نحن في دار من دور النشر في باريس، يشرف عليها رجل ماهر في صناعته، قوي الإرادة، حديد الفؤاد، مرن الضمير، فصيح اللسان، غريب الجمل، لا يفكر إلا في صناعته، ولا يعنيه إلا أن يفوز ويتفوق على خصومه الناشرين، هذا الرجل هو جوليان موسكا، ونحن نرى في أول الفصل رجلين يعملان، يملي أحدهما على صاحبه أسماء الكتب التي طلبتها المكاتب، ومقادير هذه الكتب، وهو يمضي في ذلك بطريقة مضحكة قد لا يكون من اليسير أداؤها في لغتنا العربية؛ لأنه يقرن بأسماء الكتب المختلفة باختلاف موضوعاتها الفنية والعلمية موازين هذه الكتب بالكيلوجرام. وبينما هما في عملهما هذا تختلف عليهما طائفة من الناس اختلافا سريعا، يعرض علينا أكثر أشخاص القصة، فهذا أديب يقال له بريجايون قد أقبل مسرعا يسأل عن صاحب الدار، فلما لم يجده أنكر تأخره في هذا اليوم، وأنبأ بأن لديه شيئا هاما يريد أن يفضي به إليه، وأنه سيعود بعد لحظة، وتفهم من حديثه أن لهذا اليوم في حياة الدار خطرا؛ لأن هناك جائزة أدبية كبرى هي جائزة زولا، يتنافس حولها الكتاب، وقد رشح لها صاحب الدار أديبا وجد في ترشيحه، وظفر بوعد الكثرة المطلقة من المحكمين أن يعطوه أصواتهم.
ثم ينصرف هذا الأديب ويقبل رجل آخر مهمل الزي، تقتحمه العين، يقال له مارك فورنييه، يسأل عن صاحب الدار، فلا يكاد يحفل به أحد، بل نحس من أهل الدار تبرما به، ورغبة في دفعه عنها وعن صاحبها، ونفهم أنه قد عرف صاحب الدار حين كانا يؤديان معا خدمتهما العسكرية، والرجل يلح في السؤال وأهل الدار يذودونه، ويمنونه بلقاء صاحبه بعد أيام، ولكن هذا أديب آخر قد أقبل متعاظما مشغول البال، فيستقبله أهل الدار في شيء من الإجلال والتكريم، وهو ماريشال مرشح الدار للجائزة، وهو يسأل عن صاحب الدار فينكر تأخره، ويسأل عن كتابه، فنفهم أنه قد طبع منه خمسة وعشرون ألفا، وأعدت النسخ لترسل إلى مكاتب باريس والأقاليم بعيد ظهور النتيجة، وقد كتبت العنوانات، وحملت العربات، وأعدت صور الكاتب الفتوغرافية، ولم يبق إلا أن ينسخ الكاتب اسمه عليها بخطه لتعرضها المكاتب بعد الظهر، والكاتب ينظر إلى هذه الصور فلا تعجبه؛ لأنها تمثله متقدما في السن كأنه قد بلغ الأربعين، ولكن صاحب الدار قد طلب أن تعرض هذه الصور؛ لأنها هي التي ينتظر أن تعجب السيدات، فيأخذ الكاتب في التوقيع، ثم يبدو له فينصرف على أن يعود بعد قليل.
وهذا صاحب الدار مقبلا ومعه كاتب مشهور فيلسوف أديب من المحكمين هو بورجين، فإذا دخلا تعرض مارك فورنييه لصاحب الدار، فينصرف عنه مزورا، ويمضي مع صاحبه إلى غرفته، ويقبل العمال يعرضون عليه أمور الدار في سرعة غريبة، فينجزها مسرعا، ناطقا بألفاظ قصار متقطعة، حتى إذا فرغ من ذلك في لحظة التفت إلى الفيلسوف الأديب وتحدثا في الجائزة، فنفهم أن كثرة المحكمين قد انقادت لهذا الناشر بفضل هذا الفيلسوف، ولكن من المحكمين من يتردد، فيقول الناشر لصاحبه: أفهمه أني أعتمد عليه في كتابة النقد التمثيلي لصحيفة كذا، فيغضب الفيلسوف؛ لأنه كان يرجو لنفسه هذا العمل، ويرضيه الناشر ويتفقان، وينصرف الفيلسوف على أن يرسل معه الناشر عاملا يأخذ منه أخبار المداولة ليوصلها إليه كأسرع ما يمكن.
وهذا بريجايون قد أقبل فأدخل على الناشر فيدور بينهما حديث موجز سريع يغير كل شيء، ذلك أن هذا الأديب يخبر الناشر بأن مرشحه قد خانه، وأنه اتفق مع ناشر آخر على أن يعطيه كتبه المقبلة، وقد أمضي العقد بينهما أمس، فإذا سئل عن البرهان قال عرفت ذلك من كاتبة ذلك الناشر التي كانت تحب ماريشال فخانها، فهي تنتقم لنفسها، ثم يخرج ويعود ومعه الكاتبة التي تظهر العقد للناشر فينظر فيه ويرده إليها، ويمنحها مكافأة مالية، ويعدها بكتمان السر، ويصرفها فتصرف، والناشر مغضب مضطرب؛ لأن صاحبه قد خانه وعبث به، ولأنه بذل جهدا عنيفا حتى ظفر بأصوات المحكمين، وأنفق ستين ألف فرنك في الإعلان عن هذا الكتاب، وكانت نتيجة هذا كله الخيانة.
ولكنه رجل لا يعرف الهزيمة، ولا يطمئن إليها، ولا تؤلمه الخسارة المادية، فإذا هو يسرع إلى التليفون فيدعو فيلسوفه الأديب، ويعلن إليه في حزم أنه لا يريد بوجه من الوجوه أن يفوز ماريشال، ثم ينتظر، وهذا ماريشال قد أقبل، فيتلقاه مبتسما مبتهجا، ويطلب إليه في هدوء أن ينظما أمرهما، وأن يمضيا هذا العقد الذي يضمن له نشر كتب الأديب المقبلة، ويضمن للأديب موردا ضخما، فيتردد الأديب، ويلح الناشر.
ويشتد تردد الأديب فيشتد إلحاح الناشر؛ فيأبى الأديب، وهذا التليفون يدعو فيصغي إليه الناشر، فيكتب أرقاما على ورقة أمامه، حتى إذا فرغ أعلن إلى الأديب في هدوء أنه قد انتهى التصويت الأول، وأنه لم يفز فيه. فيسخط الأديب ويضطرب ويصيح، ويتهم بالخيانة فلانا وفلانا من المحكمين. ولكن التليفون يدعو مرة أخرى، ويصغي إليه الناشر، ثم ينبئ الكاتب بأن فشله في التصويت الثاني أعظم من فشله في التصويت الأول، فيشتد سخط الكاتب، وهنا ينبئه الناشر في سخرية بأنه لم يحسن حين اتفق مع خصمه، فيفهم الأديب، وإذا هو يبرق ويرعد، وينذر ويوعد، ولكن التليفون يدعو للمرة الثالثة، فيصغي الناشر، ثم يعلن بعد ذلك أن قد انتهى التصويت وفاز بالجائزة رجل مجهول لا يعرفه أحد، ولم يسمع به أحد، رجل من الأقاليم يقال له إيفنوس.
وقد خرج الأديب مغضبا موعدا، ولكن الناشر عنه في شغل، فما أسرع ما يستفسر أمر هذا الفائز بالجائزة، فهو رجل من مدينة أورليان، طبع كتابه «استيقاظ الفؤاد» في مطبعة من مطابع المدينة، فما أسرع ما يتصل الناشر بصاحب هذه المطبعة من طريق التليفون، فينبئه بالخبر، ويشتري منه حقوق الطبع، وما بقي عنده من نسخ الكتاب، ويأخذ منه عنوان المؤلف في باريس، ويرسل إليه جماعة من العمال في سيارة يؤدون إليه الثمن، ويأخذون منه نسخ الكتاب على أن يعودوا مع الليل، ثم يدعو أحد عماله فيعطيه عنوان المؤلف، ويأمره أن يمضي مسرعا، ولا يعود إلا ومعه المؤلف مهما يكلفه ذلك من مشقة وحيلة، كل ذلك في سرعة ولباقة لا حد لهما.
وما هي إلا لحظة حتى يعود العامل ومعه سيدة فينبئ صاحب الدار بأنه لم يجد المؤلف فجاء بامرأته، وتدخل جاكلين فتتحدث إلى الناشر، فنفهم من حديثها أنها لا تقدر فوز زوجها، ولا تفكر فيه، وأنها تعرف أن زوجها قد ألف كتابا وعرضه على هذا الناشر، وهي تظن أن هذا الكتاب قد أعجب الناشر وهي سعيدة بهذا، والناشر لا يفهمها، ثم ينتهي بهما الأمر إلى أن يفهم كل منهما صاحبه، فيعلن إليها الناشر أن زوجها قد ظفر بالجائزة، فإذا هي مغتبطة سعيدة، وإذا هي تنبئ الناشر بأنها هي التي قدمت الكتاب إلى المحكمين؛ لأن زوجها رفض ذلك لثقته بأنه لن يظفر بشيء، وهو موظف في إحدى الوزارات، وهو رجل من أورليان يقال له مارك فورنييه، فإذا سمع الناشر هذا الاسم ذكره وذكر صاحبه، وذكر أنه هو هذا الذي يتردد منذ أيام فلا يقبل، وطلب إلى زوجه أن تكتب إليه كلمة يحملها إليه بعض العمال ليأتي به، وبينما هي تكتب يقبل مارك فورنييه، فيتلقاه العمال في تبرم وازدراء، ويذودونه عن الدار ذودا، فينصرف وقد دعا الناشر أحد العمال وطلب إليه أن يمضي بهذه الكلمة، وأن يأتيه بمارك فورنييه، فإذا أدخله على الناشر تلقاه هذا في مودة لا حد لها، فهو يضمه إليه ويقبله ، ثم ينظر الرجل فإذا امرأته وإذا هو يعلم بفوزه، وإذا هو دهش قد أذهله النبأ، وانظر إلى الناشر يفتح أمامه أبوابا من الأمل، فسيقبض الجائزة خمسة عشر ألف فرنك، وسيقبض منه هو عشرة آلاف مقدما، ثم يستقيل من الوزارة وينصرف إلى الأدب، وإذا هو من الأغنياء، وإذا هو من أصحاب الصوت الذائع، وهم في ذلك إذ أقبل صحفي يستنبئ عن هذا الكاتب الذي فاز، فإذا رآه رغب في أن يأخذ منه حديثا، وفي أن يأخذ صورته، وما أسرع ما تؤخذ الصورة فيها المؤلف وامرأته والناشر، ولكن المؤلف قد أخذ يشعر بقيمته، وأخذت تظهر فيه الصفة الأولى من صفات الأديب، فهو يسأل مبتسما: أليس يحسن أن أصور منفردا؟ •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على ما قصصنا عليك عام ونصف عام، وانصرف كاتبنا مارك فورنييه الذي اتخذ لنفسه اسم إفنوس إلى صناعة الأدب، واستقال من عمله في الوزارة، وأخذ من الشهرة الأدبية بحظ موفور، وكان قد اتفق مع الناشر على أن يتعجل إصدار كتاب آخر، وعلى أن يكون هذا الكتاب استمرارا لكتابه الأول الذي نال الجائزة، وهو منذ ثمانية عشر شهرا يعمل في هذا الكتاب الثاني، فلا تؤاتيه القريحة، ولا يكاد يظفر بشيء.
ونحن نراه أول هذا الفصل جالسا إلى مكتبه ينظر في صحيفة كئيبا ضيق الصدر، ثم يسرع إلى هذه الصحيفة فيمزقها مغضبا محرجا، وما هي إلى أن تقبل امرأته فيتلقاها فاترا، وتحدثه عمن لقيت في بعض زياراتها، ثم تسأله عن عمله، فينبئها بأنه لم يعمل شيئا، وبأنه لم يوفق إلى شيء، ويظهر لها ميله الشديد إلى الانصراف عن هذا الكتاب، بل عن الأدب كله؛ لأنه لا يحسن أن يكتب، وهي تلومه وتشجعه وتغريه، ولكنها لا تظفر منه بشيء، ونحس في هذا الحديث جهاد الرجل بين ما يشعر به من العجز، وما يشعر به من الاحتفاظ بمكانته الأدبية، وما يشعر به أيضا من طمع امرأته، وحرصها على هذه الحياة الجديدة التي تجد فيها الدعة والثروة، وتجد فيها الشهرة والرفعة. ثم نشعر بشيء آخر هو هذه الموجدة التي يحسها الأديب على الأديب إذا قدر التوفيق والفوز، فصاحبنا واجد على ماريشال؛ لأن الناس يتحدثون عنه، والنساء يتهالكن عليه، وصاحبنا يرى أن هذا الرجل ليس شيئا، وأنه من أصحاب الفن السهل الذي لا جد فيه ولا غناء، وامرأته لا تدافعه في ذلك، ولكنها لا تجاريه، وهي تنبئه بأن ماريشال قد يأتي بعد قليل ليراه فيكره ذلك، ويتبرم به، وهذا التليفون يدعو فنفهم من الحديث أن الناشر مقبل، ونرى كاتبنا شديد الضجر، مترددا بين الخروج؛ حتى لا يرى الناشر، وبين البقاء؛ حتى إذا رآه أخبره بعزمه على الانصراف عن الأدب، ولكن امرأته تستبقيه وتشجعه، وهذا الناشر قد أقبل فيلقاه وامرأته لقاء حسنا، وما هي إلا أن يدور الحديث على الكتاب المنتظر، فيزعم الكاتب أن قد مضى فيه إلى أمد بعيد، ويتعجله الناشر ويطلب إليه الأصل بعد ثلاثة أسابيع، فيتعلل، فيمد له الأجل أسبوعا، فيأبى، فيشتد إلحاح الناشر وإباء الكاتب، حتى يضيق الكاتب ذرعا، فيعلن أنه لن يكتب هذا الكتاب؛ لأنه لا يستطيع أن يمضي فيه.
অজানা পৃষ্ঠা