وتستطيع أن تتصور غضب الناشر وغيظه بعدما أنفق من الجهد والمال ما أنفق، فهو يترضى الكاتب، ويتوسل إليه، ثم ينذره ويخيفه، ولكن الكاتب مصر لن يعدل عن رأيه، وهنا يدور حديث نفهم منه طبيعة هذا الكاتب، ومقدرته الفنية، فهو لم يخترع كتابه الأول اختراعا، وإنما صاغه من قصة وقعت بالفعل لامرأته حين كانت تعمل في المستشفيات في أثناء الحرب، فأحبت أحد الأطباء وأحبها هذا الطبيب، ولم ينته حبهما إلى غايته، وكانت الفتاة تكتب مذكرات وخواطر وقعت للكاتب بعد أن اقترن منها، فصاغ منها قصته تلك.
وهنا تظهر مهارة الناشر، وحرصه على منفعته، فهو يسأل هذه المرأة: ألم يحبك أحد بعد هذا الرجل؟ ألم يحدث في حياتك ما يحملك على كتابة الخواطر والمذكرات؟ فتجيبه: لا، فيشتد غيظه، ويسوء الحديث بينه وبين الكاتب، ويعرض عليه الكاتب إلغاء ما بينهما من عقد، وما يزال الأمر بينهما في شدة حتى يفسد، فإذا الناشر يتهم الكاتب بالخيانة والاحتيال، وإذا الكاتب يطلب إلى الناشر أن يخرج من عنده، فيأبى، فينصرف الكاتب معلنا أنه لن يعود من غرفته حتى يخرج هذا الرجل. ويخلو الناشر إلى جاكلين، فيكون بينهما حديث آية في المهارة والغرابة، والحرص على النفع، والتماسه من جميع الوجوه الممكنة. يعود الناشر فيسأل جاكلين: أليس بين الناس من يحبها أو يظهر لها المودة؟ فتجيبه: لا، فيلح عليها، ثم يعلن إليها أنه لو كان مكانها لالتمس لنفسه عاشقا ومغازلا، ولكتب خواطر ومذكرات تمكن صاحبنا من وضع قصته، فإذا أنكرت ذلك خيرها بين النعيم والبؤس، وبين السعة والضيق، وبين الشهرة والخمول، ثم فتح أمامها أبواب الأمل في ثروة لا حد لها، وشهرة تنتهي بزوجها إلى المجمع اللغوي.
وما يزال بها حتى تحس منها شيئا من الضعف، ثم يسألها الرجل مفاجأة: ما بال ماريشال؟ أليس يحبك؟ فتجيبه: لا، فيلح فتجيبه: إن هذا الرجل يحب النساء جميعا، ويتملقهن جميعا، وهو يتملقني كما يتملق غيري من النساء، وهو مقبل بعد حين ليرى زوجي، فانظر إلى الناشر منتصرا مبتهجا؛ لأنه ظفر بحاجته، فلا بد من أن تتلطف جاكلين لماريشال وتطمعه، وتقبل تملقه وغزله، وتكتب خواطر ومذكرات، وهي تأبى الأمر في نفسه، وهو يلح، فتقبل ولكن مع غير ماريشال، فيلح ويسرف في الإلحاح، ونحس نحن أن في نفس هذه المرأة ميلا خفيا إلى ماريشال، وأنها لا تحب أن تعبث به هذا العبث، وقد أقبل ماريشال فحيا تحية المحب، وما يزال الناشر بهما حتى يصل بينهما حديثا يشبه أن يكون حديث حب، وقد أغرى كلا منهما بصاحبه، ثم يدعهما ليصلح ما فسد بينه وبين الكاتب، فإذا خلى أحدهما إلى صاحبه أسرع ماريشال فأعلن حبه وهيامه، وهمت المرأة أن تدفعه، ولكنها تذكر الناشر، وما تحدث به إليها من الثروة والشهرة، وتذكر في الوقت نفسه ميلها الخفي إلى هذا الرجل فلا تدنيه ولا تقصيه، وإنما تترك له أملا مغريا، ويأتي الكاتب والناشر وقد اصطلحا، وتم الاتفاق بينهما على أن يستريح الكاتب أشهرا لا يكتب شيئا ، ولا يفكر في شيء، حتى إذا أخذ من الراحة بحظ استأنف العمل فتنقاد له المعاني والألفاظ، وإذا الكتاب قد تهيأ للنشر في وقت قصير.
وللناشر بيت على ساحل البحر في جنوب فرنسا، فهو يدعو الكاتب وامرأته إلى أن يذهبا إلى هذا البيت ليستريحا فيه. وقد قبل الكاتب، ورضيت امرأته، وفهمنا نحن أن الناشر إنما دبر هذا كله ليترك الفرصة لحب ماريشال؛ لعله يظفر بما يحمل المرأة على أن تكتب الخواطر والمذكرات.
وقد أحس الناشر أن ذلك لن يكون إلا إذا أرسل ماريشال مع الزوجين إلى ساحل البحر، وقد مهد لذلك فوفق فيه، وأصبح ثلاثة القوم مستعدين للرحلة إلى الجنوب، ورضي الناشر عن نفسه، وعن خطته، وعن فوزه، فهو يدعو ثلاثتهم للعشاء معه في مطعم من مطاعم الضواحي، وسيحملهم في سيارته، فأما الزوج فسيجلس في مؤخرها مع ماريشال، ولا خوف عليهم من البرد ولا من الهواء، ففي السيارة من أنواع الوقاية ما يحجب من البرد والهواء. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في أقصى الجنوب الفرنسي في بيت الناشر على ساحل البحر حيث يقيم أصحابنا منذ حين، ونحن نرى جاكلين تتحدث إلى الصحفي الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد علم بمكان الكاتبين، فأقبل يطلب إليهما حديثين، فأما الزوج فقد تبرم بهذا الصحفي وخرج، والمرأة تعلل هذا الصحفي، وتطلب إليه أن ينتظر حينا، وأما ماريشال فقد أعد حديثه وكتبه، وها هو ذا قد أقبل يريد أن يقرأ على الصحفي هذا الحديث، وقد بدأ يقرؤه عليه، ثم خرجا يتمان هذه القراءة في الحديقة، ويقبل الزوج فإذا علم بمكان الصحفي أنكره، وسخط على ماريشال، فتدافع امرأته بعض الدفاع فيغضب، ونحس أنه يجد في نفسه شيئا، ثم يخرج ويعلن إلى امرأته أنه لن يرى هذا الصحفي، ولن يتحدث إليه.
فإذا فرع ماريشال من قراءة حديثه على الصحفي عادا إلى حيث جاكلين، فيتعجل الصحفي، فتنبئه بأن زوجها قد يتأخر، فينصرف على أن يرسل إليه الكاتب حديثه مع البريد.
ويخلو العاشقان، فلا يلبث ماريشال أن يلوم صاحبته؛ لأنها ما زالت به تطمعه وتغريه حتى ترك عمله في باريس، وأعرض عن سياحة كان ينتظر منها نفعا كثيرا، وأقبل معها، ولكنه لم يظفر بشيء، وقد ضاق بهذا الانتظار، وكره أن يكون ضحكة لها، واعتزم أن يسافر منذ غد. وما يزال بينهما الحديث حتى تعلن إليه المرأة أنها تحبه حقا، وأنها لم تدعه إلى اللحاق بها، ولو قد استطاعت لطلبت إليه ألا يفعل، ثم تقص عليه القصة كلها، فإذا هو ثائر مغضب؛ لأنه سيكون موضوعا لعبث الناشر والكاتب، وهو محنق لأنه سيكون موضوع قصته، وهو محنق لأنه لم يظفر في سبيل ذلك بشيء ما، ومهما تتلطف له جاكلين فهو لا يرضى منها إلا أن تزوره في غرفته، وهي تمانع وتغلو في الممانعة، ولكنه مصر على هذه الزيارة، فإن لم تفعل فهو مرتحل غدا، وقد أذعنت وقبلت هذه الزيارة، والتمسا لها علة، وهي أن تأخذ أداتها الكاتبة، وتذهب إليه كأنه يريد أن يملي عليها كتبا هو في حاجة إلى حفظ أصولها.
وقد صعدت هي تبتغي آلتها الكاتبة، وانصرف هو إلى غرفته وهو يقول: إذن فسيكون بينها وبيني شيء لا تستطيع أن تظهر زوجها عليه، ولكن الزوج قد أقبل، ولم يكد يستقر حتى يرى امرأته تهبط ومعها أداتها الكاتبة فيستوقفها، ويسألها فتخبره، فيحظر عليها الذهاب، فتأبى، فيلح ويأخذها بشيء من العنف، ويرسل الخادم لتعلن إلى ماريشال أن السيدة معتذرة؛ لأن بعض الأمر قد طرأ لها، ثم يعلن إليها أنهما مرتحلان غدا إلى باريس، فتأبى، فيعلن إليها أنه يريد ذلك وكفى.
وهذا الناشر قد أقبل ومعه الفيلسوف الأديب الذي رأيناه في الفصل الأول، وكانا منتظرين، فإذا سلما وذهب الفيلسوف ليستريح سأل الناشر صاحبه الكاتب: كيف يجد نفسه، فيخبره بعزمه على السفر منذ غد ليفرق بين امرأته وبين ماريشال بعد أن أصبحت عشرتهما خطرة، فيضحك الناشر منه، ويهزأ به، وينبئه بأن هذه قصة مدبرة، وأنه اتفق عليها مع جاكلين، وأهدى إليها دفترا تكتب فيه الخواطر والمذكرات، فأما الكاتب فلا يطمئن لهذا الحديث. وتدعى جاكلين، وتسأل فلا تجيب، فإذا ألح عليها الرجلان أخرجت دفترا ودفعته إلى زوجها، فينظر فيه فإذا هو نقي لم يكتب فيه حرف واحد، وإذن! فقد كان الأمر بينها وبين الرجل جدا لا هزلا، وقد احتفظت لنفسها بخواطرها ومذكراتها، فأما الكاتب فكئيب محزون، يائس، قد أثقله الهم. وأما الناشر فيغريه ويعتذر إليه، وأما المرأة فقد صعدت، ثم عادت وقد تهيأت للسفر تريد أن تعود إلى أهلها، فإذا سألها زوجها قالت: إنها تريد أن تخلو وتفكر لترى جلية ما يضطرب في نفسها، فيأبى إلا أن يصحبها، وما يزال بها مهتما وشاكا وجزعا ومنذرا حتى تقبل؛ ذلك أنها تحب زوجها كما يحبها، وإنما هي أزمة عرضت لها كما تعرض لغيرها من النساء والرجال.
অজানা পৃষ্ঠা