وتبادلنا السؤال عن الأهل فعلمنا بمن ذهب وبمن بقي، وأخبرتها عن حالي الاجتماعية، فقالت: لي أربع بنات متزوجات، وأنا جدة من زمن، أما زوجي فقد توفي منذ عامين.
ومشينا على مهل على الكورنيش حتى سألتني: متى رأيتني آخر مرة؟
فتفكرت مليا ثم قلت: منذ أربعة وأربعين عاما؟
فهتفت ضاحكة: يا للفضيحة، وبرغم ذلك عرفتك من أول نظرة! - كما عرفتك! - بل ترددت قليلا. - من المفاجأة.
فضحكت ثم تساءلت: أتذكر حب زمان؟
وجعلت تتكلم بتدفق وتضحك بين ذلك بصوت عال، حتى ذكرتني بما كان يقال عن جنون أمها. ولبثنا معا دقائق ثم ذهب كل إلى طريقه، ورجعت إلى عباسية الحقول والحدائق والهدوء الشامل. وعاود ذاكرتي بيت آل مصطفى، الأب والأم والابن وحنان، بيت بهر أخيلتنا بسحره الخاص، فعند الأصيل يجلس الأب في السلاملك المطل على الطريق، يجلس على كرسي هزاز وبين يديه منضدة عليها زجاجة ووعاء ثلج، وكأس وطبق مزة. رجل بدين متوسط القامة أحمر الوجه أصلع يتحدى بكل استهانة تقاليد الزمان والمكان. في أول الجلسة يبدو صامتا رزينا بل متعاليا منطويا. ثم ينشرح صدره بالانتشاء فيجود بنظرات إنسانية على الطريق والعابرين، وبعد ذلك لا يستنكف من مخاطبة بياعي الملانة، والبطاطة، والسحلب، والدندرمة تبعا للفصول، وربما مازحهم واستعادهم الإنشاد المطرب الذي يعلنون به عن بضاعتهم على عادة ذلك الزمان. وكنا نقف غير بعيدين لنسمع ونشاهد ونشارك في السرور. ونتابع تعليقاتنا مرة مستنكرة في الغالب إلا ما يصدر عن جعفر خليل الذي كان يحبه، ويعجب به، ويعتبره فرجة لا تقل في بهجتها عن السينما والسيرك، وتظهر خلال تلك الجلسة اليومية ربة البيت، طويلة نحيلة تتوكأ على عصا لعرج خفيف بها، فتلقي على ما حولها نظرة مستكبرة متأففة، والويل لنا إذا رأتنا نتفرج ونضحك فتنهال علينا قدحا وتقريعا، ولعنا لآلنا الذين لم يحسنوا تربيتنا، ثم تختفي من السلاملك وهي تسب الناس والبلد. كانت تعد - مثل زوجها - غير طبيعية، وكثيرا ما كانت ترى وهي تتشاجر مع الباعة والخدم، وقيل إنها كانت تكبر زوجها بعشرة أعوام، وإنها غنية تملك أرضا ونقودا على حين لا يملك زوجها إلا حصة في وقف، وقد تزوجت منه - رغم أنه لا علم ولا عمل - لعراقة أصله، وكان ضمن المترددين على الطريق غجرية ترعى الأغنام، حافية في جلباب أسود مشدود عند الوسط بحزام، متلفعة بخمار أسود ينسدل من تحته على وجهها برقع أسود أيضا يخفي الوجه ما عدا العينين. وكان بيننا وبينها معركة لا تهدأ فكلما أقبلت وراء الأغنام نصيح بصوت واحد:
يا غجرية
حلي حزامك
من قدامك
فتقذفنا بما في مجال يديها من طوب، ومضى مصطفى بك يهتم بها، ويزجرنا مدافعا عنها، ويوما قال لنا سيد شعير، وكان أسرعنا إلى التطلعات الجنسية: ألا ترون ما بين الخروف والماعزة؟!
অজানা পৃষ্ঠা