أما فرنسا، فقد كانت خطتها في المسألة من بادئ الأمر خطة الدولة الراغبة في السلامة العديمة الأطماع في أخذ شيء من أملاك الدولة العلية، ولما عرضت عليها الدول الأوروبية الاشتراك معها في مؤتمر يعقد للفصل النهائي بين تركيا والروسيا، اشترطت على الدول: أولا: اشتراك كل الدول التي أمضت على معاهدة باريس عام 1856 في هذا المؤتمر. ثانيا: أن لا ينظر في هذا المؤتمر إلا في المسائل المختصة بالحرب بين تركيا والروسيا. ثالثا: أن لا يبحث أعضاء المؤتمر في شئون مصر والشام، وأن لا يناقش أحد في المؤتمر في حقوق فرنسا على الأماكن المقدسة. فقبلت الدول كلها هذه الشروط ورضيت بذلك فرنسا أن تشترك معها في المؤتمر.
وقد ظهر للقارئ مما سبق أن إنكلترا كانت متظاهرة بالمودة للدولة العلية، وكانت تهدد الروسيا بأعلى صوت ولسان، ولم يكن قصدها من ذلك خدمة تركيا أو مساعدتها، بل التغرير بها وخدعها؛ فإنها وعدتها بالمساعدة في مؤتمر برلين ضد الروسيا، وعرضت عليها عقد اتحاد معها تتعهد فيه إنكلترا بالدفاع عن تركيا إذا مستها الروسيا بسوء - ولو كانت إنكلترا صادقة في مودتها لكانت تحالفت مع الدولة العلية قبل الحرب - وتأخذ منها مقابل ذلك جزيرة «قبرص»، فانخدع رجال الدولة العلية لسواس بريطانيا وأحسنوا الظن بهم، وعقدوا معهم هذه المعاهدة في 4 يونيو عام 1878؛ أي قبل عقد مؤتمر برلين بأيام قلائل، وبذلك فقدت الدولة العلية جزيرة قبرص بدون أن تكسبها المودة الإنكليزية الكاذبة أقل فائدة. •••
وقد دعا البرنس بسمارك رسميا في 3 يونيو عام 1878 مندوبي الدول الأوروبية للاجتماع ببرلين، فحضر المندوبون وعقدت الجلسة الأولى للمؤتمر في 13 يونيو، وكان أهم مندوبي ألمانيا البرنس «بسمارك»، وأهم مندوبي النمسا الكونت «أندراشي»، وأهم مندوبي فرنسا مسيو «وادنجتون»، وأهم مندوبي إنكلترا الكونت «بيكونسفيلد» والمركيز «دي سالسبوري»، وأهم مندوبي إيطاليا الكونت «كورتي»، وكان مندوبو الروسيا البرنس «غورتشاكوف» والكونت «شوفالوف» والبارون «دوبريل». أما مندوبو الدولة العلية فكانوا «قره تيودوري باشا» و«محمد علي باشا» الروسي الأصل و«سعد الله بك».
وقد أرسلت حكومة اليونان مندوبين من قبلها لعرض مطالب اليونان على المؤتمر، وكان مندوبو إنكلترا مساعدين لهم كل المساعدة، فطلبوا من المؤتمر قبولهم لسماع أقوالهم، وكان قصد مندوبي إنكلترا من هذه المساعدة معاكسة الروسيا التي يسوءها تقوية العنصر اليوناني؛ لما في ذلك من الضرر بالعنصر السلافي، وكأن مندوبي إنكلترا كانوا يجهلون أن مساعدتهم لليونان تضر بالدولة العلية أكثر من ضررها بالروسيا، ولكن مصالح الدولة العلية كانت لا تهمهم مطلقا بعد أن تحققت أمنيتهم بالاستيلاء على «قبرص»!
وكانت تنحصر مطالب اليونان في إظهار ضرورة استيلائها على تساليا وأبيرا وألبانيا وكريت، وقد قرر المؤتمر قبول مندوبي اليونان في آخر جلسات المؤتمر وسماع مطالبهم.
وأول مناقشة دارت بين أعضاء المؤتمر كانت على مسألة بلغاريا واستغرقت أربع جلسات، وقد انتهت المناقشة باتفاق أعضاء المؤتمر - بالرغم من معارضة مندوبي الروسيا - على جعل مساحة بلغاريا أقل بكثير مما اتفقت عليه الروسيا مع الدولة العلية في سان إسطفانوس، بجعل حدودها عند جبال البلقان ، وإعطائها «صوفيا» كعاصمة لها مع بعض الأراضي في جنوب البلقان، وقرر المؤتمر بذلك جعل مساحتها 64000 كيلومتر مربع بعد أن كانت في اتفاقية سان إسطفانوس 163000 كيلومتر مربع، وصار عدد سكانها مليونا ونصف مليون بعد أن كان في عهدة إسطفانوس أربعة ملايين؛ وبذلك بقيت سواحل الأرخبيل في أيدي الدولة العلية خلافا لشروط عهدة إسطفانوس، وقرر المؤتمر جعل احتلال الجنود الروسية لبلاد بلغاريا لمدة تسعة أشهر فقط لا لسنتين كما قررته عهدة إسطفانوس، وجعل تنظيم بلغاريا تحت مراقبة لجنة دولية لا تحت مراقبة مندوب روسي.
وقرر المؤتمر كذلك إنشاء ولاية جديدة في جنوب البلقان بين مقدونيا وأدرنة تكون عاصمتها مدينة «فيليبوبوليس» وتسمى بالرومللي الشرقي، وتكون إدارتها الداخلية مستقلة، وأن لا يجوز للجنود العثمانية أن تقيم في داخلها، بل يكون لها الحق فقط في الدفاع عن حدودها، ولم يرض أعضاء مؤتمر برلين تسمية الرومللي الشرقي ببلغاريا الجنوبية، ولكنهم كانوا يرمون ولا محالة إلى ضم هذه الولاية الجديدة إلى بلغاريا بعد زمن قليل من عام 1878.
ولما دارت المناقشة بشأن «البوسنة والهرسك» قام الكونت «أندراشي» مندوب النمسا، وقرأ تقريرا طويلا أبان فيه أن بقاء هاتين المقاطعتين تحت يد الدولة العلية، أي تحت حكم المسلمين، يكون سببا لاستمرار الاضطرابات والثورات فيها، وأظهر ما في ذلك من الضرر بمصالح الدولة النمساوية، وما انتهى من كلامه حتى وقف الماركيز «سالسبوري» وأيد أقواله، وسأل المؤتمر تقرير احتلال الجنود النمساوية لمقاطعتي البوسنة والهرسك احتلالا لا أجل له، وهكذا ساعدت إنكلترا الدولة العلية وبرهنت لها على صدق إخلاصها! ... وقد احتج مندوبو تركيا على هذا السؤال الغريب، فأجابهم البرنس بسمارك - الذي كان الموعز للكونت «أندراشي» وللماركيز «سالسبوري» بما طلباه - بأن الغرض من مؤتمر برلين ليس رعاية المصالح العثمانية، بل رعاية مصالح أوروبا والمدنية! ... وقد اتفق مندوبو المؤتمر بالأغلبية على جعل البوسنة والهرسك تحت حكم النمسا، وإعطائها حق احتلال إقليم «نوفي بازار»، وهو إقليم على طريق سالونيك.
وبعد ذلك نظر المؤتمر في مسألة الصرب والجبل الأسود، فأعلن استقلالهما تمام الاستقلال، وقرر إعطاءهما بعض الأراضي لتوسيع نطاقهما، ولكن أقل مما قررته عهدة إسطفانوس، وفي ذلك الوقت قرر المؤتمر سماع مطالب اليونان، فدخل المسيو «ديليانيس» والمسيو «رانجابيه» وقرأ الأول مطالب حكومته، وهي تشتمل على إعطاء اليونان ألبانيا وأبيرا وتساليا وكريت؛ فاتفق أعضاء المؤتمر على تقرير جعل المناقشة في مطالب اليونان بين اليونان والدولة العلية نفسها، وعلى أنه إذا لم يحصل الاتفاق بين الحكومتين على تحديد حدود جديدة بينهما؛ يعرض الأمر عندئذ على الدول الأوروبية، وأقروا على تنظيم المقاطعات اليونانية الباقية تحت حكم الدولة العلية على نسق الرومللي الشرقي، وجعل تنظيمها تحت مراقبة اللجنة الدولية.
ولما جاءت مسألة رومانيا، أعلن المؤتمر استقلال هذه البلاد كصربيا والجبل الأسود، وقرر المساواة التامة بين كل أهاليها على اختلاف دياناتهم، وهذا القرار جاء مفيدا جدا لليهود الذين أساءت إليهم حكومة رومانيا في معاملتها معهم، كما أساء إليهم أهلوها كل الإساءة. وقد سمع المؤتمر مندوبي رومانيا - المسيو براتينو والمسيو كوجو لنيسانو - كما سمع مندوبي اليونان، فطلبا منه عدم تقرير سلخ أي جزء من أراضي رومانيا، وعدم مرور الجنود الروسية في بلادهم، وأن يقرر أن الروسيا تدفع غرامة لرومانيا مقابل ما تكبدته من الخسائر أثناء الحرب، ولكن المؤتمر لم يستطع قبول هذه الطلبات لما فيها من المساس بمصالح الروسيا، واكتفى بتقرير إعطاء رومانيا ألفي كيلومتر مربع في إقليم الدبروجة.
অজানা পৃষ্ঠা