كان بطلا من الأبطال في حياتنا الصغيرة بالمدرسة الابتدائية، ما بين عامي 1921 و1925، كان يكبرنا بأعوام، وكان قويا طويل القامة، ومنذ أول يوم لنا في المدرسة قيل لنا إنه زعيم التلاميذ بالمدرسة، وكنا نلتف حوله في فناء المدرسة ونتابع كلامه باهتمام. وكان يقول: لا تستصغروا أنفسكم فأنتم جنود سعد، أي جنود الوطن.
وكان يقول أيضا: علينا أن نوطن أنفسنا على قبول الضرب أو السجن أو حتى المشنقة، فلا قيمة للحياة بلا حرية، ولا حرية بلا تضحية ، وقد أرسل الله لنا سعد زغلول زعيما، وعلينا أن نكون جديرين بزعامته.
وكنت أجله وأعجب به، وكان رضا حمادة يعبده، ولم يجرؤ سيد شعير أو خليل زكي على السخرية منه، أما إذا حدث عن زياراته لبيت الأمة ومحاوراته مع الزعيم فكان يبهرنا لحد الجنون، ونفد مني الصبر فاقتربت منه ذات يوم وقلت: أريد رؤية سعد بالعين فهلا أخذتنا إلى بيت الأمة؟
فنظر إلي بعطف وقال: ما زلت صغيرا تسير في بنطلون قصير، وزيارة بيت الأمة مغامرة خطرة لا رحلة آمنة.
وكان إذا تقرر إضراب ومظاهرة انتظر نادر برهان حتى تنتظمنا طوابير الصباح، ثم يتقدم خطوات إلى الأمام ويأخذ في التصفيق بقوة، وسرعان ما تدوي الطوابير بالتصفيق، وعند ذاك يبادر ضباط المدرسة إلى طوابير التلاميذ الصغار فيمضون بهم إلى الفصول بسماح من التلاميذ المضربين فنمضي ونحن نهتف بحياة سعد، ويذهب الباقون في مظاهرة على رأسها نادر برهان إلى الطريق فيلتقون بتلاميذ المدارس الأخرى، وفي إحدى المظاهرات أصيب برصاصة في ساقه فقضى في المستشفى شهرين ثم لازمه عرج خفيف بقية عمره، وتحت زعامته اشتركت في أول مظاهرة في حياتي عام 1924، دعانا إلى الإضراب وخطب فينا قائلا إن الملك فؤاد يريد التلاعب بالدستور، وإن سعد زغلول رئيس الوزراء - تلك المرة - يقف في صلابة للدفاع عن حقوق الشعب، وإن علينا أن نذهب إلى ميدان عابدين لتأييد الزعيم. ولما كانت الحكومة شعبية لأول مرة، ولما كان رئيسها هو وزير الداخلية، فقد سمح لنا بالاشتراك في المظاهرة باعتبارها مظاهرة سلمية، وسرنا في حشود هائلة من التلاميذ والطلاب وأهل البلد حتى اكتظ بنا ميدان عابدين، ورحنا ندق باب القصر بأيدينا ونهتف «سعد أو الثورة».
وترامى من بعيد هدير هتاف شامل إيذانا بمقدم الزعيم لمقابلة الملك، واشتد الضغط حول ممر ضيق شقه رجال الشرطة بصفين منهم لتسير فيه سيارة الزعيم، وقلت لرضا حمادة بسرور غامر: سترى أعيننا سعد زغلول.
فقال بحماس: نعم ولو لبضع ثوان.
وتسللنا بخفة وعناد حتى بلغنا حافة الممر، ورأينا السيارة قادمة ببطء شديد، والخلق يحيطون بها، ويتعلقون بأركانها، ويقفون فوق غطائها، وتطلعنا بأعين ملهوفة نهمة ولكننا لم نر إلا أجساد البشر، ولم يتجل من الزعيم ملمح واحد، وبؤنا بحسرة لازمتنا طويلا.
ولما انتقلت إلى المدرسة الثانوية انقطعت عني أخبار نادر برهان. لم أره ولم أسمع عنه، افترقت عنه عام 1925 وانقضت أربعون عاما حتى صادفته في مقهى أسترا شتاء عام 1965، كنت عائدا من لقاء نهاري مع أماني محمد فملت إلى مقهى أسترا لأشرب فنجان قهوة فرأيته جالسا وحده، بدينا عملاقا، ومعطفه مثني على ظهر كرسي إلى جانبه. عرفته من أول نظرة، وخيل إلي أنه لم يتغير كثيرا رغم أنه كان في الستين، حتى شعر رأسه ظل أسود عدا سوالفه. وأقبلت عليه باسما فنظر إلي بإنكار ولكنه صافحني، فلما ذكرته بالمدرسة الابتدائية والزعامة تهلل وجهه ودعاني للجلوس فجلست، قلت له: عيني عليك باردة، لم تتغير.
فقال ضاحكا: أنا من أسرة معمرين لا يموتون إلا في الحوادث.
অজানা পৃষ্ঠা