إن هذه الحرب ليست من الحروب الإنسانية، بل هي هول على هول، وفظائع على فظائع؛ لأن الجندي الروسي يرى التركي كحيوان يجتهد في صيده ليقتله، وأما البلغاري فكيفما تمكن من القتل قتل، وهذا هو البرنس ويتشتنستين يقول: إن البلغاريين يقتلون جرحى الأتراك، ويسلبون القتلى أموالهم، فماذا يعمل الإنسان ذو العواطف الحية حينما يرى إخوانه يتحمسون لشرب الدماء عندما يسمعون أنه قبض على أسرى من الأتراك؟! أم كيف يتسنى للأبطال أن ينظروا بعين الرضى رجالا يلوثون انتصارهم بما يركبونه من منكرات الفظائع والمذابح؟!
لما رأت الدولة العلية أن أوروبا كلها ضدها، وأن لا نصير لها بين الدول، وأن إطالة الحرب مضرة بها، طلبت من الروسيا إيقاف الحرب وعقد هدنة للمخابرة في شروط الصلح، فقبلت الروسيا ذلك بغاية الامتنان، وعقدت الهدنة بين المتحاربين في «أدرنة» بتاريخ 30 يناير عام 1878، واشترطت الروسيا عند عقد الهدنة أن القواعد الأولية للصلح يجب أن تكون استقلال الصرب ورومانيا، وتنازل الدولة العلية لهما وللجبل الأسود عن بعض الأراضي، وجعل بلغاريا مستقلة استقلالا إداريا، وجعل الإدارة في البوسنة والهرسك مستقلة، وتقدير غرامة حربية تدفعها تركيا للروسيا.
وما انتشر خبر هذه الاتفاقية التي عقدت في أدرنة بين المتحاربين حتى هاجت الخواطر في النمسا ضد الروسيا، ورأت حكومة الإمبراطور «فرنسوا جوزيف» أن هذه الشروط التي جبرت الروسيا الدولة العلية على قبولها ماسة بحقوقها وبمصالحها في البلقان وعلى شواطئ نهر الدانوب؛ فأعلنت الدول الأوروبية بأنها تعتبر كل اتفاق يقع بين المتحاربين لاغيا لا عمل له، وأن أوروبا كلها يجب عليها أن تجتمع في مؤتمر للفصل بين تركيا والروسيا.
أما إنكلترا فقد أظهرت عندئذ ميلها للدولة العلية، وتظاهرت بالمحبة والصداقة لملك آل عثمان، وأرسلت بأسطولها إلى مياه البوسفور، وهددت الروسيا بإنزال العساكر الإنكليزية إلى الآستانة، وسيرى القارئ إلى أي غاية كانت ترمي إنكلترا عندئذ، وهل كانت صادقة في تظاهرها بالمودة للدولة العلية أو غير صادقة.
وقد أجابت الحكومة الروسية على إعلان النمسا بأن ليس لأوروبا حق في أن تتداخل في أمور لا تمس مصالحها مطلقا، وأن الروسيا تعرض على الدول عقد مؤتمر أوروبي للنظر في شروط الصلح، فوافق البرنس «بسمارك» على جواب الروسيا، وعرض على الدول عقد مؤتمر ببرلين.
وفي هذه الأثناء كان الجنرال «أغناتييف» يتخابر مع مندوبي تركيا في شروط الصلح، وفي 3 مارس أمضى معهم عهدة سان إسطفانوس التي هي أكبر المعاهدات ضررا بالدولة العلية؛ فهي تتضمن جعل بلاد الجبل الأسود مستقلة تمام الاستقلال من الدولة العلية مع توسيع نطاقها وإعطائها ثغرين على البحر الأدرياتيكي، وتتضمن جعل بلاد رومانيا مستقلة تمام الاستقلال، وجعل بلاد الصرب مستقلة، مع إضافة أراضي «نيش» إلى بلادها، وتتضمن جعل بلاد البلغار مستقلة استقلالا نوعيا، وتعيين حاكم روسي لها ينظمها ويحكمها لمدة سنتين، يكون لها فيها الحق في انتخاب أمير عليها، وتتضمن العهدة كذلك احتلال العساكر الروسية لبلاد البلغار مدة سنتين، وهدم كل القلاع والحصون الموجودة على نهر الدانوب «الطونة» وجعل الملاحة في نهر الدانوب حرة، وتتضمن العهدة أيضا أن الإدارة في البوسنة والهرسك تكون موافقة لما طلبته الدول في مجتمع الآستانة، وتوضع تحت مراقبة الروسيا والنمسا، وأن أرمينيا تمنح بعض امتيازات وبعض حقوق جديدة، وأن جلالة السلطان يصدر عفوا عاما عن الثوار والمجرمين السياسيين، وتتضمن العهدة غير ذلك أن الدولة العلية تدفع للروسيا غرامة حربية قدرها 1400 مليون من الروبل، وقد رضيت الروسيا بأن تتنازل للدولة عن مبلغ 1100 مليون من الروبل مقابل تنازل الدولة لها عن باطوم وأردهان وقارص وبايزيد في آسيا، وعن إقليم «الدبروجه» في أوروبا، وهذا الإقليم أضيف إلى مملكة رومانيا مقابل استيلاء الروسيا على إقليم «بسارابيا» الذي سلخ منها في عام 1856.
وتشتمل العهدة على تعهد الدولة العلية برعاية الرعايا الروسيين في بلادها، ووضع حقوق القسوس الأرثوذكس تحت حماية القيصر، وإعادة تنفيذ المعاهدات التجارية التي كانت بين الروسيا وتركيا قبل الحرب، وفتح بوغازي الدردانيل والبوسفور في كل وقت للسفن التجارية.
وما علمت الدول الأوروبية بهذه العهدة حتى اعترف سواسها بأن الروسيا اعتدت على حقوق الدولة العلية شر اعتداء، وأن دول أوربا تفقد موازنتها ويضيع بالمرة التوازن العام إذا أنفذت شروط عهدة سان إسطفانوس، وكانت أشد الدول تهيجا ضد الروسيا هي النمسا التي خدعت في اتفاقيتها التي عقدتها مع الروسيا في يناير عام 1877، فخابرت إنكلترا واتفقت معها على معارضة الروسيا كل المعارضة، وطلبتا منها عرض عهدة سان إسطفانوس للمناقشة بين مندوبي الدول في المؤتمر المزمع عقده، فأجاب القيصر في 26 مارس سنة 1878 بأنه لا يرضى بأن دول أوروبا تتناقش في الشروط التي لا تخص إلا الروسيا وتركيا، وقد أمل القيصر عندئذ الاتفاق مع النمسا، فأرسل إلى فيينا الجنرال «أغناتييف» ولكن الاتفاق كان مستحيلا لتباين أميال الروسيا والنمسا.
وقد استفادت إنكلترا من خيبة الجنرال «أغناتييف» في مأموريته بفيينا، واعتمدت على مساعدة النمسا لها ضد الروسيا، وأعلن اللورد سالسبوري وزير الخارجية الإنكليزية وقتئذ أن عهدة سان إسطفانوس تجعل البحر الأسود تحت سلطة الروسيا ورحمتها، وتهدد استقلال الدولة العلية وسلامتها، وتضر بمصالح إنكلترا؛ أي إن إنكلترا أرادت أن تسمع الروسيا أنها إذا صممت على تنفيذ عهدة سان إسطفانوس قامت الحرب بينهما، وكان القابض في الحقيقة على مفاتيح السلم والحرب حينئذ هو البرنس «بسمارك»؛ لأن ألمانيا كانت بين الدول في موقف الحكم، فإنها إذا كانت انضمت إلى الروسيا كانت اضطرت النمسا إلى العدول عن محاربة الروسيا، وبذلك كانت فشلت إنكلترا وبلغت الروسيا مرامها، وإذا كانت وقفت على الحياد بدون أن تساعد الروسيا وتركتها أمام إنكلترا والنمسا كانت خسرت الروسيا أهم مكاسبها في عهدة إسطفانوس، وقد سألت الروسيا ألمانيا مساعدتها مذكرة إياها برعايتها لها ضد النمسا في عام 1866 ومساعدتها لها ضد فرنسا في عام 1870 حيث منعت النمسا من مساعدة فرنسا، ولكن البرنس «بسمارك» أبى مساعد الروسيا بجنود ألمانيا معتذرا بأن ألمانيا في حاجة مستمرة لمراقبة فرنسا والاستعداد لمحاربتها، فاغتاظ قيصر الروسيا واغتاظ سواسها أشد الغيظ من ألمانيا ووزيرها، وابتدأت العداوة الكامنة بين الدولتين من ذلك الحين في الظهور.
ولما رأت الروسيا أنه لا استطاعة لها على محاربة النمسا وإنكلترا بعد محاربتها لتركيا، طلبت من الوزارة الإنكليزية أن تعرفها عن التغييرات التي تريد إجراءها في عهدة سان إسطفانوس، وجرت المخابرات في ذلك بين اللورد سالسبوري وبين الكونت «شوفالوف» سفير الروسيا بلوندرة، وفي 30 مايو عام 1878 أمضيا اتفاقية سرية تتضمن التغييرات التي طرأت على عهدة سان إسطفانوس، ولم يكن لهذه التغييرات الجديدة التي أحدثتها الوزارة الإنكليزية في عهدة إسطفانوس أهمية؛ لأن المؤتمر الدولي كان من شأنه أن ينظر في كل شروط الصلح، وأن يقرر ما يتفق عليه فيه بالأغلبية.
অজানা পৃষ্ঠা