأته أنه لن يرى هذا الصحفي، ولن يتحدث إليه.
فإذا فرع ماريشال من قراءة حديثه على الصحفي عادا إلى حيث جاكلين، فيتعجل الصحفي، فتنبئه بأن زوجها قد يتأخر، فينصرف على أن يرسل إليه الكاتب حديثه مع البريد.
ويخلو العاشقان، فلا يلبث ماريشال أن يلوم صاحبته؛ لأنها ما زالت به تطمعه وتغريه حتى ترك عمله في باريس، وأعرض عن سياحة كان ينتظر منها نفعا كثيرا، وأقبل معها، ولكنه لم يظفر بشيء، وقد ضاق بهذا الانتظار، وكره أن يكون ضحكة لها، واعتزم أن يسافر منذ غد. وما يزال بينهما الحديث حتى تعلن إليه المرأة أنها تحبه حقا، وأنها لم تدعه إلى اللحاق بها، ولو قد استطاعت لطلبت إليه ألا يفعل، ثم تقص عليه القصة كلها، فإذا هو ثائر مغضب؛ لأنه سيكون موضوعا لعبث الناشر والكاتب، وهو محنق لأنه سيكون موضوع قصته، وهو محنق لأنه لم يظفر في سبيل ذلك بشيء ما، ومهما تتلطف له جاكلين فهو لا يرضى منها إلا أن تزوره في غرفته، وهي تمانع وتغلو في الممانعة، ولكنه مصر على هذه الزيارة، فإن لم تفعل فهو مرتحل غدا، وقد أذعنت وقبلت هذه الزيارة، والتمسا لها علة، وهي أن تأخذ أداتها الكاتبة، وتذهب إليه كأنه يريد أن يملي عليها كتبا هو في حاجة إلى حفظ أصولها.
وقد صعدت هي تبتغي آلتها الكاتبة، وانصرف هو إلى غرفته وهو يقول: إذن فسيكون بينها وبيني شيء لا تستطيع أن تظهر زوجها عليه، ولكن الزوج قد أقبل، ولم يكد يستقر حتى يرى امرأته تهبط ومعها أداتها الكاتبة فيستوقفها، ويسألها فتخبره، فيحظر عليها الذهاب، فتأبى، فيلح ويأخذها بشيء من العنف، ويرسل الخادم لتعلن إلى ماريشال أن السيدة معتذرة؛ لأن بعض الأمر قد طرأ لها، ثم يعلن إليها أنهما مرتحلان غدا إلى باريس، فتأبى، فيعلن إليها أنه يريد ذلك وكفى.
وهذا الناشر قد أقبل ومعه الفيلسوف الأديب الذي رأيناه في الفصل الأول، وكانا منتظرين، فإذا سلما وذهب الفيلسوف ليستريح سأل الناشر صاحبه الكاتب: كيف يجد نفسه، فيخبره بعزمه على السفر منذ غد ليفرق بين امرأته وبين ماريشال بعد أن أصبحت عشرتهما خطرة، فيضحك الناشر منه، ويهزأ به، وينبئه بأن هذه قصة مدبرة، وأنه اتفق عليها مع جاكلين، وأهدى إليها دفترا تكتب فيه الخواطر والمذكرات، فأما الكاتب فلا يطمئن لهذا الحديث. وتدعى جاكلين، وتسأل فلا تجيب، فإذا ألح عليها الرجلان أخرجت دفترا ودفعته إلى زوجها، فينظر فيه فإذا هو نقي لم يكتب فيه حرف واحد، وإذن! فقد كان الأمر بينها وبين الرجل جدا لا هزلا، وقد احتفظت لنفسها بخواطرها ومذكراتها، فأما الكاتب فكئيب محزون، يائس، قد أثقله الهم. وأما الناشر فيغريه ويعتذر إليه، وأما المرأة فقد صعدت، ثم عادت وقد تهيأت للسفر تريد أن تعود إلى أهلها، فإذا سألها زوجها قالت: إنها تريد أن تخلو وتفكر لترى جلية ما يضطرب في نفسها، فيأبى إلا أن يصحبها، وما يزال بها مهتما وشاكا وجزعا ومنذرا حتى تقبل؛ ذلك أنها تحب زوجها كما يحبها، وإنما هي أزمة عرضت لها كما تعرض لغيرها من النساء والرجال.
অজানা পৃষ্ঠা
سيسافران إذن، ولكنها تطلب إليه الإذن في أن ترى صاحبها، وتودعه لآخر مرة بعد أن تقسم له أن لم يكن بينها وبينه إثم، فيأذن على كره منه، ويمضي ليتهيأ للسفر، ويقبل ماريشال، فيكون بينه وبين صاحبته حديث قصير، ويتفقان على أن يلتقيا غدا في أورليان، أما هو فنفهم أنه يريد أن يتم خطته، وأما هي فضعيفة لا تستطيع المقاومة في هذه الأزمة العنيفة.
وقد سافر الزوجان، وإذا نحن نرى الناشر والفيلسوف ومعهما ماريشال ينبئهما أنه سيتبع هذه المرأة إلى أورليان، فيأبى عليه الناشر ذلك، ويحاول أن ينصرف عنه فلا يفلح، حتى إذا أحس منه الإصرار الذي ليس بعده رجع اتخذ أقرب الطرق إلى الإقناع، فأعلن إليه أن المجمع اللغوي سيمنحه الجائزة الكبرى، وأن المجمع اللغوي محافظ لا يمنح الجوائز لمن يعرف عنهم الإثم، فلا يكاد ينبئه بذلك حتى يتردد، ثم يعلن إيثاره للجائزة على الحب. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضى حين من الدهر على ما حدثتك به، وقد عاد الزوجان إلى باريس، وانصرف الكاتب عن الأدب، واستأنف عمله في وزارته، وانقطعت الصلة بينه وبين الأدباء والأندية الأدبية، وأصبح كما كان من قبل موظفا عاديا، ولم يبق من هذه القصة إلا ذكرى مؤلمة تنغص على الزوجين حياتهما، فهو واثق بأن امرأته لا تحبه، شاك فيما كان بينهما وبين ماريشال، وهي تكره منه هذا الشك، وتضيق به، وتعيش معه عيشه الممرضة مع المريض، وتحمل في نفسها آلاما خاصة لا تتحدث بها إلى أحد إلا الفيلسوف الذي احتفظ بما بينه وبينها من صلة، فهو يزورها من حين إلى حين.
وقد ساءت حالهما المالية سوءا شديدا، فكثر الدين، وألحف الدائنون، وأنذرت الخادم بترك العمل إن لم تؤد إليها أجرها. وجاء النذير بأن التليفون سيقطع، وهي تطلب إلى زوجها أن يقترض شيئا على مرتبه من الوزارة، فيجيبها بأنه قد فعل ذلك مرة، وليس له أن يعود، فتطلب إليه أن يلتمس عند الناشر قرضا، فيرفض في عزة وإباء، فتعلن إليه أنها ستبيع بعض حليها، وقد انصرف وبقيت وحدها، فتدعو الخادم وتأمرها إن جاء بعض الدائنين أن تنكر مكانها.
وقد دق الجرس وعادت الخادم تنبئ بأن ماريشال يستأذن، فتدهش جاكلين لمقدمه، وتهم أن ترفض استقباله، ثم يبدو لها فتأذن له، ويقبل ماريشال، وقد لعب الخيال برأس هذه المرأة، فأحيا في نفسها كل شيء، ورد الأزمة إلى حدتها الأولى، وإذا هي تعاتبه لزيارته.
وتنكر هذه الزيارة، وتعتذر إليه؛ لأنها أبرقت إليه ألا يتبعها في أورليان وقد خيل إليها أنه أقبل مستأنفا للحب والمودة، ولكنه لم يقبل لشيء من هذا، إنما أقبل يعرض عليها قصة صغيرة صور فيها تصويرا بديعا ما كان بينهما من الأمر، ولم يرد أن تنشر قبل أن تقرأها، بل قبل أن تكون أول من يقرؤها، فلا تسل عن وقع هذا النبأ على نفسها، فقد انهدم كل ما بناه الخيال، ونظرت فإذا قيمة حبها ومودتها وما احتملت في سبيلهما من ألم، وما تعرضت له من خطر، وهذه الحياة المنغصة، وهذا البؤس؛ قيمة هذا كله عند هذا الرجل أنه يصلح موضوعا لكتاب!
وهي تدفع إليه قصته، وتعتذر من قراءتها، فيخرج مغضبا محنقا؛ لأن هذه القصة خير ما كتب.
وقد دق الجرس وأقبل الفيلسوف، فرآها كئيبة محزونة، فيسألها، فتنبئه، فيغضب، فيخيل إليها أنه يغضب لما تغضب له، ولكن الفيلسوف لم يغضب لهذا إنما لأنه وضع من هذه الحادثة قصة تمثيلية ويسوءه أن يسبقه ماريشال إلى إذاعتها، فهو إذن كصاحبه! لم يكن صديقا ولا معزيا ولا وفيا، ولم يكن يتردد عليها، ويتصل بها إلا ليكون أشخاصه ويقومهم، وإذن فقد قضي عليها وعلى زوجها أن يألما ويشقيا ويحرما ليكتب ماريشال قصته، وليكتب بورجين تراجيديا أو كوميديا.
وقد أقبل الزوج فتدهش لمقدمه، فينبئ بأنه لم يذهب إلى الوزارة هذا اليوم، وينصرف الفيلسوف فإذا خلا الزوجان رأينا نفس المرأة قد تغيرت، فإذا هي ممتلئة حنانا ومودة لزوجها، وإذا هي تثوب إليه راضية مطمئنة، أليس هو الذي احتمل ما احتمل من ألم صامتا، فلم يستغل ولم يكتب، وهي تنبئه بنبأ ماريشال والفيلسوف؛ فيثور ويغضب وينذر، وهي تهدئه، وتهون عليه، وقد دنت منه فوضعت رأسها على كتفه راضية مطمئنة، مستأنفة حبها الأول.
ولكن الزوج يرد رأسها عن كتفه، ويظهر على وجهه الاضطراب والاستخذاء، فإذا سألته أنبأها بأنه هو أيضا قد كتب كتابا ... ثم فصل ذلك، فنفهم أنه كان يذهب إلى الوزارة فيتم عمله الرسمي في لحظات، ثم ينصرف إلى كتابه فيمضي فيه حتى كتب ما يبلغ مجلدين، فتسأله: أين ذلك؟ فيظهرها عليه، ثم يصفه فإذا هو راض به، بل معجب به أشد الإعجاب، واثق بأنه سيظفر برضا الجمهور وإعجابه، ولكنه لن ينشره؛ لأنه لم يكتبه للنشر إنما كتبه لنفسه، فإذا أظهرت الشك في ذلك أعلن إليها أنه سيمزقه ويحرقه.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذا الجرس يدق، وهذه الخادم تقبل وتعلن أن بعض الدائنين يأبى أن ينصرف، وينذر بالمحضر، وهذا الجرس يدق مرة أخرى، وهذا الناشر قد أقبل لأن الزوج كان قد مر به فلم يجده فترك بطاقته، فأقبل لعل صديقه في حاجة إليه، ولكنه يعلن إلى صديقه قبل كل شيء أنه مستعد لمعونته إلا فيما يمس المال، فهو لا يستطيع أن يقرضه الآن قليلا ولا كثيرا. هنا يظهر الصراع بين المؤلف والناشر قويا عنيفا، ولكنه ممتع مضحك، ذلك أن الزوج يعلن إلى الناشر أنه لا يريد قرضا وإنما يريد جزءا من ثمن قصة أتمها ويوشك أن يقدمها إليه، فلا يصدقه الناشر، ولا يحفل به، بل يعلن إليه أن كتبه أصبحت لا تعنيه، ثم ينهض لينصرف، وإذا الكاتب قد أسرع إلى التليفون فدعا ناشرا آخر وأنبأه بأن لديه كتابا يريد أن ينشره، وأنه يحب أن ينشره عنده، وأن يلتقيا ليمضيا العقد، هنا تثور حفيظة الناشر فيذكر ما أنفق وما دبر وما كاد، ويكره أن تكون نتيجة هذا كله لخصمه، وإذا هو قد أسرع إلى التليفون فينتزعه من الكاتب انتزاعا، ويأخذ في المفاوضة، فيعرض خمسة آلاف، وتطلب جاكلين عشرة، ويأبى الكاتب إلا عشرين ألفا وإلا أن يرفض الناشر قصة ماريشال، فيذعن الناشر، وإذا الحياة قد عادت إلى جاكلين، وإذا الأمل قد ابتسم لها، وإذا الناشر قد استأنف الثقة بالكاتب، وهو يطلب إليه أن يستقيل فيأبى في شدة؛ لأن الوزارة أحسن مكان يصلح للتأليف.
وقد تم الاتفاق بين الرجلين، وانصرف الناشر وخلا الزوجان، فبينهما حديث فيه غبطة ومرارة، وفيه إذعان المرأة وطمعها، وفيه ألم الأديب وغروره، ولكنهما قد وعدا الناشر أن يقدما إليه الأصل بعد خمسة عشر يوما، فلا بد من البدء في تهيئة هذا الأصل، وهذه جاكلين قد جلست إلى المائدة وهيأت الآلة الكاتبة، وهذا زوجها قد أخذ يملي عليها كتابه في بطء، بينما يسدل على ذلك الستار.
الأمر للقدر
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
أما هذه المرة فسأدع ما يكتبه أصحاب التمثيل، وما تشغل به الملاعب في هذه الأيام إلى كاتب مات منذ سنين، وانصرفت الملاعب انصرافا مؤقتا عن قصصه التمثيلي، وإن كانت عقول الناس وأذهانهم لم تنصرف عنه بعد، ولا ينتظر أن تنصرف عنه قبل زمن طويل، وهو بول هرفيو.
ولست أدري لم تركت ما كان بين يدي من القصص التمثيلية الكثيرة التي ظهرت في هذا العام أو في العام الماضي وعدت إلى بول هرفيو أستعرض قصصه، وأتخير من بينها قصة أجعلها موضوع الحديث في هذا الشهر، أو قل إنني أعرف السبب الذي صرفني عن الكتاب الأحياء المنتمين إلى هذا الكاتب، وهو أني أحبه، وأعجب به ولا أعرف حدا لحبي إياه وإعجابي به، أحبه فأقرأ قصصه، ثم أعيد قراءتها المرة بعد المرة، فلا أسأم ولا أمل، بل أجد فيها كلما أعدت قراءتها لونا من اللذة جديدا، وفنا من الإعجاب طريفا، وإذا كان هناك شيء يصح أن أتساءل عنه فهو هذا الحب الذي لا حد له، والذي يزداد قوة كلما أمعنت في قراءة هذا الكاتب، لقد حللت طائفة من قصصه، وكتبت عنه غير مرة، ومع ذلك فأنا راغب في أن أعود إليه، وأن أستأنف الحديث عنه، لا أجد في ذلك مشقة، ولا أخشى أن يجد القارئ في العودة إليه مشقة أيضا، أذلك لأن فلسفة بول هرفيو في قصصه التمثيلية هي أشد أنواع الفلسفة الخلقية اتصالا بمزاجي الشرقي، وملاءمته لحياتي الشرقية؟ فالشرقي - سواء رضي أم كره - قدري مطمئن إلى أن هناك سلطانا قويا قاهرا يصرفه ويسيطر عليه، كما يصرف الأشياء من حوله ويسيطر عليها، هو مقتنع بهذا القدر، مطمئن إليه، مستسلم له، وحياته العملية كلها متأثرة بهذا الاطمئنان والاستسلام، كما أن حياته العقلية والشعورية متأثرة بهما تأثرا شديدا، تختصره هذه الجملة التي يرددها المسلمون عن اقتناع وإيمان واطمئنان، والتي كدت أستعيرها عنوانا لهذه القصة: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»
ثم إن فلسفة بول هرفيو في الأخلاق، وفهمه للحياة يمثلان هذا النوع من القدرية التي يؤمن بها الشرقيون، ويذعنون لها إذعانا كون أمزجتهم تكوينا، فأنت حين تقرأ قصة من قصص بول هرفيو لا تكاد تمضي في القراءة حتى تحس أن الكاتب جاد في أن يزيل عن نفسك طائفة من الغشاوات التي تختلف كثافة ورقة، والتي تخيل إليك أن لك من الأمر شيئا، وأنك تستطيع أن تصرف حياتك وحياة الناس، وأن تؤثر في الأشياء من حولك بهذه الإرادة التي تمتلكها، وما يزال الكاتب يزيل هذه الغشاوات غشاوة غشاوة، وما تزال أنت تمضي معه متخففا من أثقالها شيئا فشيئا، واجدا لذة غريبة في التخلص من هذه الغشاوات، ومواجهة الحياة كما هي، حتى ينتهي بك الكاتب إلى آخر القصة، وإذا أنت مقتنع معه بأن إرادتك ليست شيئا، وأن ما كنت تحسبه لنفسك من قوة وبأس وسلطان لا يزن شيئا أمام هذه القوى العظيمة الخارجية التي تصرفك وتسيطر عليك، وتخضعك لسلطانها، سواء أردت أم لم ترد.
لا يبحث بول هرفيو عن طبيعة هذه القوة، ولا يعنيه أن يحددها ولا أن يصفها، ولا أن يتعمق فيما بعد الطبيعة ليتبين كنهها، وليتبين ما بينها وبين القوى الأخرى من صلة، كل ذلك لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن يلاحظ وجود هذه القوى، وتأثيرها في حياة الناس، وإكراهها الناس على أن يسلكوا طرقا ما كانوا ليسلكوها لو أنهم أحرار، ويصطنعوا أمورا ما كانوا ليصطنعوها لو أن لهم إرادة أو اختيارا، لتكن هذه القوة دينية، أو لتكن هذه القوة طبيعية، أو لتكن هذه القوة اجتماعية، أو لتكن هذه القوة مزاجا مؤتلفا من هذه الألوان كلها، فطبيعتها لن تغير من الحقيقة الواقعة شيئا.
والحقيقة الواقعة هي أن هذه القوة تأخذ علينا الطرق، وتطيف بنا من كل ناحية، وتضطرنا إلى ما نأتي من الأمر في حياتنا الفردية والاجتماعية فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين الناس من صلة.
وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أن نخفف من هذا الغرور الذي يملؤها، ويخيل إلينا أنا شيء مذكور، وأن نرى أنفسنا كما نحن ضعافا مسيرين لا حظ لنا من قوة، ولا قدرة لنا على المقاومة، ثم إذا كان هذا حقا كنا خليقين أن نلائم بينه وبين حكمنا على الأشياء، وحكمنا على الناس، فنقصد في المدح والذم، ونعتدل في اللوم والإطراء، ولا نسرف في تقدير التبعات، ولا نسرف بعد ذلك في تقديرنا ما يلائم هذه التبعات من مقاومة باللوم حينا وبالعقوبة حينا آخر، وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أيضا أن نستقبل الحياة راضين مطمئنين، لا ساخطين ولا ثائرين، وما قيمة السخط الذي لا يجدي؟ وما قيمة الثورة التي لا تغني؟ وفيم نضطرب وفيم نثور ونحن مضطرون آخر الأمر إلى أن نذعن ونستسلم ، أليس الرضا بما لا بد منه خير من هذه المقاومة العنيفة التي ليست في حقيقة الأمر إلا جهدا ضائعا وضربا من ضروب اللغو.
অজানা পৃষ্ঠা
فأنت ترى أن هذه الفلسفة التي تظهر في أول الأمر سوداء مسرفة في التشاؤم والاستسلام ليست أقل من غيرها دعوة إلى الخير، وترغيبا فيه، واتصالا بما ألف الناس من قواعد الأخلاق، فهي تأمر كما تأمر غيرها بالإحسان والصفح، والاعتدال في اللوم والذم، والاعتدال في الحمد والثناء، ثم هي تأمر كما تأمر غيرها بالرضا، واستقبال الحياة في طمأنينة، وابتسام عن علم بها، وحسن رأي فيها.
ألهذه الفلسفة المتصلة بمزاجنا الشرقي أحب هذا الكاتب، وأمعن في حبه؟ أم أنا أحبه لأنه متصل بهذه الطائفة من الكتاب والشعراء القدماء الذين أثروا في الأدب الإنساني كله آثارا خالدة لا سبيل إلى أن تزول؟ فقصص بول هرفيو ليس جميلا لما فيه من فلسفة فحسب، بل هو جميل لأنه يتصل بالقصص اليوناني التمثيلي في تصوره للحياة، وفي تصويره لهذه الحياة، كما يتصل بهذا القصص التمثيلي القديم في إيثاره للجمال الفني، يلائم فيه بين الألفاظ والمعاني ملاءمة تبهرك بما فيها من جلال، يظهر في الألفاظ كما يظهر في المعاني كما يظهر في الأغراض التي يرمي إليها، وكما يظهر في الصور المختلفة التي يتخذها وسيلة إلى هذه الأغراض. وأنت حين تقرؤه مضطر إلى أن تفكر في إيسكولوس، يضطرك إلى ذلك هذا الجلال الذي يسبغه بول هرفيو على قصته كما كان يسبغه إيسكولوس، كما يضطرك إلى ذلك رأي بول هرفيو في القضاء، فهو بعينه رأي إيسكولوس في القضاء لا يفرق بينهما إلا أن إيسكولوس كان وثنيا يؤمن بآلهته الوثنيين، وبخضوعهم لهذا القضاء كما يخضع له الناس، وكان يتصور هذا القضاء تصورا وثنيا يونانيا لم يتأثر بفلسفة الفلاسفة ولا بعلم العلماء ولا بالحضارة الراقية المسرفة في الرقي، أما بول هرفيو فابن القرن التاسع عشر، لم يكن وثنيا، وإنما هو خلاصة كل هذه الحضارة الفرنسية، وما انتهى إليها من آثار الأمم القديمة، وما عمل فيها من فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ثم ما شهد من ازدحام الناس وتنافسهم في جميع ألوان الحياة، فقضاؤه ليس أقل عنفا ولا سلطانا من قضاء إيسكولوس، ولكنه قضاء متحضر مهذب، يلائم القرن التاسع عشر.
فلسفة بول هرفيو وفنه، واتصاله من هاتين الناحيتين بسلسلة الممثلين اليونانيين، والممثلين الفرنسيين في القرن السابع عشر، ثم تعرضه للمسائل العويصة الدقيقة، ومحاولته أن يجد لها حلا في القضاء والقدر، كل هذا حبب إلي هذا الكاتب، ورغبني في ترديد قراءته، وترديد الحديث عنه.
وهذه القصة التي أريد أن أحدثك عنها الآن هي آخر ما قدم إلى الملاعب قبيل الحرب، وقد أجمع النقاد على اختلاف أهوائهم وميولهم الفنية على الإعجاب بها والثناء عليها، وذهب بعضهم في ذلك إلى أبعد حد ممكن فوصفها بأنها آية من آيات الفن، ولست أذهب هذا المذهب ولا أغلو هذا الغلو؛ فقد قرأت من قصص بول هرفيو التمثيلي ما أعجبني وراقني، وأثر في نفسي تأثيرا أبلغ من تأثير هذه القصة، ولكني على ذلك أرى أن هذه القصة تلخص مذهبه الفلسفي تلخيصا وافيا أكثر مما تلخصه قصة أخرى من قصصه التمثيلية، وكأنه كان يحسن أن هذه القصة ستكون آخر قصصه، وكأنه كان يريد لهذا أن يعرض فيها مذهبه كاملا صريحا، وقد دفعه إلى ذلك ولا سيما في المنظر الأخير من هذه القصة.
وقد وضعت هذه القصة لملعب أجنبي، فقد يقال إن الكاتب لقي بعض الممثلين في إسبانيا، ورغب إليه هؤلاء الممثلون في أن يأذن لهم بترجمة شيء من قصصه التمثيلي فرضي، ثم وعدهم بأن يضع لهم قصة خاصة ثم عاد إلى باريس فوضع هذه القصة القصيرة، وأرسلها إلى إسبانيا، فما أسرع ما نقلت إلى الإسبانية، ومثلت في مدريد، بينما كان الأصل الفرنسي يمثل في باريس، ولهذه الخاصة أثر ظاهر في القصة، فقد يلاحظ القارئ في بعض الأشخاص حرارة وحدة وشعورا غاليا بالشرف تلائم المزاج الفرنسي، ومن غريب الأمر أن بعض النقاد الفرنسيين شهد تمثيلها في إسبانيا، وشهد تمثيلها في فرنسا، وأراد أن يقارن بين التمثيلين فاستخلص من هذه المقارنة أن القصة الفرنسية شيء والقصة الإسبانية شيء آخر، لا من حيث المعاني والأغراض؛ فقد كانت الترجمة دقيقة صحيحة، ولكن من حيث الأثر الذي يتركه تمثيلها في النفوس، فالتمثيل الإسباني عاطفة كله فتظهر فيه الحدة والحرارة، ويظهر فيه الشعور قويا عنيفا، بينما التمثيل الفرنسي مزاج معتدل من العقل والشعور، فالحدة فيه لا تكاد تظهر، وإنما يظهر هذا التأثير الشديد الذي يلطفه التفكير كما يظهر فيه هذا الحزن العميق الذي لا حظ فيه لإسراف الدموع، ولا لإسراف الصوت أيضا.
وأنت حين تقرأ هذه القصة تعجب بالألفاظ إعجابا شديدا، وذلك شأنك حين تقرأ آثار بول هرفيو كلها، وتعجب أيضا بالمعاني التفصيلية، ولكنك تحس في أول الأمر شيئا من البطء ومن الهدوء الذي لا يخلو من إسراف، ويخيل إليك أن الكاتب يطيل في غير جدوى، وتساءل نفسك إلى أين يريد أن ينتهي، ولكنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى يكون الكاتب قد انتهى بك إلى عقدة شديدة، وشوقك إلى أن تعرف كيف تحل هذه العقدة، فأنت في حاجة إلى أن تمضي في القراءة، ولكن هذه العقدة ليست من الغرابة والطرافة بحيث تحول شوقك إلى شيء من الكلف غريب تشعر به أمام الحوادث الحادة، إنما أنت مشوق إلى أن تعرف كيف تنتهي هذه القصة، والكاتب في الفصل الثاني هادئ مطمئن، يسير معك في رفق ولين حتى يسئمك في بعض الأحيان، ولكن هذا الفصل لا يكاد ينتصف حتى ينقطع كل هدوء، وينتهي كل رفق، ويستحيل الأمر استحالة تامة، فإذا الحوادث يتبع بعضها في سرعة شديدة وعنف غريب، وإذا أنت قد فقدت هدوءك، وثرت كما يثور الكاتب، وإذا شوقك إلى الفراغ من القصة قد استحال إلى شهوة عنيفة فأنت تعيش مع الأشخاص عيشة حادة مضطربة، وأنت تحس في الوقت نفسه الغشاوات تسقط عن نفسك شيئا فشيئا، وأنت ترى نفسك بعد هذا كله فجأة قد وقعت أمام إثم عظيم فيه القتل، وفيه السرقة، وفيه الكذب، وفيه شهادة الزور، ولا أثر للإرادة الإنسانية الحرة في شيء من هذا بوجه من الوجوه، إنما هي ظروف قاهرة: منها ما يتصل بشهوات النفس، ومنها ما يتصل بالوراثة، ومنها ما يتصل بالنظام الاجتماعي، وكل هذه الظروف قد تظاهرت على أن تضطر جماعة من الناس إلى أن يتورطوا جميعا في هذه الآثام، وهؤلاء الناس جميعا بطبيعتهم وبتربيتهم، وباعتقادهم الديني بعيدون كل البعد عن هذه الآثام لو استطاعوا أن يتقوها ويجتنبوا التورط فيها، هم جميعا مسيحيون مؤمنون شديدو الإيمان بحكم أمزجتهم، وبحكم تربيتهم، وبحكم البيئة التي يعيشون فيها، وهم يتمثلون وصايا التوراة: لا تسرق، لا تقتل، لا تشهد الزور ... وهم مع ذلك مضطرون إلى أن يسرقوا، وإلى أن يقتلوا، وإلى أن يشهدوا الزور، ثم إلى أن يلاحظوا هذا كله، ويلاحظوا آخر الأمر أن السلطان كله للقدر. وليس هذا كله كل ما في القصة، بل أنت تجد فيها نوعا من المقارنة غريبا دقيقا، عمد إليه الكاتب في رفق ولين، بين خادم متواضع ضئيل اضطرته ظروف الحياة أن يسرق شيئا قليلا من سادته، فإذا هم ساخطون عليه، ناقمون منه، يعنفونه ويطردونه في ازدراء واحتقار، وهو مذعن مستسلم مستخز أمام ما اقترف من إثم، حتى إذا جل الخطب وكانت الكارثة، ظهر من هذا الخادم ما يجعله خليقا بإعجاب سادته، بل ما يجعل سادته مدينين له بالشكر، ويكرههم على أن يعترفوا له بالجميل، وهو على هذا كله حين سرق ما سرق لم يكن أشد منهم تورطا في الإثم، ولا أبعد منهم عما تعودوا أن يسموه شرفا وفضيلة. •••
نحن في قصر فخم في الريف الفرنسي تقيم فيه أسرة غنية، تتألف من زوجين وابنين، فأما أحد الزوجين فرجل غني نشأ في الطبقة الوسطى، وعمل أبوه في الشئون المالية؛ فأثرى وطمع له في زوجة من الأسر النبيلة فوفق إلى أن يزوجه من فتاة بعيدة الشرف، عظيمة الثروة، فأما الزوج فاسمه جايتان بيري، وأما الزوجة فاسمها جوليان دي شازيه.
وقد ورث الزوج عن أبيه مع ثروته ما يمثل الطبقة التي نشأ فيها، فهو رجل عمل لا يعرف التردد ولا الاضطراب، جريء حتى على الأخلاق، حتى على النظم الاجتماعية، ماهر في النفاق، يستطيع أن يخدع الناس عن نفسه، كما يستطيع أن يخدعهم عن أنفسهم، قد أظهر لامرأته أنه يحبها فاقتنعت بذلك وأحبته، فصدقت في حبه، على أنه لم يكن فيما أظهره من الحب إلا منافقا.
وأما امرأته فقد ورثت كذلك عن أسرتها شرفا في النفس، وكرامة، وأخلاقا رضية، وهدوءا، وصراحة، وسذاجة لا حد لها، مخلصة لا حد لإخلاصها، صادقة في حب زوجها، صادقة في حب ابنيها، معتدلة في هذا كله، محسنة كثيرة الإحسان.
ولهذين الزوجين ابنان؛ أحدهما: غلام يتهيأ لدخول المدرسة الحربية، والأخرى: فتاة جميلة ظريفة، قد بلغت سن الزواج وهي تدير في نفسها فكرة لها صدى في قلبها، فهي تحب وتريد أن تقترن ممن تحب.
অজানা পৃষ্ঠা
ولهذه المرأة أخ عمل في الجيش، وارتقى فيه إلى مرتبة لا بأس بها، يشبه أخته في كرم النفس، وحسن الشيم، محب لأخته وابنيها، لا يعدل بهم أحدا، قد نزل لهم عن ثروته كلها أو كاد، ووقف حياته على هذين الشابين لا يبتغي إلا أن يجعلها أسعد الشبان.
ونحن نرى أول الفصل هذا الغلام جواشان في حالة سيئة، والخادم يعنى به؛ لأنه سقط عن فرسه، وكاد يصيبه التلف لولا هذا الخادم، وهو يشكر للخادم أن أنقذه، والخادم لا يرى في ذلك ما يستحق الشكر، وهو يطلب إلى سيده ألا يتحدث بشيء من ذلك إلى أمه حتى لا تشفق ولا تخاف حين يتصل بالمدرسة، وألا يتحدث بذلك إلى خاله؛ حتى لا يتخذه موضوعا للعبث والسخرية، والغلام يشعر بما في ذلك من تضحية يقدمها الخادم له، فلن تعرف أمه أن الخادم قد أنقذه، ولن تثني عليه، ولن تكافئه.
وتأتي أخته نويمى فترثي له، وتثني على الخادم.
ثم يأتي خالهما فيكون بينه وبينهما شيء من الدعابة ظريف. ولكن هذا القسم كله من القصة بطيء - كما قلت لك - لا يظهرنا على شيء مما يريد الكاتب إلا أنه يمثل لنا دعة الأسرة، وما هي فيه من ثروة ونعمة بال، كما أنه يمثل لنا هذا الخال سفرين دي شازيه ضابطا قوي النفس، شديد الخلق، كريما، رقيق القلب ...
وقد انصرف الفتيان وأقبلت أمهما فتتحدث إلى أخيها لبعض الشيء، ونفهم من حديثها أنها تنتظر صديقا لها ولأخيها هو مسينيه، كما نفهم من حديثها أن زوجها سيسافر لبعض شأن، ويقضي الليل بعيدا عن القصر ...
ويتركها أخوها حينا، ويقبل زوجها، فيكون بينهما حديث نفهم منه أنه ضيق الصدر بأخيها، وهي تلومه على ذلك، وتذكر ما كان لأخيها عليهما من فضل، وهو ينكر جميل أخيها، ويسرف في الإنكار، ثم نفهم من الحديث أنه يسافر إلى مكان لا يعينه في دقة، كما أنه لا يعين موعد عودته في دقة، فهو مريب في كل ما يقول، كما أنه مريب في كل ما يأتي، ولكن امرأته لا تحس شيئا من هذا.
وقد انصرف وأقبل الصديق الذي كانت تنتظره جوليان، فإذا تحدث إليها وتحدثت إليه فهمنا أنه صديق قديم، وأنه أحب هذه المرأة وخطبها فلم تجبه، فاحتفظ لها بود قوي طاهر.
ويأتي أخوها فيتحدثون قليلا، ثم تتركهما لبعض شأنها، فإذا خلا الرجلان أخبر مسينيه صاحبه بأن زوج أخته سيئ الحال، قد أتى من الأمر ما يمس شرفه، ويعرضه للقضاء، وفهمنا من حديثهما أن هذا الرجل يخون امرأته، ويسرف في خيانتها، فله خليلة ينفق عليها أموالا ضخمة، ثم نرى سفرين ثائرا يقسم ليكرهن زوج أخته على أن يغير من سيرته، وصاحبه يأخذ عليه العهد أن يكتم الأمر على جوليان، ولكن هذا الكتمان لن يطول أمره، فهذه جوليان مقبلة، وفي يدها كتاب تقول أنه أرسل إلى زوجها مستعجلا، وأنها ترددت ثم فضته، ونظرت فيه فإذا هو بشع منكر؛ لأنه يخبر زوجها بأن أمره قد رفع إلى القضاء، وهو متهم بالنصب والاحتيال، فأما هي فمغضبة ساخطة لا تحفل بهذا الكتاب، وإنما تنكر أن يكون في الناس من ينحط إلى كتابة مثله، وأما الرجلان فيضطربان لهذا الكتاب، وتحس منهما هذا الاضطراب، فتسأل وتلح فينبئانها آخر الأمر بأن هذا الكتاب قد ينم عن بعض الحق، ثم يعلنان إليها أنهما سيسافران فورا إلى باريس ليتبينا حقيقة الأمر، وليتداركا الشر قبل وقوعه ...
فقد رأيت اضطراب هذه المرأة أمام هذا الخطر الذي يوشك أن ينزل بأسرتها، ولكنها على ذلك مطمئنة لا تكاد تقدر ما تتعرض له. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد انقضى الليل، وانقضى أكثر الغد، وأقبلت جوليان إلى حيث تركناها أمس مضطربة بعض الشيء، تتعجل عودة أخيها من باريس، وهذا الخادم قد أقبل يعرض عليها حسابه؛ لأنه يريد أن يترك الدار بعد أن اتهم بأن سرق مائة فرنك، فاعترف بهذه السرقة، وبأنه اضطر إلى ذلك لينقذ ابنته من الموت، وهي لا تكاد تلتفت إليه، بل ترد إليه معلنة أن زوجها سينظر في هذا الحساب، والخادم يستعطفها ويدفع عن نفسه، وهي ترده رفيقة مرة، وعنيفة مرة أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা
وهذا أخوها يقبل فتتعجله الأخبار، فيخبرها بأن ما في الكتاب صحيح، وبأنه عرف تفصيل القضية، وبأن زوجها متهم بالسرقة، ثم بالنصب والاحتيال، وبأن التهمة - ثابتة - تثبتها كتب خطتها يد زوجها، وبأن الخصوم السياسيين لزوجها مسرفون في نيل هذا الرجل بالشر، يبتغون من ذلك شفاء شهوة سياسية ... وهي تسمع لهذا كله فيصعقها، ولكنها قويمة النفس، تستطيع أن تحتمل، فما أسرع ما تسترد صوابها، وإذا هي تفوض الأمر لأخيها، مظهرة الاعتماد عليه، والثقة به، ولكنها مع ذلك تثق بالله، وتعتمد عليه، فتترك أخاها وتذهب إلى حيث تصلي.
وهذان الغلامان قد أقبلا في نشاط ومرح وابتسام للحياة، وخالهما ينكر عليهما الإسراف في اللذة والابتهاج، ويود لو نظرا إلى الحياة في شيء من الجد فلا يفهمانه؛ لا يفهمان منه هذا الرأي الجديد، وهو لا يستطيع أن يبين، ولا أن يظهرهما على حقيقة الأمر، ولكنه يدور حول هذه الحقيقة، فلا يعيان عنه شيئا، والفتى يداعب أخته ويغيظها، ويعرض بما بينها وبين بعض رفاقه من صلة ثم يمضي، فإذا ألح الخال على ابنة أخته أخبرت بأنها تحب هذا الرفيق، وأن هذا الرفيق يحبها، وأن أمها تحس بشيء من ذلك، وتشجعها عليه، وأنها هي حريصة على أن تقترن بهذا الفتى مشفقة من رفض أبيها، معتمدة على خالها في حمل أبيها على القبول، وينصرف الفتيان إلى لعبهما.
وأنت تحس في أثناء كل هذا الحديث شوقا إلى أن تعرف كيف تنتهي القصة، وضيقا بكل هذه الأشياء التي تعترض مجراها، ولكن هذه الأشياء كلها لم تأت عبثا، فهي تزيد في حرج الموقف، فمرح هذين الغلامين وابتسامهما للحياة، وأمل هذه الفتاة وحبها بينما تحدق الكارثة بهذه الأسرة، كل هذا يضاعف الحرج الذي يحيط بهؤلاء الناس، وله أثره فيما سيصدر عنهم من الأعمال.
وقد أقبل الزوج فيتلقاه أخ امرأته مغضبا، ويسأله هل تلقى رسالة امرأته، فإذا أجاب أنه لم يتلق شيئا، قال له صاحبه: فهذا دليل على أنك لم تكن حيث أنبأت امرأتك، ثم يشتد الحوار بين الرجلين، ونفهم منه أن الزوج يعلم بكل شيء، أنه استيأس من موقفه وأنه إنما جاء ليمر بمكتبه فيأخذ منه بعض الشيء، ثم يمضي إلى حيث يلتمس النجاة، إذن فهو يريد الهرب من فرنسا! لا يحفل بامرأته، ولا يحفل بابنيه، ولا يحفل بما سيقال عنه، وما سيقال عنهم جميعا ... ولكن سفرين يقدر موقفه، ويقدر موقف أخته وابنيها، وشرف الأسرة، ومستقبل هذين الغلامين بنوع خاص، وهو يعلم أن هرب هذا الرجل أو سجنه قضاء على ما للأسرة من شرف، وهو يتمثل ابنة أخته وقد انقطع أملها، وانصرف عنها رفيقا، ويتمثل ابن أخته وقد حيل بينه وبين مستقبله في الجيش، ويتمثل أخته ذليلة مهينة محتقرة، يتمثل هذا كله ولا يرى مخرجا منه إلا أن يقتل هذا الرجل نفسه قبل أن يساق إلى القضاء، فهو يعرض لزوج أخته بالانتحار، فلا يلقاه الآخر إلا ساخرا مزدريا، فيخرج من التعريض إلى التصريح، فيأبى عليه الآخر، فيلح، فيشتد الآخر في الإباء، وكلما مضى الحوار بين الرجلين اشتد في نفس الأب حرص على الحياة والهرب، واشتد في نفس الخال حرصه على شرف أسرته، ومستقبل هذين الغلامين. وكان الأب قد ترك مسدسه على المائدة، فانظر إلى الخال يخرج المسدس من علبته، ويشير به إلى الأب، والأب يعرض عنه، والخال يلح، حتى إذا أسرف في الإلحاح، ومضى في طريقه إلى مكتبه تبعه الخال ومعه المسدس، هائجا ثائرا منذرا، والأب لا يزداد إلا امتناعا، والخال لا يزداد إلا نذيرا، وهذا الخادم قد أقبل يخبر بأن بعض الشرطة بالباب، ثم ينصرف، فيشتد الخال في الإلحاح، ويشتد الأب في الإنكار، ويمضي إلى مكتبه، ويتبعه أخ امرأته، وبينما هما يستبقان في شيء يشبه الصراع يعود الخادم ويقبل الصديق مسينيه وقد أغلق باب المكتب دون الرجلين ويسمع بينهما حوار عنيف، ثم يسمع انطلاق المسدس، ثم يعود الخال في ذهول تستطيع أن تقدره، وقد فهم الخادم وفهم الصديق أنه قد قتل زوج أخته، ولكن الشرطة بالباب، فما أسرع ما يمضي الخادم والصديق إلى حيث القتيل.
وهذه جوليان مقبلة، فيتلقاها أخوها، فتسأله عن زوجها هل أقبل، فيجيبها جوابا غامضا، ويتحدثان فما أسرع ما يصلان إلى الفاجعة، ألم تنظر فترى قفازي زوجها؟ ثم ألم تنظر فتفتقد المسدس؟ إنها لتسرع تريد أن ترى زوجها فيمسكها أخوها، ويخبرها بأنه قد مات ... فهي ذاهلة واجمة، ساخطة على أخيها؛ لأنه لم يحل بين زوجها وبين الموت، معلنة أنها تحب زوجها، وستحبه أبدا، ولكن أخاها يكشف لها عن جلية الأمر، وينبئها بمكان هذا الرجل من خيانتها، وما يزال بها حتى تقتنع، وإذا حبها لزوجها قد تغير، وإذا هي مثقلة قد انهدت قواها أمام هذه الكوارث المتصلة: هذا زوجها قد سرق، وكانت على ذلك تحبه، وهذا زوجها قد قتل نفسه وأسلمها، وأسلم ابنيها للذل والفقر، وكانت على ذلك تحبه، ولكن زوجها قد خانها، فأين ذهب هذا الحب؟ لقد كان تكره أخاها منذ لحظات، ولكنها الآن تثوب إليه، وتريد أن تعانقه وهو يأبى عليها ... فإذا أنكرت عليه هذا الإباء أخبرها بأنه قتل زوجها ... فهي مضطربة إلى اضطرابها، واجمة إلى وجومها، وهي تذكر وصايا التوراة: لا تسرق، وقد سرق زوجها، لا تقتل، وقد قتل أخوها، لا تشهد الزور، وهي مضطرة إلى أن تشهد الزور، وهي مشفقة على أخيها من الخادم، ألم يكن أمس موضوع سخطها؟ ألم يعنفاه؟ ألم يطرداه؟ فما يمنعه أن يثأر لنفسه؟ لقد سرق ولكن زوجها قد سرق، وقد سرق، وهو مضطر لينقذ ابنته من الموت، أما زوجها فسرق ليرضي خليلة، وليمعن في خيانة امرأته، وهذا الخادم قد أقبل ينبئ سفرين بأن بعض رجال الشرطة عندما نظر إلى القتيل لاحظ أن المسدس قد أصاب رأسه من بعيد فأخبره الخادم بأنه أدرك سيده وهو يحاول الانتحار فأراد أن ينتزع منه المسدس فلم يوفق إلا إلى إبعاد ذراعه عن رأسه، واقتنع الشرطي، والخادم يخبر سيده بذلك ليعلمه، وليحرص على ألا يناقضه إن سئل، إذن فهذا الخادم الذي سرق أمس واحتقر، وازدري، وطرد قادر على الوفاء! ولكن ما طبيعة هذا الوفاء؟ أليست هي الكذب، وشهادة الزور؟ وإذن فمتى كان يحسن الخادم، أحين يشهد الزور لينقذ حيا أم حين يصدق في الشهادة ليعاقب مجرما؟ •••
أما سفرين فهو يودع أخته، يريد أن يترك جوارها وجوار ابنيها، فهو لا يستطيع أن يرى هذين الغلامين وقد قتل أباهما، وسيكون حظه من الدنيا أن يرعاهم جميعا عن بعد، ويضمن لهم الحياة.
وهذا الصديق قد أقبل فإذا سفرين يستودعه أخته، ويوصيه بأن يرعاها في احترام وإخلاص، فيعده بذلك.
ولكن أخته تتعلق به ملحة عليه أن يعدها بأنه سيعود أو بأنه سيحاول العودة، فإذا أسرفت في الإلحاح أجابها: فيم الوعد؟ وهل أدري ماذا أصنع؟ وهل أستطيع أن أعلم شيئا؟ أليس الأمر للقدر؟
أنا قاتلة
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ليوبولد مارشان»
অজানা পৃষ্ঠা
مثلت هذه القصة في باريس منذ ثلاثة أشهر، فأجمع النقاد على الإعجاب بها، ولكنهم على ذلك وقفوا منها مواقف مختلفة: فمنهم من أعجب إعجابا مطلقا، ومنهم من احتاج إلى شيء من التحفظ يختلف قلة وكثرة باختلاف حظه من المحافظة، والميل إلى التجديد في مناهج الفن التمثيلي.
والحق أن القصة تدعو إلى شيء من التردد في وضعها، وتصورها، وانسياق فصولها، ومناظرها، فموضوعها في ظاهر الأمر عادي تافه لا يكاد الناس يلتفتون إليه إلا أن يضطروا إلى ذلك، فإن فعلوا فما أسرع ما ينصرفون عنه؛ لأنه من هذه الموضوعات التي تطرق آذانهم في كل يوم، وتغدو بها الصحف وتروح، والتي أثارث أول الأمر شيئا من السخط، ثم لم تلبث أن ألفها الناس واطمأنوا إليها، فالعناية بموضوع كهذا وعرضه في ملاعب التمثيل خليقة أن تضطر الناقد إلى شيء من التردد، ثم وضع القصة نفسه لا يخلو من بعض الغرابة، فقد تعود الكتاب الممثلون أن يسيروا بالنظارة والقراء سيرا هادئا منطقيا حتى ينتهوا بهم إبان القصة أو آخرها إلى ما يثير في نفوسهم العواطف الحادة إن كانوا يريدون إلى إثارة هذه العواطف. أما كاتبنا فقد خالف هذا المنهج مخالفة تامة؛ فبدأ بما يثير العواطف، ويهز النفس هزا عنيفا في الفصل الأول، ثم مضى بقصته في تؤدة وهدوء ولين حتى انتهى بها إلى آخرها، ثم إن القصة في حقيقة الأمر توشك أن تكون قصتين، أو هي بالفعل قصتان، تبدأ أولاهما في الفصل الأول، وتنتهي إبان الفصل الثاني، ثم تبدأ الأخرى وتنتهي آخر الفصل الثالث. ومن الممكن جدا فصل هاتين القصتين، ولكن هذا الفصل يفسد إحدى القصتين وهي الأولى؛ لأنه يردها إلى شيء تافه لا قيمة له، ولا خطر، ويسيء إلى القصة الثانية؛ لأنه يردها إلى حوار مجرد، وإلى ضرب من الفلسفة لا عمل فيه ولا حركة، ومهما يكن من شيء فاقتران هاتين القصتين وإن كان في حقيقة الأمر مصدر جمال - كما سترى - خليق بأن يفاجأ النقاد والنظارة، ويضطرهم إلى شيء من التردد قبل الحكم للكاتب أو عليه.
تجد هذه الملاحظات كلها وملاحظات أخرى فيما كتب النقاد عن هذه القصة إثر تمثيلها لأول مرة، ولكنك تجد في الوقت نفسه إلى هذه الملاحظات - كما قلت لك - إعجابا شديدا لم يتردد النقاد جميعا في إعلانه، بل لم يتردد بعضهم في أن يغرق فيه، ذلك أن القصة خليقة بالإعجاب، وليس يغض منها أن موضوعها مألوف، بل ليس يغض منها أن يكون هذا الموضوع تافها مبتذلا إذا استطاع الكاتب أن يستغل هذا الموضوع التافه المبتذل، فيرفعه رغم تفاهته وابتذاله إلى حيث يجعله مصدرا للعظة والعبرة، والتأثر والتفكير.
وقد استطاع الكاتب - كما سترى - أن يصل بموضوعه التافه المبتذل إلى هذه المنزلة، وليس يكفي أن يكون الموضوع تافها مبتذلا ليزدريه الفن، ويعرض عنه، وإنما يخيل إلينا أن من مزايا الفن الصحيح أن يمس بعصاه السحرية هذه الشئون التافهة المبتذلة، فيرفعها ويجعلها مصدرا للفائدة العقلية أو الشعورية أو للفائدتين معا، ذلك أن هذه الشئون التافهة إنما هي مظاهر لحياة الناس، وليس في حياة الناس شيء وإن صغر يحسن أن يطرح ويزدرى لأنه صغير.
ثم ليس يغض من هذه القصة أن يكون الكاتب قد بدأ من حيث ينتهي الكتاب الممثلون، فأثار العواصف في أول قصته، وقد تعود الكتاب أن يهيئوا في أول القصة لهذه العواصف وألا يثيروها إلا إبان القصة، فما الذي يمنع هذا الكاتب أن يجدد ويخالف هذا المألوف الذي لم يحتمه على الناس إلا العادة، والذي ليس من التقديس بحيث لا ينبغي الانصراف عنه، وأمر العواصف النفسية كأمر العواصف الطبيعية الخارجية، لها الأسباب المهيئة التي تستتبعها وتثيرها، ثم لها النتائج التي تنشأ عنها بعد هدوئها، وكما أن العالم الطبيعي من الحق عليه أن يدرس العواصف قبل أن تثور ليعرف كيف تثور، وأن يدرسها بعد أن تثور؛ ليتبين ما ينشأ عنها من النتائج والآثار، فمن الحق على من يريد أن يتعرف النفس الإنسانية أن يدرس عواصفها وعواطفها قبل أن تثور كما تعود الكتاب الممثلون أن يفعلوا، وبعد أن تثور كما فعل كاتبنا هذا في هذه القصة.
ثم ليس يغض من القصة أيضا أن تتألف من قصتين ما دامت هناك سبيل إلى تحقيق الوحدة بين هاتين القصتين، بل إلى استخلاص إحداهما من الأخرى بحيث تستطيعان أن تكونا قصة واحدة.
وسبيل هذه الوحدة من قصتنا هذه واضحة بينة، فهذه المرأة التي تقترف الإثم، ثم تتأثر بنتائجه بعد اقترافه شخص واحد لا شخصان، ولو أنك درست حياة أي شخص من الأشخاص لاستطعت أن تجمعها، فتؤلف منها قصة واحدة؛ لأن حياة الأفراد والجماعات متصل بعضها ببعض، ناشئ بعضها عن بعض، فالوحدة هنا هي الأصل، والتفريق يصطنع اصطناعا، ويتكلف تكلفا على أنه وسيلة من الوسائل لتسهيل الدرس، وجعله سائغا ميسورا.
إذن فيخيل إلي أن هذه الملاحظات التي أخذ بها الكاتب لا تثبت أمام التفكير والتحقيق، وإنما ينبغي أن ينظر إلى القصة من حيث هي لنعرف هل وفق الكاتب في تصورها، وفي عرضها، وفي استخلاص ما استخلص منها من النتائج والآثار؟ ويخيل إلي أنه قد وفق إلى ذلك توفيقا حسنا لا بأس به.
ولعل تلخيص القصة أوضح سبيل إلى إثبات ما لكاتبنا من الحظ في هذا التوفيق: «موضوع القصة يسير سهل، ولكن يسره وسهولته لا يمنعانه أن يكون مثارا لكثير من الشكوك والخواطر يحسن أن يقف عندها المفكر الباحث: امرأة خانها خليلها، وأسرف في خيانتها، فتجد ما استطاعت في أن تترضاه، وتستأنف الحظوة عنده، ولكنها لا تفلح فتفسد عليها الغيرة أمرها، وتملك عليها عقلها وشعورها، فتقترف إثم القتل، ويعرف لها المحلفون هذا الضعف الذي اضطرها إليه الغيرة الحادة، فيعفونها من التبعة، ويبرئونها. وهي سعيدة بهذه التبرئة أول الأمر؛ لأنها أفلتت من الموت، وأفلتت من السجن، واستأنفت حظها من الاستمتاع بالحياة، وما فيها من هواء وضوء، وحرية وحركة وعمل، ولكنها إن أفلتت من المحلفين ومن القانون الاجتماعي فلن تفلت من قانون آخر داخلي نفسي هو قانون الذكرى، وما يسمونه تأنيب الضمير، فهي معذبة ترى نفسها آثمة، ولا تستطيع أن تطمئن إلى هذا الإثم، وهي تحاول أن تحيا، وأن تلذ، ولكن هذا الإثم ينغص عليها الحياة، ويكدر عليها صفو اللذة، فأنت ترى أن هذه المرأة كما تصورها الكاتب، وكما عرضها خليقة بالبحث والدرس، وأن هذه الأطوار المختلفة التي تتعاقب على نفسها قبل العاصفة وبعدها خليقة أن يقف عندها علماء النفس. ومن حول هذه المرأة أشخاص آخرون يختلفون فيما بينهم، ولكن كثرتهم تثير العناية، وهي خليقة بهذه العناية، من هؤلاء الأشخاص هذا الخليل الخائن الذي ذهب ضحية الخيانة والغيرة، وهذا الزوج الطائش الذي يعترف أنه مصدر ما تورطت فيه امرأته من إثم، وهذا المحامي الذي يحب متهمته، ويجتهد في أن يظفر بالمكانة في قلبها، ولكنه لا يستطيع إلا أن يلاحظ بأن بين ما يطلب وبين ما تستطيع هذه المرأة أن تعطيه أمرا بعيدا، ذلك إلى أشخاص آخرين ليس لهم من الشأن ما لهؤلاء الأشخاص الذي ذكرت لك.»
الحق أن القصة قيمة ممتعة للقارئ، ولكني أشك في أنها تستطيع أن تعجب الجمهور، وتستهويه في غير تحفظ ولا تردد، فجمهور النظارة كثير الطمع، قليل الرضا، وهو شديدة الميل إلى كثرة الحركة والعمل، سريع السأم والملل أمام هذا النحو من الحوار الفلسفي الدقيق الطويل، وأكبر ظني أن الفصل الأول من هذه القصة - وهو الفصل الذي لا أحبه كثيرا - قد أعجب الجمهور وراقه؛ لأنه سريع حاد، كثير الحركة، كثير الأشخاص فيه ذهاب وإياب، وفيه بنوع خاص إطلاق الرصاص وسفك الدم، وحضور الشرطة، والقبض على الجانية، وكل هذه أشياء تحب الجماهير أن تراها في الملاعب، فأما الفصلان الآخران فما أحسب أن الجمهور احتملهما إلا على مشقة وجهد. •••
অজানা পৃষ্ঠা